اختفوا جميعهم أصدقائي اللذين تزوجوا اختفوا جميعهم ، ولا أعرف سبب لعنة الزواج هذه ، اللعنة التي تقوقع الرجل في قوقعة منزله وأحضان زوجته ناسيا الجميع. جاء في سفر التكوين: لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. (سفر التكوين 2: 24) ولكنه لم يقل يترك أصدقاءه ، فلماذا يختفي المتزوجون. هناك من امتنع عن الزواج بداعي الحرية ، ومنهم من امتنع عنه خوفا من المسؤولية ، ولكن بمجرد أن يكسر أحدهم اضرابه العقلاني (والذي أراه قمة الحكمة) هذا حتى ينغمس حتى أذنيه في عالم الزواج ، وبما أنني غير متزوج فلا أعرف السبب في ذلك ، هل هو تورطه في مسؤوليات جمة أم أن الصداقة كانت بالنسبة له قضاء وقت فراغ فقط ليس إلا. وهل يملأ الزواج هذا الفراغ؟؟؟ قال الخليفة المأمون بعد أن طعن في السن : لم يبق لنا سوى محادثة الرجال. ونسب هذا القول إلى معاوية وغيره ، وهو قول يكشف عن أن نهاية مطاف الرجل هو الأصدقاء وليس الزوجة ، حيث تصبح متعته الوحيدة هو اللجوء إلى شبكة من الأصدقاء القدامى يبث إليهم ما اعتلج في صدره وما خبن في عقله من ذكريات وما مات من رغبات وجموح ، ويتفاكر معهم بهدوء عن مجمل القضايا التي تحيط ببيئته ودولته اقتصادية كانت أم سياسية أم رياضية أم ثقافية . نهاية الرجل لا تكون تحت يد الزوجة وإنما الأصدقاء ، وأصحاب المعاشات يدركون صواب كلامي هذا ، فالأسرة تتفكك روابطها التقاربية فيتزوج الأولاد وتنشغل الزوجة مع البنات وهكذا ولا يبق سوى الصديق الصدوق الذي يخفف من وطأة الشيخوخة ، وكلما كانت الصداقة قديمة كلما كانت الذكريات المشتركة كثيرة بين الصديقين ، فلا يمكن إعادة بناء صداقات جديدة وتكوين ذكريات جديدة؛ فلن يكون هناك ذلك النشاط والجموح والخبرة الحياتية الكافية لبناء ذكريات مشتركة من جديد. بل تظل الصداقات القديمة هي المنتجة والمشتغلة بذكرياتها وماضيها. لم يبق لنا سوى محادثة الرجال ؛ هذا هو الأصل الذي يعمى الرجل عن رؤيته عند الزواج. ينسى ويغفل أن الأيلولة في النهاية إلى محادثة الأصدقاء والتلاقي معهم وتبادل الذكريات. إن الإنسان كائن رمزي ، ومعنوي في الأساس فيعود إلى هذا الأصل بعد إشباع غرائزه الفسيولوجية ، والناس ينقسمون إلى نوعين ؛ نوع يدرك قيمة الرمز ونوع لا يدرك سوى المادة ، أما من يدركون معنى الرمز فمنهم من يزهد في المادة مكتفيا ببناء مشروعه الرمزي الأخير والكبير ، فيتخلى عن العالم من أجل فكرة ، كما تخلى تولستوي عن أسرته وذهب ليعيش مع أقنانه ليحقق فكرة المساواة الإنسانية. إن الإنسان مشروع معنوي ضخم ، وليس استثمارا ماديا رأسماليا محضا ، فهذا ما تسوق إليه الحداثة ؛ من ثقافة للإستهلاك أي ثقافة الإشباع الغريزي ، ثقافة الإنزواء من أجل تحقيق الثروة والصراع من أجل السلطة ، وفي النهاية ينهزم هذا الإنسان أمام خواء معنوي ورمزي كبير جدا ، لا يملأه المال ولا السلطة ولا يمكن إشباعه غريزيا . أقول للأصدقاء الذين أختفوا بعد الزواج ، عودوا إلى ماهو معنوي ورمزي ، ﻷنه هو الأصل ، فالصداقة كنز لا يفنى وعلاج لأزمتنا الوجودية العميقة. 15أكتوبر 2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة