لم تكن تلك أمنياته عندما ترك محجوب الريّس يورسودان . لم يكن يتوقع أن ينتهي به الحال في جامعة الجزيرة بود مدني ليعمل بها خفيراً لكلية الطب. ولم يكن يتوقع - وهو المتغزّل بحياة العزوبية - أن يترك رؤية الجميلات من بنات الثانوية اللواتي كن يبتسمن في وجهه ساعة القيلولة في طريقهن إلى منازلهن ليرافق في فترة ما من حياته إناث البعوض في ود مدني الموبوءة بالأنوفلس وأصوات الجنادب هادئة الصخب. كان محجوب عبد السلام صياداً بالوراثة في إحدى مراكب الصيد التابعة لوزارة الثروة الحيوانية في يورسودان عندما فرضت الوزارة ضرائب إلزامية على الصيادين، فكان عليهم أن يدفعوا لجابي الوزارة كل شهر مبلغاً وقدره. ورغم أن الصيد كان وفيراً إلاّ أن الصيادين لم يكونوا قادرين على بيع أسماكهم بأعلى من السعر الذي كان يطرحه السوق المركزي للأسماك وإلاّ فلن يشتري منهم أحد. فأصبح الصيادون يبيعون أسماكهم بأقل من السعر المطروح في السوق كي يتمكنوا من دفع الضرائب. وما يتبقى لهم من فتات كان عليهم أن يقتسموه مع زوجاتهم وأطفالهم. أصبح صيادو الوزارة فقراء مقننين.
في إحدى اجتماعات صيادي الوزارة تحت غالبونة* من غالبونات الميناء الزرقاء الشهيرة بصفائحها الزنكية المتعرجة والمثقوبة في جميع أرجائها، لتسمح بمرور خيوط الشمس العامودية على أرضيته الخرسانية وعلى وجوه الجالسين تحتها، ناقش محجوب ورفاقه ما استجد من أوضاعهم في الميناء، واقترحوا جمع بعض المال لشراء قوارب صيد خاصة بهم، لكنهم - بعد مرور ستة أشهر - لم يفلحوا في تحقيق ما اتفقوا عليه؛ فأسعار مراكب الصيد كانت باهظة جداً، لا سيما تلك المزوّدة بمحركات في مؤخرتها. وكانت التزاماتهم العائلية ترهقهم إلى حد أن أصبح مشروع العمل الحر مثل صيد الماء بغربالٍ رديء الصنع. كما أنّ تجار الميناء الكبار – أو "الحيتان" كما كانوا يسمونهم – لم يكونوا ليسمحوا للصيادين بأن يمتلكوا مراكب خاصة بهم. فأصبح الصيادون واقعين بين مطرقة جشع الوزارة، وسندانة احتكارية الحيتان. وكان وضع محجوب أفضل حالاً من رفاقه المتزوجين العائلين، الذين يحملون أعباء زوجاتهم وأطفالاً صغار من خلفهم، فلم تكن له التزامات تذكر غير ثمن كيلو التمباك الناشف لوالدته المسنّة، والتي كانت تقوم بتمطيره في البيت، وثمن زجاجة البيرة الرخيصة التي كان يتناولها على فترات متفاوتة وبعيدة، إلاّ أن الجميع بدون استثناء كانوا متضررين من تلك الضرائب التي يدفعونها من قوتهم وقوت أبنائهم.
* الغالبونة هي مظلة من الزنك غالباً بلا جدران جانبية
.
(عدل بواسطة هشام آدم on 11-22-2007, 09:11 AM) (عدل بواسطة هشام آدم on 11-22-2007, 09:12 AM) (عدل بواسطة هشام آدم on 11-22-2007, 11:27 AM)
11-22-2007, 09:15 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
بدأ محجوب الريّس – وهو الاسم الذي اشتهر به محجوب عبد السلام بين رفاقه من صيادي الوزارة – في التفكير بكل جدية في ترك العمل في يورسودان، والانتقال إلى مكانٍ آخر، لا سيما بعد أن سمع من بدر الدين مكاوي الخيّاط في إحدى جلسات الضومانة في نادي ديم بوليس – حيث كان يرتاد كل أسبوع تقريباً – عن توفر فرص العمل في القضارف ، وودمدني والخرطوم. وكم مرّة سمع عن ذلك من غيره، غير أنه كان يعشق يورسودان، وبيوتها الخشبية البسيطة، وأهلها البسطاء. ولم يكن يتصور نفسه في مكانٍ آخر غيرها. فقد ولد ونشأ فيها. يعرف بيوتها بيتاً بيتاً . ويحفظ شوارعها وأزقتها ونواديها وميادينها ومحلاتها. كان يعرف كل الطرقات: تلك التي تحرسها كلاب شرسة لا تفرّق بين اللص وبين العابر المسالم، وتلك المتعرّجة التي لا تستطيع حتى عربات الكارو المرور بها. ويعرف الوجوه العابرة: عواجيز المنطقة الجالسات على أفنية المنازل الخشبية، تحت الرواكيب الخيزرانية العتيقة، أو العابرات – كقوافل العير المنهكة – لشوارع المدينة الصاخبة نهاراً، وشبابها الذين يخرجون بعد صلاة العصر إلى النوادي والميادين العامة ليلعبوا كرة الطائرة، أو تنس الطاولة. ونسائها المتشحات بالسواد والقادمات دوماً – وقت الضحى - من سوق الخضار. وحتى الأطفال الذين كانوا لا يكفون عن لعب السكّج بكّج أو البلّي في ميادين يورسودان الملحية. لم يترك شبراً فيها إلاّ ووطأه بقدميه، حتى النادي الإفرنجي الذي كان يرتاده الأغنياء فقط، كان محجوب الريّس - كلما وجد في جيبه أكثر من جنيه واحد - لا يتوانى أن يدخله، ويطلب زجاجة بيرة خالية من الكحول من النوع الزهيد بما معه من نقود، مكتفياً بالنظر إلى الآخرين وهم يأكلون ويشربون أشياء لم يستطع أن ينطق أسمائها حتى!
كان يجلس في آخر طاولة ويخرج علبة التبغ المحلي من جيبه ليضعها أمامه على الطاولة، وفي كل مرة كان ينادي على صديقه أمير سيد أحمد النادل، يستعير منه القداحة ليشعل بها سيجارة يطفئ جمرتها المشتعلة بلعابٍ يجعله في طرف سبّابته، ليعود فيشعلها مرّة أخرى بعد حين. ولأنه كان يرتاد بشكل شبه شهري على النادي الإفرنجي فقد تعرّف الريّس إلى أمير، الذي يعمل في النادي منذ أن تم افتتاحه منتصف السبعينيات. وأمير هذا شاب وسيم،ساعدته وسامته هذه على اجتياز المقابلة الشخصية التي كانت إدارة النادي تجريها كل يوم أربعاء وخميس من كل أسبوع قبل افتتاح النادي بشكل رسمي.
* تعال .. اقترب قليلاً .. ما اسمك؟ - أمير سيد أحمد. * أين عملت قبل هذا؟ - كنت بائع تذاكر في سينما الشعب * كم سنة عملت هناك؟ - ربما سنتين وأربعة أشهر. * ولم تود تركه، ألا تحب عملك كبائع تذاكر؟ - المعايش جبّارة سيدي، وأنا أبحث عن فرصة أفضل. * لا بأس، يبدو أنك ستفيدنا في عملنا هنا - سيدي، بإمكاني أن أفعل أي شيء تأمرني به. * هل تتحدث الإنجليزية ؟ - لا .. سيدي، ولكن يمكنني أن أتعلم وبسرعة * تتعلّم؟ - فقط أمهلني شهراً أو شهرين، وسترى كيف أني سأتحدثها بطلاقة. * حسناً .. سنرى. سوف تستلم عملك بعد أسبوعين من الآن. وإلى ذلك الوقت حاول أن تتقن بعض الكلمات التي سوف تفيدك في عملك هنا. ولا بأس سوف تتعلّم اللغة بالممارسة شيئاً فشيئاً. - بالطبع .. بالطبع سيدي، ولكن ..! . * معلوم .. معلوم .. سوف تتقاضى ثلاث جنيهات - ثلاث جنيهات ؟ * هذا خلا الإكراميات، ولا تنس بأنه كلما أثبت كفاءة في العمل، فسوف نزيد رابتك.
كان العمل في النادي الإفرنجي حلماً يراود الكثير من الشباب الذين كانوا يتجمهرون بالمئات أمام مكتب إدارة النادي منذ ساعات الصباح الباكر، كما تتجمع الرخام حول جيفةٍ طازجة!. ولكن لم يقبل منهم إلاّ عشرة فقط. كان أمير يعتبر نفسه محظوظاً بالعمل في النادي، حيث الراحة والملبس النظيف والمتعة التي يراها بعينيه، ويسمعها بأذنيه، هذا بالإضافة إلى الراتب المغري الذي كان يتلقاه، والذي كان يعادل راتب ناظر محطة السكة الحديدية. في النادي كانت تمر عليه عشرات الوجوه التي لم يكن ليراها في عمله في كشك التذاكر بسينما الشعب، أو حتى في حيّه البسيط في "سلبونا". رجال ونساء لم يكن يتصور وجود أمثالهم في السودان قاطبة. كان أكثر روّاد النادي من الأقباط، ورجال الأعمال الذين يقرأ عنهم سكان يورسودان في الصحف اليومية أو يسمعون أسمائهم في المذياع فقط، أو على اللافتات الدعائية على أسوار الشوارع العامة. كما كان بعض روّاد النادي من الخواجات: بريطانيون وإيطاليون وصينيون وهنود. لذا كان اختيار العمّال في النادي يتم بدقة متناهية. ولم يكن الريّس ليصدّق قصص أمير الغرامية الساخنة التي يقصّها عليه لولا أنه رأى إحداهن بأمّ عينيه تغازله وتقبّله، بينما انغمس الجميع في رقصة التشاشا في إحدى الليالي الصيفية الحارة. وعرف فيما بعد أن ما يقوم به أمير إنما هو نوع من مجاملة زبائن النادي، إذ كان يُطلب منه ومن طاقم النادي إرضاء الزبائن بأي شكل لا سيما في المواسم الراكدة.
(عدل بواسطة هشام آدم on 11-22-2007, 10:18 AM) (عدل بواسطة هشام آدم on 11-22-2007, 11:30 AM)
11-22-2007, 11:25 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
كان الريّس كلّما وجد بحوزته ثمن البيرة الخالية من الكحول، ذهب إلى النادي الإفرنجي واستمتع بمشاهدة الآخرين وهم يعيشون حياتهم المخملية. كان - كلما تحصّل على ثمن البيرة الرخيصة - يفضّل الذهاب إلى النادي الإفرنجي على الذهاب إلى إحدى نوادي الحي البائسة أو السينما، فما يشاهده في النادي كان أكثر إثارة له مما يشاهده على شاشة السينما، وأكثر واقعية. وكان يقول دائماً: "النادي الإفرنجي سينما حقيقية."
ذات يوم بعد انتهائه من عمله، جلس الريّس فوق إحدى صناديق الشحن الخشبية المختومة بختم التصدير باهت الزرقة، وأخرج ما في جيبه من نقود متآكلة كما ولو كانت قد تعرضت إلى هجوم سربٍ من النمل الأبيض، وبدأ يعدّها. فلما وجدها تكفي لزجاجة البيرة، أعاد طي النقود، وقبّلها وهو يرفع بصره إلى السماء في امتنان. وضع الريّس نقوده مرّة أخرى في جيب قميصه المبتل بعرق ورطوبة الميناء، وتوجّه إلى النادي الإفرنجي من فوره. دخل، وجلس حيث اعتاد أن يجلس كل مرّة.
كان أمير منهمكاً في تلميع الكؤوس، ووضعها بشكل أنيق على الرفوف، عندما رفع رأسه مبتسماً للريّس وحيّاه بإيماءة سريعة. ابتسم الريّس وهو يتابع حركة الناس. لاحظ أن النادي مزيّن ببالونات ملوّنة، وهنالك في الركن القصي من خشبة المسرح التي يوضع عليها جهاز الدي جي. رجال بيوني فورمات زرقاء يعملون على تركيب أجهزة يراها لأول مرة، ولم يكن يعلم فيم سوف تستخدم. ولكنه لم يكن يرهق نفسه كثيراً لمعرفة كل ما يمر عليه. فهو يعلم أنه سوف يعرف لاحقاً عندما يرخي الليل ستائره. فعندما تطفأ الأنوار في النادي الإفرنجي كان الريّس ير بوضوح أكثر، كالقطط !! – هكذا كان يقول دائماً عن نفسه -.
11-22-2007, 11:34 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
ظلّ الريّس – بعد أن سحب إليه زجاجة البيرة وأخرج علبة التبغ المحلي – يراقب ما يحدث بكل اهتمام ، وكلما سمع صوتاً التفت إليه، وكأنه لا يريّد أن يفوّت على نفسه أي مشهد قد لا يتكرر مرّة أخرى. أو كأنه يريد أن يستمتع بأكبر قدر من وقته قبل أن تنتهي زجاج البيرة ويضطر للخروج؛ إذ لم يكن يسمح لأحد بالجلوس دون أن يطلب مشروباً أو وجبة. وكم تمنى أن لو كان يملك أكثر من عينين في رأسه! وما هي إلاّ بضع دقائق حتى امتلأ النادي بالناس: رجال أنيقون، ونساء حسناوات يرتدين فساتين ملوّنة ومزركشة، حتى شعورهن كانت ملّونة، تساقطت على نحورهن القلائد الذهبية التي تعطي بريقاً كلما تقاطعت مع ضوء الإسبوت لايت المنبعث من السقف المستعار الممتلئ بالأنوار الملونة هي الأخرى. هنا حتى السُمرة لها رونق آخر غير سُمرة النساء العابرات في الأحياء البسيطة، فتلك سُمرة متعَبة وكالحة، بينما سمرة نساء النادي الإفرنجي سمرة تملك سر العلاقة بين الضوء والفراشات المنتحرة على أعتابها. وكان كلما سئل الريّس عن اللون الذي يعشقه، يتردد قبل أن يجيب : "السُمرة نصف الجمال طبعاً !!" وهو الذي كان لفترة طويلة يؤمن بأن بياض البشرة علامة من علامات رضا الله عن عبده.
11-22-2007, 11:35 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
وعندما كانت تشتعل النوافير المائية والجدول الاصطناعي يتعجب– في كل مرّة – من أين يأتي وأين يصب، ولم ينل متعة اكتشاف ذلك بمفرده، بل أخبره أمير. " تأتي هذه المياه من حوض كبير موضوعٍ في جانبٍ ما من المطبخ، وثمة فتحات صغيرة في المجرى يدخل منها الماء من ناحية والهواء من ناحية أخرى فيحدث نوع من الضغط الذي يجعل عملية تولّد الماء متكررة" لم يكن الريّس يهتم كثيراً لنظرات البعض التي كانت ترمقه بين الحين والآخر. نظرات وكأنها تتساءل في استياء: ما الذي أتى بهذا الرجل إلى هنا؟ أو: كيف سمح لهذا الشخص بالدخول بهذه الهيئة؟ لم يكن يكترث لها لأنه يعتبر نفسه جاء من أجل الفرجة عليهم. كان يعتبر نفسه وكأنه على إحدى مقاعد السينما.
11-24-2007, 06:26 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
عندما دخلت المراهقة الحسناء صالة النادي ذات الإضاءة الخافتة، وأضواء الإسبوت لايت ترمي بأطراف أصابعها الملوّنة على شعرها الذي لم يُعرف لونه على وجه التحديد، ومشيتها الواثقة التي تقطر أنوثة مع كل خطوة تخطوها على أرضية الصالة الأبلكاشية، وفستانها الضيّق الذي يبرز تكويرة أردافها. تذكّر حورية البحر التي طالما سمع عنها في قصص الصيّادين القدماء؛ لم يصدّق نفسه، وهو ينظر إليها في حين بدت مبتسمة للحضور الذين وقفوا في صفين متوازيين. بدأ الجميع يقبّلون يدها التي تشبه قطعة الجيلاتين الغضّة وهي تمدّها بكبرياء وابتسامة ملوكية، حتى توقفت في مقدمة الطاولة الاحتفالية. عندها توجّه أمير نحوها مسرعاً ليناولها بكل أدب جمّ كأساً من الشيفاز المخفّف بالثلج. ولا ينس الريّس ابتسامتها له وهي تتناول منه الكأس في امتنان. ظلّ يراقبها أنّى اتجهت، وكلّما حال بينه وبينها أحدهم، ألصق مؤخرته على المقعد وتحرّك مرّة لليمين ومرّة لليسار. كان وكأنه لم ير امرأة قط. شعر الريّس بشيء بارد يسري في أوصاله عندما رآها مبتسمة. ورغم أنها لم تره – لأنه كان في موقع مظلم في آخر الصالة - إلاّ أنه كان يشعر بدغدغة في صدره كلما التفتت برأسها نحوه. ولم يصدّق نفسه عندما مرّ أمير بجواره مسرعاً، فتلقّفه :
* تعال أخبرني من تكون تلك الفاتنة؟ - (ضاحكاً) لا يجدر بك إلا أن تنظر إليها من مكانك هذا فقط. * أيها المخبول، وهل قلت لك أنني أريد أن أتقدم لخبطتها؟ - هذه يا عزيزي فتاة إيطالية * إيطالية؟ إنها بالغة الجمال، ترى كم عمرها فهي تبدو صغيرة للغاية؟ - لا أدري بالتحديد، ولكنها على ما يبدو لم تتجاوز الثالثة عشر من عمرها. ورغم أنها إيطالية إلا أنها تتقن العربية أفضل مني ومنك * ما اسمها؟ - أوديت. * ماذا ؟ - ألم تسمع؟ قلت لك "أوديت" * يا أخي رغم جمال هؤلاء الخواجات إلا أنهم يستخدمون أسماء غريبة وصعبة! ما هذا الاسم الذي يشبه مسميات أدوية الملاريا؟!!
11-24-2007, 06:36 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
يواصل أمير في عمله، وهو يبتسم لقفشات الريّس التي يعرفها جيداً، بينما عاد الريّس لمتابعة الشيرازية التي أسرته منذ الوهلة الأولى. كانت ترتدي فستاناً بلا أكمام، ونهداها البارزتان تكادان أن تندلقا من تكويرةٍ طالما تعجّب فيهما الريّس وهو يمصمص شفاهه ويقول: "من أي طينة يُخلق هؤلاء؟." كان أكثر ما يدهشه هو ابتسامتها الساحرة ذات الكبرياء الواضح والتي لا تفارق وجهها أبداً. كانت ذات ملامح جميلة وهادئة جداً، تضع في منتصف فستانها من الخلف، وردة قماشية حمراء كبيرة، تنسدل من تحتها قطعة مخملية كالذيل، تجرها ورائها كلما تحركت. كانت تشبه أميرات الأحلام. وتهافت الجميع للسلام عليها وتقبيل أطراف أناملها، كان كلّما فعلها أحدهم، شعر بشيءٍ ما يوخزه، لم يعرف ما إذا كانت غيرة أم حسد. ظلّ الريّس على حالته تلك حتى انتهت زجاجة البيرة الرخيصة، ولم يفِ أمير بوعده له بزجاجة بيرة مجانية أخرى، فاضطر لمغادرة المكان مؤملاً نفسه بالعودة في الشهر القادم.
11-24-2007, 07:52 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
يخرج؛ فتنخفض أصوات الموسيقى في أذنيه، وتختفي الأضواء الملونة في عينيه، ويتركهما خلفه وكأنه خارج من الجنة إلى الدنيا، أو من الدنيا إلى الجحيم. متراقصاً على أنغام الموسيقى التي تبدأ بالذوبان في أذنيه كلّما ابتعد. يضرب كفاً بكف وهو يركل حجارة الطريق نادباً حظه العاثر متسائلاً: أين سمعت هذه العبارة "المال روث الشيطان"؟ ومن يا ترى هذا الشيطان الذي زرع في رؤوسنا هذه الخزعبلات؟ وفي كل مرّة كان يتنهد بصوتٍ عالٍ وهو يقول: "إإإإإيه .. متناقضات!"
11-24-2007, 08:05 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
وفي طريقه إلى المنزل، يشير إلى المركبات العابرة لتقلّه في طريقها إلى أية نقطة أبعد من مكانه. تتوقف سيارة (بوكس) فيركض ليرمي نفسه داخل حوضها الخلفي قبل أن تتوقف تماماً، ويجلس مع آخرين. آخرون يحملون ملامح أقرب إلى ملامحه، يشعر إلى جوارهم بأنه أكثر تميّزاً، ربما لأنه يحمل في داخله إردبّات سعادة لا يحملونها، وقد لا يستشعرونها فيما تبقى من حياتهم. يتكلمون عن أشياء يعرفها ويفهمها، أشياء يسمعها كل يوم، وربما كانت متكررة كما بقية الأشياء في حياته التي لا يتغّير فيها شيء غير التواريخ : أزمة الديزل التي أدت إلى توقف الشاحنات ناقلة البضائع وبالتالي انعدام بعض المواد الأساسية كالزيت والسكر والبصل وبعض الخضراوات، حادثة انقلاب باص الركاب الإكسبرس على طريق العقبة ووفاة أربعة أشخاص إضافة إلى السائق، قطوعات الكهرباء وما تسببه في الصيف من أزمات حادة وتضرر الناس على إثر ذلك، الزيادة الملحوظة للبعوض وحشرات الصيف. موضوعات يألفها الريّس أكثر من تلك التي يسمعها في النادي الإفرنجي.
11-24-2007, 08:12 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
أناس تضحكهم أشياء بسيطة وربما تافهة، يتندرون على أنفسهم وعلى ما يجري من حولهم بكل سخرية. تكلّموا عن حفلة العرس التي انقطع فيها التيار الكهربائي لأكثر من نصف ساعة، وكيف أن الحضور دهشوا - بعد عودة الكهرباء - عندما لم يجدوا للعروسين أي أثر. قال البعض – سراً – أن العروس من عائلة محافظة جداً، ولم يكن يسمح لها أن تنكشف على الرجال، وقيل أن العريس كان قد أكثر من الشراب وأنه كان متلهفاً لإنهاء الحفل لأسباب يقدّرها المتزوجون حديثاً. وقال البعض الآخر أن العروس كانت مستاءة من عدد السكارى في الحفل. بينما ذهب آخرون إلى أن انقطاع الكهرباء كان مدبّراً من قبل ذوي العريس الذين أرادوا التهرّب من عشاء المدعوين، إذ فاق عددهم حد توقعاتهم وإمكانياتهم، غير أن جميع الروايات اتفقت على أن انقطاع الكهرباء كان حلاً سماوياً خلاقاً دون شك.
11-24-2007, 09:29 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
في الطريق، يضرب الريّس بيده على جانب البوكس ليخفف من سرعته، فيسارع بالقفز قبل أن يتوقف تماماً ، ويلوّح للآخرين مودعاً إياهم، بينما تنطلق السيارة مرّة أخرى.
في يورسودان يكفي أن تلتقي بالناس في مركبة عامة ليتولّد نوع من الإلفة بينك وبينهم. لا يهم إن كنت تعرفهم من قبل أو لا، إذ يمكن لأي شخص أن يشارك الآخرين حديثهم حتى وإن كان قد انضم إلى الجلسة للتو. أهل يورسودان البسطاء، بسطاء في كل شيء حتى في أحاديثهم وفي علاقاتهم. وهم لا يحبون الذين يتعالون عليهم. من ملامح الناس العابرة صباحاً إلى كل مكان تعرف تفاصيل الطقس الحياتية. وحركة الأقدام لا تخف وطأتها على الأرض إلاّ في موعد المسلسل المسائي، وفيما عدا ذلك فيورسودان مدينة حيّة وتعج بالحركة. وعندما تخف حركة أقدام البشر، تبدأ الكلاب نوبتها الليلة، فتتعالى أصوات النباح في كل مكان. قلّة من الناس هم من لا يملكون كلباً أو يشتركون مع جار ملاصق نباح كلبهم وحراسته الليلة. الإضاءات الخافتة داخل البيوت والمنبعثة من فوانيس زيتية بدائية تجعل الشوارع أكثر عتمة، بينما تتعالى أصوات ضربات الطار في زاوية الطريقة القادرية لتكوّن مع نباح الكلاب جوقة مسائية أصبحت معتادة لأهل ديم بوليس. أسوار الزاوية وبابها الزنكي المضاء بأنوار خضراء تزيّن الحي دون أن تزوّد المارة بالضوء الكافي المخفِف للعتمة والظلام، كل ذلك ذكّره بأن اليوم هو يوم الاثنين دون شك. يمر عبر ميدان الحي المليء بالحصوات الصغيرة المتناثرة، وحفر السكّج بكّج والبلّي المصنوعة بيد الأطفال دون أن تسترعي انتباهه القصائد النبوية التي تتلى، ودون أن يهشّ نباح الكلاب عن أذنيه.
11-24-2007, 10:28 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
كان الريّس يحس بسعادة تغمره وتشعره بأنه على وشك الطيران، وهو يتقافز بين الحفر الرملية التي تملأ ميدان دِقنة، ملوّحاً بيديه الاثنتين في الهواء كأنه يجرّب الطيران الأمر الذي كان يثير فضول الكلاب ونباحها. كان الظلام والوقت المتأخر ما يغريه بأن يتراقص على الأنغام التي ما زال يتذكر طعم إيقاعها جيداً، ويعيد تعبئتها في كل مرّة، تماماً كآلة البيانولا. الكلاب والمدّاحون والريّس كانوا هم مصدر الإزعاج الوحيد للحي النائم بسلام، متدثرين برطوبة الصيف المعتادة والبعوض.
11-24-2007, 10:30 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
عندما اقترب من منزله، بدأ في اكتساب بعض الاتزان والهدوء، ورسم كروكياً لملامح جادة نوعاً ما. يرفع يديه، ليُسقط مزلاج الباب بهدوء وحذر خشية أن يوقظ أمه التي تنام في فناء المنزل.
- أخيراً أتيت؟ * أما زلتِ مستيقظة يا أمي، أم أن صوت الباب هو الذي أيقظكِ؟ - وكيف لي أن أنام قبل أن أتأكد بأنك عدت سالماً.. ألم أقل لك ألا تكثر من السهر بالخارج؟ رفاقك الذي في مثل سنك متزوجون ويحملون مسؤوليات بينما أنت ما تزال طائشاً ولا تريد أن تفرحني بزواجك بعد.
11-24-2007, 10:44 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
يواصل الريّس إحكام إغلاق الباب بكل هدوء دون أن يردّ على اسطوانة والدته التي اعتاد على سماعها في كل ليلة يتأخر فيها خارج المنزل. كانت أمه تعتبر هذه النصائح كالمعوذتين قبل النوم، بل كانت تتحين الفرصة لتتلو على مسامعه "نهج البردة" في كل مرّة تجد فرصة مواتية لذلك، معيدة عليه جملتها المستنسخة التي لا تفتأ تقولها له "شهاب الدين أسوأ من أخيه" لم يكن يعرف سراً لهذه الجملة المتلازمة التي تصر نفرين على ترديدها دائماً. يسحب الريّس بقدمه اليسرى طوباً قريباً ويثبته أسفل الباب ، ويدخل إلى الفرندة ويخرج حاملاً سريره بيديه، ويعود ليضع عليه مرتبة من الإسفنج ووسادة تشبه إلى حدٍ كبير ورق الباسطة الناشفة. يقف برتابة ممسكاً بملاءة ينفّض بها بعض الغبار عن المرتبة الإسفنجية. أمّه التي كانت تبحث في نقاشها معه عن خاصرة ضعيفة تكسر فيها قناعته بالعزوبية، كانت فقط تحلم بأن تراه متزوجاً كبقية أصدقائه. وبين كل كلمة وأختها كانت تبصق ماء التمباك الآسّن من فمها على علبة "حليب نيدو" مملوءة بالتراب إلى منتصفها. وتعيد وضع العلبة تحت سريرها وهي تغمغم بكلمات لم يعرف ما إذا كانت دعوات أم لعنات. في طول سنواته الست والعشرين، لم ير أمّه لحظة تغيير تراب علبة حليب النيدو، وعجز عن رصد تلك اللحظة النادرة جداً، غير أنه دائماً ما يجد العلبة بتراب جديد في كل مرّة. بجوار السرير الذي تنام عليه نفرين - أم محجوب الريّس - طاولة صغيرة من النوع القابل للطي وعند فردها أو طيّها تصدر صوت طقطقة، لذا يسميها البعض "طقطوقة"، عليها كأس ماء تضع عليها نفرين طقم أسنانها، وسبحة طويلة لا تفارقها أبداً.
11-25-2007, 06:41 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
يستيقظ الريّس صباحاً على صوت غرف نفرين لحوض الحمّام، وأصوات أبواق باعة الأواني المنزلية المتجولين. والتحايا الصباحية المتبادلة بين أمّه ونفيسة عبر السور المشترك الفاصل بينهما. يرفع رأسه بتثاقل ليفاجأ بأشعة الشمس تهاجم وجهه، فيقطّب حاجبيه وكأنه أحد عمال المناجم الذين يرون النور لأول مرّة منذ أيام. ولا يستغرب كثيراً عندما يرى غنماً سابلة تمدّ رأسها بفضول عبر باب المنزل الموارب. غنمٌ مشاكسة بقرنين صغيرين ناتئين كأسنان الأطفال اللبنية وضع أصحابها حول ضرعها خُرتاية قماشية بيضاء، تحاول خطف بعض الأوراق الصفراء التي تسقطها شجرة الجميّز العملاقة، تتقدم بكل ثقة أو وقاحة سببها الباب غير محكم الإغلاق. تنتبه نفرين فتلوّح لها بالمقشّة البلدية، فتولي هاربة. وقوقأة الدجاجات التي تربيها نفرين في فناء الدار دون أن يعرف لهن فائدة تذكر. هذه التفاصيل الصباحية أصبحت تفاصيل معتادة وإجبارية عند الريّس، وعند أغلب اليورسودانيين كذلك. ابتسم وهو يستشعر برودةً بين فخذيه، ويهزّ رأسه في سخط حميم "لعنة الله عليكِ". ينهض الريّس معتدلاً فوق سريره، وهو يتمطّى بعد أن ألقى تحية الصباح على أمّه التي ردّت عليه باقتضاب - معتاد أيضاً - : "الفطور جاهز في المطبخ، ولكن اغسل وجهك قبلاً."
11-25-2007, 07:13 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
صباح يورسودان أكثر ضجيجاً من أي مدينة سودانية أخرى. الكل – بعد إلقاء التحية الصباحية – ينطلقون في عجلة إلى أعمالهم: عمال الميناء، والصيّادون، وعمّال السكّة الحديدية، وطلاب المدارس، وموظفو الدوائر الحكومية، وأصحاب محلات الخضار والأقمشة، وباعة الأواني المنزلية المتجولون، وحرفيو الورش الصناعية بأفرهولاتهم الزرقاء، والعساكر ببذلاتهم الخضراء، حتى النوارس على طول امتداد رصيف الميناء الكل متوجهون إلى أعمالهم، الكلاب هي الكائنات الوحيدة التي تأوي متكاسلة إلى ظلال البيوت والأشجار والميازر بعد قضاء ليلٍ طويل في النباح والوقوف على أسوار البيوت النائمة. يجلس الريّس بعد أن اغتسل، وفرش حصيرته على الأرض، متناولاً إفطاره بطريقة ميكانيكية، بينما ما تزال ابتسامة تلك الفاتنة الإيطالية لا تغادر مخيّلته أبداً. كان كلّما تذكر تلك الابتسامة المعجونة بكبرياء من النوع المحبّب، يبتسم لوحده، وكأنها تبتسم له الآن. وما تزال مشيتها التي تشبه تهادي الأفيال الأفريقية مرسومة على ذاكرته التي حفظت كل تفاصيل تلك الليلة وكل تفاصيل تلك الحسناء، ولم يعد له مكان لاسمها، فنسيه. كان يقول: "الأسماء لا تهم، فهي رموز .. ليس إلاّ." لم يُعدِه من غيبوبته تلك إلاّ صوت تكسّر الرغيف الناشف بين أسنانه.
11-25-2007, 07:49 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
انتهى الريّس من وجبة الإفطار، وشرع يرتدي ملابسه استعداداً للخروج. وقف أمام خزانة الملابس الحديدية متقشّرة الطلاء، وبنظرة خاطفة لمح صورة أبيه غير المبروزة والمعلّقة على إحدى جدران الغرفة الكلسية. رجل فقير متأنّق في مضارب السبعين، يرتدي عمامة كبيرة جداً، ووجه صغير بائس يبدو للوهلة الأولى أنه لم يعتد على لبس العمامة أو أنه أُجبر عليها، وشلوخ غير متساوية على خديّه السمراوين، وشفاه غليظة. وفي أسفل الصورة جملة مكتوبة على خلفية بيضاء بالآلة الناسخة بالكاد تظهر حروفها: الشيخ عبد السلام محجوب الكاشف 1961م. ومات الشيخ عبد السلام بعد تاريخ التقاط الصورة بشهرين على الأكثر، كان الريس عمره حينها تسع سنوات. قال البعض: "كأنه التقط هذه الصورة لتخليد ذكراه!!" لم يكن للريّس أو أي شخص من ذريّة محجوب الكاشف (الجِد) علاقة بعائلة الكاشف الموسيقية المعروفة، رغم أنه كان يدعي هذا النسب في كثير من الأحيان. والريّس الذي لم يكن يجيد العزف على أي آلة موسيقية هو الابن الوحيد لأبيه بعد أن توفي أخوه الأكبر مكيّ عبد السلام محجوب في حادثة غرق قديمة لا يكاد يتذكر تفاصيلها. غير أنه سمع من أبيه ومن أمه روايتين منفصلتين، كوّنتا له صورة شبه متكاملة عن حادثة غرق أخيه تلك.
11-28-2007, 11:00 AM
معتصم محمد صالح
معتصم محمد صالح
تاريخ التسجيل: 07-14-2007
مجموع المشاركات: 7293
___________________ -4- مكي الذي كان أول مولود تضعه نفرين بعد مشقة وجهد بالغين كانت حريصة على تسمية مولدها الأول باسم أبيها صاحب الفضل الأول – كما كانت تذكّر زوجها دائماً – في أن يتعلّم الشيخ محجوب عبد السلام الصيّد وفي أن يمتلك أول قارب صيد في حياته، كان ذلك بعد عاصفة 1911م البحرية الشهيرة، بينما كان محجوب الريّس على اسم جده الذي اندرس ذكره في تاريخ عائلة الكاشف لسوء سيرته، فقد كان رجلاً مزواجاً، كثير الشراب. وكان رغم زيجاته المتعددة لا ينجب إلاّ أطفالاً ميتين، كان عبد السلام الوحيد الذي كُتبت له الحياة من بين أبنائه الذين أنجبهم وربما بلغ عددهم ثمانية أبناء بين إناث وذكور، ماتوا جميعاً ولم يتبق إلاّ عبد السلام لذا فقد كان محجوب (الجد) يحبه حباً جمّاً ويغدق عليه من عطفه ومن حنانه، لا سيما وأنه كان كثير المرض في صغره. وهذا الاهتمام والخوف البالغ هو ما جعل عبد السلام ينشأ مدللاً، ومأثوراً. ولم يُسمح له بالذهاب إلى الكُتّاب خوفاً عليه من الحسد، فلم يُشاهد يغادر المنزل منفرداً قط إلاّ بعد أن بلغ الحادية والعشرين من عمره أي بعد وفاة أبيه بسنتين تقريباً.
11-25-2007, 09:44 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -5- خرج مكي عبد السلام – حسب رواية أبيه – ذلك اليوم وقت القيلولة دون أن يبلغ أحداً عن وجهته، في حين ظنّ الجميع أنه في الجوار. "ولكن كانت تبدو عليه علامات الانزعاج" – قال الشيخ عبد السلام - ، لم يكن أحد ليتوقع نيّة مكي المسبقة في الذهاب إلى البحر، لا سيما وأن البحر لم يكن مناسباً للسباحة ذلك اليوم تحديداً. "وللبحر ساعات لا يقبل فيها مزاحاً من أحد." كان الشيخ عبد السلام منهمكاً في رقع شبكة الصيد الممزقة، عندما دخل عليه أحد صبية الحيّ لاهثاً، بعد أن جّر سلك الباب بقوة:
* عم عبد السلام .. ولدك مكي سقط في من رصيف الميناء!!
11-25-2007, 09:58 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -6- عندها ترك الشيخ عبد السلام ما كان في يديه، وركض دون أن يرتدي حذاءه – كان غالباً ما ينساه - . كان الشيخ عبد السلام يعلم أن البحر من جهة الميناء غريق جداً، إذ أنه كان معداً فقط لاستقبال السفن الضخمة، كما أن رصيف الميناء مرتفع جداً، وليس من السهل على أحد يسقط في ذلك المكان أن يتشبث بشيء، وكان يتساءل - وهو يركض حافي القدمين - ما إذا كان ولده العشريني قد ينجو رغم براعته في السباحة! ولمّا وصل إلى هناك وجد نفراً من الناس واقفين على الرصيف، بعضهم ينظر إلى الأسفل، وآخرون يتحدثون إلى بعضهم البعض، وما أن رأوا عبد السلام، حتى توقف الجميع عن الكلام. ولكنه لم يجد لولده أثراً، ما خلا فردة حذاء كانت في جانبٍ ما من الرصيف. قيل أنه غرق، وقال آخرون أن سمك قرش ضخم قد ابتلعه.
11-25-2007, 10:00 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_________________________ -7- وفي رواية نفرين، كان مكي يتشاجر مع أحدهم، عندما نادت عليه، فلم يجبها، وانطلقا إلى ناحية الميناء. كانت نفرين، معتادة على شكاوى الجيران المتكررة من مكي الذي لم يكن يرحم أبنائهم، فقد كان "مفترياً" حسب رأي الجيران، و "ذا دم حار" على رأي أصدقائه المقرّبين. ما تبقى من ذكرى مكي عبد السلام، فردة حذاءه التي عاد بها عبد السلام، وندم وإحساس متعاظم بالذنب ظلّ يرافق نفرين، حتى سنوات قريبة جداً. وربما كانت الحسنة الوحيدة لوفاته هو التفات الأبوين إلى محجوب، ورغبة أبيه في تعليمه الصيد حتى لا يعوز. وكانت نفرين تردد دائماً عندما يخرج محجوب الريّس إلى البحر "هذا البحر يحمل مني قلبين .. أحدهما داخله، والآخر فوقه .. يا ربّ سلّم، يا ربّ سلّم."
11-25-2007, 10:44 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ -8- خرج الريّس بعد أن ارتدى ملابسه متوجهاً إلى الميناء. وفي طريقه، كان يلقي التحية على الجميع. كان يشعر ببقايا سعادة ليلية إفرنجية، ما تزال واضحة في بريق عينيه. ويركض فجأة خلف دراجة ياسر الصاوي، ويمتطي خلفه :
* صباح الخير يا أبو السيك - خير اللهم أجعله خيراً .. أراك منشرحاً على غير العادة !!
وعلى بعد خطوات من الطريق المؤدية إلى الميناء يقفز الريّس من الدراجة، وهو يضربه على ظهره بطريقة مازحة : "وداعاً ". بينما يكمل الصاوي إلى منتصف المدينة، حيث يعمل مراسلاً في إحدى البنوك.
11-25-2007, 10:49 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
__________________________ -9- "أبو السِيك" لقب أطلقه عليه رفاقه في نادي ديم بوليس بعد هزيمة مُني بها في لعبة الوست. وربما كانت تلك هي الهزيمة الأندى في تاريخ النادي منذ تأسيسه، لذا فإن اللقب التصق به من يومها كما تلتصق دودة القز بأوراق التوت الأبيض. ياسر إبراهيم الصاوي – هذا هو اسمه - أحد المقرّبين للريّس، وهو شخص مرح جداً وهادئ فيما عدا لعبة الوست؛ فهو يفقد أعصابه بسرعة، وقد يُضرب عن الطعام إذا هُزم. وهو دائم الاعتقاد بأنّ ثمة مؤامرات تُحاك من ورائه، وأن شلّة النادي يشتركون جميعاً في عملية غش واسعة النطاق من أجل هزيمته لتثبيت اللقب عليه. ورغم أن أبو السيك هادئ بطبعه إلاّ أنه سهل الاستثارة. ولأن أصدقاءه يعرفون عنه ذلك، فهم يتعمّدون إثارته دائماً، فقط ليضحكوا على تأتأته في الكلام عندما يُستثار أو يغضب.
11-26-2007, 12:45 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ -10- لا أحد يستطيع أن يحدد على وجه الدقّة أين أو كيف التقى الريّس و أبو السيك لأول مرّة، غير أن أقرب الروايات إلى التصديق هو التقائهما في عراك مراهقين كانت السبب فيه أنثى وقع الريّس في غرامها، في دائرة رقص جماعية في أحد أعراسِ حي مجاور. وكان بادياً أن الفتاة أعجبت بطريقة رقصه المدروسة، وتقبّلت ابتساماته السرّية لها بابتسامات سريعة وخاطفة. وبمزاج توددي قدّم إليها وردة بائسة خلف صيوان الحفل، عندما لمحهما أحدهم، فأبلغ أخاها أبو السيك الذي تأتأ وهو يطلب من الريّس ملاقاته خارج الصيوان لتصفية حساباتهما. ويقال أنهما ظلا يتعاركان حتى بلغ منهما الجهد مبلغه. فتوقفا وانصرفا فجأة كأنهما اتفقا على مواصلة العراك في وقتٍ آخر أو ربما إلغاءه. لم يكن الريّس وقتها "الريّس"، كما لم يكن أبو السيك "أبو السيك". ولأن إيمان الصاوي كانت معتادة على مغازلات الشباب، فإنها لم تأبه كثيراً، لدرجة أنها تركت الوردة البائسة منسية في مكانٍ ما في الحفل.
11-26-2007, 01:15 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ -11- لم تكن إيمان وقتها تعشق غير متوددٍ سرّي واحد، فنان مغمور كانت قد التقت به في إحدى الأعراس، ولكنهما انفصلا بعد علاقة شهرية لأسباب مجهولة. حتى إيمان نفسها لم تكن تعرف سبباً منطقياً لهذا الانفصال، بعض الصديقات خمّنّ أن تكون وردة محجوب الريّس هي السبب في غضبه. ولكنها عرفت بعد مضي أكثر من سنة على هذا الانفصال أن علاقتها بذلك الفنان المغمور لم تكن إلا نزوة مراهقة وغير ناضجة وحسب. غير أنّ علاقة محجوب الريّس وياسر إبراهيم الصاوي توطدت أكثر لا سيما بعد اشتراكهما في نادي الكشّافة ذاته. وبسبب صداقة هذين الولدين تصادقت نفرين مكي مع فتحيّة شبانة والدة ياسر الصاوي. ولم تخل حياة إيمان من مغامرات عاطفية، كان آخرها قبل أن تنهي دراستها الثانوية، عندما تعرّفت على شاب جامعي، شاعر مثقف وسيم. لم تكن ثقافة إيهاب محمود هو ما جعلها تتعلّق به في البدء؛ إنّما وسامته، والهالة الكاريزمية التي يتمتّع بها. كما أنّها وجدت في الارتباط به، حظوة تميّزها عن قريناتها ممن كنّ يدعين الارتباط به، ورغبة كل واحدة منهن في أن تكون أثيرته وملهمته. ربما في المقابلة الخامسة أو السادسة لهما، بدأ إيهاب يناقشها حول مسألة الجنس، وعلاقة المادي بالروحي، والجسدي بالشعوري، عندما جحظت عيناها كحرباء متحفّزة، وقفزت من مكانها قبل أن يرتدّ إليه طرفه، لتصرخ في وجهه قائلة: "أي الفتيات تظنني أنت؟"، فردّ عليها ببرود: "بل أي الفتيان تظنينني أنتِ؟" وبصعوبة بالغة نجح في إقناعها بالجلوس، شريطة تغيير الموضوع:
* فهمنا المشوّه للجنس هو الذي يجعلنا نخاف حتى من مجرد نطق أو سماع الكلمة نفسها. - إيهاب .. لو سمحت لا أريد أن أسمع هذه الكلمة مرة أخرى. أرجوك لا تلفظها أمامي ثانية. وإلا سأدعك وأنصرف * حسناً .. حسناً
11-26-2007, 05:41 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
__________________________ -12- بمرور أسابيع قليلة، لم يكن صعباً على إيهاب أن يكتشف أن ثمّة مشكلة تواصل بينه وبين إيمان، وأن الفارق الثقافي بينهما كان كالنهر الراقد بلؤم بين ضفتين يشكّل حاجزاً يصعب تخطّيه، وفي أول فرصة صارحها بهذا الاكتشاف مطالباً بإنهاء العلاقة أو تحييدها. غير أنّها بغنجٍ لا يصعب على مثلها تصنّعه أقنعته بأنها سوف تفعل ما بوسعها لتتأقلم مع طريقة تفكيره. ولم يمض أسبوع واحد على هذا الوعد، حتى صارحته بفشل محاولاتها واستحالة الاستمرار. عندها ابتسم إيهاب وهو يقول: "ليس المهم لماذا تنتهي العلاقة، المهم من الذي ينهيها ! حسناً .. لكِ ذلك" ولم تستطع إخفاء دهشتها أو ربما إعجابها بفطنته التي كانت واحدة من المزايا التي تميّزه عن البقية. وانفصلا رغم احتفاظها بود محنّط لهذا الشاب الذي بهرها ببروده الواثق، ومنطقه اليقيني الذي لا يتزعزع. وكأنّه يعرف سر الأشياء، ويعرف سرّ حركتها. وما كان يُدهشها أكثر أنها لم تره مندهشاً قط، وكأنه يرى العالم بمنظار مقعّر، يتيح له رؤية ما لا يستطيع الآخرون رؤيته، أو كأنّ كلّ ما يراه ؛ رآه مسبقاً لأكثر من مرّة. لذا فإنها طلبت منه بأن يظلا صديقين، ولكنه، وبطريقته الرومانطيقية، أقنعها بعدم جدوى ذلك طالما أنّ السرّية والخفاء سيكونان القاسم المشترك بين العلاقتين. وربما كان اختفائه عن الحي هو ما ساعدها على نسيانه ولو جزئياً.
11-26-2007, 05:54 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
___________________________ -13- تتذكر إيمان تلك الجلسة الحوارية التي كانت سرّ انبهارها الأول بإيهاب عندما سألته بمكر أنثوي عن عدد الفتيات اللواتي عرفهن قبلها، فأخبرها بصراحته المعهودة أنهن لم يتجاوزن ثلاث فتيات فقط. بينما أول ما تبادر إلى ذهنها أن يكون زيراً للفتيات. كان يحكي لها عن علاقاته الغرامية الثلاث وكأنه يحكيها على لسان أشخاص يعرفهم. وأسلوبه السردي الشيّق هو ما جعلها تتغاضى عن التفاصيل الدقيقة التي كانت تأتي في السياق. "أيّهن كنتَ تحب أكثر؟" – قالتها بصوتٍ تعلوه الغيرة – إلاّ أنه لم يحدد لها شيئاً. "كل قصة لها مذاقها الخاص. وكل تجربة لها حياتها الكامنة في خصوصيتها، ولو كانت علاقتي بالأولى استمرت، فبالتأكيد لم أكن لأحب الثانية ولا الثالثة بالضرورة!" بهذا المنطق البسيط حسم لها حيرتها في كونه زيراً ينوي وضع اسمها في قائمة فتياته. تعلّمت منه كيف أن الحب حوجة وليست مجرّد رغبة أو تماثل شخصاني. كانت عندما يبدأ في حديثه عن مثلث العلاقات الإنسانية ومدى ارتباط هذه العلاقة بالجسد والروح والعقل، تدخل في دوّامة من الخجل والدهشة. لم يكن أحد ليحدثها مثل هذا الحديث. ورغم أنها كانت ترى أن كلامه كالسحر بالنسبة إليها، إلاّ أنها كانت ترفض دائماً الاستمرار فيه خشية أن تقتنع فتجد نفسها في مواجهة مع ما لم تكن قادرة على مواجهته. "إحداهن كذبت عليّ، عندما أخبرتني أنها لم تقبّل شاباً من قبل، وأنني الشاب الأول والوحيد في حياتها؛ وعندما قبّلتها أحسست أنها معتادة على ذلك!" أحسّت بنبرة الشرقي للمرة الأولى في كلامه، وهذا ما كان يشعرها بالارتياح على فترات متباعدة، لأنها كانت تخاف من كونه غريباً. ولم تنته علاقتهما حتى اقتنعت بضرورة إكمال دراستها
11-26-2007, 07:10 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ -14- دخل الريّس الميناء بحفاوة اعتيادية، وتوجّه مباشرة إلى الغالبونة التي يضع تحتها صيّادو الوزارة أمتعتهم، وحبالهم، وحقائبهم. نظر حوله، وجلس. بينما راح يجهّز شبكته بسرعة وحرفيّة. البحر يعلّم هؤلاء الصيّادين الصبر، ويربطهم بحبال أسمك من الحبال التي يستخدمونها في ربط مراكبهم، وكأنهم عائلة واحدة. الوجوه السمراء التي تكتسي بلمعان جميل تحت أشعة الشمس المنعكسة على البحر متشابهة من الوهلة الأولى، وخلف كل وجه قصة ذات طابع إنساني خاص جداً. لن تستطيع أن تفرّق – وأنت على رصيف الميناء – بين عمّال الميناء وبين الصيّادين إلاّ من خلال الغالبونات التي يجلسون تحتها، فلكل فئة غالبونة مرقّمة. وعلى الطرف النائي من الرصيف غرفة خشبية مبنية على الطراز الإنجليزي القديم بسقوف التوتياء المموجة، والنوافذ الناتئة وفي الواجهة الأمامية أعلى باب الغرفة صولجان هيرمس حديدي متآكل بفعل الرطوبة، في هذه الغرفة يتم إسعاف المصابين من عمّال الميناء وجبر كسورهم ومعالجة الحالات الطارئة والبسيطة كضربات الشمس أو الغيبوبة أو دوار البحر للعمّال والبحّارة الجدد. كل شيء في الميناء أزرق، وما بين زرّقة البحر وزرقة السماء وجوه سمراء متعرّقة تحمل في تجاعيدها غضباً صامتاً، وحلماً يرفرف كلّما نظر أحدهم إلى المدى البعيد، إلى حيث يلتقي الأزرقان. وكأن الأحلام الجميلة تخرج من بين ثنايا ذلك الخط الداكن. "ليس هناك حلم، هنالك واقع مؤجّل فقط" هذا ما كان يقوله العم صابر مراقب العمّال في الميناء، أو "الكومندة" كما كان يطلق عليه.
11-26-2007, 07:12 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_________________________ -15- العم صابر "الكومندة" أعطاه الله بسطة في الجسم، ونبرة صوت لا تزعج حتى عندما يصرخ. رجل يحمل حكمة السنوات الستين في شعره الأشيب، ويواري وسامته خلف تجاعيد وجهه المتعب. ربما ظلّ يعمل في الميناء إلى هذا العمر لأنّ خبرته لا تعوّض، كما أن جميع عمّال الميناء وحتى الصيادين كانوا يحبونه ويحترمونه، ويعتبرونه أباً لهم.
أكثرهم إهمالاً ولامبالاة، الشفيع الطاهر طبيب الميناء، رغم براعته في عمله، إلاّ أنه كان مزاجياً لدرجة تجعله يبدو غريب الأطوار. كان يرى أن مكوثه في الميناء طوال الوقت ضرب من الجنون، فلم يكن لوجوده حاجة ملحة، فأغلب الحالات يمكن لمساعده سرور أن يقوم بمعالجتها. لا سيما وأن الحالات كلها متشابهة ومتكررة. لذا فلم يُعهد عنه أنه بقي في عيادته الخشبية لأكثر من ثلاث ساعات يومياً. كان يوكِل مهام التطبيب لسرور الذي اكتسب خبرة جعلته يرتدي بالطو الأطباء في غياب الشفيع الطاهر. "لا تحتاج المسألة إلاّ للنباهة والخبرة، ليس أكثر من ذلك" هذا ما كان يقوله سرور عندما يسأله أحدهم عن سر إتقان مهنة التطبيب رغم أنه لم يكن حاصلاً على شهادة متخصصة في المجال.
11-27-2007, 06:30 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ الفصل الثالث -1- غالبونة صيادي الوزارة تحمل الرقم (6)، والوحيد الذي لا يعمل في مثل هذا الوقت هو المساعد الطبي سرور الذي أخرج مقعده، ومال به إلى جهة الحائط الخشبي، وبدأ يحرك رجليه القصيرتين بصورة عكسية، كما يفعل الأطفال المشاغبون في ساعات الهدنة، وعليّ أب شلّوفة الذي أوصى له الطبيب بالراحة لخمسة عشر يوماً بسبب إصابة في قدمه اليسرى، وصرف له عكازين حتى لا يطأ بقدمه المصابة على الأرض. ولأنه – علي أب شلّوفة - لم يعتد على الجلوس في البيت فإنه يأتي ليتسامر مع رفاقه في وقت راحتهم. بعد مرور خمس ساعات قضاها الصيّادون في عرض البحر، يمضغون فيها الصبر، ويتعاطون التمباك، يعود الجميع في شكل أفواج متعاقبة، يفرغون ما في بطون شباكهم من أسماك توقفت تماماً عن الحركة في صناديق خشبية كبيرة. لا شيء في رصيف الميناء غير الأرضية الخرسانية والصناديق الخشبية. منذ الساعات الأولى للصبح، يشهد الرصيف حركة متسارعة، وتبدأ الأصوات بالتعالي شيئاً فشيئاً وكأنها صوت صفائح قطار قديم تتعالى كلما اقتربت من إحدى المحطات المهجورة، بينما تختلط أصوات العمّال بأصوات الرافعات في تناغم مزعج ما يلبث أن يستحيل إلى حميمية مفرطة لمن ألفوا الرصيف والعمل فيه. وفي حركة لا تقل نشاطاً عن حركة العمّال – ولكن في هدوء – تبدأ أسراب النمل، التي حفرت في أرضية الرصيف الخرسانية بيوتاً لها، تسير في قوافل من صفين منتظمين كصفوف جنود حديثي عهد بالحياة العسكرية، تلتقط ما تجده في طريقها من بقايا غداء العمّال والصيادين، أو تسرق ما يمكنها سرقته من القمح الطازج والمتناثر بوفرة في مستودعات الميناء.
11-27-2007, 07:01 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ -2- الألوان هنا عامل مهم جداً يميّز بين العامِلين في الرصيف. فاللون الأزرق هو لون أفروهلات عمّال الرافعات وعمّال الميناء الذين ينقلون الصناديق من السفن إلى المستودعات، واللون الأصفر هو لون العاملين على متن السفن التجارية، واللون الأخضر هو لون مشرفي العمّال، واللون الأحمر هو لون كبار الشخصيات كالتجّار والمهندسين. بينما يظل الصيّادون بلباسهم الاعتيادي لا يميّزهم غير شباكهم المتناثرة تحت الغالبونة رقم (6)، ومناديلهم القماشية المقلّمة التي يطوونها في شكل عصابة مثلثة ويلفونها حول رؤوسهم.
11-27-2007, 07:57 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_________________________ -3- في تمام الساعة الواحدة والنصف تتوقف الرافعات، ويندر أن ترى شخصاً خارج الغالبونات، الجميع يتوقفون لتناول وجبة الغداء، يفرشون سجاداتهم البائسة، ويجلسون في حلقات أشبه بحلقات الذكر في خلوة متطرفة بلا أسوار. وبينما تغرق أصوات الآليات، تطفو على أرصفة الميناء ضحكات العمّال والصيّادين. ومن الجهة المقابلة يتقدّم علي أب شلّوفة إلى حيث يتجمهر صيّادو الوزارة، متوكئاً على عكّازيه المنتهيين بمعدن. وكّان وقعهما على أرضية الميناء الخرسانية الملتهبة وقع سنابك خيلٍ عربية أصيلة. تبسّم الصيّادون وهم ينظرون إليه قادماً بابتسامته المعهودة: "ألا تدعونني للغداء معكم .. بخلاء!!" ومن المؤكّد أن تهدّل شفته السفلى المصابة بالحُمرة بعد اهتراء الخط اللحمي الصغير في المنتصف بفعل التمباك كان السبب في تسميته بأب شلّوفة. كان الريّس عندها يحاول فتح علبة الساردين التي توزّع مجاناً للعاملين في الميناء، بينما وقف البعض منادين على سرور المساعد الطبي ليشاركهم وجبة الغداء وهو ما زال متكئاً على مقعده بذات الطريقة الطفولية، فيرفع يديه لهم في امتنان، فالواقع أن طبيب الميناء ومساعده لهم وجبة خاصة.
11-27-2007, 09:27 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -4- تحت كل غالبونة يجلس نفر من الناس موزّعين بأرقامهم وألوانهم المميزة، وكأنهم كرات بلياردو جيّدة التنسيق. يتناول الجميع وجبتهم وسط أحاديث وضحكات وسخريات البعض من البعض الآخر، بينما يجلس العم صابر تحت مظلّة شمسية واضعاً سلّة طعامه على فخذيّه. يتناول غدائه بأناة وهو يقلّب ناظريه بين العمّال وبين البحر. كان العم صابر كثيراً ما يرمي بنظرات عميقة إلى البحر، وكأنه ينتظر قدوم سفينة تحمل على متنها سنوات عمره التي انفرطت منه كما تنفرط الذرات في ساعة رملية. إضافة إلى الصيادين والعمّال والنمل السارق، كانت جيوش من قطط الميناء الجائعة توزّع نفسها على الغالبونات في انتظار أن يرمي لها أحدهم بقطعة خبزٍ مغمّسة بزيت الساردين، أو قطعة صِير من عامل شهم. وبينما تجلس بعضها في منتهى الأدب، تتعارك في مكانٍ آخر مجموعة من القطط على لقمة تعيسة من أحدهم. ما تراه من فوضى للوهلة الأولى في الميناء هو إنّما نمط حياتي من الرتابة بحيث يستحيل تخمين تغيّره على المدى القريب. فوضى اعتاد عليها الجميع بمن فيهم العم صابر الذي تتجمع، حوله فقط، عشر قطط لِما تعرفنّ عنه من كرمٍ جم، فهو قليل الأكل، سخي العطاء. وسخاء العم صابر مع القطط هو ما أغراهن باحتمال قساوة العيش في الميناء. وهذا الجو العائلي الذي يلف الجميع رغم الفقر والتعب، هو ما كان يجعل الريّس يتساهل كثيراً في البدء بمشروع الهجرة إلى الوسط. وكثيراً ما كان ينفرد بالعم صابر شارحاً له خططه المستقبلية، ووقوعه بين حلمٍ يراوده منذ وقتٍ غير بعيد، وحياة ألفها، ويصعب عليه أن يتركها. وكانت أوديت هي إحدى الأسباب المستحدثة التي جعلته يعدل عن قراره رغم إلحاح هذه الرغبة عليه كوسوسة شيطانية لا تفتأ تراوده كلّ ليلة. "اللحظة المناسبة لا تتخيّر المكان" هذا ما كان يقوله العم صابر للريّس كلما حدّثه في موضوع الهجرة. وكان يقول له دائماً بأن لا وطن يُذكر، فالوطن هو حيث بيتكَ وزوجتكَ وأمك حتى وإن كان في أرضٍ لا زرع فيها ولا إنس.
11-27-2007, 09:39 AM
يوسف الولى
يوسف الولى
تاريخ التسجيل: 12-28-2005
مجموع المشاركات: 1312
لضيق ذات اليد ، وصلف دور النشر لن يحدث عن قريب أبداً أن أنشر أيّـاً من أعمالي في الأسواق. فلا تخف. هذا البوست يحتوي (بإذن الله) النص الكامل للرواية، فقط أحاول الخلاص من حالة الكسل والخمول الإلكتروني الذي أعيشه.
أشكر لك متابعتك للرواية ، وأتمنى أن تنال إعجابك
11-27-2007, 10:47 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ -5- ولأن العم صابر عاش في يورسودان طيلة سنوات عمره التي تناهز الستين دون أن تكون موطنه، فلا أحد يعرف من أي جهة جاء، رغم أنّ لهجته توحي بأنه قادم من جنوب كردفان. وعرفه الجميع بأنه قليل الكلام، دائم الحركة، ذو ملامح حيادية في جميع حالاته. وكان راغباً عن الزواج، محباً لحياة العزوبية. قال البعض أنه ربما كان عنّيناً أو به عِلّة، إلاّ أن الجميع يتفقون على أنه دمث الأخلاق طيب المعشر. وكان دائماً يقول: "أينما ذهبت ستكون هنالك أرض تحتك وسماء فوقك، وطالما أن السماء واحدة والأرض واحدة فأي مكان يصلح لأن يكون وطناً !" جلس علي أب شلّوفة، على إحدى الصناديق الخشبية، بعد أن أسكن عكّازيه إلى جواره، وهو يقول:
* أقسم أن الريّس يفكر في الزواج الآن. - أصدق أن يتزوّج الكومندة ، ولا أصدق أن يفعلها الريّس * أصحيح أنّك تفكر بالزواج يا الريّس؟
11-27-2007, 11:52 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ -6- كان الريّس يكتفي بابتسامات هازلة كلّما سمع هذا الكلام. أحسّ أنّ عليه أن يقوم بشيء آخر يسمح له بتوفير مالٍ أكثر، ويضمن له ألا يبتعد عن رفقة الميناء في ذات الوقت. كان كمن يحاول أن يرسم دائرة بمسطرة. فهو لا يجيد صنعة أو حرفة أخرى غير الصيّد، كما أنه لا يعشق شيئاً آخر – خلا أمّه - بقدر ما يعشق البحر، وأصوات النوارس، وأرضية الميناء الخرسانية. يحس أن قلبه واقع - كسمكة سيئة الحظ - في شباكه التي يرقّعها بيديه كل يوم. عندما يفكّر في هذا الأمر، يشعر بشيءٍ ما يشدّه إلى الأسفل أو إلى الوراء. يورسودان تمسك بتلابيب اليورسودانيين، وتشدهم إليها كما تفعل بكرة الخيط بالخيط. كان يشعر بابتسامات الوجوه الكالحة التي من حوله وكأنها صفعة تُذكّره بأنه أفضل حالاً من كل هؤلاء: عبد الماجد طه الذي يسكن في بيتٍ من الجالوص بغرفتين وحوش صغير تقاسمه زوجته وأطفاله التسعة ضنك الحياة، يخبأ من صندوق أسماكه، الذي للبيع الرخيص، سمكة للأفواه العشرة المفتوحة. مرزوق عجوة الذي يعول، غير زوجته وأبناءه الثلاثة، أخوته الإناث. وبعد عمله في الميناء يذهب إلى السوق المركزي ليبيع العجوة وقمر الدين والقونقوليز في المواسم الرمضانية، معتصم المرضي الذي ابتلاه الله بأخٍ مختل عقلياً وأختٍ مصابة بسرطان الدم وأربعة أخوة غيرهما، ولم يكن يشتكي إلاّ لله في صلوات الجمعة، عندما يكتشفه وهو يبكي في دعاءه بعد الصلاة، مبارك أب ساقين الذي أرسل زوجته وأبنائه منذ أكثر من سنة إلى أهلها في ضواحي يورسودان لعدم قدرته على توفير سكنٍ لهم بعد أن طرده صاحب البيت بأمر المحكمة بسبب عجزه عن سداد إيجار المنزل المتراكم منذ أكثر من سنتين.
11-27-2007, 06:57 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ -7- كان يحلم بمعجزة تنتشله من ملوحة أرض يورسودان، وتنقله بطريقةٍ ما ورفاقه والبحر وطيور النورس إلى مكانٍ آخر، حيث لا يشعر فيه بأنه مرهون إلى عدد الوريقات النقدية المبتلة بعرقه في جيب قميصه. لم يكن يحلم بأن يكون غنياً، فقط كان يريد أن يكون أفضل حالاً، حتى هو لم يكن يعرف شكلاً واضحاً لما يريده. كان كل ما يحلم به هو أن تكون لديه أموال لا تشعره بالخوف والعوز . كان يحلم أن يكون حراً كنوارس البحر الأحمر، أن يحلّق بجناحين حقيقيين، أن يرى عوالم أخرى غير تلك التي اعتاد عليها وألفها منذ أن عرف اسمه الرباعي، كانت الهجرة هاجساً يؤرقه رغم أنه لم يكن مضطراً اضطراراً فعلياً لذلك.
11-27-2007, 06:58 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
__________________________ -8- بطريقة أبوية حكيمة، ربّت العم صابر على كتفه وهو يحكي له قصةً لم يستطع أن يحدد علاقتها بموضوع هجرته: "أظّن أنها كانت ليلة قمرية عندما جلس ثلاثة رجال على ضفّة النيل من الناحية الشرقية، جذبتهم رائحة البنقو التي أشعلها أحدهم. قد يبخل أحدنا بطعام أو شراب، إنما هؤلاء لا يبخلون أبداً، هم أسخياء دائماً، على أي حال، فقد جلس ثلاثتهم على رملٍ بارد، مستمتعين بما يقذفه البحر على وجوههم من هواء لطيف يساعد على جعل جلستهم أكثر حميمية. كانت الأصوات تتجاذب بالترتيب على مسامع ثلاثتهم: صوت الأمواج، نهقة حمار من مكان غير بعيد، صوت اختبار ورق البرنسيس ، نحنحات أحدهم الخجولة في انتظار أن يأتي دوره، نباح كلاب متفرقة، وسؤال احترافي محبب: "هل نشعل كل واحدةٍ على حدا، أم نشعل ثلاث لفافاتٍ من التبغ في وقتٍ واحد؟" وما أن اتفقوا حتى بدأت جنائز التبغ الملفوف بعناية تدور بينهم، كلّما سلّم أحدهم جاره واحدة، استلم الأخرى في عقبها مباشرةً. وفي كل مرة كان أحدهم يصرخ بنشوة قائلاً: "سيجارة كااااافرة!!" وما أن فعل البنقو فعله في رؤوسهم حتى بدؤوا يتعرفون على بعضهم. أقّلهم كلاماً وأكثرهم سعادة "هارون" الذي كان كلامه بالعربية كمن يقرأ رسالة مكتوبة بخطٍ رديء على ضوء شمعةٍ لا تكف الهواء عن مغازلتها فيميل لهبها ذات اليمين وذات الشمال، بالكاد ينطق الكلمات العربية بشكل صحيح، بينما تمتع الآخران بلكنة غليظة. وفيما وقف الأول قائلاً: "سأكون رئيساً للسودان ذات يوم." نهض الآخر بجديّة أكثر وهو يقول: "وأنا سأكون قائداً لجيشٍ يحرر فلسطين." بينما اكتفى هارون بضحكة متهكمة وهو يقول :"أما أنا فكنتُ وانتهيت!" واكتفى الريّس بابتسامة مجاملة دون أن يفهم مغزى القصة. مؤخراً، كان ميل العم صابر لسرد القصص الغابرة، وطريقته الغامضة في سردها هو ما يزيد من قناعة عمّال الميناء بخرفه، غير أن أحدهم لم يتجرأ يوماً ليسأله عن سبب حزنه القابع تحت ابتسامته الوقورة أو عن سر نظراته للبحر تلك. "الصيادون أوفر حظاً من غيرهم" هكذا كان يقول دائماً عندما يتذمر أحدهم. ولأنه كان صياداً متمرساً ذات يوم؛ فهو يعلم تماماً ما يشعرون به من عبثية.
11-28-2007, 06:56 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
-9- كان الريّس بطريقةٍ ما مدركاً لما يحتويه عالمه وحياته من أفعال روتينية اعتاد عليها بسبب أنه لا يملك البديل، بل لم يفكر في هذا البديل من قبل. حتى علاقته غير الشرعية مع شاهيناز البدوي كانت علاقة روتينية صرفة. فمنذ أن التقاها صدفة أمام دكان البصاولي تحاول شراء العشاء. حاول، بدافع الشهامة المنطوية على تودد ماكر، أن يساعدها، فأخذ عنها السلطانية وزاحم الشباب الذين كانوا يسدون مدخل الدكان، وملئ لها بقرشين فول وربع كيلو حلاوة طحنية، ومنحته ابتسامتها الشاكرة جرأة على تجاوز هذه المساعدة إلى حد عرض خدماته لتوصليها إلى المنزل، وكردٍ للمعروف بالمقابل المنتظر حاولت شاهيناز إغرائه ببعض الملامسات الجسدية التي كانت تأتي وكأنها مصادفة.
11-28-2007, 07:09 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ -10- استطاع الريّس أن يحصل منها على قبلة ساخنة سريعة وموعد بلقاء قريب قبل شارع واحد من منزلها. شاهيناز التي كانت قد بدأت تتردد على الريّس في إحدى المنازل التي يقوم بحراستها حتى عودة أصحابها من السفر، كانت تتجاهله في الحي، وهذا التكنيك الذي تتبعه الساقطات ليس بجديد على الريّس نفسه، وهو الذي كان يعرف مسبقاً أن فتيات الحي الساقطات لا يمكنّ أحداً من أبناء الحي، بل يجعلن الأحياء البعيدة مسرحاً لعملياتهن السرّية، فيما يبدين أمام أبناء الحي نفسه كراهبات، غير أنّ الريّس لم يكن نزيهاً في علاقته معها، إذ أخبر بعض أصدقائه بمغامراته الغرامية معها. وظلّت شاهيناز مستمرة في التواصل معه حتى ذلك اليوم الذي قدّمها لأصدقائه وطلب منها مضاجعتهم جميعاً. فخرجت ولم يعد يراها بعد ذلك إلاّ برفقة صديقاتها حيث يصعب عليه الاختلاء بها في محاولة لإعادة المياه إلى مجاريها. ولم يمض أكثر من أسبوع واحد حتى أقام علاقة عابرة مع أخرى التقاها في مركبة عامة، ويذكر دائماً أنها كانت المبادرة بالمغازلة. غير أنها لم تدم معه أكثر من ثلاثة أيام متباعدة.
11-28-2007, 09:12 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_________________________ -11- رغم أن النساء في حياة الريّس لم يشكّلن هاجساً على الإطلاق، إلاّ أنه كان لا يفوّت فرصة تتاح له أبداً. أمّا أكثر الفتيات صلة به فقد كانت فايزة كيكيا، الفتاة الأريترية التي تبيع الشاي مع أمها في إحدى مواقف المواصلات العامة، وتعيش في منطقة أولي شديدة الفقر. فايزة كيكيا واحدة من المئات الذين نزحوا بأسرهم إلى السودان، أحست مذاق اليتم بعد أن قتل والدها الجندي في جيش التحرير الأريتري وأحد رفاق عواتي، عام 1961م في معركة أدال كارمرويت. فايزة الفتاة الناهدة التي تمتاز عن بقية الفتيات اللواتي عرفهن الريّس، بالكاد تتذكر تفاصيل والدها الشكلية غير أنها لم تنس منزلها في أسمرا وشجرتا النيم خارج بيتها حيث كانت تلعب مع الأطفال. وما يزال الريّس يتذكر ذلك اليوم الذي التقى فيه بهذه الفاتنة الأريترية عندما حاول تقبيلها بالقوة بينما كانت تحاول أن تجمع أوانيها في طريق عودتها إلى المنزل ليلاً. ولم تتوان عن صفعه عندما أرهقها إلحاحاً، بينما توقف متحيزاً للثأر ومضمراً في صدره تجاهها غلاّ من النوع الذي يزول مع انقضاء الليل وتأثير الخمر. وربما وافقت على طلبه فقط لترتاح من إلحاحه الذي لم ينقطع لأسبوعٍ بأكمله.
11-28-2007, 10:54 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ -12- ذلك اليوم طلبت منه أن يأتي إلى منزلها ليلاً متوخياً الحذر، بعد أن يتأكد من خلو الشارع من الفضوليين. ورغم أنها لم تكن المرة الأولى التي يواعد فيها الريّس فتاة ليلية، إلاّ أنه كان يشعر بقشعريرة مراهقة تسري في أوصاله، وهو ينتظر موعد انتهائها من عملها. وعندما وصل إلى المنزل، وجدها قد تركت الباب مفتوحاً بمقدار ما يسمح له بمعرفة ذلك. فتح الباب ببطء شديد سمع معه صوت صرير زنك متهالك، كان هذا الصوت يثيره أكثر من الإضاءة الزيتية الخافتة داخل المنزل. وما أن بلغ منتصف الردهة حتى رآها وهي تمشي على أطراف أصابعها طالبة منه أن يدخل من مدخل ما مغطى بالقماش دون أن يصدر أي ضجة. فامتثل على الفور وكان هذا الحذر المشوب بالصمت والأضواء الخافتة ما جعل حيوانه ينتصب حتى قبل أن يتلامسا. وما أن تسلّمت نقودها حتى بدأت تداعبه بحرفية لم يعتد عليها الريس حتى بلغ شبقه قبل أن ينزع عنه ثيابه. واستمر الريّس في مواصلة الأريترية الحسناء إلى أن توطدت العلاقة بينهما فأصبحت لا تتقاضى منه نقوداً كما كانت تفعل في السابق.
11-28-2007, 11:17 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
المبدع هشام ... تحياتى (متابعين معاك) ...وواصل هذا السرد السلس السهل الممتنع.. ولا تلتفت الى (اللفحيين) الذين ما ان تسامعوا ب(فرطقه) الا وتحسسوا (الكي بورد) دون ان يميزوها ..قطعا هم دونك لانك مبدع و(تدفق) ما بذهنك وهم ناقلون ثم هم كذلك محرفون الكلم عن مواضعه..سر فى درب رهق الابداع ولا تألوهم ردا ..
الأخ : آدم موسى لا أكترث لمثل هؤلاء أبداً ، لأني أعرف أن أدمختهم خاوية، وهم من الجهالة بحيث لا يستحقون الرد أو المبالاة بما يقولون. مجرّد مراهقين إلكترونيين لا أكثر. لعن الله ثورة المعلومات التي ملّكت التقنيات لأمثال هؤلاء.. الآن نواصل الرواية يا عزيزي .. مع شكري وتقديري للمتابعة
______________________ -13- الذهاب إلى نادي ديم بوليس، واحدة من الأفعال الروتينية التي كان يقوم بها الريّس خلال برنامجه اليومي، وما أن استوت فكرة الهجرة في دماغه حتى بدأت قناعاته بالأشياء تتغير، عندها فقط بدأ يشعر بروتينية الأشياء التي لم يكن يستشعر روتينيتها من قبل. وإلى أن غادر يورسودان لم يكن قادراً على حساب عدد أوراقه في لعبة "الحريق" التي كان يلعبها كضيف شرف. وجرّ الخمسين كانت إحدى المهام المستعصية عليه، فلم يكن ليفكر في أكثر من ورقة واحدة ينتظرها ليكمل نزوله، بينما تأتيه الأوراق الأخرى دون أن يعلم أن إحداها ستكون ورقته الرابحة. غير أنّه عوّض ذلك في لعبة الوست التي كان يتقنها ببراعة فقط لأنها لا تتطلب ضلاعة في الحساب، ولم يكن أحد ليجاريه في هذه اللعبة.
11-29-2007, 08:19 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ -14- يمتلئ نادي ديم بوليس بعد صلاة العصر بالشباب ولا يغلق أبوابه إلا عند الساعة العاشرة بعد انتهاء المسلسل المسائي. نادي ديم بوليس الذي يحتوي على ملعب بدائي لكرة الطائرة، وطاولة خشبية غير متسقة للبينج بونج بمضارب كرتونية سيئة الاستدارة، وثمان طاولات موزعة بطريقة عشوائية في ساحة النادي، وبعض النباتات المطريّة المنتشرة على طول السور الداخلي، كان هو النادي الأكثر شعبية لدى شباب الحي وحتى الأحياء المجاورة، فكان لا يخلو أبداً من الزوار. بعضهم فقد كان يأتي لشرب الشيشة فقط، بينما كانت حلقات الضومانة والوست هي الأكثر عددية وأكثرها استقطاباً حتى لولئك الذين يعشقون الفرجة. على أعتاب بوابة يورسودان عرف الريّس أن ضحكات الشباب في النادي، وأحاديث المغامرات العاطفية وحتى أصوات مولدات الكهرباء في النادي كانت مثيرة للضجر والرتابة.
11-29-2007, 09:53 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
__________________________ -15- في مرحلة متأخرة اكتشف أنه كان شخصاً اعتيادياً أكثر مما يجب. ولم يستطع أن يحدد بشكل قاطع ما إذا كان هذا الشعور سبباً أم نتيجة، ما إذا كان اكتشافه ذلك جاء نتيجة لرغبته في الهجرة، أم أن اعتياديته هي التي أفضت به إلى قرار الهجرة. كانت أوديت هي الشيء الوحيد المستحدث في آلة مسيرته الحياتية. وكانت ما تزال ابتسامتها الملوكية تساوره بين الحين والحين، لتعيده تخاطرياً إلى تلك اللحظة التي وقعت فيها عيناه على عينيها مباشرة، فيشعر بذات الرعشة التي شعر بها آنذاك. وكان قد نسي اسمها تماماً، غير أنه ما يزال يتذكر حروف اسمها دون أن يعرف ترتيبها على النحو الصحيح.
11-29-2007, 10:10 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -16- بدأ الريّس يعتاد الجلوس أمام باب بيته بعد عودته من العمل، بينما تذهب أمه لزيارة جارتها حتى ولو من غير حاجة. شعر بازدراء شديد لما تحتويه حياته من تفاصيل لم تكن ذات أهمية يوماً ما، وقرأ تاريخه فلم يجد للآتي منه أية معالم واضحة. تذكر أمنيات أمه له بأن يتزوج وينجب كبقية رفاقه. ورغم أن الذين كانت نفرين تتحدث عنهم لم يكونوا رفاقه فعلياً، إلاّ أنها كانت ترى مشكلة ولدها تكمن في إخفاقه في اختيار رفاقه. وببساطة الأمهات كانت ترى أن كل ما ينقصه هي زوجة تهدأ سرّه، وتنجب له أطفالاً يملئون عليه الدار، وأن يكونوا قرّة عين له، وكانت تشترط أن يحدث كل ذلك قبل موتها، وإلاّ فسوف لن تكون مطمئنة عليه في قبرها. كل الأمهات يحلمن بذات الشيء، بل حتى أنهن يحددن عدد الأبناء وسلوكهم. كلهن يحلمن بأبناء يملئون المنزل، وكلهن يحلمن بأن يكون الأبناء نجباء وقرة أعين لآبائهم؛ هذا الحلم الأمومي الافتراضي كان يزعجه كثيراً، ويكرّس شعوره بالاعتيادية، وفيما بعد عرف أن عشقه لحياة العزوبية لم يكن هو السبب الأصيل وراء رفضه فكرة الزواج، إنما الاعتيادية هي ما كانت تحول دون ذلك. ماذا يعني أن يعيش المرء ليتزوج، ويتزوج لينجب، وينجب ليموت. هل يكون المرء ترساً اعتيادياً في عجلة هذه الحياة، ألا يحق للمرء أن يعيش وحده، وأن يموت وحده؟ إن أخفق فإنما لا يتحمل معه آخرون نتائج إخفاقاته، وإن نجح يُسعد معه من يريد وليس من يكون مجبراً عليهم. ربما كان الروتين أول ما خلق الله من الكائنات. أو ربما كان الخلق عملاً روتينياً أيضاً!!
Quote: Quote: ولأنه كان يرتاد بشكل شبه شهري على النادي الإفرنجي
مبروك ماجستير اللغة العربية من جامعة الخرطوم شهر 9
ده يا هشام بذكرني لمن نكون قاعدين في ركن في الحلة والشباب بتونسوا عادي بكون دائما في واحد كسار تلج بتصيد أخطاء الناس ويقعد يعيدها ويضحك ... لمن تجي تفتشوا بتلقى لو قلت ليه أمشي يا Pencil يقول ليك ما تنبذ!!! يعني جهلول وبعدين تلقاهو طوالي حنكه بيش لا بعرف يتونس لا مع أولاد لا بنات وتلقى أشتر في الرحلات والحفلات ... بس ده ياهو زولك الكاتب الكلام الفوق ده.
معقولة بس ما شاف غير الخطأ ده في المجهود الأدبي ده كله...!!
أنت راجل كتاب واصل ونحن معاك
11-29-2007, 10:47 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
وإن كنت أكتب لشخص واحد فقط في هذا المكان، فأنا سعيد بهذه الكتابة، ولن أتوقف بالتأكيد. كان الأمر في السابق يزعجني جداً ألا أجد تعليقات أومشاركات على بوستاتي، ولكن أنا مقتنع الآن بأن الأمر لا يستحق. فسودانيزأولاين ليست مكاناً يمكن أن يقاس عليه. مع احترامي للقلّة من الكتّاب المحترمين والمفيدين في هذا الموقع بالطبع. ولكن الأغلبية يلهثون وراء بوستات الفضائح والمشاكل والمهاترات. هذه البوستات تلقى رواجاً ، ولكنني لا أبيع مثل هذه البضائع. بعضهم يفتح بوستاً كاملاً ويكتفي بوضع نقطة فقط ( * ) والغريب أنّك تجد البوست قد تجاوز الصفحة الواحدة في اليوم التالي!
أمثال هذا الشخص كثيرون يا أمير، ولكنهم لا يزنون مثقال ذرة لذا لا أكترث لهم. عموماً أشكره على تصحيحي الذي لم يكن بغرض الفائدة، وإنما بغرض السخرية والاستهزاء، ولكن ( ربّ ضارة نافعة ).
أعرف تماماً ما يتوجب عليّ أن أضعه في عين الاعتبار، وما يجب عليّ أن ألقي به وراء ظهري. إنّ ملاحظته هذه إشارة إلى متابعته لما أكتب ، عله يتعلّم يوماً ما معنى القراءة.
أشكرك يا عزيزي على المتابعة.
11-29-2007, 10:56 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
____________________ -17- أفاق من هذيانه الصامت على صوت نباح كلبة فريال الضو تركض خلف دراجة يقودها صبي مراهق، ثم تعود إلى حيث كانت على أرضٍ رطبة تحت مزيرة. فقال في نفسه: "هذا أيضاً عمل روتيني! لن تشعر الكلبة بكلبيتها إن لم تركض خلف الغرباء وتنبح فيهم ثم تعود للنوم مرّة أخرى، ولن تشعر بكلبيتها إن لم يخافوا منها. ترى هل أحسّت الكلبة بأن لوجودها معنىً لمجرد أنها ركضت ونبحت في وجه سائق الدراجة ذلك؟ هل تشعر بأن ما تفعله هو سر احتفاظ فريال بها؟ ما الذي دفعها لترك جلستها المريحة لتفعل ما فعلت، ألم يكن من الأجدى لها – إذا كانت لا بد نابحة - أن تنبح من مكانها؟ وذلك الكمساري المزعج الذي يمضي وقته في المناداة "هَدَل .. هَدَل .. هَدَل " بصوتٍ يوشك أن يهتك حباله الصوتية، بينما يحتسي السائق كأساً من الشاي بطريقة برجوازية مقيتة، منشغلاً بأحاديث بذيئة مع "ست الشاي"، ألم يكن من الأفضل له أن يعلّق ورقة على زجاج حافلته يكتب فيها "هَدَل" ويريح نفسه؟" كان الريّس يراقب المارين في شارع منزله بازدراء شديد، مستشعراً الاعتيادية في وجوههم وضحكاتهم وحركاتهم، ويرى خلف هذه الوجوه وجوهاً أخرى مجروحة ومنهكة بفعل التعب والاعتيادية. لا شيء في نظره يدعو للأمل، فتنهّد بصوتٍ عالٍ وكأنه يتنفس من رئة غيره، وهو يحصي غبار الاعتيادية الذي يخلفه المارون ورائهم.
11-29-2007, 11:00 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
____________________ -18- التأمل لا يشترط المنطقية في تتابع الأحداث والشخوص، ولا ضرورة تذكر لإيجاد روابط تسلسلية لما يدور في أذهاننا، وهذا ما جعله ينتقل في تأمله بطريقة غير منطقية إلى صورة أبيه المعلّقة على جدار غرفته الكلسية، ويتذكر وصاياه التي تأتيه بين الحين والآخر كومضات تذكيرية رغم أنه لم يكن يهتم لها كثيراً، إلاّ أنها كانت تأتيه في أوقات لا يحسب لها حساباً، ثم يتذكر جملته الاعتيادية أيضاً "غداً .. عندما تتزوّج، وتنجب أطفالاً، ستفهم معنى كلامي هذا"، ثم يعرج إلى ذكرياته مع أخيه مكي الذي كان يخيف فتيان الحي ويأسر قلوب فتياتها. شعر للمرة الأولى بالحوجة لأخيه، فما كان ليتركه واقعاً في شباك الحيرة لو أنه كان على قيد الحياة. "الموت والحياة اعتيادية أيضاً !!" تذكّر الريّس ذلك اليوم الذي وقف فيه مكي مبدياً سخطه على حياة الفقر التي كانت تعيشه أسرتهما، عندها فقط عرف سر الجملة المستنسخة التي لا تفتأ نفرين تقولها له "شهاب الدين أسوأ من أخيه" وكأنه بدأ يجيد الربط بين الأشياء للتو فقط، فابتسم ابتسامة يسخر بها من نفسه، ثم أعاد وضعية جلوسه. وفيما راح يدقق النظر في وجوه المارين من حوله، مرّ حافظ بونقز على دراجته التي يبيع عليها الخيزران، فابتسم وهو يرى خيزراناته المنتصبة كشوارب الفقمة، وحاول أن يوجد رابطاً بين بيعه لتلك الخيزرانات وبين كونه بونقزياني محترف، فلم يجد تفسيراً منطقياً غير أنه يخفي بين ثيابه شخصاً ميّالاً للعنف والضرب. وقرّر أنه يحفظ جدول الضرب دون شك! فابتسم مرّة أخرى لأنه عرف كنّه الأشياء، وطريقة كشفها بالربط بين ظواهر الأشياء وبواطنها. عندها خرجت نفرين لترمي بين فخذيه وعاءً بلاستيكياً أزرق اللون "خذ ... أحضر لنا رطل زيت، لأن الزيت الذي بحوزتنا قد انتهى"
نهاية الفصل الثالث
12-01-2007, 08:15 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
___________________________ الفصل الرابع -1- في شتاء عام 1983 كان أبو السيك مهجّساً بتزويج أخته إيمان، التي بدأت ملامحها الأنثوية في الاكتمال إلى حد أغرى شباب الحي بالتغزّل بها علانيةً، كلما مرّت عبر "ميدان دقنة" ذهاباً وإياباً. كانت إيمان وقتها بدت، كلبوة نفساء، تدافع بكل ضراوة عن حقها في إكمال دراستها أمام إصرار أخيها الذي وضع لها شرط الزواج قبل فكرة إكمال الدراسة. ما أوقعها في حيرة من أمرها، فهي لم تكن ترغب بالزواج، في حين أن فكرة رفض الزواج تلك كانت، كفكرة الإلحاد، مرفوضة شكلاً ومضموناً. ورغم أنها لم تكن عدوانية بطبعها إلاّ أن أبو السيك لم يستطع أن يرغمها على الزواج بالإكراه. وربما كان سبب إصرار إيمان على دخول الجامعة، هو رغبتها القديمة في الوصول إلى الحد اليقيني الذي كان عليه إيهاب محمود. فقد كانت لديها قناعات راسخة بأن الجامعة هي من تمنح تلك اليقينية والمنظار المقعّر. ولم يجد أبو السيك غير الريّس يشتكي له مما يختلج في صدره جراء عناد أخته، ورفضها الخطّاب الواحد تلو الآخر، بشغفٍ غير مسبوق للتعليم ولم يكن معترفاً به في العائلة. كانت موافقة أبو السيك على ذلك تعني أن يرسلها إلى الخرطوم وحدها – وهو ما كان يرفضه بشكل قاطع وغير قابل للنقاش - أو أن ينتقل معها إلى هناك، حيث تكون أمام مرآه ومسمعه. عندها وجد الريّس نافذة مشرعة، أو ربما مشتركة تفتح الجرحين على إطلالة واحدة "الهجرة".
12-01-2007, 10:13 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ -2- "تعليم البنات قلّة أدب، وكلام فارغ" هذه هي الجملة التي كان يرددها أبو السيك دائماً كلّما فاتحه الريّس في موضوع إيمان، "سيكون مصيرها إن آجلاً أم عاجلاً إلى بيت زوجها، فلم كل هذا الصداع؟" كان الريّس يخمّن أن إيمان بعنادها ذلك تحاول التخلّص من حالة الاعتيادية التي لم ينج منها أحد حتى كلبة فريال، فحاول أن يوّفق بين حلمه، ورغبة إيمان في إكمال دراستها، ليس لحرصه على مستقبل إيمان الأكاديمي قطعاً، بل لأنه ظنّ أن مارد حلمه القديم بدأ يستجيب له أخيراً، كان يؤمن بأن وجود أبو السيك معه يساعده كثيراً في اجتياز مستنقع الاغتراب، وعندها فقط عرف الريّس أنّ الوحشة والغربة – إضافةً إلى ملله من الاعتيادية - هما ما كان يخشاه، وما كانا يحولان دون جدّيته في تلك الخطوة. عرف أنه لو تمكّن من إقناع أبو السيك فسوف يحقق ذلك الحلم الذي ظلّ يراوده على مدار ثلاثة أشهر. لم يكن الريّس قد حدد بعد في أي مهنة قد يعمل هناك، ولكنه كان يشعر بشيء غامض يدفعه إلى الخروج من يورسودان، كأنّ أرواح أسلافه المدفونة في مكانٍ ما تدعوه ليلاً. وربما تملّكه إحساس قوي بأنه المقصود بنبوءة شيخ الطريقة البرهانية التي ما زال يتذكرها عندما خاطب عبد السلام محجوب الكاشف بطريقته المنهجية: "سيكون من ذريتك شخص ذا شأن"، وتملّكه هذا الإحساس بعد أن شُفيَ من فاجعة موت أخيه مكي بأربعة أشهر. وربما ظلّت هذه النبوءة مختبئة في مكانٍ ما إلى أن بدأت تخرج مع رغبته الجامحة في الهجرة.
12-01-2007, 10:29 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
____________________________ -3- كان الريّس يعتقد أن ثروةً ما، أو قدراً سخياً ينتظره في مكان آخر، وأنه على بوابات يورسودان سوف يلتقي بملائكة ذوات أجنحة بيضاء تدله على الطريق التي يتوجب عليه أن يسلك:
* يا صديقي، وماذا سيحدث إن تركتها تكمل دراستها؟ أليس ذلك أفضل من جلوسها في البيت هكذا. - أية دراسة هذه يا الريّس، أتريدنا أن نشقى وأن نسف التراب وكل ذلك من أجل أن تكمل الآنسة إيمان تعليمها؟ ومن في العائلة أكمل دراسته؟ هؤلاء هن الفتيات اللواتي كنّ معها في المدرسة، تزوّجن وبدأن في الإنجاب، ولم تفكر واحدة منهن في مثل ما تفكر به هذه المجنونة. * وما أدراك، قد تجد في الخرطوم زرقاً أوسع من هنا - وقد لا أجد * لا تكن متشائماً هكذا .. فقط ابسط يدك للخير، وأحسن الظن بالله - ليس الأمر متعلقاً بالتشاؤم يا صديقي، ولكن لو كنت عاطلاً عن العمل فإنه يصبح من المنطقي أن أبحث عن عمل. ولكن لم أفعل وأنا على رأس عملي وسعيد فيه؟ أكل هذا من أجل أن تشبع هذه المجنونة كبريائها الأرعن في التعليم؟ أهذه نصيحتك لي يا الريّس؟ * كل غرضي أن نذهب إلى الخرطوم وأن نبحث عن عمل أفضل، فمن يدري ربما فتحت لنا أبواب رزق هناك. فوالله ما حياتنا التي نحياها هنا بحياة، ولا النقود التي نتقاضاها هنا بنقود، أم أنّك راضٍ بهذا الفقر ومستسلم له؟ - وماذا تريد أن تعمل في الخرطوم يا ترى؟ أتحلم أن تكون مقاولاً أم مدير بنك؟ إن لم تكن راضياً عن عملك في الميناء، فاتركه وابحث عن عمل آخر في مكانٍ غيره: في سلبونا، أو ديم نور أو هَدَل أو سواكن أو حتى في أولي .. أم أن العمل لا يحلو لك إلا في الخرطوم؟
12-01-2007, 11:12 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ -4- كانت مهمّته في إقناع أبو السيك تبدو صعبة للغاية، لا سيما وأنّه لم يكن مقتنعاً بالحجج التي يسوقها له. ولم يستطع أن يخبر صديقه بأنه يرغب في الخروج من يورسودان تلبيةً لنداءات قوى عليا خفية. فقد خشي أن يصفه بالجنون أو بالخبل، خاصة وهو يعلم موقفه من عالم ما وراء الطبيعة. وما كان يجعل مهمة الريّس بالغة الصعوبة هو عدم اقتناع فتحيّة شبانة (والدة أبو السيك) بجدوى مواصلة ابنتها في الدراسة، سيّما وأن جاراتها بدأنّ يسألنها – في أحاديث القيلولة – عن سبب بقاء ابنتها من غير زواج حتى هذه السن رغم جمالها وانتهائها من الثانوية العامة. الأمر الذي كان يضعها أمامهن في حرجٍ لا مخرج منه إلاّ القول بأنها لم تجد من يناسبها بعد، وأن رقبة ابنتها ما تزال معقودة إلى حبل القسمة والنصيب. وفي مشاجراتها الدائمة مع ابنتها كانت فتحية تردد: "هذا ما أسمعه بأذني، والله وحده يعلم ما يقلنه من وراء ظهري"
12-01-2007, 11:23 AM
معتصم محمد صالح
معتصم محمد صالح
تاريخ التسجيل: 07-14-2007
مجموع المشاركات: 7293
____________________ -5- فتحية شبانة المنحدرة من أصول أرستقراطية منقرضة، لم يتبق لها من برتوكولات الطبقات البرجوازية غير تشذيب الكلام، والتأنق فيه، بينما أصابها الاختلاط بعوالم ما دون خط الفقر بتجريم تعليم الفتيات، والاهتمام البالغ بكلام الناس، ومؤخراً نظراتهم التي كانت تلاحقها فيما يتعلق بموضوع ابنتها الوحيدة. في حين يجلس إبراهيم الصاوي الذي على أعتاب الخَرَف، على مقعده العتيق وهو يعدّ الخرزات الملوّنة في علبة ماكنتوش منزوعة الغطاء كانت تستخدمها فتحية لحفظ أدوات ولوازم الخياطة، وتركتها له بعد أن تعلّق بها كالأطفال، وأصبح يخبأها عن الجميع. كانت تشعر بأن نساء الحي لا يجتمعن في منزل إحداهن وقت القيلولة إلاّ ليتناولن موضوع رفض ابنة فتحية الزواج، وكانت تضع سيناريوهات افتراضية لتلك الجلسات النسائية الوهمية. متقمصةً شخصية المرأة اللحوحة سيئة الظن، فيذهب خيالها إلى احتمالية أن تكون الفتاة على علاقة غير شرعية بأحدهم، الأمر الذي يجعلها في انتظار أن يتجاسر ويتقدم للزواج منها، قبل أن يفتضح أمرها مع شابٍ آخر. وكانت في نهاية كل سيناريو تخيّلي يجنّ جنونها، وتنطلق إلى ابنتها لتعيد فتح الموضوع مرّة أخرى. لم يكن إبراهيم الصاوي، الذي بالكاد يفرّق بين شكل أبنائه من وراء زجاج نظارةٍ بالغة السُمك معلّقة على رقبته بسلسلة سوداء، يملك أمام جبروت زوجته إلاّ أن يصمت مغمغماً بكلمات أقرب للهذيان. وهو ما جعل الجميع يتجاهلون وجوده تماماً، فلم يكن أحدهم ليأخذ مشورته في أمرٍ ما، أو حتى يوجّه إليه سؤالاً أو ينتظر منه إجابة. وكان تواجده على مقعده العتيق في فرندة الدار مجرد شكليات بيزنطية لا أكثر ولا أقل، حتى أنّ عدوى اللامبالاة به انتقلت إلى الجيران وزوّار المنزل.
12-01-2007, 01:47 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ -6- في إحدى نوبات هذيانه الدراماتيكية صرخ بصوته الشبيه بغمغمة عالية مرتجفة:
* فتحية بنت شبانة المصرية تقول الحقيقة دائماً .. دائماً تقول الحقيقة ، ولا تفعل إلا الصحيح. حتى عندما ضربت أخوها الأصغر بمزهرية على رأسه، وساله دمه، لم يستطع أحد أن يلقي اللوم عليها، قالوا أن الخطأ خطأه هو، مشاغب وطويل اللسان ويستحق أكثر مما جرى له.
ولأنّ لا أحد غير فتحية يستطيع فكّ طلاسم غمغمات إبراهيم الصاوي التي تشبه الشيفرات الماسونية، فقد شعرتْ بامتعاضٍ شديد واكتفتْ بمدّ كفّها مفتوحة الأصابع في وجهه. وموقف الصاوي لا يغيّر من الأمر شيئاً، كيفما اتفق.
12-02-2007, 08:00 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -7- الفارق العمري الكبير بين فتحيّة والصاوي والذي يُحسب لصالحه بسبعة عشر عاماً، كان بالإضافة إلى لونه والفروق الطبقية هو سبب رفض عائلة شبانة ذات الجذور المصرية لزيجة محكوم عليها بأحد الفائين "الفشل" أو "الفقر". إلاّ أن فتحيّة أصرّت عليه وقتها. وقيل أنه استعان بمشعوذٍ بارع لاستجلاب محبتها التي لم تكن كائنة لولا تدخل عفاريت السحر الأسود ليصوّروه في عينها في هيئة فارسٍ لا يمكن مقاومة سحره، والبعض أوعز ذلك إلى لعنة الاسم البوليتاري الذي أصرّت عليه أمّها كاميليا الدُقلي، ورغم أنها أخضعت ابنتها لعلاجات نفسية وروحانية متعددة، تحت ضغط من أختها صافيناز وأخوات رفعت شبانة باشا، إلاّ أنّ فتحيّة أصرّت على الزواج به، بل وهددت بقتل نفسها إن وقف أحد في طريق تحقيق حلمها ذلك، فلم تجد العائلة، التي كانت على شفا الإفلاس بعد الحركة التصحيحية إبان ثورة الضباط الأحرار، إلاّ أن توافق شريطة أن تنقطع صلتها بالعائلة، وأن تتحمّل تبعية هذا التصرّف الذي اعتبرته أرعناً وجنونياً. ومع خسارة عائلة شبانة لابنتهم، وأملاكهم فقد اكتنف قصر شبانة جو ملوكي حزين رافقهم في رحلتهم إلى اسطنبول حيث انقطعت أخبارهم إلى الأبد دون أن يعرفوا سبباً منطقياً واحداً يجعل فتحية تقبل، بل تصر على الزواج من إبراهيم الصاوي المحولجي البائس.
12-02-2007, 08:40 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_________________________ -8- نادرة هي تلك اللحظات التي تتذكر فيها فتحية شبانة أول يوم التقت فيه إبراهيم الصاوي. بينما لا يفتأ الصاوي يرددها كأغنية وطنية قديمة، بذات التفاصيل التي لا يختزلها أو يحاول أن يعيد صياغتها بطريقة أخرى. ولم تكن إيمان تجرؤ على سؤال أمها عن سبب اختفاء ذلك الحب الجارف الذي تحدّت بسببه الجميع، غير أن فتحيّة لم تكن تحبّذ الخوض في هذه التفصيلة تحديداً. وبينما كان الصاوي يعيد رواية القصة بطريقة أقرب للتحسّر منها إلى التذكّر، كانت فتحية تحكيها بتعالٍ يفضح أرستقراطيتها البائدة. وفي كل مرة يشعر فيها الصاوي بتذمرهم من سرد القصة كان يصرخ بطريقته المعتادة التي لا يفهمها غير فتحية شبانة "والله أحرمكم من الميراث، قلة أدب واحد!" وكانت فتحية عندما تسمعه يقول ذلك تمصمص شفتيها في شفقة "وهل تملك قرشاً أيها المعدم التعس!!"
12-02-2007, 08:49 AM
عواطف ادريس اسماعيل
عواطف ادريس اسماعيل
تاريخ التسجيل: 08-11-2006
مجموع المشاركات: 8006
هذه بسترة لما يحدث في الخرطوم ... تدور أحداث هذه الرواية في الفترة التاريخية الواقعة بين 1977م – 1985م وتنتقل في أماكن مختلفة (بورتسودان – الخرطوم – ودمدني) ولنر ما الذي يحدث في بلدنا سراً عندما نفتح عيوننا ملء المحجرين. شقاوة الريّس (بطل الرواية أو الشخصية المحورية) تكشف لنا عن حيوات غريبة جداً في هذا القطر الخازوق. مع تمنياتي الشخصية له بالشفاء بكل تأكيد ...
سأكون سعيداً وفخوراً إن تابعتِ الرواية حتى نهايتها
12-02-2007, 10:10 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ -9- بين الشائعة والتصديق، كان رفعت شبانة باشا، القادم من مصر لتجارة الصمغ والرقيق، يعيش أتعس لحظات حياته. بينما أوصى زوجته كاميليا الدُقلي بتسريب مجوهراتها الثمينة تحوّطاً من مدّ "الهوس العسكري" – كما كان يسميّه – لعصابة الضباط الأحرار. وبينما انشغل الجميع بتهريب ما تبقى من ممتلكات، كانت فتحية تعيش قصة غرام سرّية مع محولجي يكبرها بسبعة عشر عاماً. رؤية فتحية السريالية للعالم هو ما كان يجعلها لا ترى تلك الفوارق التي نبّهتها إليها مربّيتها وكاتمة أسرارها زهرة عبد الواحد. كانت فتحية لا تعترف بطبقية المشاعر الإنسانية، وترى بأنها إحدى الأسرار الكونية التي لا يمكن لأحد أن يتدخل فيها بتشويه أو تزييف. "الحب هو ألا تعرف لماذا تحب." وكأنّ كلمات هيوم هذه كانت موجّهة إليها في تليغراف شخصي. وربما رأت فتحية إبراهيم الصاوي لأول مرّة عندما وقعت من على ظهر فرسها التي جفلت لرؤية أفعى كانت في طريقها إلى إحدى المزارع القريبة، وأعجبت بشجاعته وبراعته في التعامل مع الأفعى التي أمسكها من مؤخرة رأسها، بينما راح يطمئن عليها وهو ما يزال ممسكاً بالأفعى بحذرٍ شديد. خوف فتحية من الأفعى، التي في يده بعينين تنظران إليها بلؤم بالغ، لم يمنعها من التركيز على ملامح الصاوي بوجهه الرجولي المفرط الذي يحمل خشونة من النوع الذي تحبه، عروق يديه، وغِلظة كفّه، وكتفه العريضة، وشعر صدره الذي رأته من خلال فتحة صغيرة في قميصه الصيفي :
* أرسلني الله إليها في الوقت المناسب، ربما كانت في الجحيم الآن. - اخرس! لم تكن ذلك الشجاع المنقذ، قد كانت أفعى غير سامة على كل حال!
12-02-2007, 10:54 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_________________________ -10- ذات الأسطوانة كانت تتردد دائماً على مسامع إيمان وياسر كلما دبّ خلاف بين الصاوي وزوجته. متعلقةً بكبرياء أرستقراطي يابس تقول فتحية "لأي سبب لست أدري، ولكن الله منحك هبة من السماء، فما كان لفتاة مثلي أن تقبل بمحولجي لا مستقبل له." بينما يهمس الصاوي في أذن ابنته "أمّك تخاف من الديدان ناهيكِ عن الأفاعي. مسكينة .. ليتها تدري مقدار الفزغ الذي أدخلته في قلب تلك الأفعى المسالمة!" كانت إيمان نسخة معدّلة من أمها، فقد كانت تملك ذات النظرة السريالية للعالم، غير أنها أضافت إلى ذلك شغفها منقطع النظير بالتعليم والمعرفة، وما زالت تحتفظ في خزانة ملابسها ببعض الكتب التي أهداها إياها إيهاب محمود. كانت تشعر بها كالطلاسم المنقوشة على جدران القلاع السواكنية بلغة مشابهة لتلك المستخدمة في المنشورات التي ألقتها الطائرات الكورية على رؤوس اليورسودانين إبان الاستقلال، وربما بسببها أطلق الجميع اسم "كوريا" على الحي الذي استهدفته تلك الطائرات. وبينما راحت إيمان تحاول إقناع أمها بدخول الجامعة، كانت فتحية تؤكد لها على أولوية الزواج وأسبقيته على أي خطط مستقبلية قد لا يكون لها جدوى على المدى القريب أو البعيد. ولأنها لم تر نموذجاً أقنع لابنتها من نفسها، فقد كانت تذكرها دائماً بما حلّ بها عندما اختزلت الحياة في جملة عاطفية وحلم مراهق ما لبث أن انكسر على صخرة الواقع والتفاصيل الحياتية القاسية. غير أن ذلك كله لم يثنها عن عزمها المقدّس قيد أنملة. الشيء الوحيد الذي كان يحملها على الصبر هو اعتمادها على محاولات الريّس غير المنقطعة مع أخيها لإقناعه. ورغم أنها لم تكن تحرّضه بطريقة مباشرة إلاّ أنها بدأت تشعر بارتياح لمجيئه المتكرر. كانت تجلس دائماً على كرسيٍ خشبي خلف باب الغرفة المطلّة على الفرندة التي يجلسان فيها وهما يتحدثان. وتشعر بالغيظ لتلك الحجج الواهية التي يسوقها الريّس، وهي تعلم أن أبو السيك لم يكن ليقتنع بهذه الحجج البدائية سهلة النقض. ربما تمنت أن يمتلك الريّس براعة إيهاب ولو ليومٍ واحد فقط.
12-02-2007, 12:42 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ -11- * أمعك نقوداً ؟ - لماذا؟ * لا ترد على السؤال بآخر.. أمعك نقوداً أم لا؟ - نعم ... معي نقود * ما رأيك أن نذهب لنشرب بعضاً من البيرة؟ - بيرة؟ * لا تنظر إليّ هكذا .. سأذهب بك إلى مكانٍ لم تحلم في حياتك أن تزوره أو حتى أن تراه في منامك. سأريك كيف يعيش الناس حياتهم، وليس نحن.
في الطريق، وبينما كان الصوت الغالب على الشارع الترابي الضيّق هو صوت القطط المتشاجرة في موسم تزاوجها. كانت صرخات إلياس المتعالية تثقب أذن الريّس و أبو السيك، وتقطع عليهما حديثهما الضاحك. إلياس طه الزبير إلياس أحد دراويش ديم بوليس، وربما كان أحد معالمها المشهورة. فهو دائم التجوّل حتى في الأوقات غير المتوقعة. يقال أن به مساً من الجن، بينما يرى البعض أن جنّية أحبته وتزوجته. وهو يمضي ليله كله متنقلاً معها مقتحماً البيوت المهجورة. ويقطع إلياس مسافاتٍ طويلة سيراً على الأقدام دون توقف، ودون أن يشعر بأدنى درجات التعب والإعياء. وحتى قبل أن يفقد إلياس عقله، كان محط سخرية الآخرين الذين كانوا يرون فيه وفي أسرته أعجوبة من أعاجيب الزمان.
12-02-2007, 12:48 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ -12- ومما تذكره نفرين دائماً للريّس وصاحبه عن إلياس الكبير أنه عندما كان شاباً عشرينياً اعتزل النساء وبدأ طريق التصوّف حتى ادعى أنه في ساعات تجليه يسمع أصواتاً تأتيه من السماء، وتوحي له بأمور لا يتردد أن يفعلها، ومنها أن مناديه السماوي أمره بالزواج من امرأة خرساء ليست بذات جمال تدعى مريم فقيري، فتزوجها وأنجب منها الزبير و الشاذلي فعلّمهما جميعاً الطريقة التي يقول أنه رآها وتعلّمها في رؤية منامية، ولم يزل كذلك حتى كبر الزبير وتزوج من فتاة تدعى حفصة هي ابنة لأرملة كانت تعيش في كنف والدها بعد وفاة زوجها عنها. وتزوّج إلياس من أخت أم زوجة ابنه، والتي ماتت بعد أن أنجبت له طفلاً سمّاه يحيى. وبعد انقضاء أربعين يوماً على وفاتها تقدّم لحماة ابنه وتزوّجها وأنجب منها بنتاً أسماها الزهراء، بينما أنجب الزبير من حفصة طفلاً سمّياه طه. ولمّا توفي الزبير صغيراً تاركاً ورائه حفصة أرملة في ريعان شبابها، تزوجها الشاذلي ليستر عرض أخيه وأنجب منها بنتاً أسمياها البتول، وتزوّج يحيى (ابن إلياس من أخت حماة الزبير) من الزهراء (ابنة حماة الزبير من أبيه إلياس)، بينما تزوّج طه ابن الزبير من البتول ابنة الشاذلي وأنجبا إلياس الدرويش الذي لا يكف عن السؤال عن نسبه المتداخل كتداخل أغصان شجرة اللبخ. ويقول أهل الحي أن سبب فقدان إلياس لعقله هو محاولاته لفهم شجرة العائلة، غير أنّ المنصفين منهم عزوا ذلك إلى سيجارة بنقو جنوبية شربها بعد أن غررت به شلّة مجهولة.
12-03-2007, 08:17 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
____________________ -13- انشغل الصديقان بالحديث عن إلياس ولوبي عائلته المتصوفة، وما يزالان يتذكران تلك الحادثة التي راح ضحيتها حمار لهم هزيل، عندما دهسه "باص سيرة" يقوده سائق ثمل. ولم ينسيا كيف كان حزن إلياس عليه رغم أن أحداً لم يره يمتطيه في حياته. "يبدو أنهما كانا صديقين حميمين!" هكذا كان الريّس و أبو السيك يتندران وهما في طريقهما إلى النادي الإفرنجي بعد صلاة العشاء.
نهاية الفصل الرابع .
(عدل بواسطة هشام آدم on 12-03-2007, 08:20 AM) (عدل بواسطة هشام آدم on 12-03-2007, 08:21 AM)
12-03-2007, 09:02 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
الفصل الخامس -1- في ناحيةٍ ما من حي العَظَمَة، حيث لا تنقطع الكهرباء ولا تكف البيوت عن الامتلاء بالزوار الليليين، كانت فيلا جيوفاني صاخبة كعادتها بأصوات الموسيقى الأوبرالية، بينما كانت الأضواء تضيء شوارع الحي الباذخ كما تضيء أضواء الكنائس الأوروبية ليالي الكريسماس. الطقس الاحتفالي هو الوضعية الافتراضية لليالي حي العظمة الذي يقطنه البرجوازيون من التجار اليورسودانيين والأجانب. وعلى بوابة الفيلا يتسامر حارسان ببذلات رسمية مكتفيين باحتساء أكواب من الشاي المستورد الذي يندر وجوده في الأسواق المحلية. وبين البوابة - المصنوعة من الحديد الألماني المشغول - والفيلا درب مرصوف بحجارة اصطناعية ملونة منتهية بنافورة مياه على شكل بيضاوي، وعلى جانبي الطريق المرصوف مسطحات خضراء وأشجار كثيفة مخيفة ليلاً لولا الإضاءات المتناثرة في كل مكان تقريباً. عندما تقف عند مدخل الفيلا متأملاً في الحديقة الخارجية ترى تدرجات اللون الأخضر من اللون العشبي وحتى الأخضر بالغ الدكنة. أرضية الفيلا الرخامية تتيح لك التفريق بسهولة بين وقع أقدام الإناث والذكور والخدم، في بعض الأماكن المتفرقة من الأرضية تنتشر بانتظام مدروس سجاجيد كشميرية فارهة حدّ ألا أحد يطأ عليها بحذائه، بينما ترقد أنثى نمر أفريقي محنّطة على منصة جبسية مغطاة بمخملٍ أحمر. وعلى هامش الموسيقى الأوبرالية أصوات اصطكاك الكؤوس والضحكات النسائية وأصوات رجالية جامدة. بهو الفيلا المنتهي بأدراج حلزونية مؤدية إلى الطابق العلوي يذكّرك بقصور البارونات القديمة بتماثيل الأسود الحجرية الرابضة عند نهاية درابزين الدرج.
12-03-2007, 10:11 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ -2- في زاويةٍ محاطة بفوانيس شرقية عملاقة؛ آلة بيانو بلون الخشب المحروق، وفي المنتصف تماماً تتدلى ثريا عملاقة من قبة فسيفسائية على شكل ثمرة أجاص ضخمة، بالكاد يستطيع أطول الحضور قامةً ملامسة عناقديها الزجاجية إذا وقف على أطراف أصابعه، بينما تنتشر لوحات تكعيبية ضخمة على الجدران المنقوشة بزخارف جبسية طولية ملونة باللون الفيروزي المطعّم بالذهبي، نسخة مكررة من جدران قصور أوروبا في العصور الوسطى. أعلى الدرج الحلزوني وفي الردهة الفارقة بين الجهة اليسرى واليمنى صورة بالحجم الطبيعي لرجل خمسيني يقف بكل فخر جوار تمثال رأسي لنفرتيتي
12-03-2007, 11:44 AM
Khalid Saeed
Khalid Saeed
تاريخ التسجيل: 12-12-2005
مجموع المشاركات: 2605
_________________________ -3- يمر الخدم حاملين كؤوس النبيذ الأبيض بطريقة آلية بملامح لا توحي بشيء على الإطلاق وكأنهم موجهون بأجهزة تحكم عن بعد. وفي كل ركن تقف سيدة ورجل مهندم، بينما يزداد العدد في المنتصف. أصوات الموسيقى تتصاعد من مكانٍ ما مجهول ليغمر البهو بأكمله. وفجأة تنطفئ بعض الإضاءة لتبقى أنوار ملونة خافتة متزامنة مع تغيّر الموسيقى الأوبرالية إلى موسيقى عسكرية من النوع الاحتفالي التي تطلق عند استقبال الرؤساء. يتوقف الجميع عن الضحك والحديث، وتتوجه الأنظار جميعها إلى الدرج الحلزوني في ترقب مصحوب بابتسامات رسمية. ويصفق الجميع في إعجاب عندما يطلّ جيوفاني ممسكاً بذراع ابنته أوديت بيده اليمنى، وباليسرى غليونه الذي لا يكاد يفارقه. وبطريقة ملوكية يبدأن بنزول الدرج بخطوات متوافقة مع الإيقاع الموسيقي، بينما يتهامس البعض في إعجاب لجمال هذه الإيطالية الساحرة.
12-03-2007, 11:57 AM
العوض المسلمي
العوض المسلمي
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 14076
أسعدتني زيارتك ومتابعتك لرواية (يحدث في الخرطوم) ولا شك أن هذا مما يدفعني قدماً للمواصلة في نشر ما تبقى من الرواية التي أتمنى أن تنال على إعجابك وإعجاب بقيّة القراء.
12-03-2007, 12:54 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ -4- جيوفاني لاريتّو الإيطالي المنحدر من أصول مكسيكية "الباحث عن سحر الشرق" كما يطلق على نفسه، عُرف بحبه لركوب الخيل وتربيتها، وهوسه باقتناء القطع الأثرية والتحف أكثر من حبه للنساء المكتنزات، لم ينتظر كثيراً عندما قرأ عن كنوز الشرق المدفونة تحت رمالها الذهبية، فترك دراسة الآثار، وحزم أمتعته متوجهاً إلى مصر ترافقه زوجته التي أغراها، حتى قبل زواجهما، بمجدٍ تلمسه بيديها، وتشتم عبقه بأنفها، فتركت – هي الأخرى - دراسة الموسيقى وحلمت معه بأن تصبح ملكة متوجة بكنوز الفراعنة التي رأتها وقرأت عنها في المخطوطات التي يحتفظ بها جيوفاني في مكتبه الخاص، وفي بعض الأفلام الوثائقية التي كانت تعرضها جامعة بولونيا.
______________________ -5- كانت أنونوزيتا شديدة الإيمان بجيوفاني ، ورغم أنهما تزوجا حديثاً إلاّ أنهما التقيا في حبهما للمغامرة والاستكشاف، لذا قررا أن تكون رحلتهما إلى الشرق شهر عسلٍ فريدٍ من نوعه، مخالفين بذلك التقاليد الأرستقراطية الصارمة؛ ولم يعترض أحد من أقربائهما على ذلك فقد كان الجميع يعلم أنهما خُلقا ليمنحا الآلهة فرصة أن تثبت حكمتها في خلق مهووسين مثلهما!
12-04-2007, 07:03 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
___________________ -6- جيوفاني، الذي عُرف منذ بلوغه بشهوانيته المفرطة، لم يستطع أن يمنع نفسه من تقبيل أنونوزيتا أوغستو علانية أمام مرأى ومسمع الحضور في قدّاس الأحد رغم أنه لم يكن يعرفها مسبقاًَ، عندما انتبه فجأة إلى أن الفستان الأبيض الضيّق الذي كانت ترتديه يُظهر بوضوح مغرٍ وفاضح حدود ملابسها الداخلية، فما استطاع أن يمنع يده من مداعبة أردافها المكتنزة، ولم يمنحها فرصة إبداء الدهشة لجراءته فقبّلها بمجرّد أن التفتت إليه. حتى هي لم تستطع أن تتمالك نفسها عندما رأته يقبّلها كما لم يقبّلها أحدٌ من قبل، فتركته يشبع رغبته الجارفة مكتفية بإيماءات تدل على الموافقة غير المشروطة، ولم يخرجا من القدّاس إلاّ وقد اتفقا على الزواج، "فلنتزوج إذن!" هكذا أعلاناها بعد انتهاء القبلة التي ألهبت حماسة النساء فأخذت كل واحدة منهن توخز زوجها بكعب حذائها. وربما انتهى القدّاس ذلك اليوم سريعاً :
- لم تثرني امرأة كما فعلتِ أنتِ .. لا بد أن ثمة سراً ما !! * ما تزال شفتاي تؤلماني أيها الداعر الجريء.
هكذا تزوج الاثنان وسط دهشة كل من يعرفهما.
12-04-2007, 08:15 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -7- أنونوزيتا التي بلغت مبلغ الإناث منذ أن تخطّت الحادية عشر، لم تكن تحب شيئاً بقدر ما تحب عزف الكمان والبيانو. ولم تكن كذلك، رغم ملامحها الأكاديمية الجادة، هادئة الطباع ؛ بل كانت مشاكسة مقبلة على الحياة بكل حيوية. كانت تثق في جمالها أكثر من ثقتها بالأب سانتو مارسيلو الذي اعتادت على الاعتراف بين يديه بخطاياها، بينما هو منهمك في مراقبة نهدها الطافي كعوّامتين في بحر فستانها متسع الصدر. ولأنها كانت تعلم أن أليساندرو الأعزب الذي يسكن في الجوار يراقب غرفتها ليلاً من خلال نافذته المعتمة، فقد كانت تتعمّد النوم بملابسها الداخلية. صباحاً كان أليساندرو الأعزب يرتبك في كل مرّة تلقي عليه أنونوزيتا التحية بغنجٍ ماكر. في البدء أعجبها في جيوفاني فجوره الجريء ، والفنتازيا الجنسية التي مارسه معها فيما بعد. غير أنهما كانا يشتركان في حبهما للمغامرة واقتناء التحف الأثرية. هؤلاء الذين لا يحسّون بالعوز للمال، يقتلهم العوز لكل شيء: الجنس، الحب، الطعام وحتى العوز لله ، بينما الفقراء قد يلهيهم العوز عن كل شيء. ولم تتوقف مداعبات جيوفاني الفاضحة لأنونوزيتا حتى على مائدة العشاء العائلي الذي أقامته آلدابيلا أوغستو، أرملة أوغستو أورلاندو ووالدة أنونوزيتا، على شرفه للتعرّف إليه وتعريفه بعائلة أوغستو الصغيرة التي بدأت مؤخراً في استعادة أفرادها مجدداً بعد أن تفرقوا إبان الحرب الأهلية التي قتل فيها أوغستو أورلاندو.
12-04-2007, 08:56 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
___________________ -8- - ترتدين مجدداً ذات الثوب الأبيض الشفاف المغري، فكيف لي أن أكفّ يديّ ؟ * أنتَ من يملك عينين ثاقبتين تريان ما تحت الثياب أيها الماكر !
بعد الانتهاء من تناول العشاء ، طلبت السيدة آلدابيلا أوغستو الانفراد بجيوفاني لمناقشته حول بعض التفاصيل، فرافقها إلى حيث غرفة الجلوس الخاصة، وبعد أن حمل كل منهما فنجان قهوته، بدت آليدابيلا جادة وهي تسأله عن عائلته وعمله، وأدهشتها ردوده المقتضبة والدقيقة. ثم عرجت إلى الحديث عن أسرتها فرداً فرداً، ولما جاء دور ابنتها أنونوزيتا فوجئت بأنه لم يكن يعرف اسمها على الإطلاق.
12-04-2007, 09:34 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -9- * أأنتَ معتاد على تقبيل الفتيات دون أن تعرفهن؟!! - ابنتكم فقط يا سيدتي – ، قالها بأدب متكلّف لم يحسن تمثيله، وقد بدأ للتو في إشعال الغليون. عرفت آليدابيلا ذلك من ابتسامته الماكرة التي بدت على ملامحه. لم تكن تلك الجلسة المنفردة غير طقس روتيني كانت تحاول آليدابيلا من خلاله التخلّص من إحساسها الأمومي المفرط، وعرف جيوفاني ذلك منذ أن غمزت له أنونوزيتا قبل أن يدخل مباشرة خلف أمها إلى غرفة الجلوس الخاصة. "لا أذكر متى كانت آخر مرة دخلتُ فيها غرفة الاعتراف بالخطايا قبل هذا !!" قالها بطريقة اعتراضية مهذبة، بينما حاولت آليدابيلا أن تتظاهر بأن ما تطرحه من أسئلة مزعجة ليست اعتراضاً عليه أو محاولات واعظة من حماة مستقبلية، إنما مجرد قلق تعود أسبابه إلى الوضع العائلي المتدهور لا سيما بعد الحرب الأهلية الأخيرة. ولم تستطع آليدابيلا إخفاء انزعاجها لبذاءة لسانه ، وذكائه المرهق بالنسبة إليها. كما أنها تعجبت لتناوله الغليون في مثل سنه ذلك.
* أتسائل كيف تجمع بين حب النساء ودراسة الآثار! - كلاهما يتطلب المغامرة على كل حال.
12-04-2007, 11:29 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -10- وبطريقة أرستقراطية مهذبة، استأذن جيوفاني في محادثة أنونوزيتا التي كانت قد اختفت بعد غمزتها الناصحة. وبرفقة خادم أسود توجّه إلى حيث غرفتها في الطابق العلوي، ودون أن يطرق الباب دخل جيوفاني بحذر، فاستوقفته، وهو يحاول إغلاق الباب بذات الحذر، صورة رأسية كبيرة لشاب وسيم ذو نظرات حادة معلّقة على الباب من الجهة الداخلية، بينما كانت أنونوزيتا ترقد على بطنها منشغلة بالقراءة:
* من هذا الأمرد؟ - إنه لوركا .. ألا تعرفه؟ - قالتها بعد أن أخذت نفساً عميقاً، من مفاجأتها به داخل الغرفة، ولم تهتم لإسدال ثوبها.
12-04-2007, 11:41 AM
العوض المسلمي
العوض المسلمي
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 14076
_______________________ -11- لم يكن جيوفاني شغوفاً بالأدب ، فابتسم في سخرية ولم يسألها عن سبب حرصها على تعليق صورته على باب غرفتها، بل تقدّم بخطوات واثقة وهو يتفحص الغرفة بنظرات خاطفة، وعندما وقف أمامها مباشرة قال بصوتٍ هامس:
- يا لها من غرفة! * ألا يعجبك الشعر؟ - الكذب أسهل من الشعر .. لا مكان لهذا الشيء في زماننا. * تحتاج إلى أن تنظر داخلك جيداً لتتذوق الشعر. - لست رخوياً لأفعل، ما بداخلي لا يهمني بقدر ما يهمني ما هو حولي من أشياء وأشخاص .. لا أظن أنكِ تضيّعين جلّ وقتك في القراءة لرجلٍ يكذب على نفسه وعلى الآخرين بأشياء لا يمكن أن تحدث، كما أنها لا يمكن أن تكون قد حدثت فعلاً. * ظننتك مثقفاً ! - المثقف هو من يحشر أنفه فيما لا يعنيه، هكذا يقول سارتر، أليس كذلك؟
أمسك جيوفاني بالكتاب الذي كانت تقرأه أنونوزيتا قبل دخوله، تمعّن في الغلاف جيداً وهو يغمغم "لوركا أيضاً !!" ثم فتح الكتاب بشكل عشوائي ، وبنبرة هازئة بدأ يقرأ وهو يدور في أرجاء الغرفة:
"أريد أن أنام نوم التفاح وأن ابتعد عن ضجّة المقابر أريد أن أنام نوم ذلك الطفل الذي كان يريد أن يقتلع قلبه في عرض البحر لا أريد أن يعيدوا عليّ أن الأموات لا تفقد دمها وأن الشفاه المتعفّنة تظل متعطشة للماء"
- لا بد أنه كان يعاني من الأرق! – قالها وهو يعيد إشعال الغليون الذي انطفأ في يده - * بل من الوحدة يا ..... ما اسمك بالمناسبة؟ - لاريتو، جيوفاني لاريتو آنسة أنونزيتا .. * جيد، على الأقل اسمك يوحي بالاطمئنان.
12-04-2007, 12:17 PM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
______________________ -12- منذ تلك اللحظة، عرفت أنونوزيتا أن المعضلة الوحيدة التي ستواجهها مع هذا الفارس الداعر هو عدم قناعته بالشعر والأدب، لقد أحسّت فيه ميلاً للسخرية من كل ما له علاقة بالأدب. كانت أنونوزيتا على وشك وضع حد لهذه العلاقة لولا أن حدثها عن اهتمامه بالآثار والتحف والمقتنيات النادرة، فأحست بأن ثمة أمر آخر غير الهوس الجنسي يمكن أن يشتركا فيه، كما أن ثقته المفرطة بنفسه وبحلمه كانت تدعو للراحة. لم تكن لتمنع نفسها من الإعجاب به كلما رأته ممتطياً صهوة فرس كأنه فارس نبيل آتٍ من العصور الوسطى، تماماً كما كانت تخيّلت روبن هوود ودونكشوت؛ كانت أنونوزيتا تعشق فيه نظرات عينية الزرقاوين الواثقتين، وقلبه الذي مثل الفِطر البري السام، وربما أحسّت منه بغموضٍ يضيف على وسامته وسامة من نوع آخر.
12-05-2007, 05:46 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
________________________ -13- في منتصف الستينيات، وبعد أشهر قليلة من زواج جيوفاني من فاتنته، كانت أنونوزيتا وزوجها الشهواني المحب للمغامرة يقفان في مطار القاهرة بعد حصولهما على كتيب سياحي صغير من إحدى المحلات التي تبيع الهدايا داخل صالة المطار. ولم يدم صبرهما طويلاً حتى عثرا على مرشدٍ محلي تكفّل بمرافقتهما إلى حيث الوجهة التي يريدانها مقابل مبلغٍ من المال. كل ما كانت تعرفه أنونوزيتا عن مصر أنها تقع في أفريقيا، وكل ما تعرفه عن أفريقيا: أدغالها الاستوائية، وأنها موطن للعبيد، إضافةً إلى كلمنجارو وما قرأته من أساطير عن قمته الجليدية التي تبدو عند الشروق كمرآة لامعة. تقول إحدى هذه الأساطير أن قمة كلمنجارو كانت مغطاة بفضّة بكرية لم تمسسها يد بشر قط، وكانت واحدة من أملاك الإله إيزيزوس الحصرية، وأن أول من نجح في تسلّق القمة تاجر يدعى سوهاتشو، فعلها طمعاً في الحصول على ثروةٍ من الفضة يعود بها محمولة على أخراج الحمير، وتناقلت الروايات أن سوهاتشو حلّت عليه لعنة الإله إيزيزوس فأحالت الفضّة في يديه إلى جليد ذائب، وأصابته الشيخوخة في لحظتها، وقبل أن يموت أخبر الجميع بأن القمة مغطاة بتبر فضّة بارد! وظلّت القمة محتفظة بعذريتها طالما كان يخشاها الناس ويخافون غضب إيزيزوس، إلى أن فضّ بكارتها مغامر إسباني مجهول، لم يأخذ من قمتها ذهباً ولا فضة، بل ترك علم بلاده مغروساً على جليدها هناك. ومن يومها وهيبة الجبل تذوب كما تذوب قمتها في المواسم الحارة. وعرف الناس أن سوهاتشو إنما مات بفعل قلّة الأوكسجين وتجمّد الدم في أطرافه، وأن ما حسبوه فضّة لم يكن إلا جليداً فحسب!
12-05-2007, 07:40 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_______________________ -14- كانت تتوقع أن ترى في الجانب الآخر من الأهرامات حقول الموز والبن وأشجار الأفوكادو الاستوائية، غير أنّ دهشتها كانت عظيمة عندما رأت شوارع الإسفلت والبنايات الحجرية. انشغل الزوجان في أسبوعهما الأول بممارسة الجنس الأسري لا سيما وأن الطقس الشرقي المعتدل قد فتح شهيتهما لذلك دون أن يشعرا بالخوف من مطاردة آليدابيلا التي كانت تخشى على ابنتها من "الثور الجائع" – كما كانت تسميه – ودون أن تزعجهما بقلقها الأمومي المفرط.
12-05-2007, 07:49 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
___________________ -15- عندما وقفت أمام أهرامات الجيزة كان يتبادر إلى ذهنها أنّ الفراعنة لم يكونوا مشتغلين بالجنس كالأوروبيين، وبهذا فسّرت إنجازهم الذي لا بدّ أنه استغرق سنوات طويلة من العمل الجاد والمرهق. وربما انقرض الفراعنة بعد اكتمال الأهرامات مباشرة لأنهم كانوا قد فقدوا القدرة على مضاجعة زوجاتهم. هذا ما أسرّت به لجيوفاني بعد أول زيارة لهما للأهرامات. ولم يكن جيوفاني مرتاحاً لقراءات واستنتاجات أنونوزيتا الساذجة تلك، فكان يكتفي بابتسامة ساخرة وهو يقول "أهذا ما أوحى لكِ به لوركا؟"
12-05-2007, 08:34 AM
هشام آدم
هشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249
_____________________ -16- وفي قبرٍ ما من تلك المقابر التي كان ينقب فيها، وقف جيوفاني مبهوراً عندما رأى تمثالاً لامرأة تحمل طفلها وفوق رأسها شيء يشبه القرنين بينهما قرص دائري. فصرخ بطريقة هامسة : "إيزيس!" فنظرت أنونوزيتا لزوجها وهي تقرأ نظرات الدهشة التي كانت تستحيل إلى خشوع من النوع الذي لم تعده عليه فسألته:
* أتعرفها ؟ - أجل .. إنها إلهة قديمة عبدها البطالمة والرومان، ألم تر شيئاً يشبه هذا التمثال في إحدى كنائس روما من قبل؟ * لا أذكر .. فهذا الشيء يبدو سخيفاً ، وليس ذا قيمة. - إنها أم الطبيعة يا آنو .. وهذا الذي تحمله بين ذراعيها هو ابنها "حورس". لقد استوحت الكنائس المسيحية فكرة تماثيل السيدة العذراء وهي تحمل اليسوع وعلى رأسها شعاع النور من هذا التمثال. يا إلهي .. لم أكن أعلم أن المصريين يعرفون إيزيس. أتدرين ماذا يعني هذا ؟ * ماذا يعني ؟ - هذا يعني أننا نقف على قبور شعب قمة في الحضارة. ربما كانت حضارتهم أقدم من حضارتنا بملايين السنين.
عندما أحسست أنونوزيتا بإعيائي نسائي، كان جيوفاني قد قرر بدء رحلته جنوباً نحو القرى الرملية التي تخبأ تحتها مقابر الملوك الفرعونية وآثارهم الخالدة. واستأجرا قارباً شراعياً لهذا الغرض.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة