حكى لي أحد الأصدقاء المقربين ، و هو من المنتمين إلى عائلة أرستوقراطية عريقة و ذات سيرة ناصعة في تاريخ هذه البلاد ، أن والدته كانت من المثقفات و الضليعات في مجال العمل و الطوعي و الإنساني ، و كانت قد تلقت دراستها في إنجلترا و تأثرت كثيراً بالأوجه ( الشكلية ) للحضارة الغربية ، مما حقق لها الكثير من العلاقات مع شتى نساء الجاليات الأجنبية في السودان عبر منظمات و جمعيات و مؤسسات طوعية و إجتماعية أغلبها ذات طابع نسائي ، أما صاحبنا و صديقي العزيز فقد شب ثائراً على بيئته الراقية و إلتزاماتها المُقيَّده لروحة الفوضوية بالفِطرة ، و حسب قوله أنه كان أقرب وٍجدانياً إلى أهل أبيه و بيئتهم البسيطة و العادية و ( التلقائية ) شأنها في ذلك شأن معظم الأسر الأمدرمانية المتوسطة ، و هو بهذا المنهج في الحياة كان لا يهتم أبداً بهندامه و شكله الخارجي داخل و خارج المنزل ، و لا يعتد أبداً بقواعد ( الأوتوكيت ) و اللباقة الإجتماعية ، زيادةً على كل ذلك كان شغوفاً بلعب الدافوري ( حافياً ) مع أقرانه المتاخمين و المنتمين إلى الطبقة الوسطى و هم بذلك و كما نعلم ينتمون أيضاً للمنهج التلقائي و الفطري في التعامل الآخرين و لو كانوا أجانب ، المهم إسترسل صديقي ليحكي لي أنه في أصيل يومٍ عادي من أيامه المليئة بالأحداث ( العشوائية ) جاء من الدافوري و هو يرتدي سرواله الشعبي ( أب تِكه ) مع فانيله داخلية بيضاء مال لونها إلى البني الفاتح من كثرة العرق و تناثر الغبار عليها ، منتعلاً حذاءاً من القماش كان في الأصل أبيض و صار حاله حال فانيلته البنيه ، لاهثاً يقصد دخول باب البيت ، ليجد والدته سيدة الأعمال و الناشطة الإجتماعية في مدخل باب البيت تودع ثلة من السيدات الأجنبيات الناصعات البياض و الزاهيات الثياب ، فبُهت صاحبنا و كذلك والدته ، غير أنه و تفادياً للإحراج لم يجد بُداً وهو تحت تأثير المفاجأة و الإحراج من مصافحتهن واحدة واحدة ، ثم إستدركت واحدة منهن و على ما أذكر أنها و كما قال إيرانية الجنسية لتسأل والدته بعربية ركيكة ( هذا إبنك ؟ ) .. قال صاحبنا أن والدته لم تتردد و ردت عليها في ثباتٍ و ثقة بلهجتنا العامية المحلية ( بري ما ولدي ) .. هكذا إتخذت موقفها منه بكل ثبات و جرأة و تبنت في لحظة حرج ( محورية ) المثل الشعبي القائل ( الشينة منكورة ) .. ضحك صاحبي مليَّاً بعد أن أنهى حكايته و قال لي بعد ذلك قلت لها ( يُمه ما قالوا القِرد في عين أمو غزال ) .. و للحقيقة ليس دائماً تكون الأم على إستعداد للإعتداد بإمومتها و التغاضي عن سوءات أبنائها ، فالحقيقة المجردة حين تكون بائنة بينونة الشمس في ضُحاها لا تقبلها سُتر العواطف و لو كانت تغذيها غريزة الأمومة ، نحن السودانيين نحتاج إلى إعمال قاعدة الإعتراف و القبول بأننا نخطيء و نصيب ، و فينا الجميل و القبيح ، يجب أن نخرج من دائرة وصف الذات الجماعية بأنها دائماً هي الأسمى و الأفضل ، لأن ذلك لايصب في نطاق ( الوطنية ) و ( حب الوطن ) كما يظن البعض ، فإن نشرنا ثقافة الإعتراف بما هو قبيح فينا ، إستطعنا أن نحُل معضلات ضخمة أهمها التداول السلمي للسلطة و الإقتسام العادل للثروة ، و الإعتراف المطلق بالآخر ، ولوجدنا بعض وزراءنا و مسئولينا الكبار يستقيلون حين يخطئون و يعتذرون حين يجانبون الحق و يؤالِفون الباطل .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة