رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-30-2024, 11:50 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الاديب محسن خالد(محسن خالد)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-24-2006, 10:25 AM

نهال كرار

تاريخ التسجيل: 01-16-2005
مجموع المشاركات: 3337

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء (Re: محسن خالد)

    الأديب محسن خالد
    تحياتي

    الحلقة الثالثة لهذا الأسبوع


    مدينة الصراع بين رجال الأدغال وثعابين الماء
    الشبكة الذهبية ... بريتوريا.. أسطورة في قلب إفريقيا


    في إطار البعثات التي يسيّرها “المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق” تجول الكاتب الروائي السوداني محسن خالد في جنوب افريقيا، وشملت رحلته ثلاث مدن أساسية هي جوهانسبرج، بريتوريا، وكيب تاون، حيث زار معالم أساسية في هذه المدن، وكتب يومياته وانطباعاته عما رآه هناك في أماكن طالما قرأ عنها وظواهر سمع بها، لاسيما في الحقبة السابقة على انهيار “الأبارتيد”، أو نظام الفصل العنصري.

    ونص الرحلة سيصدر عن “دار السويدي” في أبوظبي في عداد سلسلة “سندباد الجديد”. هنا قطوف من رحلة محسن خالد إلى جنوب افريقيا التي تعتبر الأولى لكاتب عربي منذ أن زارها الأمير محمد علي باشا في 1924 ووضع كتاباً عنها تحت عنوان “رحلة إلى جنوب افريقيا”. قَدمنا في الأسبوعين الماضيين تجواله في جوهانسبرج ومدينة الكاب، واليوم يواصل رحلته في مدينة بريتوريا، يقول محسن:


    بريتوريا مدينة باسلة، وولايتها لم تسقط في أيدي الكولنياليين إلا تلو معارك شرسة ودامية، وبعد حصار يعد من أهم الحصارات في تاريخ المقاطعات التي أُسقطت بالتجويع والمحاصرة، وإثر عشرات المعارك طويلة الأمد بين الزعيم والمناضل الافريقي “كجوسي كي لبوهو” قائد الهنانوا Hananwa، وبين الكولنيالي “جن بي جوبيرت” قائد مرتزقة قوات الزار Zar. مدينة أسطورتي البلوبيرج والمامو جاسوي، “البلوبيرج” الرجال فاتحو الألوان الذين يخرجون من الدغل ومعهم الكنوز، “المامو جاسوي” ثعابين الماء الضخمة التي تتجول بين الأحياء وتخطف ما تشاء من أرواح.

    في يوم الأحد 8 يناير، خرجت من فندق برويتا بجوهانسبرج لأكون في انتظار صديقي بيتر، والذي سيقلني إلى مدينة بريتوريا. سمعتُ موسيقا الجوسبيل Gospel الدينية، وافرة الحنان، وتملأ فراغات المدى بألوان صوتية كرسّام، ممزوجة بأصوات “درمز” افريقية، ثم كتلة الأصوات الجماعية، “ممبو.. ممبو نانجي، ممبو.. ممبو نانجي”، ما دكوا به جبروت الكولنيال وما عُرف عن مظاهراتهم، التي كان يصفها الكولنيالون بأنها مجرّد كتلة صوت لرعاع. ولم يكن بوسعي مقاومة ذلك السحر مع أول فنجان قهوة للصباح.


    المطعم الطائر: مررنا أولاً بحي سويتو حيث متحف هكتور بيترسون الذي تحدثنا عنه في جولتنا بجوهانسبرج، ثم غادرنا المدينة ناحية ضاحية الألكساندر Alexander Township التي تبدو كجزء من المدينة يقع خارجها قليلاً، ولا تشعر بالانفلات تماماً إلا بالوصول إلى ضاحية ميدراندMidrand والتي ذكّرتني كثيراً بالمنطقة التي تقع خارج مدينة دبي، حيث تُعسكر الشركات العملاقة.

    لمحتُ جسراً طائراً فوق الشارع الذي نستغلّه من بعيد، يشير إليه بيتر ويقول: هذا هو المطعم المعلّق الشهير، قلت له دعنا نتوقّف قليلاً، بالحق هو تحفة، لكونها تقع خارج الأحياء أولاً، ونسبة لطريقة معماره العجيبة، فهم قد اختاروا أن يبنوه في شكل جسر طائر من فوق الشوارع التي تجري من تحته كالأنهار، يقصده الناس حين ينوون تمضية جُلّ اليوم في منطقة هادئة.

    بعدها تحركنا نحو منطقة سينشريون Centurion التي تمتد بداخل واد خفيض تملؤه الأشجار والخضرة، العشبيات والورد البري، المباني فيها جميلة ومنسّقة، منتهى اختزال الطبيعة في مسكن.

    بدخولنا منطقة بريتوريا أوّل ما لفت انتباهي هو اللافتات الضخمة التي تُطالب بتوقّف الحرب في العراق وخروج الكولنيال الأمريكي من أرض الرافدين، وهي منظمة بواسطة حكومة جنوب افريقيا وليس بواسطة السفارات العربية الموجودة هناك. الأرض هنا مفتوحة لكل فكر ثوري وضد الكولنيال، هذا ما تعلّمه الناس بعد تاريخ دامٍ ومرير، وما يحاولون الآن تعليمه لأجيالهم القادمة، بدعم رفاقهم العراقيين وإن كان في أرضٍ تبعد عنهم موقعاً وثقافة وديانة.

    وبالمرور على قاعدة عسكرية ضخمة جداً، كانت في السابق تستخدم من قبل النظام الكولينيالي كوحدة احتياط أو معونة في حالات الطوارئ، هذا أيام تأزم الوضع وبلوغه مراحل خطيرة من المواجهات اليومية الشرسة، في أواخر الثمانينات وبدايات التسعينات، بعدها بمسيرة ربع الساعة تبدأ معالم مدينة بريتوريا في الظهور.

    جامعة يونيسا UNISA، التي تبدو كأحفورة مذهلة تبرز من ثنايا مرتفع موازٍ لمجموعة من الجسور الطائرة، هي الأشهر على الإطلاق وتعرف ب”يونيسا” مختصر تسميتها “جامعة جنوب افريقيا”، هذه الجامعة كانت من أهم الخلايا السرية لحزب المؤتمر الافريقي وما زالت تُعتبر من أهم مواقعه.

    بريتوريا هي المدينة السياسية لجنوب افريقيا، فيها تُوجد جميع السفارات والقنصليات لبلدان العالم الأخرى، لذلك فالمدينة هادئة، ولا تتميّز بالحركة والصخب كجوبيك أو الكاب تاون مثلاً، حتى الأوضاع الحياتية هنا مستقرة لحد بعيد، وتخلو من سيرة العنف أو عدم الأمن الذي ينتشر في مدن أخرى مثل جوهانسبرج أو الكاب تاون وديربن. وطابعها ريفي بامتياز، منسّقة وتتميز بذات الضخامة والتمدّد الذي تتميّز به كل مدن جنوب افريقيا. الأسواق الكبيرة، والمحال التجارية ذات الطابع الخاص بالأفارقة، أو الأخرى التي هي غاية في الأوروبية والرفاه، الساحات الكبرى والمسارح ودور السينما ومعظم تكتّلات الصحافة في بريتوريا.


    متحف الترانسفال: في صباح ممطر، بعد أُلفتي مع فندق بروتيا والبحيرة الصغيرة بداخله، كنتُ قد عشقتُ هذا الفندق من جوهانسبرج لذلك نزلتُ في أحد فروعه ببريتوريا. وخطر لي أن الصباح غير مناسب أبداً ليخرج فيه أحد، لذا قَررت استثناء نفسي من هذا الصباح والذهاب لمتحف الترانسفال للتاريخ الطبيعي، اليوم سيقل الزائرون مما يُقَلل الرقابة على الكاميرات، كلما كثُرت الحشود سيكون هناك موظفو مراقبة كُثْر، وسيسلخون أذنيك بكثرة نصائحهم وبمواهبهم المتقنة في إخبارك بما يجوز داخل المتحف وما لا يجوز، مضافاً لكل ذلك عقدتهم الأزلية مع الكاميرا.

    وبعد ملابس ثقيلة ومن دون شمسية كنتُ أُكافح المطر في الخارج، أتسلل من تحت جدار لآخر، المتحف لم يكن بعيداً عن مكان إقامتي، واختار لي بيتر هذه المواقع بحساب دقيق عندما أنزلني هنا، وبعد أن أرشدني لكثرة الأماكن المفيدة الواقعة قريباً من الفندق. وكنتُ قد رأيتُ “أوليتا” موظفة وزارة الخارجية ورتبنا برامجنا معاً، وهي أرتني كيف يمكن لي الوصول إلى متحف الترانسفال من الفندق. وبخروجي منه مباشرة والتوجّه يساراً ثم يميناً والسير على نحو مستقيم، لمسافة 2 كيلومتر تقريباً، ثم الانعراج يساراً والسير لمسافة نصف كيلومتر آخر، كنت هناك، وكان تقديري للأمر محقاً إذ لم يكن ثمة ازدحام ولا سيّاح مزعجون، وإن واجهتني المشكلة الأولى مع ثمن التذكرة لعدم توفّر فكّة، قال لي الحارس ادخل بعد خروجك سنتفق، ضحكت وتحسست الكاميرا لأجد أنّ باب البطارية مفتوحاً، ما يعني أنّني تركتُ البطارية في الشاحن بالفندق، لكم هذا الصباح الممطر مشاكس، أحب الأمور عندما تفسد في آخر دقيقة، عدتُ مرة ثانية وأتيتُ بالبطارية الدّلوعة، بعد أن أثبتت أهميتها كاملة وتحالفها مع المطر ضد شخصي المسكين.

    متحف الترانسفال من أقدم متاحف جنوب افريقيا، ومعروف رسوخ علم التاريخ الطبيعي هنا وما يجاوره من علوم أخرى كالتي تبحث في أصل الإنسان والعُصور القديمة، بل نظرية التطور نفسها تُنسب بذرتها الأولى إلى علماء جنوب افريقيا. والعالم الشهير أوستن روبرت كان أحد العاملين بهذا المتحف وقد التحق به في العام ،1910 وهو من قام برسم أولى الخُطط للمحافظة على حياة الكثير من الطيور، ومنها ما انقرض فعلاً ولا يُوجد إلا من ضمن محنطات هذا المتحف.

    قسم الطيور هو أول ما تبدأ به، ويدهشك باتساعه، وترى فيه أنواعاً من الطيور لا يمكن تخيّل وجودها في الحياة، وأكثر ما استهواني هنا، هو طيور الحفريات واللقى القديمة، على وجه الخصوص المرحلة الديناصورية للطيور، هناك طائر ديناصور له سبعة أنواع بجنوب افريقيا وإن كان أول طائر يُعثر عليه من نوعه كان في ألمانيا عام 1861. أيضاً أعجبتني منقوشات حجرية حقيقية تنتمي لملايين السنين للوراء، تم العثور عليها وتوزيعها على حسب أقسام المتحف، هناك مثلاً آلات بدائية قديمة كان يستخدمها إنسان العصر الحجري في صيدها، ووُضعت بأقسام الطيور، أما الآلات التي كانت تستخدم في صيد الثدييات، فقد وضعت بجوار قسم الثدييات، ومع ذلك هناك قسم كامل مخصّص للعلاقة التي كانت تربط بين الإنسان القديم والحيوان، إنْ علاقة افتراسه لهذه الحيوانات أو استئناسها أو حتى دخول هذه الحيوانات في بعض طقوسه الدينية وشعائره.

    هذه قارة الطوطم والأقنعة وشعائر الإنسان القديم، مما قبل إنسان جاوة وبكين، اللّقى حول هذا الإنسان والإثارة التي تركها لا حصر لها، أعجبتني أكثر المنقوشات والحفر على الصخور، وهو نفسه ما ساعد العلماء كثيراً على دراسة ذلك التاريخ القديم والاقتراب من أكواده وشفراته الخاصة والبائدة، من هنا تابعوا أصول الزولو والهنانو والباتو وغيرهم ممن يُعتقد بأنهم نسلٌ لسلالات ضاربة في القِدَم والعراقة الكونية.

    كنتُ قد رأيتُ رسوماً جميلة ومعاصرة تحاول تقليد هذه النقوش البدائية، ولكن هيهات، المسألة هنا تبدو كرسوم الأطفال، تراها سهلة وبسيطة وربما مباشرة، ولكن تصعب محاكاتها لدرجة أعيت فنانين كباراً، هنا أصالة روح وقدرة طبيعية، ما أبعدها عن قدرات الفنانين المدركة بالصقل والنظرية.

    وبدا قسم الدكتور جورج فان صون الروسي الأصل والمولود بالعام ،1898 مثيراً للاستغراب والحيرة، فالعالم جورج التحق بمتحف الترانسفال عام 1923 وهو أشهر عالم “فَرَاشات” عرفته دنيا البحث العلمي في هذا المجال، كَرس حياته كلها لبحث حياة هذه المخلوقات ونُظم وجودها وتطورها. تصوري في السابق مهما اتسع برغم انتمائي لبلد افريقي تكثُر فيه أنواع الفراشات- لن يتجاوز العشرين نوعاً، ولكن هنا تجد نفسك في صالات طويلة مخصّصة لآلاف الأنواع، فَراشات الجبال، البحر، الحقول، الليلي، النهاري، السام، غير السام، الملوّن وله رائحة، المائي، وما يصعب حصره من الصفات والتمايزات بين هذه الأنواع. حتى إن هناك أشكالاً لأنواع من الفراش إن لم تُخَبر مُسَبقاً بأنها فراش، فلن تعرف إن كانت هي لصغار فئران أو أرانب وما يشبه مخلوقات أخرى غاية في البعد الآني- عن أشكال هذه المخلوقات الجميلة، وأيضاً تكتشف منها ما هو غير جميل إطلاقاً ولا يمتّ إلى الفراش الذي نعرفه ولو بمجرد التصور، والدكتور جورج كان عالماً كبيراً ومثابراً، مَضى حياته كلها في مطاردة الفراشات، وأخرج ثلاثة مجلدات ضخمة حول هذا الجانب الضخم من الكون إذ تكتشف ذلك، والمجلّد الرابع تركه كمخطوطة أُخرجت بعد رحيله في العام 1967. هنا تجوّلت كثيراً في صحبة الدكتور جورج، خصوصاً وقد أعجبتني ميزة فيه، وهي رصده لما هو غريب في حياة هذه المخلوقات، وما هو غامض أيضاً، بتواضع شديد تستشف من تعليقاته أنّه يقول نحن في قلب هذا العالم فقط من أجل تأمّله، لسنا بصدد مزاعم تفسيرية تدّعي فهم كل شيء، وهذا بالطبع هو القانون المعروف بخصوص الكائنات الحيّة كلها، الثابت أن ما هو معروف عن حياتها لا يساوي شيئاً إذا قُورن بما هو مجهول. الأمور مع علوم أخرى كالميكانيكا ومشتقاتها، أو أقسام الطبيعيات الأخرى، تبدو معروضة في حد أكبر من الاختبار والتأكد، ولكن هنا ينضاف عنصر ألغاز الروح، التي ما تزال العقدة التي بلا حل.

    متحف التاريخ الثقافي: بالفعل جنوب افريقيا بلد مختلف في كل شيء، أذكر أنني في أحاديث لاحقة لي قلتُ لأحد الشباب المثقفين هنا، حول مدارس التشكيل، إنّ حركة الفنون والآداب بداخل جنوب افريقيا لا يمكن الاتّكال في دراستها أو متابعتها على منجزات أوروبا فحسب، إذ لها طعم عجيب ومختلف، كل الأشياء تقريباً على أرض جنوب افريقيا جاءت مصاغة ب”غرائبية المَنْفِي والمبتوت” كإشارة مني لموقع الرجل الأبيض هنا، ضحك وقال لي: هذه مدرسة جميلة. قلتُ له أنا لا أمزح لقد لاحظت ذلك حين ذهبتُ إلى متحف التاريخ الثقافي، يمكنك مراجعة فن عصر “الرينساس” والباروك والفيكتوري والإدواردي والركوكو الجديد والكلاسيكية الجديدة وفنون الديكو ومقارنتها بجذورها الأوروبية خاصة البريطانية، هي ليست هي، وإن بقيت بعض الدلائل التي تُشير إلى ذلك، في هذه الأرجاء تتنفّس الغابة، والحس هنا موسيقي وبدائي أكثر، بمعنى له خصوصية انتمائه العميق للطبيعة، هذا بالرغم من أنّ جنوب افريقيا كانت بشكل من الأشكال مرايا بعيدة في أقاصي الدنيا تنعكس عليها حراكات أمور أوروبية كثيرة. لعامل الارتباط بين إنسانها الأبيض الكولنيالي، الذي كان يتعشّم ويرتهن بشكل كبير لأبوّة وأمومة أوروبية، لذا ظَلّ على تشبث دائم بجذوره، من نظرته إلى إنسان افريقيا، وحتى سفره الذي لا ينقطع إلى أوروبا، ليبقى في المقابل مرتبكاً ومشوشاً على هذه الأرض. الأشياء كانت تخرج اليوم أو الآن في أوروبا وتجدها قد بلغت جنوب افريقيا في نفس اللحظة، كل شيء هنا متطور وقديم، ما يعني العزلة بين الإنسان الأبيض وبين الأرض التي يعيش عليها وبين ما يساكنه من مجتمعاتها، وفي الوقت نفسه ما يعني مواكبته لأحداث تلك الدنيا البعيدة وفي آخر الجليد. لذا العلوم والآداب والفنون هنا قديمة وراسخة بما لا شك فيه، وتاريخها كله ملكٌ للرجل الأبيض. لتقوم المفارقة الثانية وهي التاريخ الحديث لجنوب افريقيا تاريخ الصراع - والوعي المضاد، وهذا كله جاء من نصيب الرجل الأسود الذي قاتل أولاً من أجل تعليم نفسه وإخراجها من دائرة الجهل الذي كان مضروباً عليه بأسيجة البارود والرصاص، ومن أجل استعادة أرضه وتاريخه ثانياً، لذا تجد أنّ متاحف علمية كهذا المتحف أبطاله جميعاً من البيض، بينما كل متاحف التاريخ الحديث لجنوب افريقيا لا تكاد تعثر فيها على شخص أبيض إلا لماماً. أمّا بخصوص مدرسة “غرائبية المَنْفِي والمبتوت” فهي تجلّت في أعمال الرجل الأبيض الذي هو في الحقيقة وبعد مرور مئات السنين أضحى أبيضَ بجلده فحسب، بينما هو ممتلك لوعي افريقي خالص ومغاير جداً لوعي الرجل الأوروبي على أرضه، حتى نظرته إلى الجمال نفسها تغيّرت، وإلا لما كان هناك مُلَونون وحالات تزاوج مع السود لا حصر لها، أي صار له مزاج جديد. وهذا لا ينفي أيضاً مدرسة “غرائبية المنفي والمبتوت” عن السود، أبداً، بل يثبتها من الجهة الأخرى من ناحية ما جرى وظلّ يحدث على أرضهم، فهم أصبحوا متعايشين في وسط يختلف مثلاً عن الوسط المجاور لهم في زامبيا أو زيمبابوي، لأنّ هناك ثقافة أخرى ومختلفة تماماً جُلبت إلى أرضهم بكل ثقلها وغرائبيتها بالنسبة لمجتمعاتهم البسيطة، وبكل أحكام قيمتها ونظرتها إلى الحياة وإمكاناتها، وهذا أزاحهم على صعيد المعنوي من أرضهم، وازدادت هذه الإزاحة إحكاماً وفجوراً باستصدار قوانين “الأبارتيد” التي أزاحتهم على صعيد المادي من أرضهم، أي ما إنّ خلاصته أصبح الجميع يعيش على الأرض نفسها ومبتوتاً عن الانتماء لها، أو لخلاصة جوهر مجتمع واحد يشبهه، أفليس بوسع ذلك إنتاج غرائبية المنفي والمبتوت يا صديقي مايكل، ضحك اللعين، يبدو أنّ هذه المدرسة -كما أسماها- راقته، ليسألني مبتسماً: قلت لي إنك درست الفلسفة يا مستر خالد؟ ضحكت وقلتُ له: بل الاقتصاد، فكل ذلك حدث حين رنّ الذهب بجوهانسبرج. وفعلاً بالعودة إلى حقب الفنون المذكورة تكتشف أنّ هناك روحاً مختلفة لا تخطئها العين أبداً، وحتى بالعودة إلى الأثاث المنزلي المعروض أيضاً وفق هذه الحقب الفكتورية والإدواردية وغيرها، مع صور لتصاميم أثاث أوروبية معروضة لجوارها، تجد أنّ ما لأوروبا لأوروبا، وما صاغته يدٌ ترعرعت في الغابة لبهار افريقي مشبوب النكهة، أو لروح غريبة وبَريّة تخطرُ بينهما.

    كما يوجد قسم مخصص لأكبر نحّات أنجبته بريتوريا، وهو لورنس ستين بيرج وأقسام أخرى لفنانين قدماء من أمثال “بيتر وينينج” و”أنطون فان وو” و”دبليو كويتزر”. وهؤلاء ملوّنون كبار عندهم ولهم شأنهم في متاحف أوروبا. وتلمس نفس الروح المختلفة في أعمالهم توقها المبتوت وغرائبيتها المرتبكة. بخروجي من هذا القسم دخلت وحدةً مخصّصة للتباكو، فهو له تقاليده هنا بل وطقوسه الخاصة، يُمثل واحداً من أهم منتجاتهم الوطنية، ويتعاملون معه بشكل خاص كما يتعامل البرازيليون والإثيوبيون مع البن والقهوة، أو كما يتعامل اليمنيون مع القات، أو سكّان جنوب السودان مع القامشا والكُدْكُد. بمعنى أنّ الموضوع معه يخرج من إطار مجرّد المنتج الوطني والمحصول، ويضاف لرصيد الثقافة الشعبية التي تُخصّص في التعامل معه، ومع أجوائه.

    بعد استكمالي لمشاهدة المعرض قمتُ بزيارة المسرح القريب، ووجدتُ نصاً يعرض بلغة الأفريكان الملونين، فلم أفهم شيئاً لأُغادر بعدها عوداً لبروتيا هوتيل ولبحيرته الجميلة بالداخل.


    متحف علم الأرض

    في ناحية من هذا المتحف خصصوا قسماً منفصلاً لمتحف علم الأرض Geoscience Museum ، وهو يشمل القسم الخاص بالصخور والرواسب والمعدنيات، أعجبني الكوارتز في هيئته الطبيعية التي يخرجونه بها من داخل الأرض، له بياض مشعٌ وغريب، تلك القليعة من الكوارتز كانت منقّطة ببعض الأخضر في أنحاء منها، وهو الكلورايت، تلمس على الفور الفرق بين ألوان الطبيعة والتشكيل كما قال لي ذلك الفنّان الأمريكي بداخل متحف الأكوريم بالكاب تاون، وكنا نقف أمام إطارات لعرض المخلوقات البحرية الجميلة، جمال تلك المخلوقات بالطبع ينطلق بشكل أساسي من الألوان ثم لاحقاً تقاطيع الكائن، وكانت سمكة اسمها الكلاون Clown Tiggerfish تقف على رأس حسناوات الأعماق، بألوانها التي لا يمكن تصديق درجة نقائها وتداخلها وتنوعها، فمازحني ذلك الفنّان التشكيلي الأمريكي بصدد ألوان الطبيعة المذهلة لدرجة الإرباك هذه قائلاً: هل تعرفني يا رجل، من أي بلد أنت؟ قلتُ لا أعرفك، أنا من السودان. فأجابني أنا أفضل تشكيلي في الدنيا، وأنت لا تعرفني فقط لأنني لم أكن أستخدم ألوان هذه السمكة. قلتُ له ضاحكاً، ولكنني سمعتُ بالملونين الثلاثة العظام مارك شاجال وماتييس وبيكاسو، الذي هو أشهر منهما لأسباب لا علاقة لها بالتلوين، ضحك وفاجأته مباغتتي له في آن، فأكملتُ قائلاً: وهل تحمل هذه الكلاون ألواناً لا تُوجد بالخارج أو يصعب تحضيرها؟ أجابني: بل هي تحمل ألواناً مجهولة بالنسبة لي، أنا لم أرَ بهاءً كهذا في حياتي. وبالفعل أجنحة الطيور بمتحف الترانسفال والفراش وهذه المعادن، وكل ما هو طبيعي يحملُ ألواناً لا تشابه ألوان الكمبيوتر مهما عدّدوا من قدرته على توفير ألوان مختلفة وصافية.

    ثم مررت بقسم المعادن، الذي يُريك مدى ثراء جنوب افريقيا من خامات ونِعَم الأرض، بالإضافة لهذه المعادن الطبيعية والمعروضة في أوان استخراجها من الأرض وقبل التدخل في طبيعتها بمعالجة من أي نوع، تجد نماذج للمصنوعات التي تُشغل منها، حلة “البريستو” بجانب الاستيل، مراكم الرصاص بجانب معدنها، الربط الفوري لخام الحياة وهو في جيب إنسانها وبداخل رصيد حيازته. يييي يييي

    (عدل بواسطة نهال كرار on 02-24-2006, 12:13 PM)

                  

العنوان الكاتب Date
رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-10-06, 06:39 AM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-10-06, 06:40 AM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء Tragie Mustafa02-10-06, 07:35 AM
      Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء عاطف عبدالله02-10-06, 12:26 PM
        Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء عبد الحميد البرنس02-10-06, 01:43 PM
          Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محمدين محمد اسحق02-10-06, 03:18 PM
            Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء القلب النابض02-10-06, 09:33 PM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء عمر الفاروق02-11-06, 00:50 AM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-11-06, 03:06 AM
      Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء bayan02-11-06, 04:06 AM
        Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-11-06, 07:02 AM
          Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-11-06, 07:11 AM
            Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء alin02-18-06, 06:52 AM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء ahmed haneen02-11-06, 08:15 AM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-11-06, 08:31 AM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-11-06, 01:07 PM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء عبد الحميد البرنس02-11-06, 01:44 PM
      Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء عبد الحميد البرنس02-11-06, 01:51 PM
        Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-12-06, 06:46 AM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-12-06, 07:26 AM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-12-06, 07:37 AM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نادية عثمان02-12-06, 07:39 AM
      Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-12-06, 08:04 AM
        Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نادية عثمان02-12-06, 09:04 AM
      Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-12-06, 08:24 AM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء عبد الله عقيد02-12-06, 07:58 AM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء عبد الحميد البرنس02-12-06, 01:09 PM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء طارق جبريل02-12-06, 03:45 PM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-14-06, 03:38 AM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-14-06, 03:41 AM
      Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-14-06, 03:45 AM
        Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-14-06, 03:58 AM
          Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء انور الطيب02-14-06, 09:28 AM
          Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء انور الطيب02-14-06, 09:29 AM
  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-17-06, 10:48 AM
    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-17-06, 10:51 AM
      Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-17-06, 11:18 AM
        Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-17-06, 11:23 AM
          Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-17-06, 11:25 AM
            Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-18-06, 09:15 AM
              Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء انور الطيب02-18-06, 10:04 AM
                Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-19-06, 09:31 AM
                  Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-19-06, 09:53 AM
                    Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء نهال كرار02-24-06, 10:25 AM
                      Re: رحلة الروائي السوداني محسن خالد في قلب القارة السمراء محسن خالد02-27-06, 09:46 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de