أتيح الفرصة اليوم للأخ المهندس عمر الدقير رئيس حزب المؤتمر السوداني، وسأرد عليه غداً بإذن الله. الأستاذ/ الطيب مصطفى لك التحية .. قرأتُ ما خطَّه قلمُك في زاويتك اليومية "زفرات حرَّى" تعقيباً منك على مقالي القصير المنشور قبل أيام بمناسبة الذكرى الخامسة لانفصال الجنوب الذي كنتم من أكثر الناس حماساً له وعملاً لتحقيقه وفرحاً به. أوردتَ في تعقيبك أمثلةً لمشاهد دموية ارتكبها جنوبيون ضد شماليين لتثبت فكرتك حول "استحالة التعايش بسبب حقد الجنوبيين على الشماليين"، ولكنك تجاهلت عمداً الإشارة لمشاهد دموية مضادة !! وفي محاولة لتماسك فكرتك تغافلت عن مشاهد لا تقلُّ دموية وقعت بين شماليين وشماليين خلال صراعات قبلية وأخرى على السلطة "أرجو أن تتخيل فقط مشهد أولئك الضباط الذين تحولتْ أجسادُهم إلى غرابيل بعد أن ثقَّبها رصاص فرق الإعدام في خواتيم شهر رمضان المبارك، وعلى بُعد خطواتٍ من فرحة ذويهم بالعيد !!". الحرب الأهلية التي كان مسرحها جنوب الوطن لم تكن بسبب "حقد الجنوبيين على الشماليين"، كما زعمت أخي الطيب، وإلِّا فما الذي أجَّجها مرةً أخرى في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان بعد أن ذهب الجنوب لحال سبيله؟؟ أهو حقدٌ آخر من سكان تلك المناطق؟؟.. أمّا المشاهد الدموية، فقد ظلَّت على الدوام قرينة الحروب من قبل أن يصفها الشاعر الحكيم زهير بن أبي سُلمى بالذميمة لِما رأى فيها من موتٍ عبثي وتشريدٍ ويُتمٍ وترملٍ وثأرٍ أعمى .. والحروب، يا أستاذ الطيب، هي للأسف حقيقة ثابتة في التاريخ الإنساني المفعم بالصراع والأسى وسلب الحقوق وهدر الكرامة وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وقد تقع الحرب بين أبناء الرحم الواحدة كما في حالة هابيل وقابيل أو بين أبناء العمومة كما حرب البسوس التي بكت الجليلة بنت مُرَّة ضحاياها من الطرفين وهي تقول: "أنا قاتلةٌ مقتولة". الشعب السوداني لم يكن بِدْعاً من الشعوب في مآسي الحروب، ولكن ثمة شعوبٍ كثيرة حافظت على وحدة أوطانها وعَبَرَتْ إلى رحاب السلام والاستقرار بعد مسيرٍ طويلٍ بين لُجَّةِ الدَّمِ وساحلِ الدمع. والحروب التي ابتلي بها وطننا هي نتيجة طبيعية لأسباب منغرسة في تربة الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي يجري التهرب من مخاطبتها منذ الاستقلال .. وحيث أن مساحة زاويتك لا تتيح التفصيل في هذا، وبعيداً عن كلامنا نحن الذين استصغرتنا في خاتمة تعقيبك ورميتنا ضمناً بـ "شح النفس وعدم التجرد"، أكتفي بإحالتك إلى مقالٍ نشره قبل حوالي أربعة أعوام أحد المخضرمين المحترمين من رموز نخبة الشمال السياسية، هو العم إبراهيم منعم منصور، وقال فيه: (عاد السودان دولة تحت الاحتلال بسبب السياسات والقيادات سمها ما شئت.. سياسات أقنعت أجزاء من السودان بعدم العدالة غير المحتمل وغير المأمول في تغييره وأن الخلاص إما في ترك السودان والانفصال عنه أو في الاحتجاج الذي قوبل بسياسات رفض أخرى أفضت إلى حمل السلاح. وبين هذه وتلك وافقت الحكومة على قبول قوات أجنبية تحت مسميات مختلفة واحتلال السودان إما حماية لأهله من أهله أو من حكومته.. المهم تم احتلال جزء من البلاد وبأعداد تقارب العشرين ألفاً في دارفور وحدها). لستُ متزحزحاً عن قولي بأن وطننا، الذي ورثناه بنيله سليل الفراديس وهو يتهادى بين نمولي وحلفا مزاوجاً بين "الغابة والصحراء"، قد تشكَّل من عناق التاريخ والجغرافيا وأن تيارات حضارية متعددة صاغت واقعه المنجمي وأعطته تلك الملامح التي طالما ميزته عن سواه من الأوطان، إذ هو جماع أعراقٍ وثقافاتٍ وأديانٍ متعددة ومتنوعة.. وإذا كان التحدي الأكبر الذي يواجه أية دولة – الدولة كمُنجز حضاري حديث – هو قدرتها على إدارة التنوع، فإني زعيمٌ بأن العنوان الرئيس الذي أدَّى لتقسيم السودان بفصل الجنوب هو "الفشل في إدارة التنوع"، وفي رأيي المتواضع، ما مِن فترةٍ من فترات الحكم الوطني كانت حصاناً من هذا الفشل.. ولكن يُحْمَد لكلِّ النظم التي سبقت نظام الإنقاذ أنها لم تعتمد خيار التقسيم، وظلَّ مُتاحاً للمجموعات الوطنية المستنيرة في الشمال والجنوب أن تناضل من أجل معالجة الخلل في هيكلة الدولة السودانية، الموروث منذ الاستقلال، وبناء دولة الوحدة على أساس المواطنة المتساوية وجعلها هوية جامعة وعابرة للهويات الصغرى من قبلية وجهوية وطائفية وغيرها.. وحده نظام الإنقاذ هو الذي انجذب حتى الغيبوبة إلى أنشودة اليوم الأخير من التاريخ بعد أنْ غرَّهُ غرورُ السلطة وتوهم أنَّ في مقدوره استدامتها بتمزيق وطنٍ "حدادي مدادي" ظناً منه أنه بذلك ينهي واقع التنوع والتعدد ويحسم جدل الهوية ويخلق فضاءً جغرافياً خالصاً لمشروعٍ حضاري وهمي يمارس عبره سلطانه ويواصل فساده وطغيانه باسم الرب، تماماً كما كانت تفعل الكنيسة في القرون الوسطى حين ارتكبت أسوأ الفظاعات وأعطت لنفسها سلطاناً يعلو على الإرادة العامة بزعم أنها ظِلُّ الله في الأرض وأنها تمتلك مفاتيح أبواب العالم الآخر. لقد قرأتُ لك قبل فترة كلماتٍ تطالب فيها بتغيير اسم "السودان"، وأقول لك إن الوطن - باسمه وتاريخه وجغرافيته - ليس مجرد مسقط رأس، بل هُوية وأمانة وأعباء أسئلةٍ حول حاضره ومستقبله، ولن يعتذر أي سوداني صميم عن كونه سودانياً فراراً من صفة السَّواد، أو يفعل كما فعل مايكل جاكسون حين أجرى جراحاتٍ في جسده كي يستبدل لونه الأسود بأبيض بدلاً من أن يعتزَّ بلونه ويُشهره أمام البياض الأنغلوساكسوني كما فعل إيميه سيزر وسنغور ومانديلا وغيرهم .. وإذا كان قَدَر السُّودانيين أن يولدوا في هذا الوطن، الذي تشكَّل من عناق التاريخ والجغرافيا، فذلك امتياز بقدر ما هو تحدٍّ. الامتياز هو هذا التنوع "القوس قزحي" والتحدي هو تحويله إلى نعمةٍ لا نقمة، والمطلوب هو الاستجابة الفذة لهذا التحدي الذي لم يزل شاخصاً منذ فجر الاستقلال. رُبَّما يكون السُّوداني قد استراح من صدِّ الغزاة، لكنه لم يسترح من مقاومة الاستبداد وكلاهما يستهدف سودانيته .. سيستقرُّ نظام الإنقاذ في ذاكرة التاريخ موسوماً بالإجرام وفادح الخطايا كونه قسَّم السُّودان بسياساتٍ بئيسة فصلتْ جنوبَه وتركَتْ ما تبقى منه ينزف من خاصرتيه.. ومما يبعث على الأسى ويضاعف الحزن، الذي تعيبه علينا، أنَّ الحفاظ على الوطن موّحداً بتعدده وتنوعه ليس بالأمر المستحيل أو الاستثنائي في تاريخ الشعوب، فحزب المؤتمر الوطني الهندي قاد شعبه إلى تحقيقه، وكذلك فعل المؤتمر الإفريقي في جنوب إفريقيا .. لكنَّ حال المؤتمر الوطني عندنا ما نعرف وما نرى، ولذلك جرى ما جرى. عمر الدقير assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة