(قد يظن البعض أن نفور الحداثيين من الاقتراع العام في البرلمانية حادثاً سودانياً أو قاصراً على العالم الثالث. ولكنه نفور في أصل الخطة الديمقراطية. فالصفوة في أروبا استرابت، وما تزل، في قدرة العامة، المالكة لحق التصويت، على تزبيط الحكم. فالصفوة مع الديمقراطية ولكن تحت سلطانها هي لأنها تحسن الحكم. ولهذا سميت ديمقراطيتها بالديمقراطية غير الليبرالية (أي التي تحد من الاقتراع العام بصورة أو أخرى). وسنتطرق في خاتمة بحثنا هذا لهذه الفكرة في العلم السياسي الإيطالي الذي خرجت منه نظرية الصفوة بشكل عام. ثم نلتفت إلى الربيع العربي لنعرض لصورة من صور الديمقراطية غير الليبرالية في فكر الإخوان المسلمين في مصر وتونس كما نظر إليها بعض المحللين. فهي ديمقراطية لا ليبرالية، لا خوفاً من الاقتراع العام، بل توظيفاُ له لمصادرة الأقلية بصورة منهجية. وأردنا بهذه الخاتمة أن نخرج من صدفتنا الأثيمة (انقلاب-ديمقراطية) من محفوظاتها الأولية الرديدة والركيكة إلى رحاب النظر عن مسألتنا في سياقاتها الأوسع). خليق بنا أن نزن نفور قوى الحداثة في المدن والجبال ضامرة النفوذ السياسي (لا العدد) من سطوة الأحزاب التقليدية الطائفية على خلفية مفهوم الديمقراطية الليبرالية وممارستها. لقد تبارت صفوة أفريقيا منذ الاستقلال في الإزراء بالديمقراطية الليبرالية، التي شخص كمرض سياسي باسم "الوستمنسترية"، وحكموا ألا برء لأفريقيا إلا باستئصاله. فهي لا تناسب القارة كما لا يناسب مناخها من ارتدي بدلة بثلاث قطع كما في عبارة نمطية استأنس بها منصور خالد كما رأينا (منصور: حوار مع الصفوة). ولكن هذا الصراع بين أهل الأغلبية من الجمهرة وأهل الأقلية من الصفوة مما لا يستغرب لأنه في صلب الديمقراطية الليبرالية في الغرب، حاضنتها الأولى. فالصفوة الأوربية نفسها ارتعبت وهي ترى الديمقراطية تجنح لمشاركة العامة فيها بمبدأ السيادة للشعب وقوامه انتخاب حملة الوظائف الدستورية مما يحد من دور الصفوة قليلة العدد، ويضعف امتيازها في رسم السياسات وإدارتها (ابريل كارتر 2). ولا يبرز هذا الاستمساخ للديمقراطية مثل بروزه في فكر المدرسة السياسة الاجتماعية الإيطالية لفلفردو بارتو وقايتانو موسكا الذي عرض لها ت بوتمور بنباهة في كتابة "الصفوة والمجتمع" (1964). ولكن مع ذلك، ولملابسات في أوربا القرن التاسع عشر والعشرين لن تستوقفنا هنا، تصالحت الصفوة الليبرالية مع ديمقراطية الجماهير. فقبلت على مضض مبدأ حق التصويت للكافة ولكنهم لم يعدموا حيلة لفرض الحدود على ما بوسع الكافة تعاطيه من الحكم (فيوست 2014: 149). وبالنظر إلى صراع أغلبية الكافة وأقلية الصفوة في السياسة الأفريقية جاز القول إن الديمقراطية الليبرالية ليست غريبة ديار في افريقيا كما زعموا. فقد اعتورها ما اعتور كل ديمقراطية أخرى من أدواء نزاع الصفوة القابضة كطرف، والجمهرة كطرف آخر في الحكم معززة بمبدأ حق الاقتراع للجميع. كان الربيع العربي معرضاً سياسياً لضيق الصفوة بالديمقراطية كممارسة جماهيرية وفرحها بما عندها من عقائد قد لا تحتاج للديمقراطية لتنزيلها على أرض الواقع أخنق فطس. وهكذا جاء هذا الربيع بصدام الليبرالية والديمقراطية إلى مائدة البحث. فظهر من الوضع السياسي التراجيدي في مصر في 2103 أن الديمقراطية الليبرالية جماع نقائض تلغي بعضها بعضاً. فنازع الإخوان المسلمون، الذين جاؤوا إلى سدة الحكم بالانتخابات في 2012، لبسط الشريعة قانوناً تأذت منه الأقليات تأذياً حدا بشهيد حامد ليصف ديمقراطيتهم ب"اللاليبرالية" (2104: 173). فتنكرت الجماعة قبيل الانتخابات لعهدها الليبرالي الذي صدعت به من قبل الانتخابات لأنها وجدت أن غزارة جمهورها هو سيبلها للنصر. فعكفت تؤلب قاعدتها دون الناخبين الآخرين، وتزهو بماركتها الإسلامية الخاصة لتزايد على خصومها من بقية الإسلاميين، وتقطع عليهم طريق الحكم. وبدا لحامد أن الإسلاميين كانوا في أحسن احوالهم أسرى غزارتهم العددية. فهو لا يرى لهم فكاكاً منها. فحتى مساعي راشد الغنوشي، زعيم الإسلاميين في تونس، لإحداث اختراق في المصالحة بين الديمقراطية والإسلامية ببينة مفهوم "الاستخلاف" لم يرقه. وعنى الغنوشي به أن المسلمين، متى ما توضعوا على دورهم كسدنة للشريعة، سيقيمون دولة إسلامية بأي حال من الأحوال (2014، 181). فرأى في المفهوم جبراً (تحكمية ما) يلغي العملية الديمقراطية ذاتها. فالمفهوم يقصر جداً عن الليبرالية السياسة الغربية التي تقوم على "قناع الجهل" في قول الفيلسوف الأمريكي جون رولز. ويريد رولز من المفهوم القول بأن بناة أي كيان سياسي جديد أحرار في إنشاء مجتمعهم بغير أي علم بما ستكون عليه حظوظ القوة فيه مستقبلاً، وبغير لائحة أسبقيات لقيم محظية عند طرف ما (2014، 187-188). وإذا كان من نصيب الإسلاميين المصريين بناء ديمقراطية غير ليبرالية نجد، من الجهة أخرى، سائر التقدميين في العلم العربي راغبين في قيام نظم ليبرالية غير ديمقراطية. فهي أنها مشبوبة بأريحية بسط القسط والإصلاح سيجرى تنفيذها بواسطة شاغلي وظيفة عامة غير منتخبين من شعب تمتع بحق الاقتراع العام. وما ألجأ هؤلاء التقدميون إلى هذه "الروبن هودية" السياسية إلا كونهم قلة في بحر لجب لجماهير، متى نالت حق الاقتراع، اختارت في المشاهد طوعاً قوى تقليدية أو إسلامية. ومن المفهوم أن يأخذ تقدميو السودان الديمغرافية الانتخابية بغير قليل من الحذر. فقد جربوا الفوز للبرلمان والاغلبية غافلة عنهم في دوائر المثقفين التي استنها الاستعمار لبرلمان الحكم الذاتي في 1954، وفي 1965، وفي 1986. وكانت تلك الدوائر بمثابة تفضيل إيجابي أعطى لقطاع من السكان صوتين انتخابيين. ولم تجد الأحزاب التقليدية عسراً في قبول ذلك الترتيب. بل ترعرع الجيل من خريجي جامعة الخرطوم إلى عام 1969 على مبدأ التمثيل النسبي في انتخابات اتحادهم، وهو المبدأ الذي يتنازل من له غزارة في العدد بأريحيه لقليل النفر بأن لا يجنح نحو الاستئثار بمقاعد مجلس الاتحاد الأربعين كلها. ومما له مغزى كبير في سياق ما نحن فيه من تململ الحداثيين من الديمقراطية الليبرالية أن التقدميين الطلاب هم من تنصل عن تقليد التمثيل النسبي في انتخابات اتحاد الطلبة فرموه على قارعة الطريق في أول سانحة تمكنوا من الدولة (أو خُيل لهم) بانقلاب نميري في 1969. فاستدبروا الاتحاد المعروف لينتبذوا اتحاداً قصيا سموه "اتحاد الجبهات التقدمية" ليعزلوا الإخوان المسلمين المعارضين للنظام ويجردوهم من الصوت في سياسة الجامعة والبلد. وكان بوسع التقدميين، كمبدأ، العمل المثابر من خلال الديمقراطية الليبرالية نفسها لكسب مزيد من الجمهور لصفها كما رأيناه في إصرار عبد الخالق على التمسك بعروتها الوثقى. وبلغ من شطط الانقلابية أن زينت للتقدميين أن يهربوا بليبراليتهم معتزلين شكلاً أرقى من الديمقراطية هو التمثيل النسبي. لم يكن التقدميون بحاجة إلى إلقاء اتحاد التمثيل النسبي، ولا البرلمان، إلى مزبلة التاريخ لولا عشمهم في انقلاب مناهم الإصلاح من عل. وحلت الندامة. ها نحن نرى القوى الحديثة وقوى الهامش في دارفور و"الجنوب الجديد" الشامل لجبال النوبة والنيل الأزرق تقاوم لربع قرن ديكتاتورية الإنقاذ العسكرية لاسترداد الديمقراطية. ولا يدري المراقب للمشهد إن كانوا، واكثرهم شاك السلاح، إن كانوا قد تصالحوا مع مبدأ أن الحكم لصاحب أغلبية الأصوات انتخابياً. وهي مربط الفرس في تجربة الحكم الديمقراطي قصير الأجل في السودان. وفي هذا المناخ الجديد لإزاحة طغمة عسكرية ثالثة نجد أن زعماء أحزاب الطوائف السياسة فقدوا في الأثناء الهيبة التي كانت لها في أكثر هذه الهوامش من فرط النقد الذي يكال لهم لتخبطهم إدارة البلاد في العهود الديمقراطية القصيرة الثلاثة. وليزداد الطين بِله تسرب بعض أفراد من القوى الحديثة إلى داخل هذه الأحزاب يريدون تغييرها في وجهة المؤسسية والشفافية تغييراً لن تُعرف بعده أبدا. وقد شجع هذا الاتجاه لتحديث هذه الأحزاب من الباطن الانهاك الذي عانته في ظل ديكتاتوريات تطاولت ونالت منها بدرجات متفاوتة. فأغرى تضعضعها هؤلاء الأفراد ليأملوا في توجيه دفتها بجمهرتها الغزيرة. ووضعوا تفريغها من نواتها المقدسة نصب أعينهم. وبالطبع لن يعقل أن تسمي هذه الحيل الحداثية والمكر لتسوئة الأحزاب التقليدية مرة، ومحاولة اختطافها مرة ثانية إعداداً جيداً لمسرح الديمقراطية المنتظرة. ويعول الحداثيون على أن الأجيال الطالعة ستهجر هذه الأحزاب لأنها لم تقع أصلاً تحت تأثيرها، وعارضت النظم المستبدة من فوق منابرها المستقلة في دارفور وشرق السودان. ومع أننا قد نتفق على أن في قولهم هذا بعض الحقيقة إلا أن عليهم الاستعداد، متى عاد الديمقراطية، لبعض المفاجآت. فلم يصدق مثل هذا القول عن هجرة الناس عن تلك الأحزاب في المرة التي مضت. ومن المحير كيف أن هذه الأحزاب المظنون بها التخلف عن العصر والإرهاق من جراء النظم المستبدة أشرقت بالحيوية والجمهرة كلما عادت الديمقراطية أدراجها في البلد. وربما كانت هذه الحيوية المستترة هي من وراء اليأس المرخية سدوله على هذا الجيل الذي يقاوم دولة الإنقاذ من فرج ديمقراطي. فحشيته إنه متى سقطت الإنقاذ ورثتها الأحزاب التقليدية لا فكاك. فكتب القاضي الناشط سيف الدولة حمدنا الله متشائماً إن كان بوسع من مثله من غير بيوت الإرث وضع بصمته على الديمقراطية العاقبة. فقال: “لن تكون هناك فرصة تُذكر لأبناء جيلنا ومن سبقونا للتأثير على نتائج أي انتخابات قادمة بعد عودة الديمقراطية، سواء حدث ذلك بتصالح النظام مع الشعب نتيجة تسوية سياسية شاملة او بانتفاضة شعبية، وسوف تجد الأجيال القادمة، كما حدث لأبناء جيلنا، نفسها وجهاً لوجه مع نفس الخيارات، لن تجد أمامها غير هذه الأحزاب التي يتلاعب أقطابها بنا اليوم، فيرمون لها بأصواتهم حتى لا يأخذها الريح، ثم تدور بهم الساقية التي تدور بنا اليوم" (الراكوبة 26 فبراير 2017). الأصل في تهافت الديمقراطية عندنا وعند غيرنا في الدول التي استقلت عن الغرب في العقود الأخيرة هو ثقافة الصفوة الذين، ما شخصوا ذلك التهافت، انحو باللائمة على بدائية غمار الناس من لا ينظرون لأبعد من أرنبة خبزهم . . .لا الاقتراع. وهم في تحليلهم يقصرون الديمقراطية على ساحة البرلمان الذي يحمى فيه وطيس معركتهم مع الأحزاب التقليدية. ولا يأت ذكر الديمقراطية القاعدية التي ينتخب فيها غمار الناس نقاباتهم واتحاداتهم وسائر منظمات المجتمع على لسانهم. بل تغلقها الانقلابات بالشمع الأحمر في بياناتها الأولى. واستثني من ذلك منصور خالد، المنظر الأكبر لغير البرلمانية، لتمييزه قيام الحركة النقابية السودانية على أعراف الاقتراع الحر وسائر نظم الممارسة الديمقراطية (1979، 137-138). والصفوة في شغل عن هذه الممارسة الرشيقة للديمقراطية في القواعد لما اقتصر تعريفها للديمقراطية على البرلمان والأحزاب.
عداء الديمقراطية بالاقتراع العام "فيروس" أصله في حداثة الصفوة. فقد تبنت هذه الصفوة في إطار الحرب الباردة إما الاشتراكية أو الرأسمالية، تجملاً، طريقاً لتنمية بلدانها. ولكنها اتفقت، على خلافها، مع ذلك على الولاء لعقيدة في الحداثة كقاسم مشترك أعظم في الطريقين المعروضين (شارما 2007). وستنفر الصفوة من الأحزاب التقليدية، "الرجعية" في نظرهم، ممن فات زمنها ومات مغنيها، متى ما عرّفت الحداثة كإشانة سمعة للحاضر والماضي. فالصفوة كالتي في السودان، وقد تسلحت بعقيدة تقدمية الحداثة ورجعية ما سواها، نافدة الصبر بالأغلبيات الليبرالية البرلمانية. فقد ذاقوا ويلات الهزيمة بأيدي الأحزاب التقليدية بغزارتها بين السكان. فالجذريون من الصفوة وغير الجذريين ضاقوا ذرعاً بهذا النكير التقليدي الذي أهمهم لعقود، وكانت الندامة في عجلتهم للخلاص منه بالانقلاب. فقال إيمانويل والرستين إنهم بنفاد صبرهم "أمروا خمرهم" (1979: 137). فالنظم التي فرضوها على شعبهم بعد خلاصهم من أحزاب الأغلبية البرلمانية الميكانيكية للأحزاب التقليدية كانت، في قول هوبس، "موحشة، مدقعة، عفنة، وباطشة، وطويلة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة