حدان للذاكرة ووجهان لها أحدهما ايجابي والآخر سلبي وهذا معروف ، فالايجابي هو تذكر اللحظات الطيبة في حياتنا والسلبي هو تذكر اللحظات المؤلمة ، والمشكلات التي يعاني الكثيرون منها هي فكرة عدم قدرة عقولهم على تجنيب الألم ، أي عزله كمؤثر ، نجد أن هذه القدرة متوفرة لدى البورليتاريا لتواصل مشوارها الشاق، يمكننا ان نقول أنها منحة الطبيعة لهم أو الكنز الذي يمنعهم من استمرار تأثير الألم عليهم ، وهناك أشخاص حساسون جدا ، حيث يستمر أثر الألم لفترة طويلة جدا وقد يؤدي إلى الوفاة... في قصة قصيرة أعتقد انها لأنطوان تشيخوف استمر شعور الموظف بألم لوم الذات لأنه عطس على قفا قائد عسكري متعجرف بدون قصد ورفض هذا الأخير الفصل في اعتذارات الموظف المتكررة له بالقبول أو الرفض إلى أن توفى الموظف من الشعور بالخزي ولوم الذات والشعور بالذنب . إن لعبة القصة او مفارقتها تكمن في إشكالية تجنيب الألم الناشيء عن تذكر مواقف سخيفة أو ارهاق نفسي في العمل. أغلب رجال الأعمال الناجحين لديهم قدرة تجنيب الألم من المواقف المخزية ، وهذا ما يسهل لهم عملية استمرارهم المندفع في جني الأرباح ، كذلك فإن عتاة المجرمين لديهم هذه القدرة عل تجنيب الالم ولذلك فهم لا يتورع عن اقتراف الجريمة تلو الأخرى دون الشعور بأي ذنب ، المفارقة ان القدرة على تجنيب الالم تزيد النشاط البدني ولذلك فإن أصحاب الأعمال الشاقة ينهمكون في أعمالهم إلى درجة إخلاء العقل من أي رواسب اجتماعية أو اقتصادية قابعة في الذاكرة أو تلافيف اللا وعي ويمكن هذا الفقراء من التعاطي مع حياتهم دون وجل ، ولذلك أعتقد أن الصعوبات التي تواجه القدرة على التجنيب العقلي للألم تزداد لدى الطبقة الوسطى ، ربما لأنهم في مركز اقتصادي خطر فلاهم مع البروليتاريا ولا البرجوازية العليا ، إنهم في حالة قلق دائم على المستقبل ، حساسون جدا تجاه مركزهم الاجتماعي ، أسلحتهم كلها ثقافية ، فهم المنظرون والأفندية وراسموا الخطط ومنسقوا العلاقات والتفاعلات السياسية بين باقي الطبقات ، هم العقل الفاعل والذي يحتاجهم الجميع ، فالرأسمالي يحتاج للمهندس لبناء صروحه والعامل يحتاج لذات المهندس ليقوده ويشرف عل عمله المادي ، إنهم المركز ولكنهم ليسوا بقوة الراسمالي ولا بضعف العامل ؛ إنهم بين بين . على أية حال فإن الأشخاص الذين لديهم هذه القدرة-أي القدرة على تجنيب الألم داخل العقل ومحوه عن الذاكرة-هم اكثر تقاربا مع الانشطة الحيوية ، فهم يتمتعون باللا مبالاة أو عدم الاكتراث للمواقف الصغيرة التي قد يضخمها عقل من يفتقرون إلى هذه الموهبة . نلاحظ تأثير صعوبة التجنيب على العلاقات الاجتماعية والثقافية والإدارية ، فهذه الصعوبة تؤدي إلى قلق في العلاقات الأسرية والصداقات والتجمعات الاجتماعية وتؤدي إلى توتر بين الرئيس والمرؤوس في العلاقات الإدارية وإلى صراعات لا تنتهي بين طبقة الانتلجنسيا والمثقفين على متون الصحف والكتب . أحد كبار المحامين الأمريكيين أجاب عندما سألوه عن سر نجاحه قائلا: "إذا كان المحامي يرغب في النجاح فعليه أن يترك كبرياءه في منزله قبل الدخول إلى قاعة المحكمة". وتعتبر هذه النصيحة هي جوهر إشكالية تجنيب الألم ، فالمحامي المبتدئ يصاب بعدم القدرة على تجنيب ألم المواقف التي تمر به أثناء مرافعته داخل قاعة المحكمة وباستمرار ضعف القدرة على التجنيب تنهار ثقته وتشكل المحاماة آلة فشل محققة له ، والمرأة التي تقود السيارة عليها ان تتجنب التأثيرات الوقتية من قبل شيفونية السائقين الذكور لكي تستمر في قيادتها بثقة ، والطالب الذي يمتلك قدرة تجنيب الألم قد يقوده ذلك إما إلى الفشل الذريع أو النجاح الهائل. قد تكون القدرة على التجنيب العقلي للألم هي سر سعادة الإنسان الحديث الذي يعاني من منتجات ما بعد الحداثة. 42ديسمبر2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة