بسم الله الرحمن الرحيم "وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ"
المقصود هنا، العلم المادي التجريبي، ومنهجه.. فالحضارة الغربية، لا تفخر بشيء مثل فخرها بالعلم، ويحق لها ذلك، فقد سار العلم، في عهدها إلى آماد بعيدة، في معرفة الكون.. يقول كارل بوبر: "فليس ثمَّ ما يميز حضارتنا الغربية، أكثر من أنها مرتبطة بالعلم ارتباطاً لا سبيل للخلاص منه، إنها الحضارة الوحيدة التي أنتجت علماً للطبيعة، والتي يلعب فيها هذا العلم دوراً حاسماً.. والعلوم الطبيعة هي المُنتج المباشر لعقلانية الفلاسفة الإغريق الكلاسيكيين مثل سقراط". وغاية العلم، كما هي غاية كل معرفة، هي معرفة الحقيقة.. يقول بوبر: "الحقيقة إذن هي هدف العلم.. العلم: هو البحث عن الحقيقة.. فإذا لم نستطع (كما يرى زنيوفانيس) أن نعرف ما إذا كنا قد بلغنا هذا الهدف، فإن لدينا على الأقل، من الأسباب القوية، ما نفترض معه بأننا قد اقتربنا من الحقيقة أكثر، أو – كما يقول اينشتاين – بأنا على الطريق الصحيح". هل المعرفة العلمية هي الطريق الصحيح للحقيقة؟ هل منهاج هذه المعرفة، هو المنهاج الذي يقود إلى الحقيقة، أو الاقتراب منها؟ بالطبع الإجابة على هذه الأسئلة، تقتضي أن يكون هنالك تصور مبدئي للحقيقة، لنعرف هل نسير على طريقها أم لا؟ وهل اقتربنا منها أم لم نقترب؟ ميدان المعرفة في العلم، هو الأكوان والإنسان – ككون، من الأكوان.. يقول د. قنصوة عن تعريف هل (Hull) للعلم: "يتفق الباحثون جميعاً على أن العلم بحث نظري، بمعنى أنه جهد مبذول للمعرفة وللفهم الذي يحيط بظواهر الطبيعة، على أن تشمل الطبيعة كل من الإنسان والعالم المحيط به".. وينتقد تعريف هل Hull هذا بأنه أهمل جانب المنهج، وهو جانب يعطيه بعض العلماء الأولوية في تعريفهم للعلم.. وعند هؤلاء ما يميز العلم من غيره هو (المنهج العلمي)، وليس موضوع العلم.. فالعلم نظرية وتطبيق.. يقول برنال: "إن العلم بوصفه أنبل زهرة للعقل الإنساني وأعظم نبعٍ واعدٍ بالمآثر المادية له صورتان: الأولى صورة (مثالية)، يبدو فيها العلم معيناً لكشف الحقيقة وتأملها ومهمته أن يبني صورة عقلية للعالم تلائم وقائع الخبرة، والصورة الثانية (واقعية)، تسود فيها المنفعة وتتعين فيها الحقيقة وسيلة للعمل النافع، ولا تختبر صحتها إلا بمقتضى ذلك الفعل المثمر".. ولما كان موضوعنا هو الفكر وما يؤدي إليه من معرفة، فإننا نركز على المعرفة العلمية، ووسيلتها – المنهج العلمي.. يقول د. قنصوة: "الواقع أن كافة موضوعات المعرفة خليقة - من الوجهة النظرية على الأقل - بأن تندرج تحت العلم غير أنها لا تصلح أن تكون موضوعاً للعلم في أي مرحلة من مراحل صياغتها، إلا متى نضجت ولاءمت منهجه، أي صارت معدة لانطباق المنهج العلمي عليها وتوافرت لها شروطه".. وعلى ضوء هذا الفهم، العلم: هو ما ينطبق عليه المنهج العلمي.. ومن الميز الأساسية لمنهج العلم، الثقة والثبات.. ويعتبر أهل العلم، أن منهجهم هذا، أكثر وثوقية من غيره من المناهج. إن قضيتنا، هي الفكر، فنحن عندما نتناول منهج التفكير العلمي، إنما نتناوله من زاوية هذه القضية – الفكر – ولا تعنينا قضايا المنهج الأخرى.. هل منهج التفكير العلمي، علمي، وبأي معنى هو علمي؟ يقول د. فؤاد ذكريا: "وصفة المنهجية هذه صفة أساسية في العلم حتى أنه في وسعنا أن نعرف العلم عن طريقها، فنقول إن العلم، في صميمه، معرفة منهجية، وبذلك نميزه بوضوح عن أنواع المعرفة الأخرى التي تفتقر إلى التخطيط والتنظيم. ونستطيع أن نقول إن المنهج هو العنصر الثابت في كل معرفة علمية، أما مضمون هذه المعرفة والنتائج التي تصل إليها ففي تغير مستمر، فإذا عرفنا العلم من خلال نتائجه وإنجازاته، كنا في هذه الحال نقف على أرض غير ثابتة، أما إذا عرفنا العلم من خلال منهجه فإننا نرتكز حينئذ على أرض صلبة لأن المنهج هو الذي يظل باقياً مهما تغيرت النتائج".. هم يعتبرون المنهج عنصراً ثابتاً في التفكير العلمي، بمعنى أنه عنصرٌ ملازمٌ له، لكن المنهج في ذاته، ليس ثابتاً على صورة واحدة، وإنما هو متجدد ومتطور دائماً.. لا يوجد أي شيء في ملازمة المنهج العلمي، للعلم، يميز العلم على غيره.. فلا توجد معرفة إلا ولها منهجها.. وبالضرورة المناهج تختلف باختلاف مجالات المعرفة.. فللدين منهجه، الذي لا يصلح له غيره.. وللعلم منهجه الذي لا يصلح له غيره.. ومنهج الدين ملازم دائماً للمعرفة الدينية، التي لا يمكن الوصول إليها، دون هذا المنهج.. فالقضية هي: أيهما أكثر فعالية، وأكثر ضماناً ووثوقاً في الوصول إلى الحقيقة، منهج الدين أم منهج العلم المادي التجريبي؟ وأيهما أكفأ في صقل الفكر، وتهذيبه، وجعله فكراً موضوعياً، محايداً.. وأكثر تأدية إلى تطوير الفكر.. منهج الدين أم منهج العلوم التجريبية؟ فالعبرة بنتائج الفكر، وما يؤدي إليه، وليس بمجرد أسلوب التفكير.. فطالما أن هنالك اتفاق، أو شبه اتفاق، على أن غاية التفكير هي الوصول إلى الحقيقة أو الاقتراب منها، فالحقيقة هي ما يحدد الوسيلة المفضية إليها.. الغاية تحدد الوسيلة، وتعيّنها.. فالتفكير العلمي، هو التفكير الذي يتناسب مع طبيعة العقل، وطبيعة علاقته بالوجود، ويكون أكثر كفاءة في الإعانة على الوصول إلى الحقيقة، كغاية قصوى للفكر.. يقول د. قنصوة: "أول ما يتصل بغاية العلم المباشرة، وهي السعي إلى الحقيقة واكتساب معرفتها.. فالحقيقة قيمة قصوى أسهب الباحثون في الاكسيولوجيا في الحديث عن مكانتها من القيم، وهي التي يستهدفها العلم.. ورجل العلم ملتزم بمعاييرها".. هل العلم المادي التجريبي، في جملته، وفي تفاصيله يمكن أن يقود، في أي وقت من الأوقات إلى الحقيقة؟ هذه هي القضية!! إذا كان العلم المادي التجريبي ومنهجه، يمكن أن يؤدي إلى الحقيقة، فهو يستحق صفة (العلمية)، عن جدارة، وإلا، فمن الخير لنا جميعاً أن نبحث عن الحقيقة في غيره، طالما أننا، نقرر أن معرفة الحقيقة هي الغاية، من كل فكر ومن كل معرفة. موقف العلم من الحقيقة: من المفكرين الغربيين، من يرى أنه لا توجد حقيقة!! فهؤلاء لا عبرة بهم.. المهم وضع الذين يرون أن الحقيقة هي غاية المعرفة، وأن العلم ونهجه يقودان إلى الحقيقة أو إلى الاقتراب منها.. فما هي الحقيقة التي يقود إليها العلم المادي التجريبي؟ يمكن أن تكون الإجابة بإيجاز، أنها حقيقة الأكوان، والقوانين التي تحكمها!! حتى في هذا الإطار، هل العلم يقود إلى الحقيقة؟ أو حتى يمكن أن يقود إليها؟ يقول د. فؤاد ذكريا: "وواقع الأمر أننا لا نملك إلا هذا المنهج الذي أثبت أنه أفضل ما لدينا من أدوات المعرفة، وأنه مهما كان قاصراً عن بلوغ الكثير من الحقائق، فانه هو أضمن الوسائل لبلوغ (الحقيقة ذاتها).. وإلى أن يتوصل العلم ذاته إلى مناهج وأساليب أخرى أدق، فليس من حق أحد أن يتذرع بالتغيرات التي يمكن أن تطرأ عليه في المستقبل، لكي يفرض علينا خرافاته، ويربطها زوراً بعجلة التقدم العلمي".. واضح جداً، من النص، التعصب الذي وصل إليه بعض دعاة علمية العلم.. فما هي (الحقيقة ذاتها)، التي يمكن أن يوصل إليها العلم، في زعم د. فؤاد ذكريا!؟ إن مجال العلم هو الظواهر الطبيعية في الإنسان والكون.. وهذا أمر لا خلاف حوله.. فعبارة (الحقيقة ذاتها) من النص، تصبح مطابقة لمعرفة الظواهر الطبيعية في الكون.. وهذا أمر خطأ بداهةً، وسيظهر هذا الخطأ، عندما نتحدث عن الحقيقة في الإسلام.. ولكن بصورة مبدئية، الظاهر يقوم على أوهام الحواس، وأوهام العقول، ومن المستحيل أن يكون هو الحقيقة ذاتها.. ثم أنه لا توجد أي صورة ثابتة لهذه الظواهر، حتى يُقال أنها الحقيقة ذاتها.. فالظواهر دائمة التغير، وإدراكها بالطبع دائم التغير.. ولا يمكن أن تكون هنالك حقيقة ثابتة، بالنسبة لها.. ليس في الظواهر الطبيعية، في الكون أو الإنسان، حقيقة نهائية، حتى يمكن أن يقال عنها أنها (الحقيقة ذاتها).. وهذا، ليس من وجهة نظرنا نحن، وإنما هو من وجهة نظر العلم نفسه!! يقول د. قنصوة، مثلاً: "الحقيقة العلمية ليست هي الواقع (Reality) بل ما يقرره العلماء عن هذا الواقع، وليس ثمة حقيقة علمية نهائية، بل تواصل النظريات المتعاقبة خطواتها على طريق ذلك الطموح والتطلع، الذي لا يكف لحظة عن التقدم. ولا يزال العلم حتى اليوم مجازفات ومخاطرات، وكل (حقائقه) موقوتة، لا تبقى كذلك إلا إلي حين. فلا يتملكنا الخوف إذن، كما يقول برنار، عند مشاهدتنا لفروضنا العلمية وقد اختفت عن أبصارنا فإنها تقضي نحبها في ساحة الشرف، كما يستشهد الجندي في سبيل وطنه".. عبارة "الحقيقة العلمية ليست هي الواقع، بل ما يقرره العلماء عن الواقع"، عبارة غير علمية، وتجعل موضوع المعرفة العلمية معرفة ذاتية، وأدق منها أن يُقال (الحقيقة العلمية هي الواقع كما يدركه العلماء)، على أن يكون معلوماً أن العلماء لا يدركون الواقع في حقيقته، وإنما هم يدركون ظاهراً من هذا الواقع، في حدود ما يتيحه لهم منهجهم ووسائلهم.. وربما كان هذا ما يريد د. قنصوة أن يقوله. يقول د. قنصوة: "الحقيقة العلمية التي يطلبها المنهج العلمي ليست قابعة هنالك، وعلينا أن نعثر عليها ونميط لثامها، بل هي أقرب إلى أن تكون مثالاً ينشده العلماء.. فهي عند بوانكاريه (العلاقات بين الأشياء التي يشترك في إدراكها جميع الكائنات المفكرة على أن تتيح الانسجام الكلي الشامل). ولا يمكن تعريفها عند برونفكسي حتى ننتقل من الواقعة إلى القانون الذي يعتمد صدقه على الاتساق والتماسك المنظم بين الأجزاء التي تتناسب وتتوافق فيما بينها، كما هو الحال في رواية رائعة، أو في تناسق الألفاظ في الشعر.. فالوحدة الداخلية، والاتساق، والتماسك في العلم، هو الذي يتيح له الصدق (الحقيقة)". (الحقيقة)، لا بد أن تكون موجودة، أو غير موجودة.. ومجرد البحث والسعي إلى المعرفة، يقتضي أن تكون هنالك حقيقة ما، في جهة ما، نبحث عنها، ونسعى إلى معرفتها.. فالقول بأن الحقيقة (ليست قابعة هنالك)، قول غير علمي، وهو ينفي وجود الحقيقة.. وعبارة قنصوة عن الحقيقة (بل هي أقرب إلى أن تكون مثالاً ينشده العلماء)، ليست كافية لتنفي وجود الحقيقة في مكان ما، فالعلماء لا ينشدون مثالاً ذاتياً، ليس له مقابل في الواقع، وإنما هم ينشدون مثالاً، واقعياً، ينشدونه من خلال سعيهم إلى معرفة حقيقة الأمر كما يظهر في الطبيعة، وكما تعطيها علومهم.. يقول د. قنصوة: "لا يمكن وضع الحقيقة العلمية خارج العلم المتغير، بل تظل دائما تحت الاختيار المتواصل. وهي ليست انعكاساً للوجود أو الواقع في مرآة العلم، لأن العلماء لا يكفون عن تغيير الطبيعة لخدمة أهدافهم".. كون الحقيقة العلمية حقيقة نسبية، هذا أمر لا خلاف حوله.. ونسبية الحقيقة العلمية، ووجودها في عالم متغير، لا يبرران القول عنها أنها (ليست انعكاسا للوجود أو الواقع في مرآة العلم).. فهي في الواقع كذلك.. فالحقيقة العلمية هي انعكاس الوجود أو الواقع، حسب ظروف ظهور هذا الواقع أو الوجود، في إطاره الزماني المكاني – أو إطاره التاريخي – فما يظهر من الحقيقة في زمن معين، هو الحقيقة النسبية (الحق) في ذلك الزمن. المنهج العلمي، بطبيعته، يغلب عليه الجانب الاستقرائي، ويقوم على التحليل، فهو لا ينظر للكليات، ولا يتحدث عن الصورة النهائية للأشياء.. فالمعرفة العلمية، معرفة نسبية.. وهذا على خلاف المعرفة الدينية، التي هي الأخرى معرفة نسبية، لكن النسبية فيها منذ البداية تقوم على ثابت وجودي، هو الحقيقة.. الأمور النسبية، لا يمكن أن تقاس إلا بالنسبة لثابت، حتى ولو كان ثبوته ثبوتاً افتراضياً.. وهذا ما تقوم عليه نسبية العلم، كما هي عند آينشتاين مثلاً.. أما النسبية في الدين، فتقوم على ثابت حقيقي، هو الذات الإلهية المطلقة.. فهي وحدها الثابت الوجودي، ولذلك هي وحدها (الحقيقة).. الحقيقة لا بد أن تكون ثابتة وجودياً، ومطلقة، وإليها تنتهي كل الحقوق النسبية – ولهذه الاعتبارات لا يسعها إلا الإيمان.. والإيمان دائماً هو المقدمة الضرورية للعلم.. فمثلاً، في الإسلام، شهادة التوحيد (لا إله إلا الله)، تعني، لا فاعل لكبير الأشياء ولا صغيرها إلا الله.. تعني الفاعل الحقيقي في الوجود، هو الله، وكل فاعل سواه، هو فاعل في الظاهر فقط، وفاعليته محاط بها من قبل فاعلية الله.. هذه حقيقة نهائية سرمدية، لكن يتم التفاوت في إدراكها والتحقق بها.. يقول تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ، وَالْمَلاَئِكَةُ، وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ، قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".. فشهادة الله تعالى، وشهادة الملائكة، وأولي العلم، هي شهادات مختلفة في درجاتها، ولن يجيء وقت يشهد فيه الملائكة وأولو العلم، كما يشهد الله تعالى لذاته بذاته.. فشهادة هؤلاء شهادة نسبية، بالنسبة لشهادة الله بذاته لذاته.. وكذلك علم الله، هو علم مطلق، وعِلم كل من عَلِمَ، من خلقه، هو علمٌ نسبي، ويأخذ نسبيته من علم الله المطلق. والعلم المادي التجريبي لا يقوم على إطار مرجعي له خاصية الثبات الوجودي، ولذلك هو لا يملك أن يتحدث عن القضايا الكلية، وعن الأجوبة النهائية.. العلم، مثلاً، لا يملك أن يجيب على السؤال: هل الأصل، في طبيعة الوجود، هو الخير أم الشر؟ السؤال خارج مجال العلم التجريبي، ولا يقرر فيه إلا الدين. نختم هذه الجزئية، بما جاء في كتابنا (المعرفة وطبيعة الوجود) فقد جاء فيه: "نخلص من ذلك إلى أن المعلومة العلمية البسيطة والتي تبدأ من الإدراك الحسي المباشر، هي وجه من وجوه الحقيقة - هي حق - يناسب طبيعة الوضع الذي تقوم عليه.. فإذا أعطانا الإدراك الحسي أن الطاولة التي أكتب عليها الآن هي صلبة، فهذا وجه للحقيقة في هذا المستوى، وهو وجه له قيمته المعرفية والعملية، بل لا يمكن العبور إلى الوجوه الأخرى إلا من خلاله.. فإذا أعطانا العلم أن الطاولة ليست صلبة بالصورة التي تصورها لنا حواسنا، وأنها مكونة من ذرات متباعدة، وأن الذرة نفسها مكونة من أجزاء، فهذا وجه للحقيقة أكمل من سابقه، وأقرب للمعرفة، به انتقلنا درجة في سلم المعرفة، وهي لن تكون الدرجة الأخيرة بأي حال من الأحوال.. وهذا الوجه الثاني يجعل الوجه الأول بالنسبة له باطلاً، في الحكم العام في إطار النسبية، ولكنه لا ينفي حقيقة النسبية في إطاره.. فالخط المستقيم مثلاً حق، يناسب الأبعاد التي نتعامل معها في حياتنا اليومية، وكذلك الحال بالنسبة لكل هندسة اقليدس، فهي في إطارها حق يناسب هذا الإطار، ولكن بالنسبة للإطار العام يمكن أن يكون هنالك ما هو أدق منها.. وهكذا الحال بالنسبة لكل المعرفة التي تقوم على الحقائق العلمية، فهي حق في إطارها، وهي نسبية وقابلة للتغيّر عندما نخرج إلى إطارات أوسع أو أدق، وهي في هذا المستوى، تخدم قضية المعرفة خدمة جليلة، وإنما يجئ الخطأ من نقلنا لها إلى غير مجالها، أو زعمنا بأنها حقيقة نهائية، ولا يوجد غيرها، أو أن المنهج الذي قادنا للوصول إليها هو المنهج الوحيد الصحيح الذي يمكن أن نطبقه في جميع مجالات المعرفة، كما يزعم بعض أنصار العلم الحديث من المتعصبين له.. فللعلم الحديث ومنهجه مجاله الذي لا يمكن أن يتعداه إلى سواه، وهو مجال الظواهر الطبيعية في الأكوان، وفي الإنسان وكيفيات سلوكها.. ومن المؤكد أن هذا المجال ليس هو مجال المعرفة الوحيد والنهائي.. بل إن المعرفة تكاد تكون، جميعها، تقع وراء هذا المجال، ولكن لا مجال للدخول إليها إلا عبره، ومن هنا تأتي أهميته".. انتهى الاقتباس. التجريب: لعل وثوقية المنهج العلمي، عند أصحابه، تأتي من أنه تجريبي، على اعتبار أن التجربة أمر حاسم، في صحة ما يتوصل إليه من خلالها.. فالمنهج العلمي، يقوم على خطوات، يلخصها جان فوارسيه في ثلاث نقاط أساسية، هي: 1. وقائع موطدة "بالملاحظة" يجب أن تستخدم كنقطة انطلاق للفكرة. 2. على الفكرة أن تتخيل محاولة تفسيرية "الفرضية". 3. هذا التفسير يجب أن يراقب ويؤيد من جانب وقائع أخرى لم تكن متدبرة بادئ الأمر (التجربة).. ثلاث خطوات هي: الملاحظة، الفرضية، والتجربة.. ولأن المنهج العلمي يقوم بصورة أساسية على الملاحظة والتجربة، اعتبرتا عند كثير من العلماء، أنهما المنهج نفسه.. خصوصاً التجربة، فهي السمة الأساسية التي تميز المنهج العلمي عن سواه. "والملاحظة والتجربة تكمل إحداهما الأخرى، فالملاحظة تشير إلى الوقائع، والتجربة تمدنا بالمعلومات عن تلك الوقائع، واكتساب المعلومات يقتضي القيام بعملية موازنة وإصدار حكم، وهذه إنما تستند إلى معيار ومحك ليس، في ذاته، إلا واقعة أخرى قد هيئت على نحو يضبط الحكم ويكسب الخبرة.. والمنهج التجريبي الذي يصطنع الملاحظة والتجربة إنما هو فن، هو فن الحصول على وقائع دقيقة عن طريق تلك الإجراءات التجريبية، كما هو فن استخدام تلك الوقائع عن طريق الاستدلال التجريبي. ويقاس كل تقدم في العلوم التجريبية بدرجة إتقان ذلك الفن لوسائله التي تستخدمها تلك العلوم في بحوثها.. وكلما ظهرت وسيلة جديدة من وسائل التجريب، تقدمت العلوم في المسائل التي تطبق فيها تلك الوسيلة.. وبعبارة موجزة، تضرب الحقائق العلمية الكبرى بجذورها في البحث التجريبي الذي هو بمثابة التربة التي تستنبت فيها تلك الحقائق".. (عن المنطق وفلسفة العلم) علي عبدالمعطي حجازي و د. سيد النفادي. "فإذا كان البحث بمثابة مشكلة يراد لها الحل، فإن الملاحظة تقوم بتحليل المشكلة، ووصفها، وصياغتها.. وتقوم التجربة باقتراح الحل وتدبير ظروفه، ثم تأتي الملاحظة، في النهاية، لتساهم في إثبات كفاءة الحل، وتقدير قيمته. أما المطلب الأخير، للمنهج العلمي، فهو النظرية، فهي الإطار الفكري الذي يربط بين الوقائع والمفاهيم والفروض والقوانين.. وهي إطار لا يعتمد ولا يصرح به إلا بعد التحقق منه بالشواهد التجريبية" – راجع كتاب (المعرفة وطبيعة الوجود). لقد انقسمت الفلسفة بين: فلسفة عقلانية، وفلسفة تجريبية، وبين فلاسفتهما اختلاف وصراع – فالبراغماتيون مثلاً، أصحاب موقف ضد العقلانية، ولهم نقد متطرف لها.. والواقع الموضوعي هو أن الجانب التجريبي، لا يلغي الجانب العقلي، والجانب العقلي لا يلغي الجانب التجريبي، وإنما يُكمل أحدهما الآخر، ولا تقوم المعرفة إلا بهما معاً. يقول التجريبيون إن التجربة هي المقياس الأساسي الذي يميز أي معرفة.. ويرد عليهم العقلانيون، بأن هذه القاعدة إما أن تكون هي نفسها معرفة أولية، حصل عليها الإنسان دون تجربة سابقة، أو هي ليست فطرية ولا ضرورية.. فإذا كانت معرفة أولية، سقطت دعوى التجريبيين، وسقط اعتراضهم على العقليين.. إذ كونها معرفة أولية يعني أن التجريبيين يؤمنون بصوابها بلا تجربة، مما يعني أنها قضية بديهية عندهم، وأن الإنسان يملك حقائق وراء علم التجربة.. وإذا كانت هذه التجربة محتاجة لتجربة سابقة، فمعنى ذلك أننا لا ندرك في بداية الأمر أن التجربة مقياس منطقي مضمون الصدق.. فكيف يمكن أن نعتمد على صحة هذا المقياس، واعتباره مقياساً بتجربته ما دامت التجربة غير مضمونة الصدق!؟ وهنالك، نقطة هامة، فيما يتعلق بالمفهوم الفلسفي التجريبي، فهو يعجز عن إثبات المعاني الكلية، لأنها لا تقوم على التجربة الخالصة.. فمثلاً، المادة كمفهوم كلي، لا تستطيع أي تجربة أن تثبته أو تكشف عنه.. فما يُدرك بالتجربة الخالصة، من المادة، إنما هو ظواهر المادة وأعراضها، وأما ذات المادة – الجوهر المادي الذي تعرضه تلك الظواهر والصفات – فأمر لا يُدرك بالحدس.. فنحن ندرك جوهر الأشياء بالعقل – ببرهان عقلي – يرتكز على المعارف العقلية الأولية.. فبالنسبة للمادة، فإن السند الوحيد لإثباتها هو معطيات العقل الأولية. والتجربة، بطبيعتها، تقوم على الإثبات، وليس على النفي، إلا في حدود نفي ما يناقض التجربة، في مجال معين.. فنحن، لا يمكن بتجربة أن نحكم باستحالة شيء ما – بمعنى عدم إمكانية وجوده – فهذا أمر لا يدخل في نطاق التجربة، ولا يمكن للتجربة أن تكشف عنه.. فالتجربة، يمكن أن تنفي وجود شيء معين، ولكن لا يمكن أن تقرر استحالة وجوده!! فالتجربة يمكن أن تثبت عدم وجود بشر في القمر، لكنها لا يمكن أن تثبت استحالة وجودهم فيه!! فوجود البشر في القمر أمر جائز.. الاستحالة، ترتبط بالمذهب العقلي، بمقتضى المعارف العقلية المستقلة عن التجربة، مثل قولنا: من المستحيل أن يكون الجزء أكبر من الكل.. أو أن يوجد مثلث له أربعة أضلاع.. وإذا سقط مفهوم الاستحالة هذا، في مجاله، تنهار جميع المعارف البشرية، إذ يصبح التناقض – أي وجود الشيء وعدمه، أو صدق القضية وكذبها، في لحظة واحدة – أمر غير مستحيل.. فعدم قيام مبدأ عدم التناقض يؤدي إلى استحالة المعرفة. ويلاحظ، أن التجربة وحدها لا تثبت مبدأ العلية أو السببية، هي تبين التتابع الزمني بين العلة والمعلول، ولكنها لا تملك أن تقرر أن العلاقة بينهما، علاقة سببية.. فالسببية مفهوم عقلي، يمكن استنتاجه من التجربة، ولكنه غير متضمن في التجربة ذاتها.. ونحن سنرجع لمفهوم السببية، لأهميته. السببية: السببية أمر أساسي، في الحياة، وفي الفكر.. فنحن إذا قمنا بفعل أي شيء، ننتظر النتيجة التي نعتقد أنها تترتب على فعلنا هذا.. وهذا في حياتنا كلها.. فنحن نفعل أو نترك الفعل لأسباب عندنا.. بل كل الأحياء، تقوم حياتهم على السببية، فهي جميعها، تتصرف في حياتها، بصورة دائمة، تصرفات تنتظر منها نتائج، فعندها، التصرف المعين، هو السبب الذي ينتظر أن يؤدي إلى النتيجة المعينة.. فلولا اعتقادنا أن الأسباب تؤدي إلى النتائج المطلوبة، لانعدم الدافع عندنا للحركة والعمل.. فنحن عندما نأكل ونشرب، نعتقد أن الطعام، يشبع حاجة أساسية عندنا، والماء يشبع حاجة أساسية عندنا، وهي حاجات تتوقف عليها حياتنا نفسها.. ونحن نعتقد ذلك، غريزياً، وبحكم التجربة، حتى لو كنا نجهل ما يفعله الماء والطعام في أجسادنا.. وهكذا الحال عند المرض، فنحن نتناول الدواء، طلباً للشفاء.. وعلى ذلك، يقوم كل شيء في سلوكنا، وفي حياتنا جميعها.. فنحن نعتقد، دائماً، أن السبب يؤدي إلى النتيجة، ولولا هذا الاعتقاد، لما تحركنا لفعل شيء مما نفعل.. فلولا أننا نعتقد أن الدواء، يقضي على المرض لما أخذناه.. فإذا فكرنا في كل شيء، نجده أنه مرتبط بموضوع السببية، وهذا في الفكر، كما في الحياة.. فالأشياء عندنا تحدث لأسباب، ولا شيء يحدث من غير سبب.. وطرف أساسي جداً، في المعرفة، هو معرفة الأسباب.. لماذا تحدث الأشياء بالصورة التي تحدث بها؟ وقد عرف هوبز الفلسفة كلها، بأنها معرفة النتائج من أسبابها، والأسباب من نتائجها.. أما لوك فقد قرر أن المبدأ السببي هو المبدأ الحقيقي للعقل. فالسببية، من المعارف الأولية، التي لا تحتاج إلى دليل، ولا تقوم على دليل، فهي عقيدة أساسية لكل معرفة.. يجادل الفلاسفة العقليون، بأن المعرفة تقوم على علاقة سببية بين بعض المعلومات، والبعض الآخر.. فكل معرفة تتولد من معرفة سابقة لها، والمعرفة السابقة تتولد من معرفة أسبق، وهكذا حتى ينتهي التسلسل إلى المعارف العقلية الأولية، التي لم تنشأ من معارف سابقة، ولذلك تعتبر هذه المعارف الأولية عندهم، هي العلل الأولى للمعرفة.. وعندهم أن المعارف الأولية تنقسم إلى طائفتين من المعارف: "إحداهما معارف ضرورية، أو بديهية، ويقصد، بالضرورة هنا، أن النفس تضطر إلى الإذعان لقضية معينة، من دون أن تطالب بدليلٍ أو برهانٍ على صحتها، بل تجد، من طبيعتها، ضرورة الإيمان بها إيماناً غنياً عن كل بينة وإثبات، كإيمانها ومعرفتها بالقضايا الآتية: "النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد وفي نفس الوقت.. الحادث لا يوجد من دون سبب.. الصفات المتضادة لا تنسجم في موضوع واحد، وفي نفس الوقت. الكل أكبر من الجزء".. فالفكر بطبيعته، يقوم، وفي كل مجال من مجالاته، على المعارف الضرورية، وهي معارف يضطر إلى الإذعان لها، من دون المطالبة بدليل أو برهان – وهذا هو الإيمان. السببية، من حيث المبدأ، من المعارف الأولية، التي لا تحتاج إلى دليل أو برهان.. السبب يؤدي إلى نتيجة، والحدث لا يتم من غير مسبب.. هذه مسلمة عند العقل، لا تحتاج إلى برهان، فهي من المعارف الأولية.. كل إنسان، يعرف بداهةً، لكل سبب مسبب، ولكل سبب نتيجة، هو يدرك هذا بصورة تلقائية.. فبمجرد ذكر السبب ينتقل الذهن تلقائياً، وبحكم طبيعته إلى التفكير في النتيجة، والعكس صحيح.. ولأن الأمر بكل هذا الوضوح، يمكن تعريف السبب بأنه الموضوع الذي يقتضيه موضوع آخر، ويقترن به.. ولا تخرج تعريفات القواميس اللغوية، عن هذا التعريف.. فمثلاً قاموس بولدوين الفلسفي يقدم ثلاثة تعريفات أساسية للسببية هي: " 1. السببية هي الرابطة الضرورية للحوادث في سلسلة زمنية. 2. فكرة السببية هي كل ما ينشأ في الفكر أو التصور عن عملية تحدث كنتيجة لعملية أخرى. 3. إن السبب والنتيجة مصطلحان متلازمان يشيران إلى شيئين أو جانبين أو مظهرين متميزين للحقيقة، وهما مرتبطان كل منهما بالآخر بحيث إذا توقف الأول عن الوجود يصبح الثاني غير نافذ المفعول بعده في التو واللحظة. وإذا سرى مفعول الأول يتم وجود الثاني في التو واللحظة. ". يفرق بعض الفلاسفة بين العلة المادية والعلة الفاعلية.. فالعلة المادية مثل قولنا: الخشب هو علة وجود الطاولة.. والعلة الفاعلية مثل قولنا: أن النجار هو علة وجود الطاولة.. ونحن هنا نتحدث عن العلة الفاعلية، فنستخدم سبب وعلة، بمعنى واحد. خلاصة ما نريد أن نصل إليه هنا، هو أن مبدأ السببية، بالمعنى الذي ذكرناه، هو من المبادئ العقلية الضرورية التي لا تحتاج إلى برهان أو دليل.. فالإنسان بطبيعته، يدرك بداهة، أن لكل حادث سبباً لحدوثه، والإنسان في حياته يسعى لمعرفة الأسباب التي تؤدي إلى الأشياء التي يلتقي بها، وهو في كل حركاته وسكناته، يفعل أو يترك، وفقاً لتصوره للأسباب والنتائج. وارتباط مفهوم السببية، من الجانب الآخر، جانب الفكر، هو ما يستند إليه الاستدلال في جميع مجالات التفكير الإنساني.. فالدليل، عند العقل، هو سبب صحة المُستدل عليه.. وخطأ الاستدلال يؤدي بالضرورة إلى خطأ النتيجة المُستدل عليها. ولهذه الأهمية، الكبيرة جداً للسببية، نحن هنا نتناولها من جانب العلم.. يرى العالم والفيلسوف الهندي، براهما كانتا "أن الوظيفة الأساسية للعلم، هي اكتشاف العلاقات السببية لظواهر هذا العالم".. ويقول مارجينو: "إن مبدأ السببية، في الحقيقة، أحد الشروط الميتافيزيقية الضرورية لقيام النظرية الطبيعية".. وهذا أمر عليه اتفاق عام، بين الفلاسفة، والعلماء، وفلاسفة العلم.. هنالك من يعارض مفهوم السببية، ومنهم برتراند رسل.. وعلى كلٍ، حدث تحولٌ كبير، في مفهوم السببية، نتيجة إلى التحول من الفيزياء الكلاسيكية – فيزياء نيوتن – إلى الفيزياء الحديثة.. والتحول الأساسي، هو تجاوز الحتمية السببية، فلم يعد أحد من العلماء يقول بها اليوم. وعلى مبدأ السببية، تتوقف القدرة على التنبؤ.. والتنبؤ هو من أهم وظائف العلم.. ووظائف العلم هي: الوصف، التفسير، التنبؤ، والتحكم.. والتنبؤ عندهم، يعني: إذا كان الموقف السابق معروفاً إذن لأمكن التنبؤ بالحادث!! ولمّا كانت قضيتنا هي الفكر، وما يؤدي إليه من معرفة، فسوف نحصر أنفسنا في القضية التالية: هل العلم يمكن أن يعرف الأسباب النهائية، للأشياء التي يتناولها؟ في العلم الكلاسيكي، الذي قام عليه عصر التنوير، الإجابة على السؤال هي: نعم!! العلم يعرف الأسباب النهائية للأشياء.. وهذا، أمر لا يقول به أحد اليوم!! العلم يجيب فقط على (كيف) يحدث ما حدث، ولكنه لا يملك أن يجيب على (لماذا) يحدث ما حدث.. فالأسباب الظاهرية في جميع صورها لا تشكل إجابة نهائية، فكل سبب هنالك أسباب أخرى تسبقه، وهذا ما سماه تايلور "الارتداد اللامحدود".. فهو يقول: "إن عيوب المقولة السببية، باعتبارها مبدأً تفسيرياً، تكمــن في أنها تقــودنا إلى الارتــداد اللامحــدود Indefinite Regress""، والارتداد اللامحدود يعني، ببساطة، أنه إذا توصلنا إلى سبب ظاهرة، فمعنى هذا أن هنالك سبب آخر يسبقه إلى ما لا نهاية".. وفي الرد على تايلور يقول السيد نفادي: "وقد يكون لاعتراض تايلور وجاهته من الناحية المنطقية، ولكن على المستوى الوجودي الواقعي، فإنني أستطيع أن أسوق عليه الردود الثلاثة الآتية".. ونحن يهمنا من تلكم الردود، الرد الأول والذي جاء فيه "أولاً: إننا لا نبحث في عالم الوجود الواقعي عن الأسباب النهائية مطلقاً، إنما كل ما نريد التوصل إليه هو الأسباب الثانية، أو ما يسمى بالأسباب المباشرة لحدوث ظاهرة ما، سواء كانت مثل هذه الأسباب بالمعنى الأصغر لها أو بالمعنى الأكبر الذي ذكره موي".. إذا أردنا المعرفة، لا بد لنا من البحث عن الأسباب النهائية، والأسباب المباشرة، معاً.. والأسباب النهائية هي الأهم، لأنها الأسباب الحقيقية، ولكن مجالها ليس هو العلم المادي التجريبي.. فالعلم المادي يبحث في الأسباب المباشرة – كيف تحدث الأشياء.. وهذا ما لا خلاف حوله بين العلماء.. لا أحد يستطيع أن يقول أن العلم يبحث عن الأسباب النهائية. لكن هل الأسباب المباشرة، التي يبحث فيها العلم، يمكن أن يصل فيها لنتيجة حاسمة ونهائية.. هل الأسباب العلمية في هذا الإطار، أسباب حتمية، إذا حدثت لا بد أن تحدث النتيجة؟ هذا ما كان عليه العلم الكلاسيكي، أما اليوم فلا أحد يقول بالحتمية السببية.. لقد أدى التطور في علوم القرن العشرين، خصوصاً الفيزياء، إلى اهتزاز كبير في مفهوم السببية، وفي المفاهيم التقليدية بصورة عامة.. يقول فيليب فرانك، أستاذ فلسفة العلوم بجامعة كامبردج: "وإذا سألنا سؤالا صريحا هل يصلح قانون السببية في الفيزياء الذرية الحديثة أم لا يصلح؟ فإننا لا نستطيع الإجابة ببساطة بكلمة نعم أو لا. وهذا هو نفس الوضع كما لو سألنا عما إذا كانت النظرية الاقليدية (يتوازى المستقيمان إذا كانت المسافة بينهما ثابتة عند كل نقطة من نقطهما) صالحة أم غير صالحة للتطبيق في الهندسة غير الاقليدية".. وعن دور القانون السببي، في الفيزياء الحديثة، يقول فرانك: "ليس هناك قوانين نستطيع أن نتنبأ بواسطتها من أي وقائع مرئية حالية بالمواضيع المستقبلية الدقيقة للأحداث النقطية.. وبتعبير آخر ليست هنالك متغيرات حالة نستطيع أن نحافظ على قيمها الابتدائية في نطاق من حدود ضيقة معينة، ونستطيع أن نتنبأ منها بدقة بمستقبل حادث نقطي مفرد".. يقول كارناب أن القانون العلمي، هو تعبير عن الانتظام، بأكبر دقة ممكنة، فهو يقول: "تكشف لنا المشاهدات الأكثر انتظاماً في العلم عن تكرارات، أو انتظامات في العلم، فالنهار يتبع الليل دائماً، وتتعاقب الفصول بنفس الانتظام والنار تحرق دائماً، وتتساقط الأشياء عندما نتركها، وهكذا.. والقوانين العلمية ما هي إلا تقديرات تعبر عن هذا الانتظام بأكبر دقة ممكنة".. ويقول: "وفي فيزياء العصر الحالي، على الرغم من أن لميكانيكا الكم بنية سببية، إلا أن معظم الفيزيائيين وفلاسفة العلم يرفضون نعتها بالحتمية، ذلك لأنها كما يقولون، أضعف من بنية الفيزياء الكلاسيكية، لاشتمالها على قوانين أساسية هي في جوهرها احتمالية، ومن ثم فهم لا يستطيعون إعطاء صيغة تأخذ الشكل الحتمي.. إذا كانت لمقادير معينة قيم معينة، إذن لكانت لمقادير أخرى معينة قيم أخرى محددة تحديدا مطلقا، ذلك لأن القانون الإحصائي أو الاحتمالي إنما يقرر أنه إذا كانت لمقادير معينة قيم معينة إذن لكان ثمة توزيع احتمالي لقيم المقادير الأخرى. فإذا كانت بعض القوانين الأساسية للعالم احتمالية، هكذا، فلا يمكن لأطروحة أن تقوم لها قائمة. وصحيح أن معظم الفيزيائيين اليوم لا يقبلون الحتمية بالمعنى الصارم الذي عرضناه هنا، إلا أن هناك قلة قليلة لا تزال تعتقد في أن الفيزياء قد تعود إليها في يوم ما".. هذا ما قاله كارناب، أما فرانك، فيقول مثلاً: "إذا حاولنا البحث عن العلاقة السببية بشكل كامل وخالص ومطلق، فلن نستطيع العثور عليها. إذ أنها تعمل بشكل تقريبي، وفي عمليات معينة، تحدد بالزمان والمكان، وحتى هذا لا يكون إلا في حالات خصوصية فقط".. ويقول لاتاو ماكبث: "إننا نرفض الاعتقاد بان الحقائق يتعارض كل منها مع الآخر، أو تحدث دون أسباب. ربما لا نعرف سبب حادث، ولكن نعتقد في أن له سبباً، ونحاول اكتشافه".. أما دابرو فيقول: "في ضوء الاستحالة العملية لاختبار مبدأ السببية الدقيق عن طريق التجربة: ينبغي النظر إلى هذا المبدأ على اعتبار أنه عقيدة يمكن للبعض قبولها، ويمكن للبعض الآخر رفضها".. هذه مجرد نماذج لأقوال العلماء المحدثين، وأقوالهم تمثل جميع ما تبقى من العلماء.. ومن المؤكد أن الأشياء، لا تحدث بدون أسباب، ولكن من المؤكد، أن معرفة هذه الأسباب ليس مجالها العلم المادي التجريبي، فهو بطبيعته، لا يمكن له أن يعرف الأسباب النهائية، ولا يدعي ذلك.. والأسباب النهائية وحدها هي الأسباب الحقيقية!! العلم يعرف الأسباب المباشرة، وحتى هذه هو يعرفها معرفة احتمالية، وليس له فيها كلمة نهائية.. وهذا في حد ذاته، تطورٌ هائلٌ في المعرفة، حدث بفضل الله، ثم بفضل التطور في العلم الحديث.. وهذا التطور فتح الباب على مصراعيه، للبحث عن مبدأ السببية، في مجال غير مجال العلم التجريبي.. ونحن نرى أنه ليس له إلا الدين.. فموضوع السببية موضوع ضروري للمعرفة، حتى أنه في غياب معرفته، لا يمكن أن تكون هنالك معرفة حقيقية. نحن هنا، لا نقلل من قيمة العلم المادي، وإنما نضعه في موضعه، في مجال المعرفة.. فالعلم، وتطبيقاته هما أفضل ما تفضل به الله تعالى علينا، في عصر الحضارة الغربية، وقيمة العلم، ستتوكد بصورة أكبر، بكثير جداً في عصر الدين، الذي نرى أنه لا محالة هو العصر القادم، وبذلك نبشر!! الغائية: لقد رأينا موقف العلم المادي التجريبي من موضوع السببية.. وفصلنا بعض الشيء في هذا الأمر.. والآن، نريد أن نرى الموقف من الغائية.. فموضوع الغائية من أهم مواضيع الفكر، إن لم يكن أهمها على الإطلاق.. وهو أكثر ارتباطا بالطبيعة البشرية، وبالحياة البشرية العملية.. فالإنسان بحكم طبيعته، كائن (مغرض)، لا يعمل إلا لأغراض معينة عنده، يسعى إلى تحقيقها، من خلال عمله.. فالإنسان، صاحب إرادة وفكر، يعمل وفق تصورات محددة، ليصل إلى غايات معينة، وقد تكون هذه الغايات، قريبة ومباشرة، وقد تكون بعيدة.. وهو يحدد هذه الغايات، ثم يتخذ من الوسائل، ما يعتقد أنه، سيوصله إلى غاياته.. وهذا في جميع حياته. فما هو موقف العلم المادي التجريبي، والفكر الغربي عموماً، من الغائية؟ الإجابة المحددة والمباشرة، موقفه هو رفض الغائية!! ما هو السر في أن حياة الإنسان كلها تقوم على الغائية، والعلم يرفضها!؟ السر، هو أن العلم يقوم على النظرة المادية للكون.. والفكر المادي، يقوم على الصدفة وعلى الضرورة الميكانيكية في تسبيبه، وهذه لا علاقة لها بالغائية "ذلك أن منطق المادة ينكر الغائية، ذاهباً إلى أن الكون ليس سوى مادة، وبالتالي لا يمكن أن يكون في الأشياء الطبيعية أي هدف، لأن المادة لا تستطيع أن تقصد هدفاً، أو ترسم خارطة، بل تتصرف بضرورة ميكانيكية داخلية فحسب.. وبالتالي يتحتم على التفسيرات العلمية أن تقتصر على الأسباب المادية والميكانيكية فحسب".. هذه هي نظرة العلماء للغائية.. وهي نظرة، تذهب إلى أبعاد متطرفة ضد الغائية!! فمثلاً، بيكون يقول: "إن مطلب الغائية يفسد العلوم، بدلاً من أن يرقى بها".. ويقول ديكارت: "كل ضروب الغائية لا قيمة لها، في الأشياء المادية أو الطبيعة".. وتكتمل صورة إنكار الغائية، بإنكار الفكر الغربي، لما وراء الطبيعة، فيحصر الوجود، كله في الوجود المادي.. وهذا هو السبب الأهم، في إنكار الغائية.. فالذين يقولون بالغائية، لا يقولون أن الطبيعة تعمل وفق غايات حددتها هي، وإنما يقولون إنها تعمل وفق غايات حددتها قوة وراءها، هي التي أوجدتها وحددت لها غاياتها.. فإذا كان الفكر الغربي، والعلمي منه بالذات، ينكر ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا)، أو يزعم أن الله تعالى، أو أي شيء وراء الطبيعة، لا يفعل شيئاً في الوجود الطبيعي.. وإنما الشيء الوحيد الذي يفعل هو قوانين الطبيعة.. فالنتيجة الحتمية هي ألا تكون هنالك غائية.. فالقضية متعلقة بتصور الكون والوجود، وقد وكدنا كثيراً، أن النظرة المبدئية للوجود، تحدد كل شيء.. فعلى صحتها يصح ما هو دونها، وعلى خطئها، يقوم خطأ ما هو دونها.. يقول ستيس: "إن الإيمان بأن جميع الأحداث ترجع إلى الأسباب الطبيعية، وأن الله لا علاقة له بها – سواء اعترفنا بذلك أو لم نعترف – وأنكرناه بلساننا هو ببساطة جزء مما يسلم به العقل الحديث، فهو جزء من الصورة المخيلة عن العالم، وجزء من التراث الذي ندين به للعلم في القرن السابع عشر". كون العالم، لا يقوم على غائية، هذا يعني بالضرورة، انه لا يقوم على معنى ولا هدف.. فانعدام المعنى، نتيجة ضرورية لغياب الغائية.. يقول برتراند راسل: "بإيجاز العالم الذي يقدمه العلم لكي نؤمن به، وهو عالم يخلو من الأغراض، عالم لا معنى له".. إن إبعاد فاعلية الله في الكون، أمر يؤدي تلقائياً إلى إبعاد الغائية الكونية.. يقول ستيس في هذا الصدد: "من المسلم به أن التقليل من الإيمان بالله، يصاحبه التقليل من الإيمان بغرضية العالم، لأن الفكرتين بالطبع، ترتبطان ارتباطا وثيقاً.. فالوجود الإلهي والغرض الإلهي، فيما يبدو، يتضمن كل منهما الآخر". وإبعاد الله وفاعليته، وتغييب الغائية، يبعد أي أساس موضوعي للأخلاق الموضوعية، المبنية على رغبات إلهية، وعلى تصور غائي للكون والحياة.. فلا مجال إلا لأخلاق ذاتية، ترتبط بالمصالح الذاتية للأفراد، ولا مجال فيها لمراعاة الآخرين، خارج إطار المنافسة الدنيوية.. يفرق ولتر ستيس بين الأخلاق الموضوعية، والأخلاق الذاتية، فيقول: 1/ الموضوعية الأخلاقية هي النظرة إلى القيم الأخلاقية على أنها لا تعتمد على رغبات البشر، ومشاعرهم وآرائهم أو أية حالة ذهنية أخرى. 2/ أما النظرة الذاتية، ففيها الأخلاق تقوم على رغبات البشر ومشاعرهم وآرائهم.. ولما كانت الحضارة الغربية، تقوم بصورة مبدئية على الدنيوية، فالأخلاق فيها من غير الممكن أن تكون غير ذاتية، تقوم على المنافسة على القيم الدنيوية – المادية.. وهذه أوضح ما تتمثل في الاقتصاد. خالد الحاج عبد المحمود رفاعة الاربعاء 11 أكتوبر 2016م
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة