معركة كسر العظام التي انخرط فيها طرفا الحكومة الإنتقالية بعد مسلسل إفشال الحركة الانقلابية الأخيرة هي أشبه بصراع الضرائر يمكن ان يبدأ بالعنف اللفظي ويتطور أحياناً ليصل إلى مرحلة الأذى البدني وإسالة الدماء، ولكنه في خاتمة المطاف محكوم بولاية الزوج على الضرتين. فالزوج في النهاية هو الذي يقرر في مد حبال الصبر لهما إما لمصلحة يراها، أو ربما لقلة الحيلة، او فقدان الأمل في وضع حد للمعركة المحتدمة والمتطاولة بسبب عناد الضرتين وسوء تقديراتهما لحاكمية الزوج (الذي بيده العصمة) وحكمته، وهو في حالة طرفي الحكومة الإنتقالية (الشعب السوداني) صاحب المصلحة الحقيقية بعد انفضاض زخم الثورة التي صنعت التغيير. ولا تخفى على أحد حالة الكراهية التي يكنها الطرفان لبعضهما البعض، ومقدار التنمر والترصد في علاقاتهما الثنائية الذي ترجمانه ظاهر للعيان متمثلاً في بؤس الممارسة والفشل الذريع في قيادة سفينة الثورة والوطن حتى ترسو على جوديِّ الحرية والسلام والعدالة، والتي استلماها وسط أمواجٍ متلاطمة واجهزة ملاحة وبنيات معطوبة وطاقم ملاحة اشد تشاكساً منهما. فبينما يتكئ الطرف المدني (متأولاً) على فاعلية الشارع الثوري وجاهزيته، خاصةً على فئة الشباب (الواقف قنا)، وعلى سند إقليمي ودولي (له مصالحه وتقديراته) يهب إلى نجدته في المنعطفات الشديدة، قولاً وفعلاً وبالاخص الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تكشر عن أنيابٍ حادة كلما ازداد ضغط العسكر على حليفها المدني، كما لاحظنا موخراً من تدفق الإدانات للانقلاب الأخير والتركيز والتأكيد على وقفتهم إلى جانب المدنيين، نلاحظ أن المكون العسكري يعول كذلك على المعسكر الشرقي (الصين وروسيا) وعلى قوة السلاح والمال والانضباط ودقة التنظيم وقدرته على التلاعب بالمعادلات والتوازنات الداخلية واستخدام هذه الكروت بصبرٍ ونفسٍ طويل يعجز على مجاراته فيه الطرف المدني، لقلة التجربة ولتناقضات موضوعية بين مكوناته، (رغم ان ان المكون العسكري نفسه لا يخلو من تناقضات داخلية) وكذلك البيئة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة وتركة الحكم والحرب الثقيلة التي ورثها من النظام السابق. الطرفان يعرفان جيدا بأن هذه المعركة الثنائية غير مجدية وغير منتجة، وربما شديدة الغباء وكلاهما لا يملكان القدرة على الإنفراد بحسمها. فالطرف المدني الذي يتكئ على شرعية الثورة لا يستطيع أن يدعي شرعية تمثيل الجماهير العريضة في غياب معيار الانتخابات، والطرف العسكري الذي يلوح بشرعية القوة والمال لا يستطيع أن يستخدمهما للانقلاب على الطرف المدني لان النتيجة معروفة ولا تنتطح حولها عنزتان وهي ليست في صالحه ولا صالح الوطن. والغريب ان للمكونين انجازاتٍ واضحة للعيان؛ فالطرف المدني قد خاض ببسالة معركة اعادة علاقات السودان مع المجتمع الدولي، ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للارهاب، وتمكن باستخدام الرافعة الدبلوماسية من خفض بعض ديون السودان، ومنح وعوداً قوية بشطب كل الديون اذا نفذ اشتراطات مؤسسات التمويل الدولية على قساوتها، ومن ذلك الصدمة الكبيرة التي تلت رفع الدعم على معاش الناس واخلاقهم وهو قرار شجاع يحسب له لا عليه. هذه السياسات الصادمة على قسوتها احدثت مؤشرات تحسن واضحة في الأوضاع المتكلسة، منها انخفاض معدل التضخم وميزان المدفوعات واستقرار سعر صرف الدولار الذي انعكس في ثبات الاسعار رغم غلاء السلع ووقوع غالبيتها خارج نطاق القدرة الشرائية للمواطنين، ولكن من المتوقع على المدى الطويل ان تتحسن اوضاع الاقتصاد الكلي مما يؤدي الى المزيد من الاستقرار الأمني والسياسي. ويحمد للطرف العسكري قيادة محادثات السلام مع الحركات المسلحة والوصول بها الى محطة الوفاق والاتفاق الذي شمل معظم هذه الحركات الحاملة للسلاح، رغم الثغرات والثقوب التي صاحبت تلك العملية، ولكنها في المجمل قد ادت الى وقف الاحتراب ودخول معظم المعارضين في العملية السياسية. ايضاً تمكن المكون العسكري من استعادة الفشقة عبر العمل العسكري المحض الذي انتزع اعجاب وتقدير المواطنين، على فشلٍ لازمه في السيطرة على التفلتات الأمنية التي اتسعت رقعتها مؤخراً، ليس عجزاً وانما يبدو انه من ضمن الكروت التي يستخدمها في معركته الضارية مع المكون المدني. ولأن الطرفان دائماً ما يمتدحان الشراكة بينهما في العلن، ويحفران لبعضهما من وراء الكواليس، وهو منهج غريب ومعيب هما ليس بحاجة اليه، فالحصافة والوطنية تقتضي ان يتوقفا فوراً عن هذه المعركة العبثية التي تبدد الطاقات وتبعثر الجهود وتكرس الانقسام وتضيع وقتاً ثمينا يمكن للطرفين استغلاله في انجاح اهداف الثورة التي يدعي كل منهما ابوتها، حتى يتمكنا من الخروج بالعباد والبلاد من عنق الزجاجة المتمثل في استمرار الأزمات الخانقة وعدم الإستقرار السياسي والاقتصادي والامني، لأن معظمها إما مصنوعٌ او مقدورٌ على تجاوزه اذا توفرت الارادة وخلصت النوايا، وليس امام الطرفين خيار موضوعي آخر، خاصةً وان وثيقة الشراكة (المعطوبة) التي يحتكمان اليها تنص بوضوح على منع ترشح ايٍ من الشخصيات الرئيسية في الحكومة الانتقالية في اي انتخابات قادمة وعلى وجه الخصوص الثلاثة الكبار (البرهان وحمدوك وحميدتي)، فعلى ماذا يتصارع هؤلاء، ولمصلحة من هذا التشاكس والتنمر والترصد؟ خاصةً وأن أمام الثلاثة فرصةً ذهبيةً للدخول في سفر التاريخ الوطني من أوسع الأبواب، أو العكس. ارى ان الأفضل للطرفين وللقوى التي تساندهما وجميع مكونات الفعل السياسي والثوري (حكومة ومعارضة)، التوقف هنا (محطة ما بعد المحاولة الانقلابية) ومراجعة دفتر الشراكة والممارسة السياسية ككل، للبدء من جديد بطريقةٍ أكثر ذكاءً وموضوعية، والهروب للأمام باستعجال المصالحة الوطنية الشاملة التي لا تستثني الا مجرم او من ابى، وتكوين المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية وتعيين رئيس القضاء والنائب العام وانفاذ الترتيبات الأمنية والشروع بجدية في اجراءات تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحات لأنها وحدها الكفيلة بعلاج ملفات الحرب واللجوء والنزوح وشهداء الثورة، ويجب على الكل التوقف عن الحفر والترصد والتنمر والتشاكس، فالمجنون وحده كما نسب إلى البرت انيشتاين، هو الذي يكرر فعل الشئ ذاته بنفس الخطوات ويتوقع نتيجة مغايرة... معركة الضرائر الدائرة حالياً هي عبثية وخاسرة وتضعف مؤسسات البلاد وتجهض الثورة التي بذلت فيها الدماء والعرق، وتهدد بضياع المكاسب القليلة التي حققت في الفترة الانتقالية وربما أدت إلى تمزيق وتقسيم السودان وهو وزرٌ شنيعٌ مثل عملية فصل جنوب السودان، لا يقبل سياسي او عسكري عاقل حمل جريرته التاريخية على كتفيه... يجب ان لا يعود الجميع للوراء...ويجب ان تنتصر الثورة ويحدث التغيير المنشود كما ارادت جماهير الشعب السوداني...والحصة وطن...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة