كما اسلفت سابقا فهناك مشكلة تواجه كل مريض يلجأ لطبيب سوداني وهي أنه يدخل من باب عيادة المريض مريضا ثم يخرج منها أشد مرضا. لقد فقد الشعب الثقة في الطبيب السوداني فاتجه الى الخارج ؛ ملايين الدولارات تضيع في العلاج في مصر والاردن والهند ، فإضافة الى اجرة الكشوفات والفحص وخلافه فهناك مصاريف السكن والأكل والشرب والاتصال والمواصلات ومنثورات أخرى. الاشكالية تكمن كلها في ضعف الخيال ؛ ضعف بناء شبكة من المعطيات وتحقيق ربط بينها بحيث تفضي الى حلول مبتكرة. سنجد هذه المشكلة متفشية جدا على مستويات كثيرة ليست فقط لدى المسؤوليين بالحكومة حيث يفتقرون الى أدنى درجات القدرة على الابتكار بقدر ما يتمتعوا بكم هائل من التعنت والصلف والعزة بالإثم وما ينتجه ذلك من قرارات متخبطة توجه كرصاصة في معاش المواطن لتتحول الحكومة في نظر هذا الأخير الى عدو أول وثاني وثالث. هذه الاشكالية -أي ضعف القدرة على ربط المعطيات الداخلية والدولية للخروج بمخرجات ايجابية- وهو ما يسمى بالعقل الاستراتيجي ؛ هي التي أفضت الى وقوعنا جميعا (حكاما ومحكومين) في فخ الحاضر نتيجة قرارات الماضي ؛ بدءا من العداء للدول الأخرى غير المبرر مع عدم القدرة على تهديد مصالحها ؛ وافتعال حروب لا يمكن انهاؤها ، وسياسات داخلية عقيمة افضت الى تشريد الملايين من المواطنين ثم افضت الى حروب اهلية ووضعنا تحت رحمة المجتمع الدولي ثم انطلاق صافرة النهاية بانهيار حتمي للاقتصاد. انعدام العقل الاستراتيجي ليس مقصورا على المسؤولين بل حتى على المعارضين للنظام ، بل وحتى المهنيين والحرفيين ، الذين يفتقدون الى العنصر الابتكاري في اعمالهم ، فضلا على انعدام العنصر الجمالي. رجال الاعمال لدينا هم أقل من يملكون مخيلة خصبة لتخليد انفسهم بدعم العلم والبحث العلمي والفنون والآداب. لقد كانت عائلة ميدتشي الفلورنسية تتبنى العلماء والفنانين والأدباء ثم تحولت بفضل كل ذلك الى اسم تحاك حوله اساطير الماسونية والسيطرة على العالم ، الاعلام الأمريكي الذي سيطرت عليه عائلات قليلة استطاع استخدام كل مقدرات وامكانيات العلماء والفنانين والأدباء لشن حرب ثقافية ضد العالم فاحتكرت صورة السوبرمان الامريكي مخيلة هذه الشعوب حتى يومنا هذا. الابداع ينطلق من مخيلة ، وكما قال انشتاين فإن الخيال أهم من المعرفة فهو يحيط بالعالم. لست متأكدا من نسبة هذه المقولة له ولكن لو تأملنا رؤية انشتاين للزمن كحقيقة لها ذاتية بحيث تنحني وتتمدد وتتقلص لأدركنا أن خيال انشتاين كان اول من دفع به الى حافة العبقرية. نحن شعوب تفتقر للخيال ، ومن ثم تفتقر للانتاج الابداعي وتفتقر حتى لاتقان ما تنتجه ان كانت تنتج. أتذكر كم الاحراج الذي شعرت به حينما احتفلت الحكومة بذكرى استخراج النفط ودعت السفراء ووزراء الدول لاحتفال كان بالنسبة لي فضيحة متكاملة الأركان وينم عن تتفيه للذات أكثر مما يتحمله شخص معتوه يعمل مهرجا في سيرك. ذات الأمر حين شارك السودان بطائرته الورقية في معرض الطيران بدبي وعرض طائرته التي هي اقرب للركشة بأجنحة وسط مشاركات عملاقة من شركات عالمية ، أعتقد أنهم لو شاركوا بصورة (علي كبك) المطرب الوهمي لكان أقل احراجا مما حدث ، ذات الأمر في المحافل الرياضية حيث يكون الافتتاح شديد البؤس والرمادية الشاحبة ومفتقرا الى أدنى حد من المخيلة الفنية. ضعف المخيلة هذا كارثة كبيرة سنشاهدها حتى على المستوى القاعدي لدى الشعب ، سواء على مستوى الثقافة الغذائية ، او الثقافة الهندسية. ولا أدل على ذلك من أنك يمكن أن تمر بشارع تحفه القصور الضخمة وهو مليء بالحفر والقاذورات على واجهة هذه القصور مما يكشف عن فجوة كبيرة بين هذه القصور وقاطنيها حيث يستوي عندهم -واقعيا- العيش فيها أو في خيام. لقد جاء السوريون الى السودان في ظل ازمتهم هذه وانهمكوا في الانتاج المتقن على كل المستويات ؛ المقاهي بأبهى حلة ، المطاعم ، الحلوانيات ، ... الخ. جاءوا بتراكم حضاري كبير ورفعوا من سقف الذائقة الجمالية لدينا حتى نشبت الغيرة في قلوب الكثيرين منا. لكنه واقع ، فلننظر الى مطار الخرطوم وهو واجهتنا أمام العالم ، كم هو مخجل ومؤسف ، في حين أن أقل منزل يملكه مسؤول أكثر جمالا من المطار الذي يوصف زورا وبهتانا بمطار دولي. الا يشعر المسؤولون بالاحراج وهم يستقبلون الوفود بهذا المطار البائس؟ الفوضى تعم منداحة في كل شيء ، والدولة تفقد السيطرة على نفسها إداريا وقانونيا وأمنيا واقتصاديا في ظل فقر المخيلة. لماذا؟ هل هذه مشكلة جينية؟ هل هي مشكلة منبثقة عن ضعف في الوطنية؟ هل هي ناتجة عن استحقار الشعب لنفسه؟ هل هي ناتجة عن التحاسد والتباغض المتفشي؟ هل هي استكثار أن تكون الدولة أكثر جمالا وأكثر جذبا للبقاء فيها...بدلا عن أن تكون طاردة بهذا الشكل؟.
العنوان
الكاتب
Date
حل مشكلة انهيار العملة والاقتصاد خلال ثلاثة اشهر فقط بقلم د.أمل الكردفاني
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة