(1) الشيء الذي عَجِز بعض الأحباب عن استيعابه وهم يهرولون وراء دعوات تجريد جهاز الأمن والمخابرات من سلطاته هو أن المؤسسة الأمنية السودانية، خلافاً للتجارب الأمريكية والأوربية وغالب التجارب في الدول النامية، تجمع بين اختصاصي المخابرات (Intelligence) والأمن العام في آنٍ واحد. بينما في الولايات المتحدة، مثالاً، تنفرد وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) بالاختصاص الاستخباري فقط لا غير، في الوقت الذي يضطلع فيه جهاز التحقيقات الفيدرالية (FBI) بمهام الأمن العام.
ومع ذلك فإن الزعم بأن الأجهزة الاستخبارية لا تنهض بمهام أمنية تنفيذية زعمٌ جَهُول من أي وجهٍ أتيته. فأمام أنظار العالم كله ها هي وكالة المخابرات الأمريكية تتملك وتوجه الطائرت بدون طيار، وتوظف كادرات الرصد الفضائي، وتطارد أعداءها في طول العالم وعرضه وتتربص بهم تربصاً، ثم ترسل السكون الأبدي إلى قلوبهم نَسْفاً من السماء بصواريخ جو أرض متى رأت في قتلهم الخير لأمنها القومي. وهل هناك نشاط أمنيّ تنفيذي أشد من القتل؟ من أين إذن أتتنا خزعبلة أن أجهزة المخابرات تختص حصرياً بجمع المعلومات؟
(2) أجهزة الأمن والمخابرات تشبه في متون مهامها وأدوارها أجهزة كشف الزلازل، فهي بطبيعة تكويناتها مخلوقات استباقية استشعارية. وفي الحالة السودانية فإن جهازنا الوطني يصطلح على مهمتين الأولى تتصل بمهددات الأمن الداخلي، بينما تنصرف الأخرى إلى الأمن الخارجي والاستخبار المضاد. وفي الأصل فإن الحصول على المعلومات، الذي هو من أوجب الواجبات في هذا الضرب من ضروب العمل السيادي، ليس شأناً أكاديمياً نظرياً كما يتوهم البعض، إذ أنه لا يكون ولا يتحقق إلا بوسائل ووسائط عملية تنفيذية، وذلك هو الشأن في جميع المنظمات الشبيهة في طول العالم وعرضه. ومن ذلك وسائل الرصد والتفتيش والمتابعة والاستدعاء. وليس هناك جهاز أمن ومخابرات في العالم كله يجلس فيه البصاصون في بيوت أمهاتهم ينتظرون أن تأتي إليهم (المشاطات) بالمعلومات.
فإذا توفرت المعلومة عن وجود سبعين قطعة سلاح من نوع كلاشنكوف ومجاميع من الذخيرة في منزل بأحد الأحياء، وإن هناك نوايا تحرك تخريبي لدى جماعة ما انطلاقاً من الميناء البري في ساعة محددة ضحى اليوم التالي، فإن الأجهزة الاستخبارية الأمنية لا تكتفي بتوصيل المعلومة إلى الشرطة ولا تنتظر حضور وكلاء النيابات. بل إنها تباشر التحرك الاستباقي في التو واللحظة وتتصدى للموقف بناء على المعلومات التي بحوزتها. لماذا؟ لأن القانون الجنائي لا يجرم الفعل إلا بعد الشروع في تنفيذه، ولكن العمل الاستخباري الاستباقي لا ينتظر الشروع في التنفيذ، ولو فعل لصار السودان صومالاً آخر.
(3) ويكذب دعاة خلخلة الأنياب وخلع الأسنان حين ينفون رقابة الدولة عن جهاز الأمن والمخابرات ويتخذون من ذلك سلّماً ومطية لمحاولات تقليم أظافره. الذي يقرأ ويتابع يعلم لزوماً أن منسوبي الجهاز بمختلف رتبهم يخضعون لمحاسبة المحاكم المدنية والجنائية والإدارية، من بينهم من أرسلته المحاكم إلى السجون، ومنهم من صدرت عليهم ونُفِّذت فيهم أحكام الإعدام.
والدعاوى الجنائية والمدنية التي يرفعها المواطنون العاديون على الجهاز لا تقع تحت حصر. ويعلم القاصي والداني أن المحكمة الدستورية العليا تنقض قرارات جهاز الأمن دون أن يطرف لها جفن، وأنها حكمت بإعادة إصدار صحف أوقفتها السلطة. بل إن كاتباً صحافياً قاضى الجهاز بسبب إيقاف نشر عمود له باعتبار أن مادته ماسّة باعتبارات الأمن القومي، فأصدرت المحكمة قراراً بنشر العمود، وتم النشر بالفعل. ومن هؤلاء ناشر تقدم بمظلمة إلى رئاسة الجمهورية شاكياً من تعسف الجهاز، وبتوجيه من الرئاسة تلقى الناشر تعويضاً مجزياً.
كما حكمت المحاكم وألزمت الجهاز بدفع تعويضات ضخمة لعدد كبير من الشاكين. ومن ذلك حكم بدفع 200 مليون جنيه لصاحب مزرعة لجأ إلى القضاء شاكياً جهاز الأمن والمخابرات لأن منسوبوه عند اقتحامهم مزرعته للتفتيش تسببوا في إتلاف بعض المزروعات. وادعى مواطن تم حجز منزله لفترة من الوقت أنه افتقد بعض مقتنياته خلال فترة الحجز فحكم له القضاء بالتعويض وناله كاملاً.
وذلك فضلاً عن آليات رقابية أخرى متعددة منها المنظمات الحقوقية الدولية واللجان الوطنية. ومن ذلك اللجنة التي يترأسها مولانا رئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف لمراجعة قانون الجهاز وذلك في إطار توجه استراتيجي للدولة وأجهزتها تقوم عليه وزارة العدل. ونعلم اليوم أن هذه اللجنة قد فرغت من تعديل المادة 151 من الدستور، وهي المادة المعنية بسلطات وصلاحيات جهاز الأمن والمخابرات. إضافة إلى فقرات أخرى تتصل بالحقوق والحريات.
(4) أي نعم، لا بد من كفالة الحريات العامة وتأمين الحقوق. ولكن الحوار حول معادلة الأمن والحرية ينبغي أن يتسم بالقسط والاعتدال والصدق والشرف، وقبل ذلك كله وبعده لا بد أن يكتسي رداء المسئولية الوطنية والالتزام الحاسم بمقتضيات الأمن القومي للبلاد، لا سيما في هذا الزمان الأغبر الذي تتكالب فيه المهددات والبلايا من كل حدب وصوب.
نريد حواراً يشارك فيه الوطنيون الأحرار الذين يضعون السودان في سويداء القلوب وحدقات العيون. لا مكان فيه للموتورين وأصحاب الأجندة والزاعقين وطلاب الإثارة.
اللهم يا كريماً ليس في الدهر يدٌ لسواه، ويا عظيماً ليس في الكون قهر لغيره، خذ بيد السودان واجعل أعداءه الأخسرين.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة