فوق هذا البناء تم التأسيس لـ “هيئة” علماء السودان، ولغيرها من المسميات، التي تعبّر عن حرص السلطة في السيطرة على حصان الدين..على هذا النحو تم حشد ذوي السمت الديني، ممن توالى مع النظام، داخل كيان يشكل نموذج “الإسلام المستأنس”، الذي يجد المباركة من السلطة السياسية. أنظر: يوسف القرضاوي، الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرّف، ط 1، دار الشروق، بيروت/1984، ص254. أحس السودانيون بالفرق بين العطايا والزكوات التي كانت توهب للسلطنة كسلوك تعبدي، وبين فظاظة النظام التركي في جباية الضرائب إرضاءً للجناب العالي، ولسد احتياجات الجيش والجهاز الإداري القامع وأفراده المرتشين. اتسع البون بين السلطة المتمركزة في الخرطوم، ومحيطها الرعوي الذي وفدت لاستغلاله. تلك “الهيئة” مثَّلت البداية لنشأة المدن في السودان كأبراج عاجية، لا يصِلها بمحيطها الاجتماعي إلا التسلُّط. تلك السياسة الباطشة دفعت إلى التقهقر، بحثاً عن الحماية في كيانات القبيلة والطريقة، واتخاذهما ملاذاً للمواجهة الجماعية. قرأ الأتراك طغيان الحس الديني لدى السودانيين، فسعوا للإفادة من ذلك الشعور في تجذير دولتهم، بأن مضوا في تأطير العقيدة، واستغلالها في تمكين النظام. قدم الأتراك أنفسهم كممثلين للخلافة العثمانية، لكن أفعالهم كانت تفضحهم. لقد فجع السودانيون حين رأوا ممثلي الخلافة يُدخنون، ولا يتورعون عن سفك الدماء واقتراف المظالم، وممارسة النهب واستحلال الرشوة، وإذلال كبار السن. متلازِمة التدخين كانت من أهم مظاهر عسكر الترك. تلك العادة، كانت بمثابة القشة التي أبرزت حجم التناقض بين النظام الجديد وشعب السودان، يُضاف إلى ذلك أن الأتراك كانوا يتعاطون مع وعي السودانيين المُروحَن، بمنطق مركزية الإدارة وبمنهجية بوليسية.. نذكِّر هنا، أن السلطنة الزرقاء شهدت في أول عهدها، أكبر مناظرة بين طرفي نُخبتها ــ الفقهاء والمتطرقين ــ وقد كان موضوع المناظرة تعاطي التمباك، ما يشيء بأن تِلك الرائحة، كانت تعني الكثير. سعت التركية السابقة إلى تأطير النشاط الديني في قالب رسمي يسلب المكانة الاجتماعية والروحية لذوي الولاءات المحلية، ممثلي النظام القديم، فأنشأت لجنة سُميت بـ “هيئة كبار العلماء”، وهي هيئة إدارية حكومية، تختزل التدين الشعبي في وحدة تابعة للنظام المركزي على غرار التجربة المصرية. على هذا الأساس الإداري المستورد، نشأت فيما بعد وزارة الشؤون الدينية كمؤسسة رسمية تحظى بالرعاية خاصة في عهود الشمولية، حيث يتبارى علماؤها إلى تقديم الفتاوى التي تدين أعداء الحاكم مهما كان ظالماً أو مستهزئاً بالدين. الثابت تاريخياً، أن تلك المؤسسة تزدهر وتنشأ لها أفرع في العهود الدكتاتورية، وهي التي تتكفَّل بإصدار بيانات المداهنة للسلطة القائمة، مثال لذلك ما أصدرته “هيئة علماء السودان” حول أحداث الجزيرة أبا (1970).. ففي صحيفة الأيام، الصادرة في الخرطوم بتاريخ 3/4/1970م، تقرأ ما يلي: أعلنت الهيئة تأييدها لنظام مايو ــ اليساري حينها ــ مؤكدة أنه نظام “لا يخرج عن مبادئ الإسلام”، وأكدت أن تأييد ثورة مايو “واجب ديني، والخروج عليها خروج على أمر الله”. في المقابل، وصفت الهيئة، موقف الأنصار ضد النظام بـ “الفِتنة”!! akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة