يعرف معظمنا المتنبي ويحفظون شعره ويرددونه. وأكثر من يعرفون المتنبي لا شك قد سمعوا بكافور الإخشيدي. لكنهم، للأسف، قد لا يعرفون عنه إلا هجاء المتنبي له. قلة فقط يعرفون أن أبا المسك، و"أبا كل طِيب" – على حد وصف المتنبي له- (كان شهمًا شجاعًا، ذكيًّا، جيِّدَ السيرة، مدَحَه الشعراء)، كما قال عنه ابن ُ كثير في تاريخه؛ ولكن الأهم أن الأستاذ – كما كان يلقب أيضاً- ما فتئ يقدم لنا، منذ ما يربو على الألف عام، مثالاً فريداً في تفضيل مصلحة الأمة على مصلحة الفرد والمجد الشخصي؛ مثالاً في الطموح والصبر والجلد؛ وفي الإنسانية والتسامح والمحبة؛ وفي تجاوز عُقد اللون والأصل والمركز؛ وفي السمو فوق الإهانات والتفاهات، بلا حقد ولا ضغينة؛ ومثالاً في عدم الاكتراث أبداً إلا لما ينفع الإنسان في دنياه، وهو عمله، وإلا لما ينفعه في آخرته، وهو كذلك عمله. لم يكن كافور شاعراً ولا كاتبا. لكنه قال مقالة أبلغ من الشعر، هي عندي أفضل من ديوان المتنبي كله، فحواها: ما الأبيض وما الأسود! وما الحر وما العبد! وما الخلق! كلنا لا شيء؛ كلنا متلاشون. *** في المسجد العتيق، جلس الفقيه الشهير على دكة مرتفعة فوق رؤوس تلامذته ومريديه يروي لهم قصةً بدا واضحاً أنها أخذت بمجامع عقله وقلبه ولسانه. لم يكن موضوع الحديث التفسير ولا الفقه ولا السيرة، بل كان الهجاء المقذع. وأخس ما في الشعر الهجاء، وأنبل ما فيه الحكمة. ولم يكن الزمان زمان الحطيئة، وإنما كان قرننا هذا وسنيننا هذه. وما كان المكان ماخوراً ولا سوق عكاظ، بل كان بيتا من بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. كان العالم الجهبذ يتحدث متلذذا بهجاء المتنبي كافوراً، متلمظاً بكل بيت من الأبيات وبكل معنى من المعاني! يا إلهي ألا يعرف حتى هذا العالم الجليل ما كان عليه كافور، الأستاذ أبو المسك، من التواضع والعدل والإحسان إلى الرعية؟ كيف لعالم جليل أن ينشد، مغتبطاً، هجاء شاعر فتان لرجل صالح! أي حقد دفين يكنُّه هذا العالم الوقور لكافور فيتحمس كل هذا الحماس لهجاء المتنبي؟ أم لعلّ ما أطرب الشيخ ليس الحقد، وإنما هي خمر شعر المتنبي تدير حتى رؤوس أعتى علمائنا؟ لقد استبد الوجد بالرجل وهو يتلو، لا آيات الذكر الحكيم، ولا تأهوات الصالحين الزاهدين، بل أبيات المتنبي هاجياً كافوراً الإخشيدي: من علم الأسودَ المخصي مكرمة *** أقومُه البيض أم آباؤه الصيد؟! ثم لما بلغ قوله: أم أذنُه في يد النخاس دامية *** أم قدره وهو بالفلسين مردودُ رأيتُه فيما يرى الرجل أمام شاشته، ورآه الحاضرون عياناً في المسجد، وهو يمسك بأذنه، أذنه هو، باعتبارها أذن كافور، ويقرصها ليدميها، ثم يلهج موجهاً الخطاب للمتنبي: رضي الله عنك! يا لهول ما رأيت وسمعت! رجل مسلم من علمائنا، في مسجد عتيق من مساجدنا، في زماننا هذا، يتقمص دور النخاس، فيمسك بإذن رجل شهد له التاريخ بالفضل والصلاح، ويهزه أمام المصلين، ويضغط على أذنه حتى يدميها، ويشتمه بلونه، الذي خلقه الله عليه، وبعبوديته، التي لم يخلقه الله عليها، وبخصائه، الذي جناه عليه غيره، وبآبائه الذين لا حيلة له فيهم! بعد أداء دور النخاس، في المسجد، يعود العالم إلى دور الأمام، لكن ليدعو للمتنبي لا عليه: رضي الله عنك! ثم تفعل خمر شعر المتنبي فعلها، فيتمادى الشيخ في الشطط فيشبه كلام المتنبي بكلام الأنبياء، فيستشهد مؤيداً بقول منكر: "شعره في شعر الشعراء ككلام الأنبياء في كلام الناس". هل فات على الشيخ العالم أن الأنبياء إنما يتكلمون وحياً يوحى، ولا ينطقون عن الهوى! سمعته - ولحسن الحظ سماعاً عبر الشاشات - وهو يردف قائلاً إن المتنبي هدم ببيت واحد قارة من البشر! كلا، لم يهدم المتنبي قارة أفريقيا السوداء بهجائه لكافور بسواده؛ وإن كان هجاؤه قد حاول، ولم يزل يحاول، أن ينسف الإخوة بين بني البشر اعتماداً على اللون والظروف الاجتماعية وغيرها؛ ولم يهدم المتنبي، عند الله، عمل الخير الذي عمله كافور؛ بيد أن الأمر الأكيد هو أن المتنبي، بهجائه الذي لهج به الشيخ مِن على المنبر، قد ضعضع أركان مسجد عتيق، وزعزع رسوخ عالم يُرجى منه. أما كافور، فإنه قمين بأن يفوز عند الله بأجر عظيم على كل حرف هجاه به المتنبي، وهو أجر يتضاعف في كل مرة يردد الغافلون منّا هجاء المتنبي الجائر له. *** معظم من سمعوا بكافور في هجاء المتنبي قد لا يعلمون عنه أنه كان حاكماً لمصر والشام والحجاز كسب حب الرعية بعدله وحسن إدارته، وكان يُدعى له في الحرمين الشريفين والمنابر الإسلامية المشهورة. وما أدلّ على علو شأن كافور من أن المتنبي نفسه قصده متكسباً، ومدحه بأجمل قصائده. ولولا أن المتنبي شغل الناس عن مناقب كافور بهجائه الظالم له، لدام كافور في أذهان الناس مثلاً شروداً ليس فقط في علو الهمة والطموح والتنمية الذاتية، وفي حسن إدارة الحكم والاهتمام بشؤون الرعية وحب المساكين، بل أيضاً في السماحة والتسامح، والتجاوز عن ازدراء الناس له وتعييرهم له بسواد لونه وعبوديته وخصائه وقبح شكله. جاء كافور الإخشيدي من السودان أو من بلاد النوبة (انظروا: "أبو المسك كافور"، لإبراهيم الإبياري، دار الفكر العربي، 1962). وكببغاوات تردد قول شاتمها، ظل كثيرون يرددون "نصيحة" المتنبي الخبيثة: "لا تشترِ العبد إلا والعصا معه"، وتفوهاته العنصرية مثل: "مَن علم الأسود المخصي مكرمة". يردد الكثيرون غير مدركين أن ذلك القول هو أساس الفرقة والبغضاء بين بني آدم المخلوقين من تراب والصائرين إلى التراب. أليس عجباً أن تُعجب الناس أشعارٌ قالها شاعرها يهجوهم بها، فتراهم يدرسونها، ويعلمونها، ويفسرونها، ويطبعونها، وينشدونها، بل ويتشدقون بها، ويسهرون جراءها ويختصمون؟! لا أقول إن هجاء اللون الأسود يعني السودانيين أو النوبيين أو الأفارقة فحسب، فإنما هو هجاء للبشر بألوانهم كافة، وإهانة لإنسانيتهم التي لا تقوم على الألوان العارضة، ولا الأشكال الزائلة، وإنما تقوم على كرامتهم جميعاً التي خصهم بها الله سبحانه وتعالى كبشر وميزهم بالعقل وحملهم في البر والبحر، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلا.
نعم، جاء الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيدي من بلاد السودان؛ وقدَّم، قبل ألف عام من الآن، أفضل مثال في التعامل الإيجابي مع ما يسمى بعقدة اللون والدونية العرقية المزعومة. فحتى يومنا هذا، ما فتئ كافور يقدّم لنا الدواء الشافي للمتعقِّدين بلونهم، الذين يرون أن لهم فضلاً بلونهم، مثلما يقدم الدواء الشافي للمتعقدين من لونهم، الذين يحسون بالعار والدونية بسبب لونهم. فإذا كان المتنبي قد وصم كافوراً بالعبودية وبالسواد، فإن ذلك لم يمس شعرة منه، ولم يهزه، ولم يملأ قلبه بالحقد، لأنه كان يدرك الحقيقة النهائية: نحن كلنا جميعاً، على اختلاف ألواننا وأشكالنا ولغاتنا، عبيد متلاشون، ولن يبق منا، في خاتمة المطاف، إلا عمل صالح يدخلنا الجنة أو عمل طالح يوردنا العذاب. لقد قال الأستاذ أبو المسك كلاماً كالمسك في هذا المعنى يشكل مدرسة في الإنسانية، لم يتعلم المتنبي، للأسف، حرفاً واحداً فيها، مدرسة ملخص شعارها: ما الأبيض وما الأسود؟ وما الحر وما العبد؟ وما الخلق؟ كلنا متلاشون! ما قاله الأستاذ في تلاشي الخلق، بألوانهم وأشكالهم، في حضرة خالقهم ينسف كل دعوات الاستعلاء والازدراء في جميع الثقافات والحضارات. كلنا جميعاً سواسية، ليس لنا يد في شيء مما أعطانا الله، ولا فرق بين أحدنا والآخر إلا بما انطوى عليه قلبه ولا يطلع عليه إلا الله، وإلا بما اكتسبته أيدينا مما لا يظهر حصاده إلا يوم القيامة. لقد فهم كافور أن اختلاف ألواننا وأشكالنا وألسنتا آية من آيات الله لا يد لنا فيها. فما من لونٍ هو شرف لصاحبه، وما من لون هو عار على صاحبه. فلا أحد له فضل في شيء لا يد له فيه، ولا أحد عليه لوم في شيء لا يد له فيه. لقد فهم كافور أنْ لا سواد ولا بياض في الدنيا. فالآية الكريمة في سورة آل عمران التي تقول "يوم تسود وجوه وتبيض وجوه" إنما تشير إلى يوم القيامة. إنّ السواد الحقيقي هو القتر الذي يصيب وجوه الذين ظلموا الناس وظلموا أنفسهم في هذه الدنيا، وأما البياض فهو بياض الوجوه الناظرة إلى ربها. أعترف بأنني فتنتُ ردحاً طويلا من الزمن بشعر المتنبي. وما حفظتُ من شيء ما حفظتُ من شعره. والشعر خمرٌ أو سحرٌ: ما أنْ تهيم ببعضه حتى تفتتن بجله، ثم به كله. ثم يذهب بك الشطط كل مذهب فتغدو مفتوناً بالشاعر نفسه كلفاً به. جاء كافور إلى مصر من السودان أو النوبة عبداً يباع ويشترى وهو بين العاشرة والرابعة عشرة. ومن يعيبون الناس على الظاهر الذي خلقهم الله عليه يعيبون على كافور سواد لونه - واللون آية من آيات الله - ويعيبون دمامة خِلقته - وقد خلقه الله في أحسن تقويم - ويعيبون شفته المثقوبة – وهذا مما جناه الناس عليه -، ويعيبون عليه ثقلاً قدمه – ولم يجعل الله على الأعرج حرجاً. ولكنه كان آية في الذكاء والجلد وسلامة الطوية، وآية في الطموح وعلو الهمة. يُروى عن كافور أن رفيقاً له في الرق قال له وهما في سوق النخاسة: "أتمني لو اشتراني طباخ فأعيش عمري شبعان بما أصيب من مطبخه". ولكن أبا المسك قال: "أتمني أن أملك هذا البلد كله فآمر وأنهى وأطاع". وتحقق لكليهما ما تمنى. ثم يقال إنه مر ذات يوم برفيقه ذلك الطباخ، فقال: "هذا رجل قعدت به مهمته، وأنا نهضت بي همتي، ولو جمعتنا همة واحدة لنلنا مصيرا واحداً". أي قول أروع من قوله: "لو جمعتنا همة واحدة لنلنا مصيراً واحداً"! العبرة كلها في الهمة، وليست في اللون ولا الأصل ولا الشكل. ابتلى الله كافوراً بالعبودية فصبر عليها؛ لكن ما إنْ وجد الفرصة حتى تجلت مواهبه ومهاراته الخارقة، وعكف على تعليم نفسه بنفسه، فأعجب به سيده ابن الإخشيد حاكم مصر، ووثق به كل الثقة فاستأمنه على كل شيء، حتى على ولديه. ثُم تقلبت الأمور حتى استقل كافور بحكم مصر، فأحسن السياسة، وأصلح حال الرعية، وامتد نفوذه فوصل إلى الشام والحجاز. صعد كافور من الحضيض إلى القمة، لكنه ظل سليم القلب في عز ملكه كما كان عزيز النفس في ذل عبوديته. وكان يزين مجالسه بالعلماء والأدباء والشعراء، ويكرمهم. ولعل اهتمامه بمدح الشعراء له إنما كان تقديراً منه لدورهم الإعلامي في ترسيخ هيبة الحكم واستقراره، ولم يكن يريد بالمديح التمدّح والتفخّر والتعالي. ولو كان همه ذلك لأعطى المتنبي ما يريد وفاز بمدحه إلى آخر عمره. فقد مدحه المتنبي بغرر القصائد مثل قوله: قواصد كافور توارك غيره ** ومن قصد البحر استقل السواقيا فجاءت بنا إنسان عين زمانه *** وخلت بياضاً خلفها ومآقيا كان المتني يريد المال وأكثر منه الولايةَ والحكم. ولم يكن يهمه صلاح الحاكم ولا رفاه الرعية. وفي الحقيقة لم يكن يهمه لون الحاكم ولا أصله ولا نسبه، فقد كان أذكى من أن يهتم لذلك، ولهذا السبب قصد كافوراً لما سمع من فضله واتساع مملكته، ففارق أهله وجاء إلى كافور وهو مستعدٌ لأن يبيع الأهل والأحبة والوطن في مقابل إرضاء غروره بالحصول على المال والمنصب: إذا ترك الإنســان أهــــلاً وراءه *** ويمّم كافــــوراً فما يتغــربُ فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هم *** فإنك أحلى في فؤادي وأعذب وكل امرئ يولي الجميل محبب *** وكل مكان ينبت العز طيب في البيت الأخير أعلاه يؤسس المتنبي لـ "ميكيافيلية المثقف حيال السلطة"، ويستن لمن يأتي بعده من المثقفين تحقيق المصلحة الذاتية شرطاً للولاء للحاكم. فمعنى البيت، الذي يبدو نبيلاً في ظاهره، إنما قصد به المتنبي، من واقع ما علمناه من سيرته، أن الحصول على العطاء هو شرط الرضا عن الحاكم. فليس المهم سيرة السلطان ولا أخلاقه ولا تحقيقه لمصالح الرعية، وإنما المهم أن يغدق العطايا والمناصب على "الصفوة المثقفة" من حوله. فإن حصل هؤلاء على نصيب يشبع رغباتهم ويرضي غرورهم من "الثروة والسلطة" صار صاحب السلطان محبباً لهم، وصار بلاط السلطان طيباً لأنه يُنبت لهم عز دنياهم. ومتى أرضى الملكُ الشاعر بما تهواه نفسه، حُقّ أن تخشع له وتسجد له، ليس فحسب الرعية، بل ملوك الأرض قاطبة: تُفارِقُهُ هَلْكَى وَتَلقاهُ سُجّدَا تَظَلّ مُلُوكُ الأرْض خاشعَةً لَهُ *** ولئن هدت الحصافة كافورا إلى إغداق المال على المتنبي، فإن الأخير لم يكن ليقنع بالمال بل كان يريد، فوق ذلك، أن يمكنه كافور من رقاب الناس حاكماً. لم يلبِّ كافور رغبة المتنبي، فترك الأخير التلميح مضطراً إلى التصريح: أبا المسك هل في الكأس فضل أناله *** فإني أغني منذ حين وتشــرب إذا لم تنط بي ضـــيعة أو ولايــة *** فجودك يكسوني وشغلك يسلب في البيت الأول أعلاه نرى المتنبي وقد بلغ قاع التذلل إلى السلطان حتى مدّ يديه متسولاً، ولم يكن له حياء يمنعه من طلب فضالة سلطةٍ يسد بها جوع غروره، ويرضي بها كِبْراً في نفسه. لكنّ كافوراً أبى وسدّ عليه الطريق. أبى كافور لأنه كان يعرف المتنبي حق المعرفة، ويدرك أنه لا تهمه مصلحة الرعية، وإنما مصلحته الشخصية؛ ويقال إنّ كافوراً أسرَّ لبعض خاصته كلاماً فحواه: "كان بلا ولاية وادعى النبوة، فكيف به لو حصل عليها؟!". وهكذا نلاحظ أنّ كافوراً انتهج سياسة رشيدة في تعامله مع الصفوة المثقفة التي تريد التقرب من الحاكم من أجل مصلحتها هي، لا مصلحة الشعب. فهو، وإن مكنها من أداء الدور الذي تؤهلها له مهنيتها، فإنه لم يسمح لها بالتغول على حقوق الشعب وامتطاء تلك المهنية لإرضاء غرورها وبلوغ طموحاتها غير المشروعة. ولئن كان عمد إلى لجمها بهدوء وأبقاها في إطار دورها المهني، فإنه لم يشتط ولم يلجأ إلى التنكيل بها وتحويلها إلى "ضحية"، أو إلى "شهيد مزوّر". كان كافور يدرك تماماً أن المتنبي يريد الابتعاد عنه ليهجوه. فمنعه من السفر فحسب، ولم يقتله، لأنه كان يخاف الله. وهذا القتل هو ما سيجنيه المتنبي مع حاكم آخر، لم تتوفر فيه خصال كافور، ورحمته، هو عضد الدولة. وحين تمكن المتنبي من الفرار، كان لكافور من النفوذ في الأمصار ما يستطيع به الترصد له وإعادته أو قتله. لكن كافورا لم يفعل، وأسمح لنفسي مطمئناً بأن أظن ظناً حسناً بكافور فأقول إنه ربما أراد أن يحتسب هجاء المتنبي له عند الله، ليكفر به عنه ذنوبه. فبناء على ما علمناه عن شخصية كافور وورعه، نحسب أنه قال لنفسه: "يا كافور، أنت تعلم أنه قد كذب في مدحك فما يضرك إن كذب أيضاً في هجائك؟ سيكون ذلك المدح حجة عليك، أما الهجاء فلربما يكون حجة لك. احتسب، يا كافور، فما يضرك إن هجاك الشعراء ورضي عنك رب الشعرى؟". وتبرر الواقعة التي نسردها فيما يلي ما ذهبنا إليه من حسن الظن بكافور.
عُرف كافور الإخشيدي بالزهد والورع والخشوع، وكان يهتم بالفقراء والمحتاجين، خاصة أولئك الذين يمنعهم حياؤهم وعزة نفوسهم من ذل السؤال. وفي هذا الصدد يَحكي أبو بكر المحلي قصة تكشف لنا جانباً لعله الأهم في شخصية كافور. قال المحلي أنه كان من عادة كافور أن يرسله ببغلٍ محملٍ بصُرر الدنانير في ليلة عيد الأضحى ليسلمها إلى المحتاجين. فكان يطوف من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل بالعطايا على منازل الناس رجالاً ونساء كل حسب ما حُدد له في قائمة كان يحملها. فلما كان أحد الأعياد أضاف كافور إلى القائمة اسم الشيخ أبي عبد الله بن جابار الصوفي الزاهد. ذهب المحلي إلى ابن جابار ودق عليه الباب وقال له: "الأستاذ أبو المسك كافور يقرؤك السلام، وقد أنفذ معي هذه الصرة لك لتصرفها في مؤونة هذا العيد المبارك". فقال ابن جابار: "نحن رعيته ونحبه في الله ولا نريد علة لحبه"، أي لا نريد جزاءً ولا مصلحة ولا سبباً لنحبه من أجله. وحاول المحلي مراجعته، لكن ابن جابار أصر على رفض الهدية. ولما رجع المحلي إلى كافور وأخبره بشأن ابن جابار، قال له كافور: "نعم، هو بذلك جدير، لكن عُد إليه، وخذ دابة أخرى من دواب النوبة، فقد نال التعب من دابتك، واطرق بابه، فإذا أطل عليك فاستفتح بقراءة أوائل سورة طه: "بسم الله الرحمن الرحيم. طه* ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. * إلا تذكرة لمن يخشى* تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى* الرحمان على العرش استوى* له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى". صدق الله العظيم. ثم قل له: يا ابن جابار، يقول لك كافور: "مَنْ كافور العبد الأسود؟ ومَنْ مولاه [الحر الأبيض]؟ ومن الخلق؟ أبقي مع الله لأحدٍ مُلْكاً أو شَراكةً؟ تلاشى الخلق كلهم. وها هنا تدرك من معطيك. فإن قبلت عطيتي فإنما قبلتها منه، وأن رددتها فانظر إلى مَن ترد العطية يا ابن جابار!" قال المحلي فعند ذلك بكى ابن جابار وأخذ الصرة وقال: "لقد علمنا الأستاذ كيف يكون التصوف". ولما عاد المحلي وأخبر كافوراً بقبول ابن جابار الهدية خرّ كافور ساجداً لله شكراً وقال: "الحمد الله الذي جعلني سبباً لإيصال الراحة إلى عباده." *** انتهى كلامنا عن قصة كافور وعن المتنبي. وقد مضى كلاهما إلى ربه، وهو، سبحانه وتعالى، أعلم بأمرهما وأرحم بهما منا جميعا. غير أن كل واحد منهما خلف إرثاً يجبرنا على التعامل معه والتعلم منه. فأما المتنبي فإن شعره غدت تتناقله الأسافير بعد أن سارت به الركبان قروناً عديدة. لكن شعر المتنبي - بعيداً عن قيمته الجمالية التي لا يختلفان فيه اثنان، وهي قيمة جمالية ترقي بيسر إلى درجة السحر - يحمل في طياته فتناً كبرى، أخطرها فتنة الأنا. كان المتنبي، بعكس كافور، يرى أن له فضلاً وقدراً يجعله فوق الناس ليس، فحسب، بحكم موهبته شاعراً مفوهاً، وإنما بحكم جوهره، ولذلك، بعد أن حقق مكانته في صدارة الشعراء، تطلع إلى أن يكون حاكماً قاهراً فوق رقاب الناس. والناس عنده متراتبون أقداراً وأشكالاً وألواناً بل وحتى جنسانياً. إن في شعر المتنبي لسحراً وفيه نتف من حكم قولية. ولا نقصد المعنى التقريظي لكلمة "سحر"، وإنما نقصد فتنة السحر. وما الحكم القولية المبثوثة في شعر المتنبي ألا الدسم - الدسم السحري الذي دُسَّت في ثناياه ألوان من الفتن، أخطرها الفتنة بالنفس. لقد فتن المتنبي بنفسه حتى لا يكاد يرى أحداً، ولا شيئاً. لا أحد يساوي شيئاً. فقد قد عرف الأيام وعرف الناس معرفة تجعله مستعداً لأن يروي ظمأ رمحه من دماء الناس بلا رحمة: ومن عرف الأيام معرفتي بها ***وبالناس روّى رمحه غير راحم وهو لا يرى في الدهر ولا الناس إلا رواة لمناقبه ومنشدين يتغنون بأفضاله لكن بأشعار هو قائلها، فهو الشاعر الأوحد: أجزني إذا أنشــــدتَ شعراً فإنما *** بشعـــري أتاك المادحون مــردداً ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني *** أنا الطائر المحكي والآخر الصدى وما الدهر إلا من رواة قصــائدي *** إذا قلتُ شعـراً أصبح الدهر منشدا فســار به من لا يسير مشمــــراً *** وغنى به من لا يغني مغــــــــردا وأما ما يهمنا ويفيدنا من إرث كافور ليس، فحسب، ملحمة تنميته الذاتية، والدرس البليغ في علو الهمة الذي جسده صعوده من حضيض الرق والعبودية إلى سدة الحكم والجاه. فإنما ذلك مجدٌ دنيوي ليس هو أكثر ما نتقصده أو نعتد به، ورب عبد في الدنيا سيدٌ في الآخرة. ما يهمنا ويفيدنا حقاً من إرث طاغور هو إدراكه لحقيقة نفسه وحقيقة كل من حوله: نحن جميعاً خلقٌ متساوون، بغض النظر عن ألواننا وأشكالنا وأعراقنا ومستوياتنا؛ متساوون في حقيقتنا الجوهرية: التلاشي – كلنا من تراب وإلى تراب. فمهما أعجبنا بقوتنا وممتلكاتنا وأشكالنا وألواننا، فنحن في الحقيقة لا نملك شيئاً، لأن الله سبحانه وتعالى قد استوى على العرش، وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وهو الذي أعطى كل شيء والقادر على أخذ كل شيء. الكل ميت، والله هو الوحيد الباقي. الكل معدم، والله هو الوحيد المالك. الكل آخذ والله هو الوحيد المعطي. وهو الواحد الذي لم تترك وحدانيته، سبحانه وتعالى، مُلكا لمليك، ولا شراكة لشريك. لقد قدم لنا كافور السوداني، قبل أكثر من ألف عام، النموذج الأمثل في التعامل مع العقد التي كبلت البشرية ولما تزل: إلا وهي عقد اللون والعرق والجنس والأصل وغيرها من الاختلافات التي لا تؤثر شيئاً في جوهرنا كلخق متلاشين بلا حول ولا قوة. لقد منحنا كافور، قبل أكثر من ألف عام، رؤية عليا هي الأحكم والأنجع لكل خطط العمل التي تبناها مناهضو التفرقة والعنصرية، ورواد المطالبة بالعدالة والمساواة والحقوق المدنية: كلكم سواسية، رغم اختلاف ألوانكم وأحوالكم، فليس ذلك جوهركم. كونوا سوداً أو بيضاً، أحراراً أو عبيداً، فكلكم لا يملك شيئاً، وكلكم زائل ومتلاش. ادركوا ذلك وتحابوا، وآمنوا بالذي يملك ضركم ونفعكم، فأنتم لا تملكون لأنفسكم نفعاً ولا ضراً. نعم، ذلك التلاشي هو جوهرنا، أما ما بدا علينا من العروض، مثل لون البشرة والشكل والأصل والغنى والجاه، وحتى الحرية في مقابل الرق، فلا اعتداد به. وكل ما يمايز بيننا هو سلامة القلب: القلب المدرك لحقيقة النفس المتلاشية، إزاء بقاء ذات الله ووحدانيته. لم يكتب كافور لا شعراً ولا نثراً. لكنه جسد ما حباه الله من علم عميق عملاً وسلوكاً في حياته، ولخصه في كلمات قلائل، لكنها كافية شافية باقية، ويفوق مضمونها، بدرجات كثيرة، وزن ما ضمه ديوان المتنبي من فخر ومدح وهجاء: تلاشى الخلق يا ابن جابار! من كافور العبد الأسود؟ ومن سيده الحر الأبيض؟ ومن الخلق؟ لا إله إلا الله، ولا مُلك لملكٍ غير الله، ولا شراكة لأحد في شيء مع الله. تلاشى الخلق!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة