غير أن أكثر ما جذب انتباهي هو استناد فاطمة على الإمام محمد عبده كمرجع إصلاح قوانين الاحوال الشخصية. فلم تأخذ مأخذاً علي تلك القوانين إلا وجدت له مخرجاً حسناً من فتاوي الإمام. وهذا الذي ربما أقنع فاطمة بأن النسوية ربما كانت أقرب الينا من حبل الوريد. ولو تأملت فاطمة الأمر قليلاً لعرفت أن سماحة التقليد الشرعي السوداني، وتفتحه لحقائق المجتمع كما اختبرته هي واتحادها النسائي، إنما يعود الفضل فيه في الواقع للامام محمد عبده. وقد كتب عن فضل الإمام هذا الدكتور ج ن ج أندرسن، وتبعته بإحسان الدكتورة كارولين فلهر-لوبان المعروفة بأسم "مهيرة" بين معارفها الكثر من السودانيين. وأصل المسالة أن الإمام، الذي شَغِف بالحداثة، ورأي الأخذ منها بقوة وعافية فكرية، كان مشغولاً بترقية المحاكم الشرعية. وقد أظهر أحد تلاميذه وأحبابه، وهو الشيخ القاضي محمد شاكر، ميلاً لإصلاح تلك المحاكم وقوانينها في مصر. فسأله الامام أن يكتب له تقريراً يوصي فيه بما يعن له من سبل الإصلاح. وقد فعل بعد طواف علي المحاكم. وقد اعتمد الامام تقرير القاضي شاكر، وتوسع فيه، وأطلع عليه المسئولين ونشره عام 1900 بعنوان "تقرير اصلاح المحاكم الشرعية." وأراد الامام أن يمكن لاصلاحاته هذه في بلد بكر تحت التأسيس كالسودان لم تنهض فيه طبقة من تلك التي تخشي الإصلاح الديني وتتحفز لإطفائه. فأرسل القاضي شاكر في 1900 ليكون أول قاض للقضاة في السودان بعد قيام دولة الحكم الثنائي في 1898. واتاحت له العذرية القانونية في السودان أن يجرب اجتهادات شرعية قد يتعذر البدء بها في مصر المحروسة القديمة. فقد أصدر القاضي شاكر منشورات ما زال العمل بها سارياً وهي مما انتفعت به المرأة انتفاعاً كبيراً قضت بالتطليق للغيبة، والإعسار، والحبس، والضرار، مما تأخر الأخذ به في مصر نفسها حتي عام 1925. غفلة فاطمة عن مزايا التجديد الفقهي في التقليد الشرعي السوداني (1900-1983) ، الذي تجسد في قوانين الاحوال الشخصية، هي غفلة عامة. فالإسلاميون اهملوا التنويه به، والغزل علي منواله، لانشغالهم بأسلمة الدولة ذاتها. بل وانتكسوا عن محاسن التقليد حين جعلوا ضبط النساء والتجسس عليهن أكبر همهم خلال دولة الإنقاذ القائمة بينما كان ذلك التقليد الديني رفيقاً رقيقاً بهن. يكفي أن النساء قد صرن بفضله قاضيات شريعة بفقه ذكي لمولانا شيخ الجزولي (وقد صليت لروحه الماهر التقدمي عند زيارتي لأضرحة الختمية بحلة حمد) ، وبمصابرة جميلة لمولانا نجوي كمال فريد، أول قاضياتنا الشرعيات. وقد جففت الإنقاذ هذا المصدر بغلظة عجيبة. وقد سمعت الجزولي يقول إن النساء أدري بوجع النساء، وأقرب إلى ظلاماتهن، وإن القاضيات سيوسعن من علم الشريعة وخيرها إذا عدلن باحكام يتأدب بها المجتمع ويمتثل. ومن جهة أخري تحاشي الفكر الجمهوري هذا التقليد الشرعي مع أن أصلهما واحد وهو الحداثة الاسلامية التي ركنها وحجتها الإمام محمد عبده. وزاد الفكر الجمهوري في جفائه لهذا التقليد الشرعي بجعله هدفاً لحملات نقد وتنغيص. وقد كتبت مرة في جريدة الميدان السرية في منتصف السبعينات التمس من الجمهوريين أن يلطفوا عبارتهم في نقد القضاة مع علمي بمحنة الجمهوريين، وما نالهم من القضاة و الوعاظ في المساجد من أذي وترويع. ومغاضبة الجمهوريين لم تقع من جهة إحسان ذلك التقليد الشرعي أو إساءته بل من إرث مواجهة سياسية مع رجال الدين راجعة الي أيام الحركة الوطنية. فقد صنّف من قصروا علي أنفسهم مجاهدة الاستعمار من أمثال المرحوم محمود القضاة الشرعيين والاعيان وزعماء القبائل والطوائف بأنهم من أعوان الاستعمار. وهذا كلام جاز طويلاً غير أنه خاضع للنظر والمراجعة الآن. ويكفي أن تقرأ ما كتبه الدكتور حسن احمد ابراهيم عن السيد عبدالرحمن المهدي لكي تتشكك في صواب ذائعة ممالاة المستعمرين عن أولئك الرجال. وقد دق حكم المحكمة الشرعية بردة المرحوم محمود محمد طه، عليه الرحمة، في 1968 إسفين الخصومة بين القضاة والمرحوم واختلط حابل تطوير الشريعة بعاديات السياسة وأطوارها وبمنطويات النفوس. وقد دعتني هذه الغفلة العامة أن اتوافر علي دراسة هذا التقليد الشرعي في مظانه الكثيرة خلال أكثر من عقد من الزمان. ورأيت، خلافاً للتيارات الفكرية السودانية، التي أتيت علي ملابسات اهمالها له، أنه ذلك التقليد ربما كان أكثر عناوين الاسلام عندنا خطراً. فالدارس له يقف علي أمور كبيرة هامة. أولها خطأ الذين يقولون بأن الثقافة الاسلامية ظلت لها الهيمنة بشكل سرمدي في البلد (انظر الصندوق). فخلال العهد الاستعماري ومابعده كثيراً كان الإسلام ثقافة مغلوبة لا خطر لها في القوانين التي تحكم اقتصاد المسلمين، أو معاملاتهم، أو معادشهم. ولم يبق لها سوي حيز الاحوال الشخصية. وقد رأيت من الكُتاب عندنا من جعل من هذا الكيد الاستعماري للإسلام طبيعة للإسلام السوداني الصوفي العلماني بالفطرة الذي يتحاشي السياسة ويستثقلها. بل وتجد من جعل هذا الفصل الجزافي للإسلام من حياة أهله القاعدة الحقة للعلمانية المشتهاة. واستعجبت كيف يستقيم مثل هذا القول لبلد خرج من المهدية الي الاستعمار. فقاريء الدكتور عبدالرحمن الخليفة يجد أن من أوائل الأحكام القضائية التي صدرت في السودان المصري الإجليزي بعد زوال المهدية كان بشأن خلاف حول هل المال المستلف للعب القمار مما يسترد. فقال عبدالرحمن إنه لم يكن مثل هذا الخلاف مما تنظره المحاكم المهدوية لمفارقة ممارسة القمار ذاتها للدين. كما استعجبت لماذا يريد لنا قوم أن نعتمد الأصل في الاسلام تلك الصورة التي أرادها له الاستعمار من فصل للدين عن السياسة، لا الصورة أو الصور التي يريدها أهلها له بالحسني والموعظة الحسنة بعد تحررهم من حكم الأجانب. ولم يكن غَلب الاسلام بالاستعمار غائباً عنا في اليسار حين كنا نقول بشكل عام أننا نريد أن نسترد ثقافتنا الوطنية التي طغي الاستعمار عليها ومحاها. ثم زاغت عيوننا عن ذلك بفضل "الأزمة الفكرية في الحزب" التي إنتابت الشيوعيين منذ أوائل الستينات وحالت دونهم والنظر الراشد في أمهات مسائل التحرر من الاستعمار. وهي الأزمة الناشبة بعقل الحزب الشيوعي وخياله حتي كتابة هذه السطور . . . وباعترافه أيضاً. ولما غاب ذلك النظر استعاض اليسار عنه بجفاء عام لذكر الشريعة أو تطبيقاتها في ملابسات " حرب الديك ،سك الديك" مع الإسلاميين. ولم يكن الإسلاميون بأقل غفلة عن التقليد الشرعي السوداني. وثاني هذه الامور الخطرة التي تتصل بالتقليد الشرعي السوداني في القضائية هو ان الشريعة لم يرتج عليها بغلب الكفار الباهظ. واستثمرت حتي ضواغط المستعمرين وأقباس حداثتهم الشحيحة لتخرج بقانون للأحوال الشخصية ناضج ولتعالج مسائل الرق وغيرها بذكاء وكفاءة. وهذه المعاني الخطرة هي موضوع كتابي الذي صدر عن دار الأمين بالقاهرة في يناير الماضي وعنوانه "الشريعة والحداثة". صندوق
قل ليه ما يهدر فرحتهم: صلاة سعادة المدير وجدت في كلمة نشرها المرحوم الفاتح النور، مؤسس جريدة ودار كردفان، ليس بياناً شافياً لهوان الاسلام علي الاستعمار وحسب بل لكيف اقض هذا الهوان مضجع جمهرة المسلمين وباتوا منه علي ضعة ومذلة. وهذا العار هو ما سماه بازل ديفدسون، المؤرخ لافريقيا، ب" الخزي الخلقي للاستعمارCOLONIAL MORAL INJURY." وهو ما تتركه غربة الحاكم الدينية أو العرقية من جراح في الرعية التي فرطت في استقلالها فتمكن منها من لا تتواثق معه علي شيء ابداً ولا يستشعر مثقال ذرة مما تشعر. ففي اول عهد الاستقلال تعين السيد مكاوي سليمان اكرت مديراً لمديرية كردفان. وجاء يوم صلاة الجمعة وحضر الصلاة. وهذا ما كتبه الفاتح عن هذه الصلاة المحضورة: فقد جاء ذات يوم السيد مكاوي سليمان اكرت مدير كردفان في زي وطني يقود عربة الدولة ذات العلمين لتأدية صلاة الجمعة بمسجد الابيض العتيق. وبهر المنظر المصلين. فما زالت سطوة المدير الانجليزي نافذة علي عقلهم ونظرهم. وانتهت الصلاة. خرج سعادة المدير مكاوي والمصلون يتسابقون للتأكد من أنه سعادة المدير شخصياً. وكان عصر ذلك اليوم ومساؤه لاحديث للناس الا عن صلاة سعادة المدير. وطبعاً كل من شاهده يروي عن صلاته بمزيد من المشوقات للذين لم يحظوا برؤيته. وفي اليوم التالي السبت طلبني مولانا الشيخ الكبير محمد الامين القرشي وكان يومها قاضي شرعي مديرية كردفان. وهو رجل عظيم ومجاهد كبير في سبيل الاسلام لم يخلد ويكرم كما ينبغي (لبعض سيرته راجع كتاب الدكتور احمد عبدالرحيم نصر عن التبشير المسيحي والاسلامي في جبال النوبة). وعندما ذهبت اليه قال: قل لصاحبك المدير ما ينقطع عن صلاة الجمعة. وقل ليه صلاته امس صحت المسلمين ورفعت معنوياتهم وأحس ضعاف الايمان منهم والسذج بعظمة الاسلام بصلاته هذه. ومن واجبنا أن نسايرهم علي قدر عقولهم. قل ليه ما يهدر فرحتهم ولا يتخلف عن صلاة الجمعة أبداً. وإذا كان الوضوء صعب عليه وكان البرد شديداً يجي بس بدون وضوء (جريدة الايام 4 يناير 1988) وكان الاسلام المغلوب هو وحده العلماني. ولم تكن المسيحية كذلك لوشائجها بطاقم الإدارة الإنجليزية. فقد كان المديرون الانجليز يؤدون صلوات الأحد في الكنائس الانجليكانية المبثوثة. وقد انعقدت أواصر دينية وسياسية شتي في هذه العتبات الدينية حكي عنها القس قوين "امام" كنيسة قصر الحاكم العام فيما روى عن كتشنر وونجت. ولا يزال بيننا من يحاجج بأن الثقافة الاسلاموعربية ظلت ناشبة الاظفار في السودان ابداً بينما رأينا في النص رجل من عترة القرشي ود الزين يرخص للمدير الافندي ان يصلي بغير وضوء لرد الاعتبار للاسلام بعد ستين عاماً من هوانه علي الناس. من كتابي "فاطمة أحمد إبراهيم: عالم جميل"، دار عزة، 2012
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة