الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطنى المثال -- توثيق

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-22-2024, 01:46 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-21-2021, 04:56 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطنى المثال -- توثيق

    03:56 PM December, 21 2021

    سودانيز اون لاين
    الكيك-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (1) ..

    بقلم: د. النور حمد

    من الناس من تمتلئ بحبهم، والإعجاب بهم، بحيث لا تبقى لديك مساحة تسع التعبير عن حبك لهم، وإعجابك بهم، فتقف حائرا، شبه مشلول، لا تدري ماذا تفعل، خاصةً، حين يرحلون. من بين هؤلاء، المتفرِّد، صناجة الغناء، الذي لا يُجارى، عبد الكريم الكابلي. ظللت أتساءل، منذ سماعي خبر رحيله الموجع: هل في وسعي، حقا، أن أكتب عن هذا المبدع الاستثنائي، شيئا يليق به، كواحدٍ من أكبر أعلام الغناء في السودان، وبالمكانة الكبيرة التي يحتلها في عقلي ووجداني؟ تساءلت رغم أنني أعلم أن عليَّ أن أكتب عنه. فأنا مَدينٌ له في بلورة تكويني الوجداني، بالكثير. هذا فضلا عن أواصر الصداقة والمودة، التي ربطت بيننا، مؤخرا، وهو في خواتيم سنوات عمره العامرة، المثمرة.
    عرفت، وعشقت، عبد الكريم الكابلي، وأنا صبيٌّ في المرحلة المتوسطة. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد جلب اجترار شريط ذكرياتي مع الكابلي، ذكرى العطلات الصيفية، في قرى الجزيرة، حين ينتصف النهار، ويشتد القيظ، وتلوذ الدواب بالظلال الشحيحة، ملتصقة بالحيطان. حينها، لا يكون للمرء أنيسٌ سوى المذياع. تحتضنه وتسرح معه، فيجيئك صوت الكابلي، الشجي، الطري، الندي، ليخرجك مما أنت غارق فيه من سآمات القرية، وخواء نهاراتها، وقيظ وسكون ظهيرتها المدارية الكئيبة. فيدخلك، غصبا عنك، في نعيم رياضٍ غنَّاء، متخيَّلَةٍ فواحةِ العبير. ملاذٌ متوهَّمٌ كـ “حديقة الخيال”، التي حكى عنها الفيتوري. كانت كلمات الكابلي، وصوته، وألحانه، بالنسبة لي، واحدة من أطواق النجاة من للج الفراغ، وانعدام المحفز الوجداني، في البيئة القروية الراكدة. وقد كان ذلك في زمنٍ مضى، لم تعرف فيه القرى نعمة الكهرباء، بعد.
    يا لتلكم الأزمان الرائقة، اليانعة! كنا رهطًا من أبناء حلة حمد الترابي، نأتي إلى القرية من داخلية مدرسة أبو عشر الوسطى، في عطلة نهاية الأسبوع، لنلوذ بأحضان أمهاتنا، لمدة يوم، وبعض يوم. وفي صبيحة السبت، تودعنا الأمهات دامعات، فنسير لمسافة أربع كيلومترات على أرجلنا، صوب محطة السكة الحديد المسماة ود الترابي، لنستقل قطار “الكليتون” الصباحي. تفصل بين محطة ود الترابي و”سندة” مستشفى أبو عشر، حيث موقع مدرستنا، حوالي العشرين كيلومترا. زمانها، لم يكن طريق الخرطوم مدني السريع، قد شُيِّد بعد. وكان الكليتون هو وسيلة التنقل بين مدني والخرطوم، وسائر قرى الجزيرة، ومدنها الصغيرة، الواقعة على هذا الخط، كالمعيلق، والكاملين، والحصاحيصا، والمسلمية. في واحدةٍ من تلك الرحلات القصيرة، التي لا تستغرق أكثر من نصف الساعة، بين ود الترابي وأبو عشر، انطبع الكابلي في ذاكرتي وذائقتي الغضة، وبقي بها إلى يومنا هذا. كان الزمان خريفا، وريفا؛ حسَّا ومعنى. وكان سهل الجزيرة المنبسط مفعمًا بالخضرة. ومع نسيم الحقول المنبعث من نافذة القطار، وطقطقات إيقاع عجلات القطار الرتيبة، كانت أغنية “سكر سكر”، بإيقاعها الراقص، تنبعث من راديو ترانزيستور، كان يحمله أحد الركاب. يبدو من هيئته، أنه واحدٌ من موظفي المدن. تلك لحظة يندمج فيها الصوت، والصورة، واللحن والإيقاع، فينصبا في ذائقة الصبا الغضة، فتنطبع اللحظة الاستاطيقية في الوجدان، ولا تخرج منه أبد الآبدين.
    تعلقت بالكابلي عبر أغنيات بداياته الأولى. وليس للكابلي بداية أولى، بالمعنى المتعارف عليه. فهو قد ولد بأسنانه؛ شاعرًا، وملحِّنًا، ومغنيا، ناضجا، مكتملا. ولقد اختلطت منذ بداياته الأولى، في انتاجه اللافت، الأغاني الخفيفة، بالأعمال الكبيرة. فكانت، من أعماله الخفيفة، على سبيل المثال، “أمير” التي أشرت إليها سلفا، و”الكل يوم معانا”، و”ما بنخاصمك”، و”زينة وعاجباني”. وفي جانب الأعمال الكبيرة، كانت “أوبريت مروي”، و”آسيا وإفريقيا”، و”أي صوت زار بالأمس خيالي”، التي تسميها مكتبة الإذاعة، “فتاة اليوم والغد”، و”أوبريت المولد”، وشعار برنامج التعاون، الذي صاغ شعره الشاعر صديق مدثر، وقام بتلحينه عازف الكمان، الأستاذ عبد الله عربي. وغير هذه وتلك، من الأغاني في الفئتين اللتين ضمتا الأغاني الخفيفة، من جهة، والأعمال الكبيرة، من الجهة الأخرى. ولست هنا بصدد الحديث عن فروق التأليف الموسيقى في الفئتين؛ من حيث تعدد النقلات الموسيقية، ونمط الايقاعات، وطبيعة الجمل الموسيقية، لأن هذا من شأن الاختصاصيين من الموسيقيين. أما أنا الذي بصدده، هو أن الكابلي مثَّل، بالنسبة لي، سُلَّمًا تعليميًا متكاملا. تدرجت فيه من المرحلة الابتدائية، عبر المتوسطة والثانوية، وصولا إلى الجامعة، وما بعدها. فلكل واحدٍ، وواحدةٍ، منا، أساتذةٌ غير رسميين، يعلموننا، ويربوننا، ويهذبوننا، ويصقلون ذائقاتا، وينغِّمون دواخلنا، من غير أن نتنبه إليهم. من هؤلاء، وعلى رأسهم، عبد الكريم الكابلي، الذي تعرفت عليه وأنا طفل، ثم، صبيٌّ، ثم، شابٌ، ثم، كهلٌ، ثم، شيخُ، ولم أستغن عن مدده الثر في أي يوم، حتى هذه اللحظة. وما أخالني بمستغنى عنه، حتى ألحق به، بعد عمر مديد، كعمره، بإذن الله.
    لكن، هل يا ترى، انحصرت فئات، وأنماط، غناء الكابلي في هذي وتلك؟ لا والله، ولا كرامة. لقد كان الكابلي مبدعًا متنوع المشارب، واسع الخيال، جم الثقافة، متوقد الوجدان، فاره الموهبة، وكان مدركًا، منذ بداياته الأولى، لأبعاد مشروعه الثقافي، والفكري، والشعري، والغنائي. يُضاف إلى ذلك أنه نذر نفسه، بالكامل، لذلك المشروع. فأنجز فيه، على مدى ستين عامًا، لم يتوقف فيها لحظة واحدة عن تجاوز نفسه، عددًا كبيرًا جدًا من الأعمال الغنائية المُبْهِرة، التي حملت بصمته الشخصية، التي لا تشابهها بصمةٌ أخرى.
    عقب ثورة أكتوبر بعامين، تركنا أبو عشر الوسطى، وداخليتها ومستشفاها الريفي العتيق، ومكاتب ريِّها، وجنائنها، وسوقها، “وبف نفس” قطاراتها الغادية الرائحة”، و”رزيم” صدرها، الذي لا ينقطع بجوار مدرستنا، الوادعة، ذائعة الصيت، حينها. أكملنا فيها أعوامنا الأربعة، واتجهنا، كما فعل سابقونا، صوب حنتوب الجميلة. وكان الكابلي معنا، يصحبنا في خواطرنا الطرية، وقد ارتفعت في فورة مراهقتنا، حينها، حساسية الانفعال بترميزات وتعبيرات “الرومانس”، مما تحمله الكلمة الشعرية، واللحن. ومع ازدياد المعرفة باللغة وبالأدب في حنتوب “الهادي آدم”، أخذنا نتذوق الكابلي في سمته الجديد، وهو يتجلى في أغاني الفصحى، مثال: رائعة توفيق صالح جبريل، “كسلا”، ورائعة الحسين الحسن، “إني أعتذر”، ورائعة العقاد، “شذا زهر”.
    لن أنسى تلك اللحظة الفارقة، في ذلك الخميس البعيد، في نهايات عقد الستينات، من القرن الماضي، ونحن عائدين من سينما الجزيرة في مدينة ودمدني، متجهين إلى المرفأ على حافة النهر لنستقل، كالعادة، في أيام الخميس، “البنطون” إلى الضفة الأخرى، حيث تقع المدرسة. كانت إدارة المدرسة لا تسمح لنا بمغادرة الداخلية، وعبور النهر إلى مدينة ود مدني، على الضفة المقابلة، إلا مرة كل أسبوعين، وبإذنٍ مسبقٍ من مفتش الداخلية. في طريقنا من سينما الجزيرة، في عتمة الليل، ونحن في طريقنا إلى المشرع، مررنا بجوار مسرح الجزيرة. كان هناك حفلٌ جماهيريٌّ للكابلي. لحظة مرورنا بجانب المسرح، سمعنا من فوق أسواره العالية، عبر مايكروفوناته القوية، بداية إيقاع أغنية كسلا، المشتق من إيقاع “عشرة بلدي”، ثم دخول عبد اللطيف خضر، “ود الحاوي”، بصولو المقدمة على آلة الأكورديون. يا الله! لكم أسر مسمعي ذلك الصولو. ولربما يكفي أن أقول إن ذلك الصولو، أو “الصولة” هي ما دفعتني دفعًا لكي أتعلم، بعد فترة وجيزة، العزف على آلة الأكورديون. كنت عضوا في جمعية الموسيقى، لكن لم تكن بالمدرسة، حينها، آلة أكورديون. غير أن أستاذنا عبد الله بولا، عليه الرحمة والمغفرة، جلب لنفسه أكورديون صغير (أوكتافين). فأخذت أستلفه منه وأذهب به الى حافة الجنائن، الفاصلة بين المدرسة والنهر، بعيدًا عن الداخليات. فتعلُّم الأكورديون وسط الناس مزعجٌ للغاية. فالأكورديون آلة عالية الصوت. كما أن من يتعلم، سماعيًا، يكرر كثيرًا، ويحدث كثيرًا من النشاز. بعد أن عرفت بدايات العزف، اجتهدت لأنفذ تلك الصولو، التي كنت لا أنفك أسمعها تُعاد، مرة بعد أخرى، من المذياع. لكنني عجزت، وخرجت بعد محاولات كثيرة، امتدت لأسابيع، بصورة كروكية لها. كنت أتساءل كيف يخرج عبد اللطيف خضر، تلك التفاصيل، والذبذبات، والتأوهات، التي اتسمت بها تلك الصولو. ثم، بعد عامٍ، أو يزيد، اقتنت جمعية الموسيقى، ولأول مرة، أكورديون ماركة Parrot (ثلاثة أوكتافات)، مع محولات صوت. حينها خرج الكابلي برائعة عبد العزيز جمال الدين “لو تصدق”، فأدخلني الكابلي، بذلك اللحن، وتلك الكلمات، مرحلةً جديدةً، في سلمه التعليمي، غير الرسمي، المتكامل، المبذول للجميع. وتلك صدقةٌ جاريةٌ سوف لا تنفك تصب في ميزان حسانته، إلى يوم يبعثون. لقد كانت “لو تصدق” فتحًا كبيرًا في كلمات الشعر الغنائي، وفي الألحان.
    عقب انقلاب مايو 1969 شكلنا في حنتوب تنظيم طلائع الهدهد، بعونٍ من رابطة الكتاب والفنانين التقدميين “أبادماك”، التي كانت قد نشأت، حينها، في الخرطوم. قمنا في عطلة صيف 1969، بقافلةٍ ثقافية، طافت خمسًا وعشرين مدينةً صغيرةً وقرية، في عموم الجزيرة، قدمنا عبرها للأهالي، المسرحيات، والاسكتشات الفكاهية، والأغاني. وكانت أغنية “لو تصدق”، واسطة العقد فيما قدمنا من أغاني. ومرةً أخرى، تعود صولو الأكورديون في “لو تصدق”، في ثوب أكثر جدة وتأثيرا، فتتردد في مقدمة الأغنية، بضع مرات. وكانت نكهة تلك الصولو تختلف باختلاف العازفين، ولربما كانت مرَّةً بأنامل عبد اللطيف خضر، ومرة أخرى بأنامل الفاتح الهادي، ومرة ثالثة بأنامل سليمان أكرت. لقد كان الكابلي ينمو باضطراد، وكنا ننمو معه، مع فارق المسافة الكبيرة الفاصلة بيننا وبينه. وهذا بعضٌ مما قصدته بقولي: إن الكابلي كان سُلَّمًا تعليميًا متكاملاً، بقي مفتوحا للجميع.
    (يتواصل)

    ---------------------
    عبد الكريم الكابلي: سلُّمٌ تعليميٌّ متكامل (2)
    د. النور حمد
    عندما أتحدث مودِّعا الكابلي، وقد دلف إلى برزخه البهي، راضيًا، مرضيًا، معززًا، مكرمًا، بإذن الله، لا أتحدث عنه كموضوعٍ، وكظاهرةٍ، وحسب، وإنما أتحدث عنه كشخصٍ كان له تأثيرٌ كبيرٌ عليَّ. لقد وسم عبد الكريم الكابلي جوانب عديدة من ذاتي، بميسمه. وكثيرًا ما تحول غلالات الغفلة، وما أكثر طبقاتها، بين المرء والرؤية الواضحة. فقد يعيش شخص ما؛ مفكرًا كان، أم أديبًا، أم موسيقيًا، في داخلك، ردحًا من الزمان، ويؤثر عليك تأثيرًا كبيرًا، ثم لا تعي كل ذلك، إلا بعد حين. أو تعيه، أحيانًا، في الفينة بعد الفينة، وعلى نحو يلفه الغموض. كنت كلما تقدمت بي السن، واستحصد وعيي، كَبُرَ الكابلي في نفسي. لقد أحببت في مجلَّد الغناء السوداني الضخم، كثيرًا من الفنانين، وكثيرًا من الأغنيات، لكن، لم يحتل أحدٌ في وجداني، المساحة التي احتلها عبد الكريم الكابلي. وكما جاء في الحديث النبوي، فإن "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف". وكما يقولون أيضا: "شبيه الشيء منجذبٌ إليه". ولطالما أحسست أن بيني وبينه أخوةٌ روحية. ويدخل هذا، لديَّ، في باب كيمياء العلاقات الإنسانية، بمختلف شكولها؛ المباشر، منها، وغير المباشر. فمنذ طفولتي، كان عبد الكريم الكابلي صديقي العزيز، الذي لم ألتقيه. ولقد بقيت هذه الصداقة الغيبية، بيننا، إن صحت العبارة، وصح قبلها هذا التصور، والتكييف لعلاقتي به، لحوالي أربعين عاما. فأنا لم ألتقيه، في اللحم والدم، إلا في عام 2000 تقريبا. ورغم ذلك، ظل عائشًا في داخلي على الدوام. ولقد كان لقائي الأول به في مدينة أبو ظبي، التي كان في زيارة لها، وكنت في زيارة لها، في نفس الميقات، من مقر عملي، في الكويت، آنذاك. وقد قادني إلى مقر إقامته في أبو ظبي أحد الأصدقاء الذين كان على صلةٍ وثيقةٍ به.
    كنت فرحا جدا بلقائه ورؤيته عيانا. كان يلبس جلبابا أبيضًا، كعادة السودانيين الغالبة، ولأنه كان في انتظار زيارتنا، فقد اعتمر عمامة أنيقةً، ملفوفةً بعناية وبأسلوب. وهذه واحدة من ضروب الكياسة، ومن علامات التمدن؛ أعني: تجنُّبُ لقاء الضيف في غير زيك البيتي. ذكرت له في تلك الجلسة أنني شاهدت الفيديو الذي وثق لزيارته لمنزل كبير الجمهوريين، الأستاذ، عبد اللطيف عمر في مدينة الثورة بأمدرمان. وأبديت له إعجابي بالقصيدة التي نظمها وتغنى بها في ذلك اللقاء، والتي سمعتها، حينها منه، لأول مرة في ذلك الفيديو. يقول مطلع القصيدة:
    دوَّارةٌ شمسُ الضحى على مهلْ
    في خطوِها المحسوبِ يندس الأجلْ
    من غاب عنها راضيًا فهو البطلْ
    وكنت حين سمعتها، وقد يكون هذا مجرد حدسٍ مني، لمحت فيها رمزيةً تشير إلى استشهاد الأستاذ محمود محمد طه. وذكرت له أنني استمعت الى كلمته القصيرة التي رد بها على الكلمة التي ألقاها، ترحيبًا بمقدمه، الأستاذ، عبد اللطيف عمر، في بداية ذلك اللقاء. قلت له أن مما شد انتباهي في مقدمته تلك، قوله أنه قرأ الأستاذ محمود. وأنه قد استخدم في معرض حديثه عن قراءته له تعبير: "وتجولت في رحاب عقله الفسيح". قلت له إن تعبيره هذا لفت نظري. ودلَّني على تذوُّقِهِ، وعمق استيعابه لما قرأ. ابتسم، وأضاء وجه الوضيء أكثر، حين سمع مني تلك الإشارة. وبسبيلٍ من رد الجميل في رد الثناء، ذكر لي أنه شاهد لوحة "بورتريه" لوجه سيدة سودانية، رآها معلقة في إحدى الدور التي استضافته، قبل فترة، في مدينة مسقط. قال لي إنه أُعجب بها، وسأل عنها وعن راسمها، وعرف أنها لي. قلت له نعم، كان هذا قبل عقد من الزمان حين كنت أعمل مدرسًا في مسقط. شعرت أنه التقط اسمى، وقتها، حين سأل عن راسم اللوحة. وللكابلي ذاكرةٌ عجيبةٌ، وحضورٌ ذهنيٌّ مدهش، سأتحدث عنه لاحقا. لم يستمر لقاءنا لأكثر من نصف ساعة، فقد كنت في طريقي إلى المطار، في ذلك الصباح، لأعود إلى الكويت. عند وداعي له، أهداني بخط يده نسخة من شريط الكاسيت الذي كان قد أخرجه للتو، وحمل اسم "سعاد". وحين هممت بالخروج للنزول من العمارة، أصر، بشده، أن ينزل معي. فعل ذلك بإصرار شديد، رغم محاولاتي الملحاحة لثنيه عن النزول. وظل يسير ويتحدث معي، وقد ابتعدنا عن العمارة، حتى وجدت سيارة الأجرة التي أقلتني إلى المطار.
    غادرت أبو ظبي وأنا ممتلئ به أكثر من أي وقت مضى. فقد كانت صداقتي له، منذ طفولتي، صداقة نظرية، من طرفٍ واحد، فأصبحت، منذ تلك اللحظة، صداقةً عمليةً، دخلت حيز المُجَسَّد، كما أضحت صداقةً من طرفين. تكشفت لي في ذلك اللقاء العابر جوانب من شخصيته، عمقت حبي له وزادت من احترامي له. لقد أحسست به وأنا أتأمله وهو جالس قبالتي يتحدث، بصوته العميق، وتمهله اللافت، وهو ينتقى الكلمات، إضافةً إلى سكون جسده، واستقراره في اللحظة التي هو فيها، أنه إنسانٌ متصالحٌ مع ذاته، مُستغنٍ، في غير ما تعالي، أو أنفة، عما هو خارجه. وتساءلت في نفسي: ماذا يريد المرء أن يحقق في حياته أكثر من هذا؟ تصرمت عشرة أعوام لم التق به فيها. وحدث ثاني لقاءٍ لي به في أمدرمان، في منزل صديقه، الأخ الجمهوري، إبراهيم بركات، بحي الروضة في أمدرمان، في حوالي عام 2010. حضر ذلك اللقاء، أيضا، الفنان الكبير، شرحبيل أحمد. ولقد جاءا، خصيصًا، ليسمعا، في تلك الجلسة، بعضًا من إنشاد الجمهوريين.
    مرةً أخرى، غبت عنه لخمس سنوات. وعدت لألتقيه، للمرة الثالثة، في عام 2015، في منزل الإعلامي، الأستاذ لقمان أحمد، في منطقة واشنطن الكبرى. وكان المقام قد استقر به وزوجه الفاضلة، الأستاذة عوضية الجزلي، منضمِّين إلى بقية الأسرة الكريمة، هناك. كان اللقاء احتفاءً من الأستاذ لقمان، وبعض وجوه الجالية السودانية، بالأستاذ، فيصل محمد صالح، الذي قدم إلى واشنطن لاستلام الجائزة الصحفية التي نالها. وصادف أن كنت حينها في زيارة قصيرة لواشنطن، قادما من الدوحة. في تلك الجلسة طلب مني بعض الأصدقاء أن أشارك بالغناء. فاخترت أغنيته العذبة التي صاغ كلماتها الشاعر عوض أحمد خليفة، "يا أغلى من عيني. ولعل الكابلي، وعدد ممن حضروا تلك الجلسة، قد فوجئوا بأنني أغني. عدت عقب تلك الزيارة القصيرة إلى الدوحة، وبعد عام عدت إلى واشنطن لأستقر أنا وأسرتي في منطقة واشنطن، لعامين متتاليين. في هذين العامين توطدت علاقتي به أكثر. وأصبحت أزوره في داره بصحبة صديقي، وصديقه، الأخ الجمهوري، الأستاذ، فايز عبد الرحمن عبد المجيد، الذي كان على صلةٍ وثيقة به. في تلك الزيارات، عرفت أن الاستماع للكابلي وهو يتحدث، ليس أقل إمتاعًا من الاستماع إليه وهو يغني.
    توالت زياراتي له في السنتين اللتين أمضيتهما في واشنطن. وكان الصديق، فائز عبد الرحمن، يأخذني في ساعات النهار لزيارته في منزله. كان شديد الاحتفاء بزياراتنا تلك. وكان، بطبعه المتمدن، ينتظرنا في غرفة الاستقبال في كامل هندامه. لقد احتفظ الكابلي، رغم تقدم سنه، بذاكرة مدهشة. كان يحكي بتفاصيل غريبة عن زياراتٍ له، جرت في السبعينات والثمانينات، والتسعينات، لمدنٍ في غرب أوروبا، وفي كندا، وفي أمريكا، وفي الدول العربية، ويذكر الناس الذي أحاطوا به في تلك الزيارات بالاسم، وما قالوه في أحاديثهم. بل يذكر الكابلي تفاصيل السفر داخل السودان لإحياء الحفلات الغنائية. وكنت حين نخرج من بيته أقول لصديقي فائز: هذا الرجل يملك عقلاً جبارًا وذاكرةً غايةً في الغرابة. أقول ذلك وأشير إلى، إنني، على سبيل المثال، قد لا أذكر بعضًا مما جرى لي في العام الماضي، بمثل هذا الوضوح، الذي يذكر به الكابلي ناسًا وأحداثًا جرت له في الستينات، وما تلاها من عقود، بدقة عجيبة. تصور معي! تسمع منه أنه كان في ألمانيا في الثمانينات في منزل فلان الفلاني وأن العازف الفلاني، حين تحدثوا في الشأن الفلاني، قال كذا وكذا. كنت أستمتع بحديثه، فتستغرقني التفاصيل، ودقة الوصف، وسلاسة السرد، وتشويقه، وكأنني أقرأ رواية لماركيز، أو للورنس داريل.
    كنت أحس أنه كان يجد فينا السودان الذي افتقده. وكنا نجد فيه السودان الذي افتقدناه. فالكابلي، ولا مشاحة في ذلك، هو السودان، بكل ما فيه، مجسَّدٌ، بكل مكنوناته، في شخصٍ فرد. لقد جسد الكابلي السودان روحًا، وقيمًا، ومعرفةً عريضة بتاريخه، وثقافته. ومن المدهش حقا أن الكابلي لم يبلغ في الدراسة الأكاديمية أكثر من إنهاء مدرسة التجارة الصغرى، التي مدتها سنتان، انخرط بعدهما في الخدمة المدنية، في الجهاز القضائي. لكن، رغم ذلك، امتلك حصيلةً من المعارف بالغة السعة، بالغة العمق. يتحدث الكابلي في الفلسفة، وفي الدين والروحانيات، وفي تاريخ الفنون، وفي الأدب، وفي التراث، بتمكِّن الدارس المختص، المتمكِّن. ولا تحس منه، ولا للحظةٍ واحدة، "فهلوة" المتقحِّم، الذي لا يعرف سوى شذراتٍ، مستلفاتٍ، يستعرض بهن. لكن، لا غرابة. فمن يتأمل تكوين الكابلي في كليته يجد فيه روافد شتى. فهو هجينٌ اختلط فيه السودان بأفغانستان. وهو سليل سواكن، وثغر السودان الآخر، بورتسودان. وللمدن الثغور خيوطها التي تشدها إلى ما وراء البحار. وذلك ما جعله ينهل من منابع اللحون اليمينة، ومن بيئة البجا، وجوارها الإريتري. أيضا، هو من القلابات، حيث التماس الثقافي مع أثيوبيا، ووراء ظهره هناك تمتد بادية البطانة الشاسعة، بنمط حياتها وبمساديرها. كان الكابلي ابن المدينة الصقيل، وفي ذات الوقت، كان ابن القرية، بل، وابن البادية القح.
    (يتواصل)






                  

العنوان الكاتب Date
الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطنى المثال -- توثيق الكيك12-21-21, 04:56 PM
  Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 04:57 PM
    Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:02 PM
      Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:13 PM
      Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:15 PM
        Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:34 PM
    Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:18 PM
      Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:39 PM
    Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 05:20 PM
      Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 06:10 PM
        Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 06:11 PM
        Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-21-21, 06:13 PM
          Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� الكيك12-22-21, 06:16 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de