(إعادة لكلمة قديمة في مناسبة صدور طبعة ثانية من كتابي "الإرهاق الخلاق: نحو استراتيجية شاملة للصلح الوطني"
تسود بين دوائر شتي من السودانيين، وبالذات بين المتعلمين والمهنيين، عقيدة أن "السودان بلد منتهي". وظلوا يرسمون له سيناريوهات الإنتحار والتفرق شذر مذر. ففي عقد السبعينات قيل إننا "سنلحق لبنان" ونصاب ب"اللبننة". وفي الثمانينات قيل إننا "سنلحق الصومال" وستفتك بنا الصوملة. ثم جاءت في التسعينات سيناريوهات بلاد البلقان من البوسنة والهرسك وكوسوفو وغيرها من زينة الأوطان وقيل "سنلحق الزينين". وسلم السودان. الذي وقي السودان من الفناء بمقتضي هذه السيناريوهات المتشائمة هي خصلة فاتت على صفوة البلد التي جعلت من يأسها منه ثقافة عامة وفيزا للخروج من مركبه الغارقة. الذي سلمنا من هذه المصائر الموحشة إننا كنا البلد العربي والأفريقي الأكثر إنشغالاً، وبالمفتوح، بإعادة التفاوض حول حدوده السياسية وإرثه الإستعماري في النمو غير المتساوي وجفاء الدولة للناس. وهو ما ورثته الحركة الوطنية وفاقمت منه بقصر الخيال وعقم الإرادة. وبذلك كنا من البلاد القليلة التي ما تزال تشتعل فيها معركة إزالة آثار الإستعمار بقوة. فهاجسنا وشاغلنا منذ الإستقلال كان المفاوضة والمساومة (أو الكجار حول المسألتين). أي حول هل تبقي الشعوب والقبائل التي اعتقلها الإنجليز في حظيرة السودان الإنجليزي المصري بالقوة الجبرية معاً في الدولة المستقلة أو تتفرق أيدي سبأ. لقد جاء الجنوبيون الي المفاوضة بمبدأ تنظيم الدولة علي اساس الفدريشن ثمناً لقبولهم الإنتظام في سلك السودان المستقل. ولم تفهم حكومات ذلك الزمان ولا من تلاها الكلام. وقد بلغنا الأن الي ما هو أكثر جذرية من الفدريشن مثل الرائج عندنا من كونفدريشن وتقرير مصير وما الي ذلك. وكنا وما نزال في حالة وصفها الشاعر بقوله إن بطنه كجنت "القاعدين سو ويتنقروا". وقد مررنا ونحن في هذه الحالة بمحطات خير وشر. ومن محطات الخير التي إحتفلنا فيها بالإختلاف في إصول السودانيين وثقافتهم محطة إعلان 9 يونيو 1969 وإتفاقية اديس أبابا 1972التي ارست الحكم الذاتي لعشر سنوات حسوما. وقد زرت الجنوب عام 1980 والبلد ناعم بالسلم الجميل. واذكر أنني جلست في دكان ود مهيد في جوبا استمع الي شماليين وجنوبيين يحكون، وكبابي الشاي دائرة، عن مواجهات حادة لهم خلال حرب الأنانيا: "لم تنسخ الحرب أنسابنا ولم تعلمنا لغة ثانية" كما قال محمد المكي إبراهيم. إن ما نستحق أن نهنئ أنفسنا عليه في السودان أننا لم نسمح للدولة الطاغية أن تتمكن بيننا لتشكل السودان كيفما أتفق تغلب فيه جماعة على أخري وثقافة على ثقافة. لقد قامت بيننا مثل هذه الحكومات بالطبع (بل ظللنا تحت إدارتها أكثر سنوات الإستقلال). وطمع بعضها أن يضع حتى "القطيعة" في الحكام تحت طائلة القانون. ولكننا ثرنا عليها في أكتوبر 1964 وأبريل 1985. وليس صدفة أن كانت مسألة الجنوب رقماً مقدماً في كل من الثورتين اللتين فتحتا الباب على اوسع نطاق للمفاوضة من جديد حول إعادة ترتيب أوضاع البيت السوداني. بل لم نسمح حتى للمعارضة مثل حركة قرنق من غايتها الأولي في إعادة ذلك الترتيب وفق أجندتها العنصرية كما قال السيد الصادق المهدي. لقد سالت دموع كثيرة في نهر الوطن منذ نلنا استقلالنا لأقل من خمسين عاماً. وهذا مؤرق. غير ان نصف القرن مجرد لمحة في عمر الأمم. ولا يجوز أن يحول الإرهاق أو اليأس أو السذاجة دون ان نري طول حرثنا لإستزراع بذرة الوطن الواحد في سياقات من الحرب والسلم: المفاوضة والمكاجرة والخسارة والكسب (وانفصال مرتب كما في خال الجنوب لاحقاً بعد كتابة هذه الكلمة). والوفاق المرجو الآن مناسبة لنبلغ بإستثمارنا هذا (خيره وشره) الغاية في إعادة ترتيب بيت السودان الموروث عن الإستعمار والحركة الوطنية في تجديد ذكي لماح لمعركة محو لآثار الاستعمار وورثته. لنمسك بأعنة الأمل. إننا أفضل وأذكي وأدق مما نظن بأنفسنا. إننا خبراء محنتنا بلا منازع. لقد تورطنا في الإرهاق الخلاق. فكفي كجاراً. ويا أعنة الأمل هبي على الوطن الجميل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة