لايهم ان كان المرحوم الدكتور حسن الترابي هو من سعي الي تسجيل "حقائق عصره" علي شاشة قناة الجزيرة او تم ذلك بطلب من المحطة القطرية لكن المهم هو انه اراد ان يتفوه بكبريات الخبايا و الاسرار، ويخرج الكثير من الهواء الساخن من صدره المليء بالاسي والمرارات وربما الضغائن ، ولا غرو في ذلك البتة، فالرجل الذي افني عمره المديد في تشييد صروح مشروعه الاسلامي الذي اراد ان يحكم به السودان وما وراء حدوده بدا لنا حاسرا آسفا علي ضياع ما انجزه بسبب عصيان حوارييه وخيانة بعضهم له كخيانة السامرئ لموسي عليه السلام او كما يعتقد هو. بات من الواضح من خلال هذه الحلقات انه قرر ان يحاكم نفسه وتجربته في حكم السودان ودور تلاميذه فيه امام محكمة التاريخ قبل ان يمضي الي رحلته الابدية ليترك الآخرين ليتحدثوا عنه في غيابه ولسان حاله يقول كما المتنبئ "انام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم" وبالطبع سيتواصل الجدل حول شهادات الترابي وسينشغل بها الناس ردحا من الوقت ريثما يهدأ غبارها او ربما يعقبها تداعيات ومفاجاءت سياسية داوية. معظم التحليلات والتعليقات في الصحف والمواقع السودانية تركزت حتي الآن حول افادات الترابي عن تورط بعض كبار المسؤولين في محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في اديس ابابا عام 1995 ولكن اكثر ما شد انتباهي هو تصريحه الصادم في الحلقة الحادية عشر بان عجزه في منع ما حل بالبلاد من كوارث وما استشري فيها من فساد يرجع الي الصعوبة التي وجدها في تصديق حقيقة ان الرجال الذين رباهم علي قيم الاسلام وتعاليمه السمحاء علي مدي اكثر من ثلاثين عاما قد يفتتنون بالسلطة يوما ما، وينغمسون في ملذات الدنيا ومباهجها فينسون الحلال والحرام ويرتكبون الموبقات المهلكات كما فعلوا. ويضيف خريج السوربون الذي خابت ظنونه بانه وقف عاجزا يتفرج علي تلاميذه لاكثر من عقدين من الزمان وقد اخذوا بتلابيب بعضهم البعض، يكيدون كيدا لبعضهم، تكالبوا علي الدنيا، وضربوا الاعناق وولغوا في الدماء وعاثوا فسادا في ارض السودان الساشع وكذلك يفعلون. وقطعا لا جديد في ما ذكره الترابي حول انحراف السلطة عن جادة الحكم الرشيد في عهد نظام الانقاذ الذي اتي به، فواقع الحال يغني عن السؤال اذ يكفي ما فعله دعاة التدين الجدد من تقسيم البلاد وتبديد الموارد ونشر الحروب الاهلية في دارفور وكردفان والنيل الازرق والشرق واذكاء الفتن والنعرات العنصرية غير آبهين بالشعارات الدينية الرنانة التي يرددونها صباح مساء كآخر ما تبقي من حطام مشروعهم الحضاري الذي تساقط كبيت زجاج. المدهش والمحزن حقا ان يقول لنا الترابي –رحمه الله- بعد كل هذه السنين العجاف انه اعتمد علي الحدس او قل حسن الظن في الوثوق بتلاميذه ،الذين تربوا علي الورع والتقوي، بأنهم سيبلون بلاء حسنا في ادارة شؤون الدولة والناس والاقتصاد! وهذا لعمري ابتداع جديد في علم السياسة وادارة الدول ان لم يكن تبسيطا مخلا للامور. وكان لافتا ان يتصدي له محاوره احمد منصور ببراعة في هذه النقطة متسائلا "الم تقرأ التاريخ؟" مبديا استغرابه ان يترك الشيخ مثل هذه الامور الجسام وما تتمخض عنها من مسؤليات لحسن الظن والثقة العمياء وهو السؤال الذي احرج الرجل وحاول ان يهرب منه علي طريقته المعهودة لان الاجابة عليه برأينا يحتم الاعتراف بامرين كلاهما امر من الحنظل : الاحتمال الاول يفترض انه لم يقرأ التاريخ وهو امر لا يقبله عقل، والثاني انه قرأه ، بل وقف علي مختلف تجارب البشر –مسلمهم وغير مسلمهم- في الحكم والسياسة ولكنه تجاهل كل ذلك وساقنا معه الي حيث يريد. الحقيقة تقول ان العالم الضليع الذي نهل المعارف من اعتي صروح العلم في الغرب وتبحر في علوم الدين الاسلامي واطلع علي ثقافة الشعوب ولغاتها المختلفة وساهم في صياغة دساتير بعض البلدان وجاس شرقا وغربا خلال الديار فشل في توظيف كل تلك المعارف او جزء منها علي الاقل لابتكار الوسائل المناسبة (من دساتير وقوانين) وايجاد الحلول الناجعة (من انظمة حكم ) للتعاطي مع مشكلات السودان الشائكة ن ولكنه لم يفعل شيئأ من ذلك بل ركله بكلتا رجليه وركن الي حسن الظن باتباعه الذين اوكل اليهم امر الدين والدنيا في السودان. وما يعتبره الترابي "حسن ظن" ما هو الا الشفرة او العبارة الرمزية التي تشير الي ايديلوجية الجبهة الاسلامية التي تمسك بها الرجل واصر علي تطبيقها في السودان حتي لو لم تستند الي شيء ، ولا عجب اذ انتهت الي لا شئ كما هو ماثل اليوم. ان في تاريخ الاسلام واقتتال الطوائف ضد بعضها البعض الي يومنا هذا وتنازعها واشتجارها علي "الامر" ما يكفي لاستخلاص العبر والدورس لتفادي المزيد من استغلال الدين في السياسة ولكن من يقنع مدعي امتلاك الحقيقة دون الناس؟ لو تمعن الترابي في هذه المقولة القديمة التالية التي اطلقها ميكافيلي (الذي لم يؤمن بالله ولم يعرف الاديان) عن البشر لربما لاستخلص منها شيئا ساعده في تعامله مع حوارييه. قال ميكافيلي عن البشر : "أنهم ناكرون للجميل ، متقلبون ، مراءون ميالون إلى تجنب الأخطار شديدوا الطمع ، وهم إلى جانبك طالما أنك تفيدهم فيبذلون لك دمائهم وحياتهم وأطفالهم وكل ما يملكون"
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة