إن توقيع الدكتور غازي صلاح الدين رئيس حزب " الإصلاح الآن" و قوي المستقبل علي وثيقة الحوار الوطني، لم يكن مفاجئا، بل يتسق تماما مع رؤيته في واقعية العمل السياسي، عندما قررت الهيئة القيادية للمؤتمر الوطني فصل الدكتور غازي عن حزب المؤتمر الوطني بسبب دعوته للإصلاح داخل أروقة الحزب، كانت تريد أن لا تسمح بصوت يعلو فوق مركزية السلطة، و جاء القرار بعد نقد العتباني للنظام في تصديه لانتفاضة سبتمبر و التي قتل فيها أكثر من مئتين شخص، كان الصوت واضحا و متجاسرا علي قواعد للحجر غير معلنة، كانت تريد أن تغلق باب النقد داخل المؤسسة، لذلك صرح الدكتور العتباني عدة مرات، إنه لم يخرج من المؤتمر الوطني بل هم قد فصلوه من الحزب، و كان يعتقد العتباني إن معارضته داخل الحزب و رفع لواء الإصلاح أفضل من الخروج، و لكن ليس هناك خيارا غير أن يؤسس حزبه، لكي يؤكد علي وجوده كسياسي في الساحة السياسية. عقب التوقيع: علل الدكتور غازي صلاح الدين توقيعه، إن هناك تغييرات قد في الساحة السياسية جعلته يعيد قرأءة الوقائع بصورة جديدة، و هي إن تقارير المراقبة لحزبه أكدت انحسار الاعتقالات للسياسيين و الإعلاميين، و مصادرة الصحف، إلي جانب الرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية و التجارية الأمريكية، إطلاق الحركة الشعبية سراح الأسرى لديها، وقف إطلاق النار، و إطلاق سراح عددا من المعتقلين من قبل الحكومة، و أعتبرها أسابا كفيلة أن تجعله يقدم علي هذا التوقيع، و هي أسباب غير مقنعة، مجرد تبريرات للخروج من الحرج. خاصة إن التغييرات التي حدث في الساحة السياسية لم تغير واقع الشروط التي فرضها الدكتور غازي من قبل، حيث إن الدكتور كان يعتقد إن الوسيط الأفريقي ُثامبو إمبيكي سوف يدفع المعارضة و الحكومة لطاولة حوار بين الجانبين علي ضوء خارطة الطريق، و التي كان قد وقعها الجميع، و لكن خطوات الوسيط الأفريقي قد أبطأت كثيرا، الأمر الذي يؤكد إن الأختراق يجب أن يكون من جانب القوي المعارضة و ليست القوي المساعدة، المسألة الثانية إن قوي المستقبل بدأت تتسلل واحدا تلو الأخر، حيث خرج من قوي المستقبل حزب منبر السلام العادل و معه بعض الأحزاب، ثم ذهبت مياد سوار الذهب و وقعت كحزب علي الوثيقة، هذه التحولات كان لابد أن تجعل الدكتور غازي يعيد مراجعة موقفه، حتى لا يخسر من تبقي معه، و في ذات الوقت، إن الدكتور مقتنع تماما إنه لا يستطيع أن يحدث أختراقا في الحالة السياسية إلا إذا وجد قدم له من الداخل، و ليس بالضرورة أن يتوافق مع رؤي الداخل، و هذا ما أكده دكتور العتباني نفسه. عندما قال في حديث له لمنبر إذاعة دارفور " بأن توقيعه علي وثيقة الحوار لا يعني إتفاقه مع الحكومة" و لكن حتى لا يكون خارج السياج توافقا مع المثل الانجليزي " إذا أردت إقناع شخص برؤيتك يجب أن لا تكون في الجانب الأخر من السياج" و بالتالي إن الدكتور يبحث عن منبر يكون أكثر تأثيرا. فالدكتور العتباني دائما ينطلق من قاعدة مهمة تشكل قناعة سياسية لديه، هي إن أية عمل سياسي إذا أردت أن تحدث فيه تغيرا، لابد أن يحدث ذلك من داخله و ليس من الخارج، لذلك كان يعتقد إن دعوة الإصلاح في المؤتمر الوطني لا تجد قوتها إلا إذا كانت القوي الديناميكية الفاعلة الداعية للإصلاح تكون جزءا من عضوية الحزب، و عندما خرج من الحزب و أسس مع إخوته " حزب الإصلاح الآن" كان يبحث عن تحالف عريض يشكل قوة لها أثرها في الضغط علي النظام، كان الدكتور العتباني يعلم إن أغلبية الأحزاب التي في الساحة السياسية هي أحزاب ليس لديها أية قاعدة أجتماعية تدعمها، إنما هي أحزاب مصنوعة، و مثل هذه الأحزاب لا تستطيع أن تصنع تغيرا في المجتمع، و هي تدور أينما دارت مصالحها، فالدكتور العتباني رغم إنه يرأس تحالفا من قوي سياسية " قوي المستقبل" لكنه متأكد إنها قوي لا تملك أدوات التغيير، و لا تستطيع علي ثبات المواقف، و كانت إشارة رئيس الجمهورية، أن تشكل حكومة وفاق وطني من القوي التي شاركت في الحوار، استطاع بهذا القول أن يزعزع أركان هذه التحالفات الهشة، فالتعامل في مثل هذه الواقف يعتمد علي القراءة السياسية في كيفية التعامل مع الحدث بذات البرجماتية التي يتعامل بها المؤتمر الوطني، فالدكتور غازي لديه قناعة إن قيادات المؤتمر الوطني ليست مؤثر كثيرا، لآن آلة السياسة في الدولة و صناعة القرار محصورة في فئة قليلة، و بالتالي لابد إن يحدث الإختراق في تلك المجموعة الصغيرة، فاللقاء الذي تم بين الدكتور العتباني و نائب رئيس الجمهورية رئيس الوزراء لها الأثر الفاعل و القوي في إقدام الدكتور العتباني علي التوقيع، باعتبارها الفرصة التي يبحث عنها. في زيارة كنت قد قمت بها للخرطوم استمرت أكثر من ثلاثة شهور، التقيت فيها بعدد كبير من السياسيين السودانيين، و منهم الدكتور غازي، حيث كانت الجلسة معه طويلة، و علي إنفراد في منزله في حلة خوجلي بالخرطوم بحري، في كل هذه الجلسات كنت أبحث عن إجابة لسؤال واحد، كيف تستطيع القوي السياسية المعارضة أن تقيم حالة الانفراج التي يعيشها النظام في المحيطين الدولي و الإقليمي، و مستقبل ذلك علي مسارات العمل السياسي في البلاد؟ هذه التحولات لابد أن تنعكس بالضرورة علي الداخل، الذي فيه عدد من الرؤى، الأولي رؤية النظام المتمثلة في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، و بالكيفية التي يريدها النظام مادامت هناك قوي سياسية بدأت تغادر منصات المعارضة، و تعلن الولاء للحزب الحاكم، رؤية ثانية تتمثل في قوي المعارضة و التي شاركت في الحوار و سمت نفسها قوي الوفاق، وهي قوي كانت ترغب أن تظل بعيدة عن السلطة، و تراقب عملية التنفيذ، لكن هذه القوي بدأت تتفتت برغبة قياداتها في الحصول علي مواقع في حكومة الوفاق المنتظر تشكيلها. قوي أخرى معارضة تنتظر تحركات الوسيط الأفريقي " قوي ناداء السودان – قوي المستقبل" و هاتان القوتان بدأت الفرقة تدب وسطهما، الحركة الشعبية تشهد نزاعات داخلية، و انقسامات في حركات دارفور، و كل يوم تغادرها مجموعة و تأتي توقع علي اتفاق الدوحة، و قوي المستقبل التي شهدت هجرة من بعض قواها و التعلق بأهداب النظام. و القوي الرابعة ترسل بيانات تطالب فيها فقط أسقاط النظام و هي لا تملك أية حركة في الشارع تعاضد موقفها، فالرابح الوحيد في هذه التحولات الجارية هو النظام. هذه التحولات كما قال الدكتور غازي هي التي جعلته يعيد التفكير و يصل للتوقيع، و قلت من قبل إن هذا القول غير مقنع، لآن الدكتور العتباني لم يفصح عن الحقيقية، و هي تتمثل في رؤيته منذ إن كان في المؤتمر الوطني، إن أية اختراق لواقع الأحداث لا يتم إلا من داخلها، و ليس هناك طريقا سوى أن يوقع علي وثيقة الحوار، لكي تسمح له بالدخول علي النادي السياسي، و إحداث تغيير من داخله. كان الدكتور العتباني مقتنعا إن قوي المعارضة لا تستطيع أن تحدث أية اختراق لكي تغير مسار اللعبة السياسية لمصلحة شعاراتها، و كان مقتنعا أن الضغوط التي يمر بها النظام سوف تدفع العاقلين فيه أن يحكموا العقل، و يندفعوا نحو الإصلاح، لكن هذا الإصلاح لا يتم إلا إذا كانت هناك قوي قادرة علي تحريك مكنزماته. لكن التغيير الجديد في الساحة السياسية و إنتخاب الدكتور علي الحاج أمينا لحزب المؤتمر الشعبي. يمثل فرصة جديد لتغيير الأجندة المطروحة في الساحة السياسية، باعتبار إن الدكتور علي الحاج يمثل التفكير الواقعي في السياسة، و يستطيع أن يغير الأجندة المطروح علي الطاولة السياسية لكي يغير مناهج التفكير، و هي الرغبة التي يطمح إليها الدكتور غازي، إعادة النظر في الأدوات و معرفة إتجاهات التفكير، و هذه تحتاج إلي عقل يفكر و عقل سياسي يستطيع تحريك كل الأدوات المتعطلة. و هذا ما أكده الدكتور غازي في حديثه في منبر إذاعة دارفور حيث قال " إن أختيار الدكتور علي الحاج أمينا عاما لحزب المؤتمر الشعبي مكسبا للسياسة السودانية و يمكن أن يساهم كثيرا في تقريب و توحيد المساحات بين البعض" و هي الفرصة التي يبحث عنها الدكتور غازي أن الساحة السياسية محتاجة في تغييرها لتغير كثير من المفاهيم و الشعارات، و هذه لا تتم إلا عن طريق إن تكون هناك جهة قادرة علي ضخ متواصل من الأفكار في الساحة و جهة سياسة لديها قوة البصيرة التي تستطيع أن تحرك الساكن بفاعلية، لكي يحدث تغير في عملية التفكير و في الأجندة، و هي الساحة التي لا يستطيع أن يبرز فيها صوت إلا إذا كان لديه القدرة علي التعامل مع الفكر و التعامل مع السياسة بأفق أوسع. و نسأل الله حسن البصيرة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة