يحدث في الخرطوم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-06-2024, 00:10 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة هشام ادم(هشام آدم)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-05-2007, 11:22 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _______________________

    -17-
    ظلّ جيوفاني وزوجته يجوبان القرى النوبية بحثاً عن تلك المدافن الملكية يساعدهم في ذلك سكان تلك القرى البسطاء الذين كتب عنهم جيوفاني في مذكراته فيما بعد "إنهم زنوج ، غير أنهم ليسوا عبيداً .. وهذا ما أثار دهشتي!" اضطر جيوفاني لترك زوجته برفقة إحدى العائلات النوبية عندما داهمتها حمى حسباها "حمو النيل"، غير أنّ أنونوزيتا سرعان ما اكتشفت أنها تحمل في أحشاءها جنيناً في شهره الثالث. لا يذكر جيوفاني أنه فرح كفرحته بخبر حمل زوجته، وربما أحسّ لأول مرة أنه زاهد في النساء، ولكنه لم يوقف رحلة البحث، بل ترك زوجته لدى أسرة نوبية وغاب عنها ما يربو على الشهرين، ليعود بعد ذلك ويأخذها معه. "لقد عثرت على مدينة الذهب!" اتجه الزوجان إلى وادي الملوك حيث عثر جيوفاني على مقابر فرعونية نادرة جداً تعج بالآثار وتماثيل لبعض الملوك.
                  

12-06-2007, 07:40 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _____________________

    -18-
    كانت أنونوزيتا تشعر وكأنها في رحلة إلى التاريخ. رحلة إلى عوالم ما قبل التاريخ. وبفضل شروحات جيوفاني، اكتشفت أن الموتى الذين ينبشون قبورهم الآن لم يكونوا مجرد قبائل أفريقية بدائية كما كانا يظنّان، بل شعباً ينام على حضارة لم تر مثلها في روما أو أوروبا كلها. فازدادت احتراماً لهم.

    (عدل بواسطة هشام آدم on 12-06-2007, 07:47 AM)

                  

12-06-2007, 07:51 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ___________________

    -19-
    في العام 1964 كان جيوفاني يعمل جاهداً على نقل ما يكتشفه إلى متحف روما الوطني. وما هي إلاّ أشهر قليلة حتى غدا جيوفاني أشهر مكتشف تعرفه روما كلها. وعندما وضعت أنونوزيتا طفلتها، كان جيوفاني عندها بدأ يتوغل جنوباً حتى بلغ حدود السودان. ما تزال أنونوزيتا تتذكر ذلك اليوم الذي دخل فيه جيوفاني خيمتها التي نصبها النوبيون قرب النيل. ولأول مرّة تستشعر أنونوزيتا الجانب الإنساني في زوجها، بينما كان لا يكاد يرفع بصره عن ابنته النائمة في سرير خشبي منفصل مغطى بناموسية. حملها بين ذراعيه في حذر خشية أن تستيقظ، وكأنه يحمل قنبلة قد تنفجر في أية لحظة، قبّلها بطريقة مهذبة هذه المرّة لتبتسم أنونوزيتا في رضا وهي تسأل:

    * سميّتها لويسا، لويسا لاريتو. ما رأيك بهذا الاسم؟
    - لا .. سوف نسمّيها أوديت. إنه أجمل وأكثر موسيقية.
                  

12-06-2007, 10:11 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _______________________

    -20-
    لم يستطع جيوفاني أن ينس اسم أوديت عندما وجده منقوشاً على جدار إحدى المقابر التي اكتشفها في وادي الملوك. ورغم أنه لم يكن يعرف معنىً لهذا الاسم إلاّ أنه شعر بحميمة غريبة تجاهه، حتى السكان المحليّون توقفوا فقط حدّ ترجمة الحروف المنقوشة دون أن تكون لديهم معرفة بهذا الاسم. "لا بأس طالما أنه يعجبني!" هكذا حلّ جيوفاني الورطة الأسرية التي أوقعته فيها أنونوزيتا باعتراضها على الاسم الغريب.
                  

12-06-2007, 11:21 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ___________________

    -21-
    "هذا النيل يبدو كالدورق السري، كلما تعمقنا فيه اكتشفنا أموراً أكثر كثافة وإثارة" بهذه الحجة نزح جيوفاني وزوجته ومعهما ابنتهما الرضيعة إلى السودان عبر بوابتها الشمالية، ممتطين صهوة نهر النيل. وهناك، وبعد أن استطاعت أنونوزيتا أن تسترد عافيتها بفضل مديدة الحِلبة التي كانت النساء النوبيات يقدمونها لها ساخنةً كل يوم، بدأت هي الأخرى في إقامة علاقتها الخاصة بالأهالي للتعرف إليهم وإلى حياتهم وحياة أسلافهم الذين منحوها متعة أن تعيش كأميرات الأساطير. كانت أنونوزيتا تشعر دائماً وكأنها في رحلة زمنية، مستعيدةً تفاصيل رحلة أليس في بلاد العجائب، كانت تسأل بشغف عن كل ما تراه. وكان أكثر ما يهمها أن تلتقي أحداً يخبرها سر الآلة الوترية العملاقة التي رأتها مرسومة على جدران معبد أبو سمبل في يد إحدى حارسات آمون راع، ومنقوشة على جدران مروي القديمة. ولم يستطع أحد أن يفتيها في ذلك، غير أنّ عبد الجليل بشارة صانع القوارب الأربعيني خمّن أن تكون الخواجية تقصد الطنبور بوصفها، فصنع لها واحدة ما تزال تحتفظ بها، وعلّمها كيف تعزف عليه.
                  

12-06-2007, 12:15 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ______________________

    -22-
    الغيمة السوداء التي كانت تهطل على صدر أنونوزيتا وهي تتعلّم عزف الطنبور كان حنينها لمعهد الموسيقى، والبيانو الذي تركته في منزل أمها السيدة آليدابيلا، ولم تجدِ محاولات نساء القرية من حولها في إخراجها من تلك الدائرة القاتمة التي نسجتها من حولها وظلّت ملازمة لها ثلاثة أيام متتالية. كان جيوفاتي خلال ذلك منشغلاً بإقامة علاقات تجارية مع بعض التجّار الذين تعرف عليهم، وبنبرة تعبة أخبر مرافقه المصري "أريد أن أستقر هنا .. لقد راق لي المكان كثيراً" ولم تمض سنة حتى وكانت الفيلا التي يعيش فيها جيوفاني وزوجته وابنتهما أوديت جاهزة لاستقبالهم. ولأن أوديت نشأت تحت رعاية أرامل نوبيات تثق بهن أنونوزيتا فكان أول ما تعلّمته من الكلام هو: "يُـو"
    *


    * يو في اللغة النوبية تعني ( أمّي )
                  

12-08-2007, 09:42 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ____________________

    -17-
    بعد أن حقق ثروة طائلة من ورائها، ترك جيوفاني البحث والاهتمام بالآثار، واشتغل بالتجارة، وكانت سبباً في تنقله في أكثر من مدينة، إلى أن وصل به الحال إلى يورسودان للعمل في الميناء كواحدٍ من أكبر تجار إطارات السيارات، والأخشاب، إضافة إلى الكافتريات ومحلات عصير العرديب التي يملكها ويوكل إدارتها لصديقه مأمون القِرن. الذي كان لصداقته به بالغ التأثير في كسر قناعته بالرحيل عن يورسودان وقراره بالمكوث مع عائلته فيها منذ عام 1968م بعد ست سنوات قضاها بين رمال أبو سمبل ووادي الملوك وطيبة وحلفا ومروي ودنقلا وكسلا والقضارف. .

    (عدل بواسطة هشام آدم on 12-08-2007, 01:54 PM)

                  

12-08-2007, 10:52 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ______________________

    -18-
    في ذلك العام بعث جيوفاني في طلب زوجته وابنته ليعيشوا معه في يورسودان ولم يكن ذلك بالطبع يروق كثيراً لأوديت التي كانت قد بدأت تعتاد على جو القرية النوبية وتتقن بعضاً من لغتهم، ولولا تحذيرات جيوفاني الأبوية المتكررة لكانت أوديت الآن تتحدث بلسانٍ نوبي مبين. في مركز عَبري الصحي البسيط عرفت أنونوزيتا لأول مرة أنها لن تكون قادرة على الإنجاب بعدما تعرض غشاء رحمها لنزيف حاد. كانت صدمتها بهذا النبأ لا توصف، غير أنها لم تكن لتثق بطبيبٍ أسود ، لذا فقد أرسلها زوجها إلى القاهرة مع ابنتهما أوديت لتجري فحوصاتها الطبية هناك من جديد. وبعد عشرة أيام عادت وكأنها أصيبت بشيخوخة مبكرة، تحمل معها ما لا يحصى من تقارير طبية وأوراق أشعة تفيد جميعها بعدم إمكانية أن تنجب من جديد.

    - يا إلهي !!
    * لا شأن لله بما نحن فيه الآن يا آنو. لدينا فتاة هي أجمل من فلقة البدر، وأموال تكفينا لقرون. .. ماذا نريد بعد يا عزيزتي! ثم أنّك ما تزالين الوحيدة التي تثيرني .. أنسيتِ؟

    (عدل بواسطة هشام آدم on 12-08-2007, 01:56 PM)

                  

12-08-2007, 01:17 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ___________________

    -19-
    رغم هزلية كلماته إلاّ أنها كانت كافية لتقنع أنونوزيتا، بعد حين، بأن تنهي مراسم الحزن التي كانت تقيمها، وأن تجفف دموعها التي لم تكف منذ عودتها. ساعدها على ذلك اقتنائها لجهاز بيانو عملاق بلون الخشب المحروق تمضي عليه جلّ أوقاتها تعزف مقطوعات باسكيني الحزينة التي لطالما كانت تعشقها. بينما ظلّ جيوفاني ينصحها بعزف مقطوعات أكثر حيوية وضجة من تلك التي يعتبرها السبب في شعورها بالوحدة.



    نهاية الفصل الخامس

    (عدل بواسطة هشام آدم on 12-08-2007, 01:58 PM)

                  

12-09-2007, 07:39 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ___________________

    الفصل السادس

    -1-
    تذكّر الريّس كيف كان انبهاره بالأجواء المخملية للنادي الإفرنجي أول مرة ، عندما رأى انعكاس ذلك على وجه أبو السيك الذي لم يكفّ عن ترديد "يا إلهي" مقلباً بصره فيما حوله بطريقة متفحصة ومندهشة، بينما تقدّم هو بثقة العارف بالمكان فحيّا أمير سيد أحمد الذي كان منشغلاً كعادته بتلميع الكؤوس ورصّها بكل أناقة في الرفوف ذات الشكل الهندسي الشبيه بخلايا النحل، وسحب مقعده الذي اعتاد الجلوس عليه مبدياً ابتسامةً حاذقة. كان أكثر ما يثير دهشة أبو السيك هو التناقض الحميم بين الريّس والمكان. لاحظ أبو السيك أن الصالة التي جلسا فيها كانت متدرجة، ففي المقدمة توجد طاولات أنيقة مفروشة بفرش أبيض ومناديل داكنة الحُمرة أمام كل مقعد، ومزهرية فارهة في منتصف الطاولة. كما لاحظ أنها جميعاً مصنوعة من البامبو الفاخر، بينما تأتي الطاولات بالمقاعد المعدنية المحشوة بالمخمل في الصفوف التالية، ثم الطاولات والمقاعد البلاستيكية في الصفوف المتأخرة بدون مزهريات تذكر. "أيها المعدم البائس .. ما الذي يأتي بك إلى مثل هذه الأماكن؟" وربما للمرة الأولى يشعر أبو السيك بتفوق الريّس عليه في أمرٍ آخر غير لعبة الوست. "هنا سوف تنسى اسمك" قالها الريّس مضيفاً عنصر التشويق للجلسة التي اعتبرها تاريخية وحاسمة. وبأسلوب لا يخلو من المكر نظر الريّس إلى صديقه وهو يقول "هنا يمكننا أن نتفاهم".
                  

12-09-2007, 08:54 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _____________________

    -2-
    تقدّم أمير سيد أحمد دون أن يُشهر ابتسامته الترحيبية المعهودة وبمحاولات جاهدة منه لتجنب الرسمية المتكلّفة، وقدّم البيرة للريس وصديقه في صمت، حتى دون أن يسأله عن مرافقه. فعرف الريّس أنه ليس على ما يرام. وبطريقة مهذبة أمسك بمعصمه:

    * ما بك يا أمير .. أأنت بخير؟
    - الحمد لله ...

    كان الريّس يفكّر فيما يمكن أن يجعل أمير حزيناً إلى هذا الحد. فلم يعهد عليه حزناً، ولم يكن هناك ما يجعله كذلك. فهو يعيش حياةً يتمناها كل من هم في سنه. هذه الحياة المليئة بالرقص والموسيقى والجمال والجميلات؛ وفوق كل ذلك فهو يتقاضى راتباً لا يحلم به شاب مثله. وعرف أنّ تلك الابتسامات المخنوقة التي يوزّعها على الزبائن ما هي إلاّ تقاليد مهنية مفروضة عليه. وبينما كان الريّس منشغلاً بحزن صديقه أمير، كان أبو السيك منشغلاً بالريس: "أراك تعرف عمّال هذا المكان أيضاً !" لم يكن الريّس ليغفل تلك الملامح الحزينة التي يخفيها أمير بصعوبة وراء ابتسامته المُجامِلة، وبدا وكأنه ممثل يقوم بدورٍ لا يُعجبه. تذكر حديثه الفلسفي عن الوجوه والأقنعة، وظنّ بنفسه خيراً لوهلة، وعرف أن ما كان يفكّر فيه لم تكن تخاريف عابثة، ولا مقولات متشائمة. وبقدر ما ارتاح لهذه النتيجة، بقدر ما حزن على أمير، بينما لم يشغل أبو السيك باله كثيراً بدوائر الريّس التراجيدية، بل راح يفتح علبة البيرة بشغف التجربة، ويقلّب عينيه في كل ما حوله "أيها النمس!"
                  

12-09-2007, 09:43 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _______________________

    -3-
    أحس الريّس بانقباض لم يعرف سببه على وجه الدقة، ولم يكن ليصدق أن حزن أمير هو السبب في انقباضه، فهو يعرف عن نفسه أنه ليس عاطفياً بما يكفي ليشعر بذلك، وما زالت كلمات رفاق نادي ديم بوليس له ترنّ في أذنيه "أنت إنسان لا تحفظ الود أبداً ". أكثر ما كان يشعره بالضيق هو أنه لم يكن في مزاج جيّد للتحدث مع أبو السيك حول موضوع الهجرة، إن لم يكن بسبب انقباضه فبسبب انشغال أبو السيك بالمكان وبمن فيه.

    لأول مرّة يشعر بأنه غير سعيد في هذا المكان. حتى هو نفسه لم يكن يعرف بدقة سبب مجيئه إلى هنا. تارة يجد أنها كانت الوسيلة الوحيدة لإقناع أبو السيك والتناقش معه في جو هادئ بعيداً عن ضحكات شباب نادي ديم بوليس، وصافرات القطارات المغادرة ليلاً، وغمغمات الصاوي المزعجة ومناكفاته التي لا تنتهي مع فتحية شبانة، وتارة يجد نفسه أقرب إلى الاقتناع بأن مجيئه إلى النادي لم يكن إلا حيلة منه علّه يرى تلك الفتاة الإيطالية التي لم يرها منذ أن رآها قبل ست سنوات، هو نفسه لم يستطع أن يحدد السبب الذي كان في دماغه عندما قرر المجيء، غير أنه كان أكيداً من أنه ليس بالدهاء الذي يجعله يخطط لضرب عصفورين بحجر واحد. وربما رجّح أنه سيكون سعيداً لو رأى فاتنته الإيطالية أكثر من سعادته فيما لو نجح في إقناع أبو السيك بالهجرة.
                  

12-09-2007, 10:51 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ___________________

    -4-
    لم يترك الريّس الفرصة لصديقه بأن يكتشف المكان بمفرده، فكان يبادر في إعطائه إجابات تحليلية ووصفية لكل ما تقع عينه عليه حتى دون أن يسأل:

    " تأتي هذه المياه من حوض كبير موضوعٍ في جانبٍ ما من المطبخ، وثمة فتحات صغيرة في المجرى يدخل منها الماء من ناحية والهواء من ناحية أخرى فيحدث نوع من الضغط الذي يجعل عملية تولّد الماء متكررة "

    كانت الصالة تعج بالأفنديات، وفي زاوية ما يجلس أربع خواجات على طاولة واحدة يلعبون القمار ، عرفهم بملامحهم الجامدة ووجوههم البيضاء التي تعلوها حمرة متفرقة ولون شعورهم البيضاء والشقراء، بينما كانت تلتف حولهم فتيات لهن ملامح أفريقية، إحداهن بمُشاط كردفاني طويل، وكلهن يرتدين بناطيل الجينز. ولم تختف تلك النظرات المزدرية التي راحت ترمق الريّس وصاحبه:

    * لم ينظر إلينا هؤلاء بهذه الطريقة؟
    - لا تكترث بهم، فقط استمتع بما تراه أنت
                  

12-09-2007, 12:15 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _______________________

    -5-
    بدأت قناعات الريّس بجدوى نقاش أبو السيك حول موضوع الهجرة في صخب النادي الإفرنجي تتزعزع ، لا سيما وأنه لم يكن يعلم بشغف أبو السيك للحياة المخملية من قبل. وأحس بأن حتى شروحاته التحليلية عن المجرى المائي وأضواء الاسبوت لايت والبخار المتصاعد في الأرجاء لم تكن بذي بال لديه. وبسذاجة المبتدئ تجرّع أبو السيك زجاجة البيرة دون أن ينتبه لنصائح الريّس له بأن يتمهل في الشرب، ولم يندم على ذلك إلاّ عندما وقف النادل أمامه مباشرةً "أأجلب لك زجاجةً أخرى؟" عندها رشف الريّس ما تبقى من بيرة باردة في زجاجته "لا .. لا نحن على وشك الانصراف الآن" لم يفكر أبو السيك طوال حياته في زيارة النادي الإفرنجي، بل ولم يكن يجرؤ على أن يمر بالطريق المؤدية إليه. ربما كان يكره الأغنياء في لاشعوره، ولكنه لأول مرة يراهم أمامه وهم يمارسون ترفهم في غير المناسبات الدينية التي تجمعه بهم. لم يكن يرهم إلاّ في مصلّى العيد الكبير مرتجلين من سياراتهم الفارهة مرتدين شالات العظمة وعباءات حريرية كتلك التي يرتديها أمراء الخليج، حاملين عصي من النوع المنتهية بمقابض من الفضة المرصّعة بحبيبات صغيرة من المعدن اللامع، ومراكيب جلد النمر الأصلي. دائماً يجلسون في الصفوف الأولى كالأتقياء، حيث السجاجيد الوبرية بينما تُفرش الصفوف المتأخرة بالبروش القاسية المثبّتة على الأرض بالأحجار الضخمة. كان يعرف أن هنالك فرقاً كبيراً بين حياته وحياتهم، ولكنه اليوم لمس هذا الفرق تماماً وعرف مقداره. "أرأيت كيف يحيا هؤلاء القوم حياتهم؟" قالها الريّس بعد أن وضع ساعده على كتف صديقه، وهما يغادران المكان بحسرة وشيء من غبطة لم يعرفا سببها.
                  

12-09-2007, 12:27 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ___________________

    -6-
    أمير الذي لم يبادر للترحيب بصديقه بالحرارة المعهودة بينهما، كان في شغل عن توديعه، بل أنه لم ينتبه لمغادرته حتى. ليلاً، عندما بدأت الأقدام تترنح والألسنة تهذي، اتخذ من كرسيين، وضعهما متلاصقين، سريراً له، وتمدد عليهما غير آبهٍ بالضجة التي يحدثها السكارى خلفه. كان أحد الخواجات يصرخ بصوتٍ مخمورٍ عالٍ وهو يقول:
    "Life in this fucking country was not exciting as it is tonight!"

    بينما وقف آخر وهو يحكي بزهو واضح عن مغامراته المثيرة في القاهرة عندما كان طالباً في جامعتها. وعن قصصه مع العساكر الإنجليز وكيف استطاع أن يبني ثروته في ركام الحرب لمجرّد أنه عرف كيف يهرّب السلاح مع مجموعة من المصريين إلى السويس إبان حرب الاستنزاف، ورحلته السرية إلى بورتوفيق التي كانت محفوفة بالمخاطر. وأخذ يوصف لهم حادثة حريق الزيتية التي كادت أن تلتهم يده، وكيف أبلى فيها كأحد أبطال الحرب الذين نالوا نوط الشجاعة على يد جمال عبد الناصر آنذاك.
                  

12-09-2007, 12:43 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ____________________

    -7-
    أطال أمير النظر في الأسقف المستعارة، وبمزاج عكر أشعل سيجارة كان يضعها خلف أذنه، وراح ينفث دخانها على ضوء إضاءة زرقاء خافتة. خيّل إليه أنه سوف يبكي عندما لم يستطع أن يميّز بين تقاطعات السقف المستعار المصنوعة من الفيبرجلاس الأبيض، كان يراها، من وراء عينيه المبتلتين بالدموع، كشباك صيد سابحة على سطح بحيرة ذات مياه زئبقية ثقيلة. وشعر بكراهية شديدة لنفسه لإحساسه بالعجز عن نيل ما يريد. كانت ملامح محبوبته تبدو باهتة بين تقاطعات السقف المستعار، وابتسامتها، التي كان يستعيرها من ذكرياتٍ ما تزال طازجة في إحدى جيوب ذاكرته، كانت السبب في زفراته الثقيلة الساخنة. وبوضوح تام يخترق ضجة موسيقى الفرانكواراب جاءته كلمات والده "ألا تستشعر المسئولية قليلاً .. ألا ترى هذا المنزل الذي يوشك أن يهوي سقفه فوق رؤوسنا، ثم تأتي لتخبرنا بأنك تنوي الزواج!" كان يضمر في صدره ، المليء بحب ناهد عبد الله نوعاً من الكراهية غير المؤذية لوالده الذي لم ينتبه لحوجة المنزل للصيانة إلاّ بعد أن فتح الله على ولده ، وهو الذي كان من قبل قد رفض أن يحج على نفقته بحجة أنها "فلوس حرام". ورغم أنهم كانوا يعيشون على القليل من الشكوى والكثير من الصبر، إلاّ أن أسرة أمير سيد أحمد بدأت تعتاد على سقط المتاع. وانتهت أحلامهم الأساسية العريضة لتبدأ الكماليات بالتمدد شيئاً فشيئاً حتى أصبحت هي الأخرى أساسيات لم يستطيعوا الاستغناء عنها. الحمام الذي كان بحاجة إلى ردم وإعادة ترميم تحوّل إلى حمام سايفون. والجدران الجالوصية الآيلة للسقوط هي الآن من الطوب الأحمر. والسقف الزنكي لا وجود له بعد أن تم تلقيم السقف بالصبّة الخرسانية. ولم تعد أسرة أمير سيد أحمد تستعير الماء من بيت دفع الله الضو أو تضع طعامها في برّاد الجيران، كما لم تعد والدة أمير تستعير تيس جارتها لتلقيح عنزاتها الثلاث. أحس بأنه سوف يظل مكبلاً باحتياجات أسرته التي لم تكن لتنتهي طالما أنه ما يزال يعمل في النادي الإفرنجي.
                  

12-09-2007, 03:05 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _______________________

    -8-
    حاول أكثر من مرّة أن يفاتح والديه بموضوع رغبته في الزواج من ابنة عبد الله التايب التي يهيم بها حباً منذ أن كان في السادسة عشر من عمره، غير أنهما اعتبارا ذلك محاولة منه للتنصل من مسئوليته تجاه واجباته الأسرية. مجرّد التفكير في الزواج يعني أن تتوقف المساعدات المالية التي ظلّ يقدمها لأسرته على مدار أربع سنوات متواصلة.
                  

12-10-2007, 06:19 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _______________________

    -9-
    - ألا تريدين أن تفرحي بي يا أم أمير ، وأن تسعدي برؤية أحفادك وهم يلعبون من حولك؟

    ظلّ أمير يردد هذه الجملة العاطفية على مسامع والدته لينفذ من قسماتها المصفّحة بحب المال، إلى تلك المنطقة الضعيفة في قلبها "الأمومي" ولكنها لم تكن لتغيّر رأيها بأن الوقت ما زال مبكراً على التفكير في الزواج متحججة بأنه بقليلٍ من الصبر والأناة قد يحصل على عروس أجمل وأفضل من ناهد عبد الله، ولكن هذا "القليل من الصبر" لم يكن له سقف زمني محدد أبداً. وكبقية الأمهات فقد كانت زينب مضوّي لا تر فتاة تناسب ولدها ، وأن كلهن أقل مما تتمناه له. وربما كانت تلك حجتها الأنجع التي تخفي بها أمومتها الرافضة لفكرة زواج ابنها من فتاة تأخذه "على الجاهز" بعد أن تعبت في تربيته. ولم يفوّت أمير أية فرصة كانت تسنح له ليقنع أمه بأن اختياره لشريكة الحياة لا يخضع إلاّ لمعياره وليس لمعيار شخص آخر، غير أنها كانت أعند من أن تقتنع له. وقد وافق موقف سيد أحمد من زواج ابنهما غريزتها الأمومية على كل حال. "أعندما يفتح الله عليك، تفكر أول ما تفكر بالزواج؟ هل نسيتَ أهلك أم هانوا عليك أيها الابن العاق!" هذه كانت حجة سيد أحمد وزينب مضوّي المشتركة التي كانا يشهرانها في وجهه في كل مرّة.
                  

12-10-2007, 07:47 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _______________________

    -10-
    ومن ناحية أخرى فإن الريّس لم يكن راضياً أبداً عن ليلته تلك التي مضت دون أن ينجز فيها شيئاً يذكر. وكانت عيناه ما تزالان معلّقتان بأنوار النادي الإفرنجي وهما يبتعدان عنه شيئاً فشيئاً، بينما ظلّ أبو السيك بمكره غير المعتاد يتهرّب من محاولاته لفتح موضوع إيمان ودراستها "هذه الليلة، أشعر بأنني سعيد، ولا أرغب في الكلام عن أي موضوع آخر" وراح يغني بصوتٍ عالٍ أثار حفيظة الكلاب التي راحت تنبح في وجهيهما طوال الطريق. خطأ الريّس الفادح أنه كان السبب في ذلك. توجه الصديقان إلى بيت آنجلينا صانعة الخمر التقليدي "العرقي" وهناك ضحك أبو السيك بسخرية:

    - من النادي الإفرنجي إلى بيت الدينكاوية يا قلبي لا تحزن!!
                  

12-10-2007, 08:24 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _____________________

    -11-
    أحس أبو السيك أنه بحاجة ماسة إلى أن يغيب عن الوعي، فقد فتحت زيارته للنادي الإفرنجي كوّة ، في لا شعوره ، كان حريصاً على إخفائها. كان يعلم أنّ شعارات الرضا والقناعة التي كان يرفعها دائماً ما هي إلاّ كلمات خرقاء متوارثة لا يملك غيرها، وكثيراً ما كانت مجدية في مواجهة شظف المعيشة وقسوتها. كانت زيارته القصيرة تلك بمقدار الحرارة اللازمة لإظهار الحقيقة المكتوبة بحبر سرّي. أحس بكراهية بالغة تجاه الأغنياء، وكراهية لنفسه ولما حوله من معالم فقيرة وبائسة بالمقابل. كان الريّس يراقب كل ذلك، وكأنه يشهد تكوّن مخلوق جديد. كعادتها اقتربت منه أنجلينا، الأثيرة لديه، وقد وضعت يدها على ركبته في غنج. نظر إليها بقرف، وكأنه يراها لأول مرة. ونهض بكل هدوء، بينما ظلّ الريّس يراقبه وهو يخرج من باب الإنداية دون أن ينبس ببنت شفة:

    - ما بال صديقك؟
    * يبدو أنه بدأ يستعيد وعيه !!
                  

12-10-2007, 11:36 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _____________________

    -12-
    وبغبطة ماكرة ركض الريّس وراءه وهو يحس بأن خطته بدأت تنجح جزئياً وتؤتي أكلها. سار إلى جانبه في هدوء قبل أن يوسوس:

    - أقسم بأننا أموات. وطالما أننا نعمل في هذه المهن التافهة فسوف نظل أمواتاً كما نحن. علينا أن نجرّب حظنا في مكانٍ آخر .

    غير أن أبو السيك لم يجبه بشيء. كان كمن فقد القدرة على الكلام. أحس بأنه يتنفس بصعوبة بالغة، أو أنّ الهواء الذي يدخل إلى صدره هواء ثقيل ليس من ذلك النوع المعتاد الذي يذوب في الرئتين بسهولة. كان يمشي متهادياً واضعاً يديه في جيب بنطاله الجينز، يركل الحصى الصغيرة التي يصادفها بقدميه، فيما اكتفى الريّس بما قاله، وترك للخمر ما تبقى من الخطّة. تقدّم نحوهما طفل يلهث وهو يتحقق في العتمة من شكليهما:

    - الريّس .. لقد سقطت أمك ووقعت مغشياً عليها.
                  

12-10-2007, 12:17 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ______________________

    -13-
    كانت الخمر قد عطّلت استيعابه، فتأخرت ردة فعله. وقف قليلاً وهو يعيد ترتيب الجملة اللاهثة التي قالها الطفل، وعاد مهرولاً من حيث أتى. ثم انطلق وهو يصرخ. كان الركض في حدّ ذاته مهمة صعبة عليه، وكذا على أبو السيك لذا فإنهما تعثرا أكثر من مرّة في طريقهما إلى البيت؛ حيث وجدا النسوة وقد تحلّقن حول نفرين التي كانت بلا حراك. قفز الريّس عتبة داره بطريقة بهلوانية أفزعت النسوة المحوقلات. بينما وقف أبو السيك لوهلة أمام الباب قبل أن يركض مسرعاً إلى منزل عبد الحي صابونة أول من خطر بباله. وبطريقة آمرة طلب منه أن يخرج سيارته الأجرة لنقل نفرين إلى المستشفى. وفي خلال دقائق كان الريّس وأبو السيك وثلاث نسوة بينهن فتحية شبانة في المركز الصحي المتواضع الأقرب إلى ديم بوليس حيث توفيت نفرين بسبب انعدام جهاز الأوكسجين، وتقنيات تدليك القلب الاصطناعي التي لم تكن متوفرة إلاّ في المستشفيات الاستثمارية الكبرى. وبينما كانت النسوة منشغلات بالنواح والنحيب، فكّر الريّس أنه لا توجد صورة لنفرين ليعلّقها جوار صورة والده على جدار غرفته. "جلطة دماغية .. كان يجب أن تحضروها باكراً " ومضى الطبيب وهو يربّت على كتف الريّس "إنا لله وإنا إليه راجعون .. أذكر الله"
                  

12-10-2007, 12:58 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _____________________

    -14-
    شعر بحزنٍ من نوعٍ غريب، لم يستطع البكاء ولم يستطع أن يظل واقفاً، فجلس على الأرضية البلاطية الباردة واضعاً رأسه بين ركبتيه. كانت عيناه محتقنتان، ولكنه لم يستطع البكاء. لم يفكر مطلقاً بهذا الأمر، لم يفكر في أنّ أمه قد تموت يوماً ما، وها هي تموت اليوم حتى قبل أن تراه متزوجاً كما كانت تحلم دائماً، وربما كان ذلك ما يسبب له شعوراً بالندم.

    وقف أبو السيك في زاوية بعيدة، لم يستطع أن يواجه صديقه في محنته وظلّ يبكي منفرداً حتى كاد أن يتقيأ. لم تكن نفرين مجرّد أم لصديقه، بل كانت بمثابة أمه كذلك. لا يزل محتفظاً بالتميمة التي صنعتها له وللريّس لتحفظهما من الحسد. وتمر في مخيلته ذكرياتهما معها أيام المدرسة، وكيف أنها كانت تعد لهما شطائر الطعمية والفول وكأنهما أخوين توأمين. كان كل واحدٍ منهما بحاجة لمن يعزيه. تقدّم عبد الحي صابونة سائق الأجرة وأمسك به من ساعده ليساعده النهوض:

    - أذكر الله يا أبو السيك أذكر الله .. اذهب إلى صديقك وكن معه، فلا أحد يجرؤ أن يقترب منه وهو بحالته تلك.
                  

12-10-2007, 01:53 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _________________________

    -15-
    نهض أبو السيك بتثاقل، ورمى بنظرة متوجسة إلى حيث الريّس ليجده منكفئاً على حائط بعيد. اقترب منه بهدوء وحذر. كان يعلم أنه لا يصلح للمواساة ، ويخشى أن تتقاطع عيناه مع عيني الريّس، وقف بالقرب منه قبل أن يعرف تماماً ما يتوجب عليه فعله. انحنى نحوه واضعاً كفّيه على ركبته دون أن ينطق بحرفٍ واحد. وما أن رفع الريّس رأسه ورأى عينيه المحتقنتين حتى انتابته نوبة بكاء هستيرية.

    في الجانب الآخر كانت النسوة يضربن نحورهن في مشهدٍ ميلودرامي مفزع. حاولت بعض العاملات في المركز الصحي التهدئة، ولكن دون جدوى. وأثار منظر هؤلاء النسوة الجالسات على الممر البلاطي شفقة كل من كان يمر بالمكان. كلهم كان يحوقل وهو يشاهد هذه الميلودراما الإنسانية المؤثرة. واختلطت في الأنوف رائحة الديتول برائحة الموت. للموت رائحة غريبة ومميّزة جداً. تتسلل إلى الأنوف وتستقر في الذاكرة فتخثرها على الفور. رائحة كرائحة قشر البرتقال المتعفّن. يثير الموت حاسة ثامنة كامنة في اللاشعور. حاسة تجعلنا نستعيد حياتنا بطريقة سينمائية، فتكون الصورة والصوت والبعد النفسي أكثر وضوحاً من أن تحاول استعادته بمفردك. يجب أن تتذكر الموت للتذكر ما فعلته قبل عشر سنوات بكل دقة.
                  

12-11-2007, 10:12 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ______________________

    -16-
    في الصباح، حمل الجميع جثمان نفرين إلى مثواها الأخير، بكان الجميع في تشييع الجنازة: إبراهيم الصاوي ، والعم صابر"الكومندة"، وعلي أب شلّوفة، والشفيع الطاهر "دكتور الميناء"، ومساعده سرور، وعبد الماجد طه، ومرزوق عجوة، ومعتصم المرضي، ومبارك أب ساقين، وعبد الحي صابونة سائق التاكسي الذي رفض أن يأخذ أجرة التوصيل. بينما كانت النساء ينتحبن في مكانٍ آخر. وقفت إيمان الصاوي بجانب والدتها الباكية وهي تربّت على كتفها مقاومةً رغبتها في البكاء. واشتغل شباب الحي في بناء صيوان عزاء الرجال في الساحة الغربية لمنزل الريّس. "لا حول ولا قوّة إلا بالله" ترددت هذه الكلمة كثيراً على ألسنتهم وألسنة العابرين الذين يمرون بالقرب منهم.

    في هدوء ، يتخلله حوقلات خافتة في الصفوف الأخيرة ، دخل الجميع من البوابة الشمالية لمقبرة "ديم عرب". كان الريّس متجلّداً حتى اللحظة التي بدأوا فيها بإنزال الجثمان إلى القبر، عندها انفجر باكياً يؤازره أبو السيك والعم صابر التي فقدت وعيها عندئذٍ. "كلهم راقدون هنا ... كلهم راقدون هنا" لم يكن الريّس ينطق بغير هذه الجملة التي كان لها وقع كبير في الحضور، قلّة منهم فقط استطاعت أن تحافظ على رباطة جأشها وأن تمنع أعينها من البكاء. هكذا رحلت نفرين قبل أن يشهد الريّس تلك اللحظة التاريخية التي تغيّر فيها تراب علبة النيدو. وقبل أن يتحقق حلمها برؤيته عريساً ورؤية أبنائه النجباء.

    نهاية الفصل السادس
                  

12-11-2007, 01:28 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ____________________

    الفصل السابع

    -1-
    مرّت أكثر من ثلاثة أشهر والريّس لم يعد هو الريّس الذي يعرفه الجميع. أحس بالوحدة واليتم لأول مرّة في حياته. ورغم أن علاقته بوالدته لم تكن جيّدة إلى ذلك الحد، إلاّ أنها تظل أمه. فقد حزن عليها كما لم يحزن على والده وأخيه من قبل. ظنّ أنه لم يعد قادراً على استشعار الفقد، أو أنّ قلبه قد تحجّر فلم يعد قادراً على الحزن كما يجب. ترك رحيل نفرين فراغاً كبيراً في حياته، فلم تعد هناك "نهج البردة"، ولم يعد يخشى صوت صرير الباب الحديدي وهو يصدر جلبته العالية عندما يعود ليلاً، وما يزال الطوب الصغير في مكانه خلف الباب، لم يشأ أن يرميه أو أن يغيّر أي شيء آخر في البيت. أصيب الريّس باكتئاب حاد سببه خوفه الشديد من الموت وارتقابه بين كل لحظة وأختها. ولأول مرّة شعر بأن الموت قريب منه جداً. كان يفزع كثيراً حتى عندما يصيبه الصداع. فكّر بأن عائلته عائلة منكوبة، وأن الدور قد أتاه الآن. كان أبو السيك يتردد عليه دائماً، ويحاول ما استطاع أن يخرجه من عزلته التي فرضها على نفسه، ولكن دون جدوى.
                  

12-11-2007, 02:18 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _________________________

    -2-
    يومها زاره العم صابر في منزله. كان هادئاً كعادته وهو يخرج علبة القمشة ، ويلفها بينما استضافه الريّس بإهمال. جلسا صامتين حتى أشعل العم صابر قمشته وأخذ منها نفساً عميقاً ثم قال:

    * أريد أن أقول لك أمراً ، فاسمعه بقلبك، وعه جيداً لأنني لن أكرره عليك مرة أخرى: إن كنتَ تعتقد أن عزلتك سوف تنقذك من الخوف، فأنت واهم. فرّق يا بني بين الخوف والحزن، ولا تجعل حزنك يخيفك أبداً.
    - أنت لم تمر بما مررت به أنا يا كومندة، لقد توفي جميع عائلتي. لقد أصبحت يتيماً ووحيداً في هذه الدنيا
    * ومن قال لك ... قبل ثلاثين عاماً وفي حادثة واحدة ماتت زوجتي وأبنائي الثلاثة أمام عيني. لقد غرقوا في هذا البحر ولم أستطع أن أفعل لهم شيئاً. هل تعرف ماذا يعني أن تموت عائلتك أمام عينك في لحظة واحدة؟
    - غرقوا كلهم؟
    * بين كل خمس دقائق .. كان واحد منهم يغطس ولا يظهر مرةً أخرى حتى اختفى جميعهم .. والبحر الذي كان يعج بصراخهم هدأ فجأة، وبقيت لوحدي طافياً على برميلٍ بلاستيكيٍ فارغ .. الموت تجربة قاسية يا الريّس ولكن الأفظع من الموت هو أن تراه يخطف أحدهم أمامك.. والأفظع من كل ذلك أن تجلس في انتظاره هكذا كما تفعل أنت الآن.
                  

12-12-2007, 09:03 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ___________________

    -3-
    شعر الريّس ببعض المواساة والكثير من الخجل، بيد أنه لم يفصح عن ذلك للعم صابر الذي لم ينتظر منه رداً، بقدر ما تحمّل جريرة فتحه لجرح قديم حاول أن ينساه ولم يستطع. كان يعلم أنه ذات يوم سيكون في مواجهة صعبة مع هذه الذكرى المؤلمة، ولكنه لم يكن يعلم أنها ستكون مؤلمة إلى هذا الحد. أثقلت الذكرى كاهله، فبدا وهو يغادر المكان كرجل يحمل جبلاً من الحصوات الصغيرة. بينما تسمّر الريّس في مكانه ولم يبد حراكاً حتى نزلت منه دمعة بللت الأرض بين قدميه. غسلت هذه الدمعة حزنه نوعاً ما، غير أنها لم تزحزح فكرة الاعتيادية عنه.
                  

12-12-2007, 10:18 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ____________________

    -4-
    فكرّ قليلاً كيف أن هذا العالم مليء بالقصص المؤلمة، والمتألمين. هانت في عينيه مصيبته، وهو يتأمل سخرية الأقدار التي جعلته لم يشهد وفاة أحدٍ من أسرته، إلا والدته! لقد رحل الجميع وهو بعيد عندهم؛ لم يشهد وفاة أبيه الذي نام ليلاً ولم يستيقظ أبداً، كان وقتها في رحلة مدرسية إلى سواكن، وعاد ليجد العزاء في يومه الأخير. ولم يشهد حادثة غرق أخيه واكتفى بالروايات التي سمعها من والديه وبعض الصبيّة الذين شهدوا الحادثة بأنفسهم. "ترى ما الحكمة من ذلك؟ ما الرسالة التي يتوجب عليّ استيعابها؟ لقد عرفت أنّ أمي إحدى الأشياء التي كانت تجعلني لا أتحمس للهجرة ، فكيف كان لي أن أنتقل بها وهي عجوز لا تتحمّل مشاق السفر ووعثائه. ثم أنني لم أكن على علم بالوجهة التي سأذهب إليها ومصيري هناك. ترى هل هي إشارة للسفر؟ أم هو تحذير منه؟" .
                  

12-12-2007, 11:55 AM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ____________________

    -5-
    ظنّ أنه سوف لن يعود من رحلته التخيّلية أبداً، ولن يخرج من دوائر أسئلته الملتفة كأغصان اللبلاب، كمن يهوي في حفرة مظلمة لا نهاية لها، كان يريد أن ينام، وشعر برغبة في التقيؤ، لكنه خشي أن يموت مختنقاً. لم يعرف ماذا أصابه. عادت إليه كلمات العم صابر تردد على مسامعه، آمن بأن خوفه من الموت هو ما يشعره بهذا الشعور المزعج، وأن ثمة أشباح تلتف حول عنقه وتسحر عينيه فلا يرى إلا ما تريده أن يراه.
                  

12-12-2007, 12:26 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    ______________________

    -6-
    ليلاً، كان شبح الموت يطارده أنّى التفت. وكثيراً ما يهيئ إليه بأنه يرى أشياء تتحرك في أرجاء البيت، أو يسمع أصواتاً تثير في نفسه الرعب. كان الريّس حديث عهد بهذا الشعور المزعج. ولكنه شعور تملّكه وأصبح هاجسه، لدرجة أنه كان يخاف أن ينام أو حتى أن يستلقي على ظهره. فلقد ارتبط الموت لديه بذلك الشكل التقليدي للموتى وهم ممددين على ظهورهم. وعندما كان يرهقه الجلوس الطويل، كان يتمدد بحذر شديد، وهو يراقب الجهة التي فوق رأسه مباشرة، اعتقد بأنه سوف يرى ملك الموت واقفاً له في أية لحظة، حتى أنه راح يخمّن شكله ورائحته، والطريقة التي سوف يدخل بها عليه. استعاد رائحة المركز الصحي: رائحة الديتول وقشر البرتقال المتعفّن ، وشعر بأن الموت في الأرجاء ، ربما كان مقتنعاً بأنه سيموت حالما يغمض عينيه، وأن ملك الموت يختبأ في مكانٍ ما يراقبه ويتحيّن الفرصة التي يغفل فيها لينقض عليه. وجد نفسه خائفاً ويذوب في خوفه كما يذوب لوح الثلج في كأس ماءٍ ساخن. أطلق لعينيه العينان، فراحتا تعبثان بخوف في أرجاء المنزل، وتنتقيان تلك الأماكن التي تثير الرعب: المدخل الضيّق المؤدي إلى الحمام الخلفي للمنزل، زاوية المطبخ المظلمة، أشجار الحناء التي كانت تتحرك مع الهواء، وكأنها جنّيات يرقصن رقصة طقوسية وعلى رؤوسهن شمعدانات تضيء بنور أسود قاتم.
                  

12-12-2007, 02:03 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _____________________

    -7-
    كانت عيناه تتنقلان برشاقة بين كل شيء يتحرك في العتمة، وكأن حذره ذلك سينقذه من الموت، أو من الموت فجأة. كاد قلبه أن يتوقف عندما قفزت هرّة ووقفت على الجدار من الناحية المطلّة على الشارع، ثم إلى داخل المنزل. عاد إلى وضعيته الأولى بعد أن تنفس الصعداء، إذ أحس في مواء القطة وحركتها داخل المنزل ببعض الونس، مما أشعره بنوع من الطمأنينة.
                  

12-12-2007, 02:11 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _____________________

    -8-
    في الصباح تعجّب من كونه قد استأنس بقطة، فضحك على نفسه في سخرية، وهزّ رأسه قبل أن ينهض ليستحم. وأثناء حمامه، أدرك الحلقة المفقودة لحالته تلك. خمّن أن وحدته هي ما تشعره بالخوف، وأن الموت إلى جوار كائن ما قد يكون أقل إيلاماً ووحشة، المهم أن يكون هنالك كائن حيّ ما إلى جواره، وامتد به تفكيره إلى أنه آخر فرد من عائلة الكاشف التي قد تنقرض بمجرد موته. لم يكن ليأبه لمثل ذلك من قبل، ولكن الخوف قد أضاء بصيرته لهذا الأمر. وجعله يفكر. كان تفكيره منحصراً في كونه شخصاً محباً لحياة العزوبية، فهو لا يحب القيود الأسرية والاجتماعية أبداً، كما أنه لم يتخيّل في يوم من الأيام أن تشاركه امرأة ماحياته لتعد عليه أنفاسه وخطواته وتحركاته. عندها تذكر كيف كان يستاء من استجوابات أمه الليلية عندما يعود من النادي. وطريقته الحذرة التي كان يسقط بها مزلاج الباب. وبين نار الوحدة ووحشتها المرعبة، وبين نار الزواج وقيوده ظلّ يتقلّب حتى غلب خوفه من الوحدة على كل شيء آخر. عندها فقط بدأ يفكر بالإنسانة التي يمكنه أن يرتبط بها. وفجأة نهض فزعاً كأنما لدغته عقرب، وقد أضمر في صدره شيئاً. لم يعرف ما إذا كان قد فكّر جيداً في ذلك، لكنه شعر برغبة قوية في تنفيذ ما خطر له. أحس بأنها القشة التي يجب أن يتعلّق بها حتى وإن كان سيغرق بها بعد ذلك.
                  

12-12-2007, 02:29 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يحدث في الخرطوم (Re: هشام آدم)

    _____________________

    -9-
    توجه مباشرة إلى بيت أبو السيك. لم يعلم أنه نسي حتى أن يرتدي حذاءه، لم ير في طريقه أحداً رغم أن ثمة أصوات اعتيادية تخترق طبلة أذنه الوسطى، وتضيع قبل أن تصل إلى دماغه فيعرفها ويعرف مصدرها. "أحسن الله عزاءك يا محجوب"، "حمداً لله على سلامتك يا الريّس." لم يكترث كثيراً للجمل المتأسيّة التي كانت تمر عليه وهو في الطريق، حتى توقف تماماً أمام منزل أبو السيك، وطرق الباب على غير عادته، دون أن يلجأ لجرّ السلك الموصول بلسان الباب من الداخل، ويدخل مباشرةً ، فقد كان الجميع يعتبرونه واحداً من أفراد الأسرة. غير أنه هذه المرّة لم يفعل، بل طرق الباب بمنتهى الأدب. تفاجئ أبو السيك عندما وجد الريّس أمامه يقف مطأطئ الرأس، فاحتضنه بقوة.

    * لا أصدق ما أراه .. كم اشتقنا إليك يا رجل

    بدأ يرتب أفكاره قبل أن يقول بطريقة جادة:

    - جئت لأتقدم لخطبة أختك إيمان... ماذا قلت؟
                  


[رد على الموضوع] صفحة 2 „‰ 2:   <<  1 2  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de