لم أشك ولو للحظة فى انتصار ثورة ديسمبر المتفردة . وذلك منذ ان طرحت شعاراتها الثورية وتابعتها بالاصرار عليها عديدا من المرات . وكان الشارع فى كل مرة هو العنصر الحاسم فى الانتصار على الاعيب الثورة المضادة . ولو ان من كان فى السلطة قد استجاب فقط لصوت الشارع لكنا فى وضع مختلف تماما . وبما ان ذلك لم يحدث فليس علينا الآن البكاء على ما سكب ، وانما مراجعة اسباب الانسكاب الذى هو من تجارب الثورة للاستفادة من ما حدث فى سبيل جعل الانتصار ممكنا وسريعا . وليس هذا فعل تنفرد به الثورة السودانية ، وانما هو ديدن الثورات الانسانية . وفى تقديرى فان مايحدث الآن داخليا وخارجيا وفى جميع الصعد لاينبأ الا بقرب الانتصار بشرط مراجعة الاخطاء التى حدثت فى جانب الثوار بكل شفافية وتواضع . ولعل اكبر الاخطاء التى ارتكبت فى حق الثورة هو قبولها تقاسم السلطة مع ما سمى خطأ بالمكون العسكرى فى شكل اللجنة الامنية للنظام السابق ، ومن غير النظر الى المبررات ، سواء كانت ابعاد امكانية الانزلاق الى حرب اهلية ، او الجهل بطبيعة من يكونون ذلك المكون . هذا وقد اثبتت التجربة ان هذا المسمار الجحوى هو الذى ادى فى نهاية الامر الى الوضع الذى نجد انفسنا فيه . وبرغم انى لاابرئ اى جهة من المشاركة فى هذا الخطأ الا اننى اعتبر تركيبة المكون المدنى من جهتين كانتا تتعارضان حتى اللحظات الاخيرة فى رؤيتهما للاسلوب الامثل لانهاء نظام الانقاذ هو السبب الرئيس ليس فى ارتكاب ذلك الخطأ الاكبر ، وانما ظل يمثل خميرة العكننة فى مسيرة الثورة للوصول لغايتها المتمثلة فى شعارها الخالد ( حرية سلام وعدالة ) . ولم يكن ذلك التعارض شكليا فى تقديرى ، وانما كان يعكس المحتوي الاجتماعى لتلك الجهتين . ولذلك ظللت اكرر فى كثير من مقالات سابقة الى ان الخلافات التى ظهرت وتظهر بينهما انما هى تعبير لاختلاف جذرى فى رؤية الثورة والمطلوب منها . ولذلك عبرت عن ان التوافق الذى كان وادى الى اسقاط النظام كان يعبر عن وحدة غير دائمة من الناحية الموضوعية اذ ان الرؤية لما بعد اسقاط النظام ستعبر عن هدفين مختلفين بالضرورة . ولذلك كنت ولازلت اعتبر الكلام عن الوحدة الوطنية والتى يبالغ البعض بالقول وحدة كل السودانيين – بمافى ذلك من قامت الثورة لأبعادهم عن السلطة – اعتبره كلام رومانسى أو كلام "ساكت " حسب التعبير السودانى الاصيل ! لقد اثبتت مسيرة الثورة حتى الآن صحة ذلك التحليل : فبداية:تم تغليب وجهة نظر الذين انضموا الى ركب الثورة عندما بانت بشائر انتصارها فى ضرورة مشاركة المكون العسكرى ، باسباب بدت مقنعة وقتها لعامة الناس . ولم يقف الخطأ عند ذلك الحد بل تخطاه الى صياغة وثيقة دستورية شرعنت وجود ذلك المكون ، بل وتخطته الى وضع كل السلطة فى يد المكون العسكرى من خلال منحه حق اختيار وزيرى الدفاع والداخلية ثم تنازل السيد رئيس الوزراء عن قيادة محادثات السلام ، ثم .. ثم .. ممايعرف الجميع . ولعل كل ذلك قد حدث تحت نفس المبرر: الخوف من الانجراف نحومصير بلدان الربيع العربي او الرغبة فى استقرار الاوضاع الضرورى لجذب الاستثمارات .. الخ ، وهى نفس المبررات التى اقعدت اشتعال الثورة لسنوات طوال وكانت كافية لاقعادها الى الابد! ثانيا : تم خروج بعض القوى المؤثرة من تجمع قحت الذى كانت وحدة عناصره سببا رئيسا فى الانتصار الاولى للثورة بازاحة رؤوس النظام الانقاذى . وبرغم الاسباب الموضوعية لخروج البعض كما ذكرنا بسبب تعارض الاهداف ، الا ان اسباب الخروج لم توضح بدرجة كافية لجماهير الثورة . وبرغم ذلك فان الجماهير قد توصلت بحسها الثورى الى فرز المواقف بين من خرجوا ومن ظلوا، وليس أدل على ذلك من خروجها المرة تلو الاخرى رافعة ومدافعة عن اسباب من خرجوا وداعية من ظلوا الى تغيير مواقفهم تجاه اهداف الثورة . كذلك اوضح ذلك التفكك موضوعيته حيث بدأ فرز المواقف حتى على المستوى الفردى . فمثلا ، نلاحظ انه فى حزب الامة كان لبعض قادته موقفا مؤيدا لمن خرج وللبعض الآخر موقف مع الطرف الآخر وبعض ثالث لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء ! وقد ذكرت فى عدة مقالات سابقة اعتقادى بان ماحدث ويحدث لا يعتبر تفككا وانما هو فرز ضرورى ان كنا نسعى هذه المرة الى ثورة هدفها تغيير الواقع السودانى بخلق سودان جديد يطوى كل مرارت الماضى ويضع الاساس الى نهضة شاملة . ثالثا : تتشكل عناصر من ظلوا داخل قحت من فئتين تختلفان من حيث الموقف من مسيرة الثورة لتحقيق الاهداف المذكورة ، فهناك من ظن بأن وجوده داخل المنظومة يجعله فى وضع افضل لتحقيق اهداف الثورة ، بل وكانوا يأخذون على من خرج بانه يفقد التاثير المباشر عل الاحداث وقرارات السلطة . ولهؤلاء كررت حججى بانهم لايملكون من السلطة مايمكنهم من فعل مايودون . والادلة كثيرة ليس اقلها فى السياسة الاقتصادية التى انتهجها رئيس الوزراء برغم معارضة لجنة قحت الاقتصادية وتقديمها بدائل عملية وكذلك فى مفاوضات السلام والعلاقة مع اسرائيل ..الخ وهناك ايضا الفئة الاخرى التى لاتنسجم اهدافها ورؤاها مع اهداف الثورة الا فى نطاق ازالة حكم الانقاذ وقد حدث بالوحدة ، وهذه ذهب جزء منها مع العسكر ( اعتصام القصر ..) وظل جزء آخر يغير مواقفه حسب رؤيته لميزان القوى فى لحظة اتخاذ الموقف ، غير ان بين هؤلاء من يتخذ موقفا مختلفا ولكنه لسبب او آخر يؤجل اتخاذ الموقف الصحيح ! رابعا : ظل الشارع بلجان مقاومته ومهنييه وتنظيماته المدنية عنصرا حاسما فى لجم محاولات الثورة المضادة بكل عناصرها العسكرية والمدنية والاقليمية والدولية وايضا فى بقاء شعلة الثورة برفع شعاراتها الخالدة . وقد كان هذا الاصرار العجيب دافعا اساسيا لتغيير المواقف سلبا وايجابا فى مسيرة الثورة الظافرة باذن الله . الامثلة معروفة ومكررة ولذلك سنكتفى بآخرها وهو ماحدث ويستمر حدوثه بعد المحاولة الانقلابية الاخيرة للجنة الامنية. وسنرى فى هذا المثال التغيرات الايجابية والسلبية فى مواقف الداخل والخارج : تم الفرز بدرجة كبيرة فى مواقف التنظيمات المنضمة الى قحت المركزى . فمنذ تنفيذ انقلاب الخامس والعشرين من اكتوبر لم تتوقف التحركات الثورية المتنوعة برغم اليد الباطشة للنظام فى محاولته الاخيرة اليائسة والبائسة لجر عقارب الساعة الى الوراء . وعندما رفع الثوار شعار اللاءات الثلاث عبر البعض عن سلبية الشعار لكونه لايعبر عن رؤية سياسية ، اذ ان التفاوض والحوار هو سنة الحياة السياسية ، ولكنى بت اسمع يوميا من قادة قحت ردودا حاسمة على مثل هذه الافكار بل وسماها بعضهم بالمضحكة والداعية للسخرية . ورد اغلبهم على بعض الاسئلة المفخخة من بعض القنوات حول امكانية مشاركتهم فى حوار مع المكون العسكرى وكانت ردودهم قاطعة بأن هذا غير وارد . وكذلك من اهم ملاحظاتى على اراء قادة قحت القرار القاطع الذى عبر عنه المتحدث باسمها ، بانهم لن يشاركوا كتنظيمات فى السلطة الانتقالية ولكنهم سيدعمون حكومة مؤهلة مستقلة . وارى فى هذا ردا على من يتخوفون من التناكف السياسى بين الاحزاب على من يحكم . كذلك اعربت تنظيمات وافراد من مؤيدى الانقلاب عن مواقف واضحة لالبس فيها تتلخص فى تاييدهم لاستمرار السلطة الانقلابية فى ادارة الفترة الانتقالية الى حين اجراء انتخابات " حرة ونزيهة" تسلم السلطة . وقد رددنا اكثر من مرة على فكرة الانتخابات المبكرة وتسليم السلطة لها فحسب . وازيد هنا : الم يكن من الافضل فى هذه الحالة انتظار انتخابات 2020 التى كان يدعو لها النظام الانقاذى وتفادى كل ماحدث ويحدث من تضحيات ؟! وكذلك من الحجج المرفوعة من عناصر الثورة المضادة فى الداخل والخارج ، بل ومن بعض المشفقين على استمرار التضحيات الشبابية دون ظهور بشارة ، التساؤل:الى اين ستقود هذه المظاهرات وهى ترفع اللاءات الثلاث واهمها الا حوار؟! وهو سؤال جوهرى ومهم خصوصا فى حسم مواقف الواقفين على الرصيف ، اذ ان فيه ما يجعل ميزان القوى يؤشر فى اتجاه انتصار الثورة العاجل وبالتالى تقليل الخسائر التى يخشون على اقل تقدير ! وللرد اقول : هذا شعب آخر له تاريخ نضالى مشهود ضد دكتاتوريات عسكرية مدججة بكل انواع الاسلحة القاتلة والايديولوجية والداعمة من الخارج وان تجاربه فى مقارعة تلك الانظمة وآخرها قبل ثلاث سنوات مضت فقط ، لتذكير البرهان ومن لف لفه ، هى رصيده الذى لاينفذ . ففى كل مقارعة تجربة مفيدة ، ابتداء من تجربة اكتوبر التى لم تدم بفعل عدم وعى فئة كافية من الجماهير لتمنع تدخل الطائفية فى اجهاض حكومة اكتوبر الاولى ، ومرورا بتجربة ابريل التى ساعد فيها نميرى الكيزان للاستيلاء على الدولة قبل الانتفاضة حتى واخيرا التجربة الطويلة ضد الانقاذ والتى ولدت هذا الجيل الراكب راسه والذى لم توقفه الدوشكات قبل المؤامرات من التخلى عن شارعه بدرجة جعلت القادة السياسيين يتبعونه . وفى هذا قد اندهشت لقول احد قادة الدول المجاورة بانعدام الرصيد السياسى للشعب السودانى الذى لايزال صدى ثورته يدهش ويعلم الشعوب باعتراف زعمائها الذين يطالبون شعوبهم باقتفاء اسلوبها السلمى . الا يلاحظ المتسائلون عن جدوى المظاهرات التوسع الكمى والكيفى الذى يحدث فيها لدرجة اشتراك اكثر من اثنين وعشرين مدينة داخل السودان الى جانب مغتربيه فى كل انحاء العالم فى خروجاته الاخيرة . الايلاحظون فشل الانقلاب فى ايجاد من يرغب فى مشاركته السلطة فيلجا الى تكوين وزارة من وكلاء الوزارات بدون رئيس ، وان بعض هؤلاء قد استقال بعد ايام من التعيين ! الا يلاحظون استقالات بعض القضاة والنواب العموميين والعرائض التى ترسل يوميا من قضاة ونواب وضباط معاشيين كبار يستنكرون فيها ممارسة السلطة الباطشة . وفوق كل هذا الايلاحظون الشباب الذى يتكاثر عدده فى كل مظاهرة رغم تعدد الشهداء ! واخيرا ، فان المظاهرات ليست هى نهاية المطاف وانما هى اعداد تدريجى لختام المسك بالاضراب السياسي ، الذى بدأت بالفعل بعض الفئات المتقدمة القام به ، ثم العصيان المدنى الذى سيشل الحياة تماما ، وهى اسلحة مجربة فى تارخنا السياسى، فمن سيحكم البرهان عندئذ وكيف ؟! فى مقال قادم نسعى الى توضيح الجزء الثانى من العنوان .. ولكن !
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 01/25/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة