في هُدوءٍ وبساطة يشبهانه تماماً انسحب عم سيد من الدنيا، ترك الجمل بما حَمَلَ وَمَضَى طاهراً ونظيفاً من كل درن الدنيا. فقد نعت أخبار حلفا الجديدة رحيله صباح أمس، بعيداً عن العاصمة وصحفها وصحفييها، بعد أن عاد لمدينته منذ سنوات، ولم نعد نسمع عنه شيئاً. سيد علي كرار، عرفنا الاسم ونحن صغار، كان من الأسماء المعروفة للصحفيين الكبار، خَاصّةً في مجلة الشباب والرياضة، يوم كانت مجلة يسعى وراءها الناس ويتدافعون للمكتبات لشرائها، هي ومجلة الإذاعة والتلفزيون. لا أعرف متى وأين بدأ عم سيد عمله الصحفي، وبالتأكيد قد عمل في عدة صحف، لكن اسمه رَسخَ في ذهني وذهن جيلي مع مجلة الشباب والرياضة في السبعينات مع أسماء أخرى ارتبطت بالمجلة، ومنها حسن أحمد التوم والد زميلنا الطاهر حسن التوم، وآمال سراج وآخرين. كانت مجلة منوعة ومُمتلئة بالمواضيع التي تجذب الشباب، بعضها مُوجّه سياسياً لخدمة نظام مايو، لكن في نفس الوقت كانت تناقش كثيراً من القضايا الاجتماعية والثقافية والفنية. اختفى عم سيد علي كرار عن الذاكرة، حتى التقيت به في صحيفة "الأضواء"، حيث جاء به الأستاذ كمال حسن بخيت مديراً للتحرير، ثم ترك الأستاذ كمال رئاسة التحرير، وورثت منه الوظيفة. كان رجلاً بسيطاً ومُتواضعاً، يعرفه الجميع باسم عم سيد، لا يُفارق الجلابية والعمامة أبداً، حتى في ساعات العمل. الصورة الأولى قد تَعطيك انطباع أنّه شخصٌ مُنطوٍ، لكن ما أن تُبادر بالاقتراب منه حتى تكتشف شَخصاً لَطيفاً ومَرحَاً، وجُرابه ملئٌّ بالحكايات. كان يؤدي عمله في هُدوءٍ، لا تسمع صوته أو حركته، إلاّ حين يقهقه بضحكته المُميّزة، التي سُرعان ما يقطعها. يغرق في الورق أمامه وهو يعمل بلا كَللٍ أو مَللٍ، لا يتحرّك إلاّ حين يدفع بالورق لسكرتارية التحرير. عَم سيد من جيل صحفيي الوسط، وهؤلاء غالباً من مَظاليم الصحافة، ظَلُّوا يَعملون في المهنة لسنواتٍ طويلةٍ، ويُؤدُّون مُعظم العمل الداخلي في مطبخ الصحيفة، لا تستطيع الصحف الاستغناء عنهم، لكنها لا تعطيهم اسماً ولا شهرةً. لم يسعوا وراء نجومية ولم يخلقوا أسماءً كبيرة، وحين يمضون يفعلون ذلك بنفس الهدوء الذي عاشوا به. كان المرحوم حسن الرضي، أشهر سكرتيري التحرير في الصحافة السودانية، من هذه النوعية، وقبل أيام قرأت نعي الأستاذ أحمد حسن محمد صالح "احميدي" الصحفي والمُترجم البارع، الذي غادر المهنة قبل سنوات قليلة بعدما كان يكتب عموداً بالزميلة "الرأي العام"، ومضى أيضاً يلفه نفس الصمت. هل هذه المهنة جاحدة، أم أنّ الوسط الصحفي هو الجاحد؟ يعطيه الناس كل أعمارهم وجهدهم، ثم يخرجون بلا مَعاش أو مُكافآت أو ضمان اجتماعي لما تبقى من عُمرهم. كان أحد أقرباء صديقي وزميلي الصحفي المهاجر محمد محمود راجي يحاول إقناعنا بترك هذه المهنة والبحث عن مهنة أخرى. وذات يوم أوقف سَيّارته في الشارع ليشير لراجي لرجل يسير في الشارع راجلاً ومجهداً، وسأله: هل تعرف من هذا؟ إنه رحمي سليمان، كان علماً في رأسه نار، وها هو يسير راجلاً، ولا يعرفه أو يحفل به أحدٌ. رحمهم الله جميعاً وتولاهم بالرحمة والمغفرة، وليغفر لنا نسياننا وتجاهلنا لهم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة