أتوسد الأرض ، واحتضن التراب ، وأجمع البعض من حليه المتناثرة من حصي صغيرة، وكبيرة، لأبني بها بيتا . أرسم فيه عائلة ، تجتمع علي مائدة الغداء ، تتسأمر ،وتفرش الفرح ،ورودا ، ورياحين . وحولهم قططا صغيرة، جزلي لأنها موعودة بوجبة دسمة، وكلب ينبح، يريد الطعام ،وصغيرهم يمد له العظم، ثم يبعده تارة ويقربه أخري . والكلب يلهث فاتحا فمه ممتعضا ، والجميع ينفجر ضاحكا. اسمع صوت نحيب من بعيد ، فاذا بها طيوبة تبكي ،وتنتحب، واضعة خمارها علي فمها لتغطي حزنها، او ربما تندب حظها العنيد، لا أدري. ولا اظن أنها تدري وقتها، أيهما تشجب .ولا اظن ايضا أنها تميز ما بين حظ وقدر .ما بين شجن وفرح. عندما وجدت المكان فارغا، يعاني بزوغ الألم ، وحنين العودة، لإمرأتين كلتيهما نموذج لإمل آفل، ودهشة شاردة. تجلس بجانبي وهي مذعورة، مقهورة، تكتسي الهم ، رغم صغر سنها. فهمت ما حصل دون ان تسأل، إنه الحال دوما شد، وجذب لرزق في بلاد لا تنظر الشفقة . أقول لها وانا فرغت من بناء صالة الطعام. والعائلة سعيدة بطعامها الشهي تحيطها إلفة الكلب، ووداعة القطط. وشرعت أبني في حجرة للطفل فأتدارك وجودها بجانبي واقول لها : امشي البيت اخوانك براهم . فتجيب باكية : ماعندي حق مواصلات وما عندنا اكل في البيت حبوبة عيانة وامي كملت القروش في الدكتور والعلاج ، وتواصل حديثها: ما ادتك لي قروش . أشفق لساني ، ان يجيب فرد راسي نيابة عنه بإيماءة فهمتها جيدا وترجمتها حرفا ؛ لا لم يمهلها العساكر أن تفكر اخذوا الكوانيين، والكراسي، والبنابر، والصندوق، ومعهم عقلها، قلبها ،وباق من دموعها . فقالت والأسي يعتلي وجهها : ورح بيتي معانا . فيرفض لساني، ويجيب راسي مرة اخري وهو يتحرك يمنة، ويسري مجيبا : لا فواصلت ،وكأنها تحثني علي الكلام ، وتريد للساني ان يجيبها، ليفصح عن تعابير وجه إحتضن الالم : ما تنومي براك ورح معاي حاجة التاية بتزعل مني لو خليتك براك . فقلت لها لعل تعاستي تخفف عليها، ووجعي يحتضنها : كتر خيرك ما بقدر اخلي البيت فاضي ، وخلاص اتعودت علي غياب امي التايه، انت اخوانك صغار وحبوبتك محتاجة ليك امشي . ونحن في خضم حوارنا المصبوغ بالألم ،المجبول من اعماق إتسمت بإن لا تفرح . تظهر ميري من بعيد وهي تشير بيديها : تاني كشة ؟! فتزيد طيوبة في البكاء، وتعطيها ميري قروش للمواصلات وللطعام .وتطلب مني أن أذهب للمبيت معها، وأكرر لها نفس الرد الذي رديته لطيوبة ، ولكن ما لم أقله لكلتيهما ،واحتفظ به لنفسي ،إنني اريد النوم علي أسرة الشهداء، وانفاس حارس الوقت، التي يستنشقها انينا من اللون الأحمر الذي خضبت به أعلي انفه ، وزفيرا من اللون الاسود الذي صبغته أسفل انفه . وتغادر طيوبة لبيتهم . وتجلس ميري معي علي الارض، وتسألني ماذا تبني ؛ أبني للذين لا يملكون بيوتا .بيت من الحصي لكل فرد منهم حجرة خاصة به . فتقول لي ؛ أطلبي من الله أن يعطيك بيتا. فأسالها بإستغراب : وهل من الممكن ان نشتري بيتا إننا فقراء ؟!اواصل مردفة، واكثر حيرة، وتساؤل هل إجابتها ستشفيني ؟ فسبق سؤالي لنفسي سؤالي لها : وهل الله ينظر الي الفقراء مثلنا ؟! فضحكت وهي تقول : ربنا بديك اي حاجة انتي عايزاها اصبري ،فالله يعلم كل شي ،ويعطي كل شي. ثق بذلك . واصوات هادرة ،تهز اركان المكان، وسيول عارمة كالجيوش الغازية الا من ادوات الحرب. مسلحة بالتصميم علي الانتصار، والتحدي. تكتسح الأزقة، والحواري ويردد الجدران صدأها. تسقط بس! تسقط بس! فاترك ميري، واركض، وراء الجموع ،وهي تنادي علي ، ولا استطيع سماعها ، فصوت النداءات كأصوات الآذان تنادي كل مؤمن حي علي الصلاة .وهتافات الثوار تنادي كل متيم بالوطن حي علي الجهاد. إنه الجهاد الاكبر علي الظلم، إنه الإغتسال، والتطهر من الذنوب، وشهادة من القدير يمنحها وسام للمتعفيين ، والناسكين بدون قيام الليل . إنه قيام الليل الأرفع عبادة ، وطهرا . إنها التقوي التي تتنزل معها الملائكة مرددة آمين .اهتف من صميم قلبي تسقط بس !هل تسقط من اجل أمي التايه؟ هل تسقط من اجل خالتي سكينة وامها الضريرة ؟ هل تسقط من اجل دعوات ميري وصلواتها المتكررة في الكنيسة؟ تطلب الغفران والسلام من أجل أن تعود الي اهلها ،ومسقط راسها. هل تسقط ؟ من أجل الفتاة الجميلة ،التي كانت زبونة دائمة عند امي التاية ،وتأتيني بالملابس والعطور . وذات يوم أهدتني ادوات تجميلية قائلة لي : انتي جميلة، تعلمي ان تكوني أنثي، لم اسمع هذه الكلمة من احد غيرها. دوما اتذكر كلمتها، كوني انثي، وكلما تعمقت في الجملة، تستعصي علي فهما ،كيف هي الأنوثة !؟! وماذا تتطلب الانوثة !؟! وكيف لأنثي ان تصبح أنثي؟!! وكيف للإنوثة أن تصير الأكثر إستيناثا ؟! فربما هي وحدها تعلم ذلك . كنت أقريها بعض كتاباتي فتشجعني وتقول لي : لا تتوقفي، مستقبلك باهر . ووعدتني بان تساعدني لأكمل تعليمي. وذات يوم، بعد ان رشفت قهوة امي التايه بالقرنفل الذي تطلبه خصوصا. وكأنها تريد له ان يمتزج مع عطرها الفواح ليعطيها رونقا علي رونق. فهي إذن تطلب الانوثة حتي في رائحة القرنفل . يومها اعطت امي التايه اكثر من ثمن القهوة كعادتها . وغادرت، وبينما هي علي الرصيف المقابل ، فاذا بعربة النظام العام تتوقف، وياخذونها، وعندما قاومتهم ، وشتمتهم، ضربوها ،وأخذوها الي محكمة النظام العام .لا اظن أن تلك الفتاة قد شتمت احدا من قبل، ولا أتوقع ان في عالمها ما يستدعي الشتيمة . وجلدوها في المحكمة التي بجوارنا، وامي التاية لم تنم ليلتها تلك ، تبكي حتي دخلت في كومة سكر .وحتي كتابة هذه الأسطر لم ارها بالجوار، كنت اود لو جاءت مرة اخري، وعلمتني كيف اكون انثي ، فعندها ربما كان قدري قد تغير .ولكن دوما العسكر يأخرون اقدارنا، .ويتمتعون بحرماننا . ولكن لماذا اكون أنثي ؟ والقانون يضع عقوبة صارمة للإنؤثة . عقوبة للجمال .ويصدف ان العساكر الذين أخذوا الفتاة ،جاؤوا يطلبون القهوة ذات يوم، فأسرعت الي امي التايه وذكرتها ، بأن هولاء العساكر هم من اخذوا فتاة القرنفل، فتاة الانوثة، فتغيرت ملامح امي التاية، وذهبت اليهم، وملامح الغضب ترتسم علي وجهها، قائلة بنبرة صارمة: ما عندي بن خلص امشوا اشربوا في حته تانية . تسقط من أجل صباح التي افترشت الرصيف هي ،وصغارها هاربة من نار الحرب . .تسقط من اجل عمي احمد الكسيح ، الجالس دوما علي باب الجامع ليل نهار ، يسأل الناس قوت يومه. تسقط من اجل الراستا كومار ورفاقه الذين يسكنون الأرصفة والمجاري. وفجأة يصرخ احدهم، بمبان ،فتجري فتاة وتأخد العبوة بيدها وتردها لهم في كرة مرتدة ، وهم يتقهقرون للخلف، ويلتفت لي احد الثوار، وهو بمحاذاتي فيلحظ انني لا أضع كمامة فيمدني بكمامة، وقارورة ماء ،وصفق نيم. انا التي عشت كثيرا داخل نفسي، متقوقعه ملابسي، ادقق دوما في الاشياء، والشخوص، فتأملت ملامح الفتي جيدا، فربما يأتنا لشرب شاي او قهوة عند امي التاية، فأرد جميله أقلاها بكوب مجان . وامي التاية ستتفهم ذلك لأنها علمتني ان أرد الجميل، وقبل ان أشكره، ركض ليحمل جريحا. اضطر العساكر للتقهقر الي الوراء ، بثبات الثوار وإقدامهم . فنوع الإستبسال الذي يمارسه الثوار ،وهم عزل. لا يرقي اليه العساكر مع إنه من صميم عملهم ، تعلموه في الكليات، والمعاهد المختصة بهم . لو كان الثوار مكان الجنود بتدريب ،وتاهيل عال ، وطلب منهم ان يغزو العالم فبشجاعتهم التي أراها أمامي لغزوه في سويعات .فمن اي طينة هم العساكر ؟ واي كليات رزئيت بهم ؟ .ولو تحقق للثوار وأصبحوا في رتب عسكرية هل كانوا سيطيعون الاوامر ، ويسجنون امي التاية، وخالتي سكينة لجريمة انهم يقتطعون حيز من اراض ممتدة، وخالية لكسب لقمة عيش تكفيهم السؤال. واي خيار يجعل المراتان تحت ظل سقف يقيهم حر الظهيرة، وزمهرير الشتاء، وذل الحراسات، لكن اسبق اليه . وعندما نفد صبر العساكر ، وادهشتهم الشجاعة التي لم يتعلموها عند ذويهم، ولم يرثوها من اجداد، ولا في كلياتهم ولا في مؤسساتهم آحري ان يخسفوا بها الارض لانها تشعرهم بالعار فالرصاص الذي لم يصوب الي عدو من قبل ولم يحرر ارضا مغتصبة آحري به ان يقتل الشجاعة خوفا ليلغي الاضداد ويكون الخوف لا منافس له .وخوفا ربما من ان تنتهي صلاحيه سلاحهم ويصدا في المخازن. وليعيدوا بعض لياقتهم التي ثقلت بحمل النياشبن التي توزع لفرط استبسالهم من اجل بقاء قادتهم وتقنين كذباتهم. بالكاد تري حولك ، وطفل يرتمي علي قدمي لا اشعر إلا وهو ممددا ونازفا . فعبوة البمبان وقعت علي يده ، واللحم يتطاير شظآيا ، الطفل يصرخ ، وانا أصرخ. حاولت ان الملم افكاري ان اجمع الآمي، فاخذت خماري، اضمد به جرحه . منظر الدم ، وشظايا اللحم ،جعلت الارض تدور ،وتدور وفراغات سوداء ،وبيضاء واطياف لأناس علي مد البصر . فتحت عيناي وراسي علي فخذين فتاة ، ومجموعة فتيات حولي يسالنني : انتي كويسة. وانا اسال بلهفة بدون ان ارد : الولد كويس ؟ فترد الفتاة حملوه الي المستشفي .فوقفت ولم استطع حتي نطق كلمة شكرا . وذهبت فلحقت بي واحدة منهم تقول لي ؛ نقدمك البيت. انتي مصدومة . اتمتم بكلمات وانا ماضية لا ادري هل سمعتني أم لم تسمع ، تركت اقدامي تقودني فانا اريد الارض المتحررة ، وما زلت اتمتم، أهمهم ، اردد الصرخة التي اطلقتها ذات يوم في دفاتري . اتفه مافي الحياة موطني وأجمل مافي الحياة هو موطني .
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 01/25/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة