وكان الصديقان يمحضان بعضهما الحب كأشقآء متوافقين مع أن صابر كان يشعر بقليل من الضيق أزآء حكابات صديقه التي تتخللها بعض المبالغة واختلاق بطولات وهمية أو أدوار متخيلة قام بها ورغما" عن ذلك كان صابر يجد فيها بعض المتعة ويجد لصديقه العذر فربما أثرت في خياله ما يقرأه من قصص وتخيل نفسه بطلا" لها أو تمني في خاطره أن يقوم بذلك الدور في الحقيقة فمزج الخيال بالواقع ، أو ربما تلك مبالغات من المحسنات اللفظية كالتوابل التي تضاف الي الطعام لتحسن من مذاقه ، ولقد لحظ صابر فيما صادف من هذه النماذج من الناس أنهم يجدون متعة في ما يروون من قصص ويتقمصون الدور ألي أقصي مدي ، ولكن يفوتهم أنهم يلغون مقدار ما للآخرين من ذكآء فيكون الأثر عكسيا" ، فبدلا" من أن يكون أعجابا" يكون سخرية بهم وأن لايفصحون عنها لهم ! وتثقق الحديث بينهما فقال صاحبه أحدي حكاياته وحدث بأنه كان راجعا" بمفرده الي منزله بعد أن شاهد العرض الثاني في السينما وكان الوقت بعد منتصف الليل ، وفجأة برز له شخصان وطلبا منه الوقوف وأن يعطيهما ما معه من نقود وكان أحدهما يشهر سكينا" وقال أنه رد عليهما بالفبول وبغتة أنحني الي الأرض وتناول قبضة من التراب وقذف بها في عيني حامل السكين فأفلت السكين من يده وغطي عينيه بيديه ، وبسرعة التقط السكين وهاجمهما بها فاطلقا ساقيهما فرارا" منه ولم يطاردهما واكتفي ،بهروبهما وبالطبع أثني صابر علي شجاعة وسرعة بديهته ، وقال صابر أنه أكتفي بتلك القصة خشية أن يردفها بأخري فقد بدا أن شهيته مفتوحة من مزيد من حكايانه الخيالية فاستأذن منه للذهاب رغم أصراره عليه بالبقآء ، وخرج الي الشارع وملأ رئتيه بعمق من هوآء الليل المائل للبرودة وكأنه يطرد من حواسه ما ترسب من حكاية صاحبه . وكان الليل ما زال في أوائله وهناك فسحة من الوقت لم يدر ما يفعل فيها والوقت ما زال باكرا" علي الأخلاد للنوم ،وراودته نفسه للذهاب الي صديقه ربيع فهو ينزل مكانة خاصة من قلبه يعززها مزاجه الرائق فهو ضحوك دائما" ولا يحمل هما" أو كما يقال في مثلنا العامي ( ضارب الدنيا صرمة ) ولا يتأثر بأمر مكدر في الحاضر ولا يأسي علي شئ فات في الماضي وهو يحب البساطة وعدم تعقيد الأمور ويغلف هذا الطبع بروح المرح الذي يشيعه من حواليه ، وكانا قد أعتادا علي التمشي مسافات طويلة بدءا" من شاطئ النهر القريب من منازلهم ثم ينتهي بهما المطاف الي السوق الكبير في وسط المدينة حيث يحلو لهما التسكع والفرجة علي معروضات البضاعة في فترينات الدكاكين من ملابس جاهزة أو قوارير عطور وساعات وأحذية واجهزة راديو صغيرة الحجم وأدوات تجميل وغيرها من مختلف الأشيآء الأخري ولا تخلو الفرجة من تعليقاتهم ، ويكتفون من أرضآء لأقتنآء شيئا" مما يشاهدونه بمجرد النظر والتحسر فحسب ، وكانا في مسيرتهما عبر الأماكن غير المأهولة يرددآن بعض أغانيهم المفضلة بأصوات عالية ، وكان صابر يمتلك صوتا" رخيما" في الغنآء وهو في الغالب كان يغني بينما يصحبه صديقه في الترديد ( لكوبليه ) الأغنية الأول كما يقولون ، وذلك الولع بالغنآء من جانب صابر قد أدخله في مأزق لا زال يذكره ، فقد كان يغني عند أصدقائه المقربين ، وفي أحدي المرات رجآه أحد أصدقائه وهو عازف علي آلة العود أن يغني له في صباحية عرس أخته وهي عادة تعارف عليها السودانيون أن تكون هناك حفلة نهارية يحييها مغني في اليوم التالي من الزفاف أو ما يسمي ( الدخلة ) واستجاب لطلب صديقه والذي كان يعزف علي العود فأجاد وأطرب الحاضرين من الشبان والبنات وكانت مثل هذه الحفلات تكاد تكون مقصورة علي أقربآء العروسين وبنات الحلة بينما تجلس النسآء من كبار السن في الخلف من البنات الحضور ، ويذكر صابر حدث لا يمسك معه نفسه من الضحك في تلك الحفلة فقد غني أغنية المطرب المعروف عبد العزيز محمد داؤد وكانت بعض كلماتها تقول : ( فولو لي يا أهل الهوي الحب دواه أيه ) وأنبرت له عجوز من الخلف قائلة بصوت عال : ( الحب دوآه علقة ساخنة من الصباح ) مما أضحك الجميع بما فيهم صابر المغني أما ما حدث بعد تلك الحفلة النهارية فقد جعله يطلق الغنآء ثلاثا" في بيوت الأعراس وأطفأ في دواخله توق شمعة الطموح ليصبح مطربا" محترفا" وهو توق ظل يلازمه ولم يتحقق أبدا" ! فبعد تلك الحفلة النهارية بأيام طرق باب منزلهم طارق في المغرب وكانت لديهم في الحوش الخارجي للمنزل مسطبة عالية يجلس عليها والده وبجانبه منضدة عليها عدة صحف وكتاب يقرأها بينما يحتسي القهوة في كل يوم ، وعند ما طرق الباب نادي علي أحدي بناته الصغار لتفتح الباب ، وعندما فتحت الباب وجدت فتاتين وسالآها أن كان هذا هو منزل الغناي صابر وكان الكلام علي مرمي من سمع الوالد ، وهاج الوالد ونهرهما قائلا" : ( غناي في عينكم ! أمشو من هنا يا بنات وأوعو تجو هنا تاني ) ، وصاح مناديا" علي صابر الذي كان في الجزء الداخلي من المنزل ، وجاء منزعجا" لأن صوت الوالد كان غاضبا" وحادا" وجبهه بقوله في غضب : أنت عاوز تكون صايع ولا شنو ! أنا ما عندي أولاد صياع ) وفي تلك الأيام من أربعينات القرن العشرين لم يكن المجتمع يتقبل الغنآء من الرجال كمهنة وكان يطلق علي المغنيين نعت الصياع أو الصعاليك . وكان الصديقان ينهيان الجولة بالوقوف عند بائع التسالي الشهير عند ناصية مقهي ود الأغا في السوق الكبير بامدرمان ويشتريان منه قرطاسين من التسالي اللذيذ ( يقزقزان ) أي يتسليان بتناوله في طريق عودتهما بينما لا ينقطع الحديث بينهما ، وكانت هنك حادثة يجتران ذكراها ثم ينتابهما ضحك متقطع ، وتلك الحادثة حدثت عقب فراغهما من الجولة المعتادة ووقوفهما عند بائع التسالي الذي ألفهما كزبائن دائمين ، وناولهما قرطاسي التسالي ، وادخل صابر يده في جيبه ليدفع ثمن التسالي الزهيد ولكن وجده أخلي من بيت الفقير المعدم ! وطلب من صديقه أن يدفع ولكن الآخر أعتذر بأنه ليس معه نقود ، وارتبك الصديقان وكادا أن يذوبا خجلا" وأرجعا التسالي الي البائع متعللين بأنهما نسيا نقودهما في المنزل ، ولكن الرجل خاطبهما بقوله : ( يا اولآدي ده بيحصل كتير أنه الواحد ينسي قروشه وده ما عيب وأنتو زبايني وعيب عليكم تعاملوني زي الغريب وكله واحد كان دفعتو لي أو ما دفعتو لي والمبلغ ما بيستاهل وحتي لو كان بيستاهل يا أولادي الدنيا ما طارت ) وأصر عليهم أن ياخذو التسالي ، ولم يجدا بدا" من الرضوخ وهما يتمتمان بالشكر . ولم تكن تفصل بين منزليهما مسافة كبيرة فهما يسكنان في نفس الحي الكبير ولكن يقع منزل ربيع في الجانب الآخر من الشارع الكبير الذي يفصل بين مجموعة المنازل من الجانبين ، وكان كلاهما يصر علي أن يوصل ( يقدم ) الآخر عبر الشارع ، ولكن ما يحدث هو شيئ آخر فبعد أن يوصل صابر صديقه الي مكان الأفتراق يأبي ربيع الا أن يوصل بدوره صديقه ، فيقفلان راجعين وتتم هذه العملية حتي يستسلم أحدهما في آخر الأمر ويفترقان علي موعد اللقآء في الغد ، وأصبح الصباح ، وأحس صابر بشوق دافق لا يدري كنهه للذهاب الي بيت بثينة وغلب عليه هذا الأحساس وتمني بأن يطير بطائرة نفاثة ، لا بل بطائرة تخرق جدار الصوت تحمله وتحطه في دارها في لحظة ، بل تمني أن يكون عفريت سليمان الذي الذي عزم أن ينقل اليه عرش بلقيس قبل أن يرتد اليه طرفه ! وذلك رغم أن دار بتينة ليس ببعيد ، وفي الضحي أندفع خارجا" كبرق من طي السحاب الي دار المحبوبة وقرع باب المنزل بلهفة وجاءه صوت أنثي من الداخل يسأل عن من الطارق .. أنه صوتها ! أضطرب وابتلع ريقه وتمتم في صوت متقطع : ( ده أنا صابر ) ، ومرت لحظات خالها دهرا" ، وانفرج الباب عن فتحة صغيرة وانتحت جانبا" قائلة له : اتفضل ، ودلف الي الداخل وهو يكاد يتعثر في المشي ووقف قبالتها اكالمشدوه ولم يحر جوابا" بينما هي واقفة تنير أبتسامة وجهها الوضيئ ،ولحظت أضطرابه وقالت : أتفضل الوالدة في الداخل ... هلال زاهر الساداتي 18 يوليو 2016 .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة