في زيارتك لبلدان كثيرة، فلربما تسعد مرات، ولربما تشقى مرات أخرى عديدة. وفي كلتا حالتي السعادة والشقاء، يترسخ لديك إحساس قوي بغربتك وغرابتك وسط مضيفيك، بغض النظر عن رحابة صدرهم وما يتحلون به من حميمية تجاهك. الاستثناء الوحيد من كل ذلك هو مصر. فبمجرد وصولك إليها، يكتنفك الود وتعانقك الحميمية بتلقائية تامة. فسائق التاكسي الذي يقلك من المطار يسألك، بمنتهى البراءة، إن كنت من أبناء هذه المدينة أو تلك من المدن المصرية. وهي براءة تعزز لديك ذلك الشعور بأنك جزء من مصر ومن ثقافة مصر. بمعنى أنك لست غريباً بين أهلها. السودانيون عموما تتوزعهم مشاعر شتى نحو مصر. موقف بلدهم الرسمي في تأرجح دائم بين علاقات سلسة مواتية مع مصر وعداء سافر مستعر نحوها. الموقف المصري الرسمي، هو الآخر، يكتسي أحياناً عشوائية رد الفعل الصبياني، لكن رغم كل شيء ظل السودانيون يجدون ترحابا وسعة صدر شعبيين عند قدومهم مصر سواء حسنت العلاقة بين البلدين أم ساءت. ولعل الشاهد على سلاسة العلاقة بين البلدين وجود عدد كبير من السودانيين في مصر ومن المصريين في السودان، سواء بسواء. يختلفون حول هذا الموضوع أو ذاك من مواضيع التاريخ أو الحضارة أو الثقافة أو الرياضة، لكنهم أبداً لا يخرجون من أطوارهم. المثقفون السودانيون، والنموذج الأتم الناجذ لهم هو الطيب صالح، رحمه الله، ظلوا ينظرون إلى مصر نظرة إجلال وتقدير عميقين. فهذا هو الشعب الذي خرج من احشائه طه حسين ونجيب محفوظ ومحمد حسنين هيكل.. وأكرم بهم من صحبة يُستهدى بها في دياجير الحياة وتشعب دروبها. مثلاً الدكتور عبد الله الطيب، عليه الرحمة، حرص أشد الحرص على مقابلة طه حسين في ١٩٥٥م ليصدر موسوعته الثرة «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» بتقديم رائع من عميد الأدب العربي، قرظ فيه الكتاب ووصفه بالممتع. وأكد أن وصفه له بالممتع لا يأتي من باب التكثر أو المغالاة، أو إيثار إرضاء صاحبه. بل ذهب إلى أبعد من ذلك، واصفاً المرشد بمتانة اللفظ ورصانة الأسلوب، وأنه أدب جاد وحلو مر! سقت كل ذلك، لأقول إن الحملة الحالية التي تتعرض لها مصر وأهلها وتستهدف تعطيل ماكينة اقتصادها الزراعي والسياحي، تشبه العدوان الثلاثي سنة ١٩٥٦م، حينما قامت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بهجومها المسلح الغاشم على مصر عبد الناصر عقب قرار تأميم قناة السويس. هذه المرة، كما في ذلك الوقت، يريدون تركيع مصر، وأخذها المأخذ المطلوب إقليمياً، ليسهل عليهم وقتها تمرير ما يطمحون إليه من سياسات وأوضاع. في كل حين تجد أن الحال السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمصر تمثل المؤشر الصادق جداً لحال الأمة العربية برمتها. بالطبع من حقنا أن نختلف مع أيدلوجيا القومية العربية، وما جرته على المنطقة من خسائر فادحة وما اجترحت من عنتريات لا طائل من ورائها. كما قد نختلف، مع دور الأزهر وتكريسه للفقه السلفي المتطرف والفكر الظلامي البائس والمواقف المتحيزة العمشاء في هذا الشأن أو ذلك من شؤون الناس على ممر العصور. لكن تظل الثوابت ثابتة أبداً لا تتزعزع. من بين هذه الثوابت أن لمصر دور ريادي وسط محيطها الإقليمي. هذه المرة الحملة العدائية ضد مصر تقودها أميركا، وتقف ورائها إسرائيل فيما يبدو. إذ روجت لها وسائل الإعلام الغربية الرئيسية، ورفدتها بزخم علمي يقوم على غريزة خوف الإنسان من الموت أو المرض جراء تناول منتجات ملوثة. إن أميركا، وحليفاتها في الغرب، تدرك تماماً أن الإخوان المسلمين يحققون لها استراتيجية حماية إسرائيل من طريق جر المنطقة برمتها إلى حمأة نزاعات دينية مذهبية تشمل الرقعة الواسعة الممتدة بين المحيط الأطلسي غرباً وتخوم المحيط الهادي شرقاً. وبمنطق الدويلات ذات الصبغة الدينية هذا، أليست إسرائيل دولة دينية هي الأخرى، وبالتالي أليس من حقها أن تتنفس بحرية وتمارس يهوديتها في إقليمها؟ وهي بذلك تستطيع أن تعمق الفوارق المذهبية في المنطقة، وأن تسود فيها بلا منازع. ولتحقيق هذه السيادة، يدعمها تقدم علمي وتقني يتمظهر في صناعة سلاح متفوق وتحكم استخباراتي حاذق وتلاعب ماهر بأعصاب الجميع من حولها؟ أمام ذلك ليس غريباً أن تجد الحملة تجاوباً لها من أبواق الإخوان المسلمين الذين سعدوا بالاعتراف الأمريكي بوجودهم عند صعودهم إلى الحكم في مصر. كانت سعادتهم بالاعتراف الأمريكي سعادة غامرة. علاوة على ذلك، فهم ينظرون إلى القيادة المصرية الحالية نظرة ريبة ما بعدها ريبة. فقد اطبقت عليهم حكومة السيسي، كما لو أنها قد أحكمت قبضتها على رأس الثعبان، الذي تتحرك بقية أعضائه ليخلص الرأس من وثاق القبضة القاتلة، حتى يتسنى نفث السم هنا أو هناك. لكن هيهات! ينبغي النظر إلى مصر من منطلق استراتيجي بعيد الغور. في أثناء ذلك، من الطبيعي أن تطفو على السطح أصوات نشاز من هذا الجانب أو ذلك. وستسعى هذه الأصوات إلى تعكير صفو بحيرة العلاقات بين الدول، دون أن تجد القدرة على زعزعة ثوابت العلاقات الراسخة بين الشعوب. وفي المجمل، فإن علاقة مصر والسودان تعتبر علاقة عميقة ومتجذرة جداً، ولعل أبرز من أثبت ذلك علمياً هو الجغرافي الفذ الدكتور سليمان الحزين، رحمه الله، الذي ركز نظره على أن البلدين بلد واحد بدليل أنك تجد أكثر من قبلية قد شطرت إلى نصف سوداني وآخر مصري عند رسم الحدود السياسية بين البلدين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة