في المقالات السابقة تحدثنا عن الأخطاء التي صاحبت الحراك الثوري وضرورة العمل على معالجتها بسرعة حتى لا تكون معول من معاول هدم البناء الوطني المتعسر المخاض. ان الاخطاء المتراكمة كثيرة وتعتبر كوابح وعوائق حقيقية امام التحول الديمقراطي السلس، وقد تؤدى لعدم بلوغ الثورة أهدافها المنشودة ما لم يحسن الفرقاء السياسيين مخاطبتها بعقلانية. ان حالة السيولة السياسية والامنية الماثلة اليوم هي نتيجة لعدم تقدير الجميع لقدرات المكون او الشريك العسكري في السلطة الانتقالية وحركات الكفاح المسلح التي تماهت معه في إمكانية إرجاع البلاد القهقري - أي الى عهد النظام البائد-، وقد يقول قائل لماذا لا تلقي اللوم والإشكاليات التي برزت بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021م على المكون العسكري وفلول النظام البائد وحدهم؟ حسناً، ان المكون العسكري ليس له مكان في اطروحاتنا، وذلك ناتج عن قناعتنا بان العسكر يتسلقون السلطة دائما وفقاً للظروف التي يهيئها لهم السياسيين، ولذلك كلما احسن الساسة والقوى الحزبية التصرف والممارسة الديمقراطية كلما قويت شوكة الديمقراطية، واستنبطت وسائل و آليات تحصنها من غدر المؤسسة العسكرية، لان العسكر يستثمر على خيبات وفشل الساسة والسياسيين، ولذا يجب ان يوفر الجميع الوقت لنقد تصرفات وممارسات السياسيين السالبة التي تشجع وتحث العسكر على الانقلابات العسكرية، وما الهدف من ذلك النقد إلا اصلاح ساستنا لكي يرتقوا الى مستوى المسئولية الوطنية، وعندئذٍ لن يكون هنالك أي دور سياسي للأجهزة الأمنية بمختلف مسمياتها وتشكيلاتها بعد الفترة الانتقالية في حكم البلاد، إلا ضمن ما يمسح به الدستور الدائم للبلاد.
الكل يعرف جيداً ان كل المتاريس التي تنصبها المؤسسة العسكرية اليوم على طريق التحول الديمقراطي الهدف منها ان يصل الشعب الى نقطة اليأس من ثورته وديمقراطيته الوليدة حتى يتسنى لهم -أي العسكر- وأد الديمقراطية في وضح النهار، كما فعلوا في عام 1958 و 1969م و1989م، واصدق من عبر عن حالة اليأس وال################ التي يتطلع العسكر ان يتكرر سيناريو الوصول اليها هو السيد/ الشريف زين العابدين الهندي ابان اخر ايام الديمقراطية الثالثة، حيث قال قولته الشهيرة التي سارت بها الركبان من داخل الجمعية التأسيسية "الديمقراطية دي بكرة اذا شالها كلب ما في زول بقول ليهو جر" وصدق الشريف زين العابدين الهندي، ففي ليلة 30 يونيو 1989م، لم يقول احد لانقلاب الجبهة الإسلامية القومية آنذاك "جر يا كلب" رغم ان الانقلاب كان هزيلاً وهزيمته كانت ممكنة، وما اشبة الليلية بالبارحة، ان تحالف الجبهة الإسلامية (الكيزان) والشيوعيين الذى زعزع ثقة الشعب في الديمقراطية الثالثة هو نفس التحالف الذى يقود البلاد اليوم نحو الهلاك، ولم يستفيد من دروس الماضي القريب، وعلى كل حال ان المكون العسكر يقاتل بشتى الطرق والسبل لتأخير خروج المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية للأبد، لذلك كنا نأمل من القوى السياسية والمثقفاتية ان يكونوا اكثر وعياً ودرايةً بحيل وأحابيل شركاءهم العسكريين في السلطة الانتقالية، وان يبتعدوا عن الجدل العقيم الذى مارسوه طوال فترة حياتهم السياسية بدون فائدة، وان يركزوا كل جهدهم في تنفيذ الوثيقة الدستورية، وتامين مستقبل الدولة والمجتمع من خلال فترة انتقالية متوافق عليها من جميع مكونات الشعب ونخبه الحية، تضع خريطة لمستقبل البلاد السياسي والاقتصادي، وترسم للقوات المسلحة والاجهزة العسكرية والاستخباراتية الاخرى الدور الوطني الذى يجعلها محل ثقة واحترام الشعب.
ان تصحيح الاخطاء الثورية الماثلة ضرورة للعبور الى الدولة المدنية، وهي اخطاء يمكن تداركها إذا حسنت النية، وعرف كل فصيل حجمه السياسي، ومقدراته الفكرية والبشرية، وتواضع على قبول الاخر درءاً للفتن وسداً لباب الذرائع التي تلج من خلالها الانقلابات العسكرية، لاسيما ان هنالك توافق ضمني حول ضرورة الوصول لحكم مدني ليس للمؤسسة العسكرية أي دور فيه خارج نطاق ما يحدده الدستور الدائم، وتقديم الفاسدين والمفسدين للعدالة، وتفكيك دولة الحزب الواحد، وبناء دولة الوطن. إذا كان الكل متفق من حيث المبدأ على تلك الاهداف، اذن الاختلاف في الوسائل والكيفية التي يمكن ان تحقق تلك الاهداف، وكل الوسائل المطروحة في الساحة اليوم يمكن ان تحقق تلك الأهداف إذا ابتعد الفرقاء السياسيين عن التخوين وشيطنة الآخر، والتكويش بدون رصيد شعبي قابل للصرف انتخابياً.
لقد كان لدينا حلم "We had a Dream " بان تأتي لجان المقاومة بوثيقة مشبعة بالأمل، تجمع ولا تفرق، تبنى ولا تهدم، تتجاوز سلبيات الماضي ومراراته، ولكن من المؤسف وقعت لجان المقاومة في نفس خطأ القوى السياسية، وزادت الطين بلة باصطفافها مع الحزب الشيوعي في طرائق واساليب شيطنة الآخر، وقتل الشخصية وتعمد الاقصاء وادعاء الطهارة والنقاء الثوري دون غيرها من الكيانات والفئات السياسية، ورفضها للحوار والعمل المشترك الجامع. ان الذين كتبوا "ميثاق سلطة الشعب" قرأوا من كراسة الحزب الشيوعي، ووضعوا على ميثاقهم بصمة الحزب العجوز من خلال الزام احزاب قحت بالنقد والاعتذار- جدادة الخلاء تطرد جدادة البيت - وان توقع تلك الأحزاب بشكل فردي على الميثاق بعد ان تغتسل من دنس المشاركة في حكومة الفترة الانتقالية، وهي نفس لغة الحزب الشيوعي لممثلين قحت الذين التقوا قيادته في داره، وهما السيد/ ياسر عرمان والسيد/بابكر فيصل، بغرض دعوته لتكوين جبهة عريضة للتصدي لانقلاب 25 أكتوبر 2021م، حيث طرحت قيادة الحزب باستعلاء شديد على القوى السياسية ان تأتى تخطب ود حزبهم كأحزاب، كل حزب على حدي، لا جماعات كتحالف. لقد وقعت لجان المقاومة من خلال ميثاق سلطة الشعب في مأزق يضاف الى المأزِق الكثيرة التي ذكرناها في سلسة مقالتنا السابقة، وعليه نتمنى على لجان المقاومة بعد ان راحت السكرة وذهبت النشوة، ان يتواضعوا ويتواصلوا ويتحاوروا مع القوى السياسية باحترام لتوحيد كافة قوى الثورة تحت مظلة جبهة واحدة تبلور مخارج جمعية وواقعية للازمة السياسية والاقتصادية والامنية المعقد التي تمر بها البلاد، بعيداً عن المزايدات السياسية ، حتى يتسنى للجميع من المشاركة بأريحية في عملية نقل البلاد بخطي ثابته وحثيثة نحو دولة المؤسسات والمساءلة والمحاسبة والشفافية، لان هشاشة بنية الدولة السودانية تتطلب التوافق السياسي لاستدامة الديمقراطية، الامر الذى يحتم على جميع الوطنيين الحابيين على مصلحة الوطن ان يتنازلوا، وان يمحصوا ويميزوا ويغربلوا جميع الخيارات لإيجاد القواسم المشترك التي تجمع شملهم، وتوحد كلمتهم تحت مظلة الوطن، ومن وجهة نظري ان المخرج الآمن من هذه الازمة الماثلة هو ان تذهب القوى السياسية لانتخابات مبكرة بعد ستة شهور من الان، لإدارة الفترة الانتقالية بتفويض شعبي يقوم على الترتيبات التالية:
اولاً: تتولي الأمم المتحدة من خلال بعثة يونيتامس بقيادة السيد / فولكر بيرتس، والقوى السياسية ولجان المقاومة ومؤسسات المجتمع المدني والمكون العسكري عملية تنقيح دستور السودان لعام 2005م لجعله ملائم ومتوافق مع متطلبات المرحلة الانتقالية والدولة المدنية، وان يضع الدستور المعدل مصفوفات زمنية دقيقة للفترة الانتقالية ليكتمل عبرها التحول الديمقراطي الكامل، وتتمثل المصفوفات المقترحة في الاتي:
السنة الاولي: تفكيك الدولة العميقة للنظام البائد، وتكوين جميع المفوضيات المناط بها الاطلاع بعملية تفكيك دولة الحزب الواحد وتركيب دولة الوطن.
السنة الثانية: الفراغ من محاكمة جميع الانقلابين والفاسدين والمفسدين بعدل لا يدع مجال للشك في ظلم او اخذ حق بدون حجة قانونية قطعية الثبوت، وتوفير جميع سبل الدفاع عن النفس والاستئناف للمتهمين بعدالة وحرية.
السنة الثالثة: الفراغ من هيكلة ودمج وتسريح القوات المسلحة، وحركات الكفاح المسلح، وأجهزة الامن والمخابرات وتحويل عقيدتها القتالية والأمنية لتكون قوات ومنظومات امنية محترفة تخدم الوطن والمواطن وتحافظ على الدستور.
السنة الرابعة: إكمال مفوضية العدالة الانتقالية لعملها ورفع توصياتها الى المؤتمر القومي الدستوري ورفع توصيات المؤتمر القومي الدستوري للجنة إعداد الدستور الدائم للبلاد الذي يحدد نظام الحكم والثوابت الوطنية التي لا تتغير ولا تتبدل بتبدل الحكومات، ويكون الدستور الدائم موجهاً ومرشداً للأجيال القادمة نحو المستقبل.
السنة الخامسة: اجراء الإحصاء السكاني والاستفتاء على الدستور واجراء الانتخابات الحرة والنزيهة.
ثانيا: ان تكون الفترة الانتقالية مدتها خمسة سنوات تبدأ بعد انتخاب رئيس للدولة انتخاباً حراً مباشرة وفقاً لدستور 2005م المعدل.
ثالثا: ان تتولي الأمم المتحدة "يونيتامس" والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني والقوى الثورية الأخرى عملية إدارة الانتخابات والاشراف المباشر عليها.
رابعا": ان تدخل القوى السياسية انتخابات إدارة الفترة الانتقالية في تحالفات برامج عريضة، تتوافق فيها الأحزاب السياسية من خلال ثلاثة كتل، تطرح كل كتلة برامجها الانتخابية على الشعب لتنال تفويضه بإدارة الفترة الانتقالية لمدة خمسة سنوات، ويمكن ان تساعد فكرة التكتل على أساس البرامج، الاحزاب العقائدية والاحزاب الصغيرة التي لا حظوظ لها بالفوز ولو بمقعد برلماني واحد في الانتخابات من المشاركة في السلطة بصورة او أخرى من خلال تحالفها مع الأحزاب الجماهيرية الكبيرة، الامر الذى سوف يجعلها تتصالح مع الديمقراطية بدلاً من معاداتها، والتآمر عليها بالانقلابات العسكرية وغيرها من اشكال التآمر الاخرى التي تهدد الاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي. اذن يمكن ان تدخل الأحزاب الانتخابات حسب التكتلات التالية:
تكتل احزاب اليسار: يتكون من الحزب الشيوعي، وحزب البعث والجمهوريين وحركات عبد العزيز الحلو، وعبد الواحد نور والمثقفاتية0
تكتل أحزاب الوسط: يتكون من حزب الامه القومي، والاتحاديين، وحزب المؤتمر السوداني، وحركة مني اركو مناوى، والهادي ادريس، والحركة الشعبية جناح عقار.
تكتل أحزاب اليمين: يتكون من المؤتمر الشعبي والاسلاميين المنشقين عن المؤتمر الوطني قبل الثورة، والسلفيين وإيتام المؤتمر الوطني من الأحزاب التي كانت تمص باقي ضرع السلطة بعد ان يشبع المؤتمر الوطني من الرضاعة، والأرادلة وغيرهم.
يقوم كل تكتل بتجانس وانسجام بين اعضاء الكتلة الواحدة من طرح برنامجه الانتخابي المفصل لإدارة الفترة الانتقالية على الشعب السوداني لنيل تفويضه بتولي إدارة الفترة الانتقالية، واعتقد ان هذه الطريقة يمكن ان تؤدى الى استقرار سياسي، وتقفل باب الجدل الفكري والمماحكات السياسية والذرائع الأخرى التي قد تفقد الشعب ثقته في الأحزاب السياسية، والنظام الديمقراطي برمته، لان إشكاليات السودان هي في عدم سماح المؤسسة العسكرية والأحزاب العقائدية الصغيرة للديمقراطية ان تنمو وتترعرع من خلال اكمال دورتها حتى لا توطد دعائم حكمها فيتشبث الشعب بها. في حالة إذا ما خاضت الكتل المتحالفة غمار تجربة سياسية ناجحة في إدارة الفترة الانتقالية يمكنها ان تستمر على نفس نهج ومنوال تلك التحالفات بعد الفترة الانتقالية لدورة انتخابية اخري قبل ان تخوض المنافسة الديمقراطية ككيانات فردية متنافسة فيما بينها، وإذا ما قٌيّض الله للديمقراطية ان تستكمل آجالها لدورتين متتاليتين سوف تتلاشي وتندثر كثير من الأحزاب التي يعلو صوتها وضجيجها في الوسائط الاجتماعية اليوم، ويكون البقاء فقط للأقوى جماهيرياً وشعبياً وفكرياً، وحينذاك تترسخ الممارسة الديمقراطية، ويتقلص عدد وعديد الأحزاب السياسية الى اقل من عدد أصابع اليد الواحدة وفقاً لجدلية العلاقة بين البقاء والهلاك في إطار سيرورة السنّن الكونية.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/15/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة