قبل أعوام عديدة حضرت مأتماً لوفاة والد أحد الأصدقاء في مدينة ودمدني ، وفي سياق عاداتنا الإجتماعية وموروثاتنا الثقافية كنت حاضراً في مكان المأتم منذ وقت مُبكر للمشاركة في سُنة تشييع الجثمان التي حثت عليها تعاليم الدين الإسلامي كحسنة تستحق الثواب من جانب ومن جانب آخر نوع من المؤازرة والتخفيف النفسي لأهل المتوفي مما يعانون من جزع وحزن جارح ، وهذا طبيعي في بلادنا ويسري في كافة تجمعاتنا الجغرافية والإثنية وحتى العقدية خصوصاً تلك المتعلقة بإخواننا المنتمين إلى أديان ورسالات سماوية أخرى ، ما يهمني من أحداث ذلك المأتم حالة الجزع الغير طبيعية التي عبَّر بها صديقي هذا عن ألم فراقه لوالده ، فقد وجدتها شديدة في تعابيرها الشكلية حيث عانى حالةً من الهستريا والإغماءات المتكررة وأفاض في العويل والتعبير عن آلام (مفاجأة الموت) عندما مسَّت منظومة أسرته المُقرَّبة أما على مستوى المضمون بمعنى ما جاش في صدره من مشاعر وأفكار فلا حساب عليها عندي لأن ما وقر في القلب هو بين العبد وربه ، والموت أيها الأصدقاء هو واحد من مجريات الحقائق المُطلقة في حياتنا الدنيا ، وهو مصير محتوم لكل كائن حيّْ طال الزمان أم قصر (كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام) .. صحيح هو مشقة نفسية وروحية لا إختلاف في الإقرار بحجم أوجاعها ومعاناتها بالنسبة لأهل المتوفي وأصدقائة وعامة المقرَّبين إليه ، وأحياناً تكون الوفاة بالنسبة لأهل المتوفي مُنعطفاً جديداً في حياتهم على كافة المستويات بما في ذلك الإقتصادية والإجتماعية وأحياناً المهنية فيتحوَّل بسببها طلاباً إلى عاملين ليعولوا أسرة ، و تنقسم بسببها مجمعات إقتصادية وسكنية ومهنية ، وقد يترتب عليها تعديلات أسرية عميقة كولوج طرفٍ جديد في حياة أرملة أو أرمل ، وهكذا تجري الأمور وتستمر الحياة ليقر الله عز وجل سنته في الكون والناس فيُخلقُ كل يومٍ جنيناً في رحم أم ، ليبدأ مسيرة الحياة وكذلك يترجّل كل يوم مئات بل آلاف مغادرين بحكم ربٍ رحيم كريم ، غير أن ما حدث من جزع هستيري ومبالغٌ فيه لصديقي السابق ذكره جعلني أتأمل في ما إذا كان الإنسان قادراً على تدريب نفسه (مسبقا) لإستقبال أحزانه الكبرى برباطة جأش أو فلنقل بمعقولية ، هل على الإنسان أن يكتسب بالتلقين والإعداد لنفسه على المستوى الروحي والإيماني ما يعينه على الصبر والجلد في حالة أن غيَّب الموت الأقرباء والأحباب ، أقول نعم فبعض الناس يعتقدون في غمرة النشوة بالحياة أن الموت ليس لهم ولا للمقربين منهم ولكنه دائماً للغرباء ، يظنون أنهم سيعيشون بقية حياتهم دائماً مُصنَّفين تحت مصطلح (مُعزَّين) ، ولا يتخيلون أنهم يوماً ما ربما تقبلوا العزاء من الآخرين ، يجب على الإنسان الحصيف أن يترك مساحةً في مخيلته تتعلَّق بإمكانية ولوج الموت إلى بيته أو المُقرّبين حتى يحوز على طبقة وجدانية عازلة تفصل بينه وبين الجزع المُخِل بسماحة الإيمان والرضاء بقضاء الله وقدره ، فالموت إخوتي مرحلة من مسيرة الإنسان لا نعرف ميقاتها ولكنها حقيقة مطلقة يجب الإستعداد لها في شخوصنا وفي شخوص كل من يحيطون بنا ، لا أراكم الله مكروهاً في عزيز لديكم وأطال أعماركم فيما فيه رضاه جل و علا و آتاكم خيري الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة