يعيبون على ياسر عرمان الوقوف إلى جانب معتقدِه ( اليساري) في جبال النوبة.. و يصفقون لحميدتي الوقوف إلى جانب معتقده ( في المال) في الولاية الشمالية.. كلاهما يرى نفسه في السودان من الزاوية التي ينطلق منها.. و السائد في الشارع العام أن ياسر ( شيوعي) انضم إلى الحركة الشعبية لتحقيق السودان الجديد.. و في نفس الشارع اعتقادٌ بأن حميدتي ( لص حمير) مبدأه المال يتحصل عليه بالسرقة، بالنهب، و بالقتل.. و أن النظام رصع كتفيه بالدبابير دون أن يمر بالكلية الحربية التي كانت مصنعاً للرجال الشرفاء في زمن غابر.. و كلا الرجلين سودانيان يستطيع أي منهما أن يعتبر أي بقعة في السودان وطناً له، لا أحد يستطيع أن يغير إحساسه بالانتماء إلى أي شبر من أرض البلد..
لكن لماذا كل هذا الهجوم الاعلامي المكثف ضد ياسر عرمان عقب فشل مفاوضات أديس أبابا؟ بل، لماذا الهجوم على الحركات المسلحة كلها؟ و لماذا يصر نظام الانقاذ، الذي لا عقل له و لا إحساس لديه بمعاناة المواطنين في كل السودان، لماذا لا تفوت عليه أي سانحة إلا و طالب تلك الحركات للإصغاء لصوت العقل.. و إلا و طالبها بالإحساس بمعاناة المواطنين في دارفور و المنطقتين.. و لماذا لا يمِّل ادعاءِ أن عرمان و حركات دارفور هم السبب في كل المصائب التي تحل بدارفور و جبال النوبة.. و لا تفتأ وسائط اعلام النظام تردد الأكاذيب عن ما جرى في المفاوضات.. و لا تتعب الوسائط الحكومية من التطرق إلى ما يوحي بأن لياسر عرمان اليد الطولى في فشلها.. و لأن الطيور التي على أشكالها تقع، تأتي تلك الوسائط بمحللين سياسيين لاستعراض سياسات السلطان/ عمر البشير في مقابل سياسات الحركات مع التركيز على ياسر عرمان..
و أشد المبغضين لياسر في القنوات السودانية هو المذيع/ مأمون عثمان.. و قد وجد هذا المأمون فرصته لتوسيع فجوة الخلاف الذي نتج عن الحديث المنقول عن رفض ياسر أن تكون د. مريم الصادق حلقة الاتصال بين الآلية الأفريقية و قوى نداء السودان.. و يتطرق مقدم البرنامج إلى الاختلاف في الرأي بين الحركة الشعبية و حزب الأمة ( الأصل).. و هو اختلاف لا ينبغي أن يفسد ما بينهما من ود و كفاح مشترك ضد النظام.. و لا غرابة في اختلاف وجهات النظر عند تناول قضايا السودان الشائكة بين حزبين يختلفان آيديولوجياً و لا يجمع بينهما سوى فك طلاسم تلك القضايا الشائكة و محاولة العمل على تفكيك العدو المشترك ( النظام) بغية إرساء نظام جديد في السودان بقواعد لعبة سياسية جديدة، يختلفان بعد ارسائها أو يتفقان بعد ذلك، فتلك مرحلة غير ذات موضوع الآن..
يستخدم هذا المأمون أكبر قدر متاح من الخبث في برنامجه الاسبوعي حيث تكون أسئلته أسئلة إيحائية leading questions) ( لا تقبل إلا ما توحي للضيف أن يقوله.. و تأتي مداخلة من عمدة في جبال النوبة يتحدث عن أن عرمان لا يحمل هم النوبة لأنه لا ينتمي للمنطقة.. و عنصرية العمدة تذهب في الاتجاه المعاكس لعنصرية ( الخال الرئاسي) ضد الجنوبيين.. و على لسان العمدة جاءت سيرة تلفون كوكو و خميس جلاب.. و أن لياسر عرمان يد في الإقامة الجبرية المفروضة على كوكو و بعض القيادات المنتمية لقبيلة النوبة في جوبا.. و أن تلك القيادات هي الأجدر بالتفاوض في شأن جبال النوبة.. إنها العنصرية و الجهوية المتمكنة من العمدة..!
تتسارع الأحداث محلياً و عالمياً لصالح النظام، ما يجبر قوى نداء السودان على التماسك في مواجهة محتملة مع ( المجتمع الدولي) الذي بدأ يغازل النظام.. و يلوح له بالجزرة أملاً في أن يكون مركزاً لمحاربة الاتجار بالبشر و الهجرة من شرق و وسط أفريقيا إلى أوروبا، بالإضافة إلى محاربة الارهاب.. و النظام يؤكد قبوله التهام الجزرة و قد عرض بضاعته في قاعة الصداقة في شكل مؤتمر محاربة الارهاب الذي عقد مؤخراً.. و في اعتقاده أن التقارب مع المجتمع الدولي سوف يسهل من مهمته في تحقيق حلمه بالاستمرار في الحكم لعقود طويلة قادمة..
لتحقيق ذلك الحلم يحاولون إبعاد ياسر عرمان عن المفاوضات.. لأنه- حسب قصور فهمهم- يشكِّل ( شوكة حوت) في زور مخططاتهم.. فكان لا بد لهم من محاربته باستخدام كل أساليبهم المعروفة بقذارتها، بما فيها العنصرية و الجهوية التي تعشعش في منهج النظام بلا مواربة..
أما موضوع إيصال الاغاثات إلى مستحقيها، فهو ما أراد العمدة أن يوهمنا بأنه أثار حفيظته.. و مع ذلك، فإن الطرفين ملزمان بتوصيل الاغاثة و نجدة من يستغيثون في مناطق الحرب بأسرع ما يمكنٍ.. لأن التباطؤ في تقديم العلاج للمرضى و القوت للجوعى جريمة إنسانية بامتياز..
أنا أعرف ما كان يجري في وزارة الشئون الانسانية.. و مفوضيتها، فقد عملت هناك إبان الحكومة الانتقالية.. و حضرت موسمين للسيول و الأمطار.. و خبِرت ما كان يحدث للإغاثات ( المميزة) القادمة من دول الخليج و من ما وراء البحار.. و من الاغاثات ما كان قابلاً للتلف كالخبز.. و منها ما يتحمل الديمومة كالخيام المؤثثة بكاملها في كتلة واحدة.. و أحدث الأواني غير القابلة للكسر و حفاظات الطعام و لوازم الطهي و أوانٍ و مواد إغاثية أخرى تعين الملهوفين ردحاً من الزمن.. و الحق يقال ، إن دول الخليج لا تنفق الخبيث من المواد الاغاثية للملهوفين، ضحايا الكوارث الطبيعية.. هذا ما عهدناه منها.. و نشهد على ذلك.. و للإسلام ( الحقيقي) دوره في نهجهم هذا..
و يستكثر كبار المسئولين أن تذهب الاغاثات ( الميزة) إلى بيوت المحتاجين، ( لأنهم فقراء لا يرقون لمستواها) .. حتى الطعام الفاخر و العجوة الحجازية تأخذ طريقها إلى بيوت المتنفذين.. و يُباع بعضها في الأسواق الشعبية.. و تلك مشكلة لا يمكن حلها إلا بتنازل المتنفذين، الممسكين بزمام الأمور في السودان، عن سياسة التمكين و التهميش.. و لا أرى أملاً البتة في أن يغيروا ما بأنفسهم من شرَهٍ و أنانية و ( تمكينٍ) ظالم لا تخطئه العين حتى و هم يبدون ابتسامات صفراء أمام واهبي الاغاثات.. و عند استلامها، يكاد الجشع يخرج من أفواههم ليعلن عن نفسه أمام الجميع..
إن ذهاب الاغاثة إلى غير مستحقيها، إذا تولى النظام مسئولية إيصالها إلى المستحقين، هو ما تخشاه الحركة الشعبية.. و لها الحق في تلك الخشية طالما خبِرت ما حدث أيام الحكومة الانتقالية التي تكونت عقب السلام الشامل، إذ كانت وزارة الشئون الانسانية من نصيب الحركة الشعبية.. بينما كانت مفوضية الشئون الانسانية من نصيب المؤتمر الوطني.. و للمفوضية السيطرة على كل الاغاثات المقدمة من الخارج.. و كان التلاعب بالإغاثات يحدث دون ضابط..
و مع ذلك، فإن أهالي المناطق المنكوبة لا تهمهم دهاليز السياسة بقدر ما يهمهم إيصال المؤن الاغاثية من مأكل و علاج.. و الضرورة ربما تقتضي إعطاء العيش لغير خبازه حتى و إن أكل نصفه و أوصل ما تبقى لشفاء المرضى و سد رمق الجياع دون تأخير.. ذاك ما لا بد منه.. فالجوع لا يؤجَّل تحت أي ظرف.. و المرض لا يعرف السياسة.. و نظام الانقاذ لا يرحم أحداً و بيده كل مفاتيح الحلول..
يتوجب أن ينتهي تعنت الطرفين في إيصال الاغاثة إلى المنكوبين.. و الواجب الملقى على النظام أكبر.. فبيده مفاتيح الحرب و السلام و الاغاثات.. هذا إذا كان يبحث عن ما يفيد المستهدفين حقيقة.. و عليه أن يوقف الهجوم على ياسر عرمان بغرض قتل صورة الإنسان فيه و وضع صورة شخصية فظة غليظة القلب لا تأبه لمعاناة المنكوبين في جبال النوبة و النيل الأزرق.. هذا إذا كان يسعى لوضع نهاية لمآسي السودان..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة