الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطنى المثال -- توثيق

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-11-2024, 04:35 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2020-2023م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-21-2021, 04:56 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطنى المثال -- توثيق

    03:56 PM December, 21 2021

    سودانيز اون لاين
    الكيك-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (1) ..

    بقلم: د. النور حمد

    من الناس من تمتلئ بحبهم، والإعجاب بهم، بحيث لا تبقى لديك مساحة تسع التعبير عن حبك لهم، وإعجابك بهم، فتقف حائرا، شبه مشلول، لا تدري ماذا تفعل، خاصةً، حين يرحلون. من بين هؤلاء، المتفرِّد، صناجة الغناء، الذي لا يُجارى، عبد الكريم الكابلي. ظللت أتساءل، منذ سماعي خبر رحيله الموجع: هل في وسعي، حقا، أن أكتب عن هذا المبدع الاستثنائي، شيئا يليق به، كواحدٍ من أكبر أعلام الغناء في السودان، وبالمكانة الكبيرة التي يحتلها في عقلي ووجداني؟ تساءلت رغم أنني أعلم أن عليَّ أن أكتب عنه. فأنا مَدينٌ له في بلورة تكويني الوجداني، بالكثير. هذا فضلا عن أواصر الصداقة والمودة، التي ربطت بيننا، مؤخرا، وهو في خواتيم سنوات عمره العامرة، المثمرة.
    عرفت، وعشقت، عبد الكريم الكابلي، وأنا صبيٌّ في المرحلة المتوسطة. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فقد جلب اجترار شريط ذكرياتي مع الكابلي، ذكرى العطلات الصيفية، في قرى الجزيرة، حين ينتصف النهار، ويشتد القيظ، وتلوذ الدواب بالظلال الشحيحة، ملتصقة بالحيطان. حينها، لا يكون للمرء أنيسٌ سوى المذياع. تحتضنه وتسرح معه، فيجيئك صوت الكابلي، الشجي، الطري، الندي، ليخرجك مما أنت غارق فيه من سآمات القرية، وخواء نهاراتها، وقيظ وسكون ظهيرتها المدارية الكئيبة. فيدخلك، غصبا عنك، في نعيم رياضٍ غنَّاء، متخيَّلَةٍ فواحةِ العبير. ملاذٌ متوهَّمٌ كـ “حديقة الخيال”، التي حكى عنها الفيتوري. كانت كلمات الكابلي، وصوته، وألحانه، بالنسبة لي، واحدة من أطواق النجاة من للج الفراغ، وانعدام المحفز الوجداني، في البيئة القروية الراكدة. وقد كان ذلك في زمنٍ مضى، لم تعرف فيه القرى نعمة الكهرباء، بعد.
    يا لتلكم الأزمان الرائقة، اليانعة! كنا رهطًا من أبناء حلة حمد الترابي، نأتي إلى القرية من داخلية مدرسة أبو عشر الوسطى، في عطلة نهاية الأسبوع، لنلوذ بأحضان أمهاتنا، لمدة يوم، وبعض يوم. وفي صبيحة السبت، تودعنا الأمهات دامعات، فنسير لمسافة أربع كيلومترات على أرجلنا، صوب محطة السكة الحديد المسماة ود الترابي، لنستقل قطار “الكليتون” الصباحي. تفصل بين محطة ود الترابي و”سندة” مستشفى أبو عشر، حيث موقع مدرستنا، حوالي العشرين كيلومترا. زمانها، لم يكن طريق الخرطوم مدني السريع، قد شُيِّد بعد. وكان الكليتون هو وسيلة التنقل بين مدني والخرطوم، وسائر قرى الجزيرة، ومدنها الصغيرة، الواقعة على هذا الخط، كالمعيلق، والكاملين، والحصاحيصا، والمسلمية. في واحدةٍ من تلك الرحلات القصيرة، التي لا تستغرق أكثر من نصف الساعة، بين ود الترابي وأبو عشر، انطبع الكابلي في ذاكرتي وذائقتي الغضة، وبقي بها إلى يومنا هذا. كان الزمان خريفا، وريفا؛ حسَّا ومعنى. وكان سهل الجزيرة المنبسط مفعمًا بالخضرة. ومع نسيم الحقول المنبعث من نافذة القطار، وطقطقات إيقاع عجلات القطار الرتيبة، كانت أغنية “سكر سكر”، بإيقاعها الراقص، تنبعث من راديو ترانزيستور، كان يحمله أحد الركاب. يبدو من هيئته، أنه واحدٌ من موظفي المدن. تلك لحظة يندمج فيها الصوت، والصورة، واللحن والإيقاع، فينصبا في ذائقة الصبا الغضة، فتنطبع اللحظة الاستاطيقية في الوجدان، ولا تخرج منه أبد الآبدين.
    تعلقت بالكابلي عبر أغنيات بداياته الأولى. وليس للكابلي بداية أولى، بالمعنى المتعارف عليه. فهو قد ولد بأسنانه؛ شاعرًا، وملحِّنًا، ومغنيا، ناضجا، مكتملا. ولقد اختلطت منذ بداياته الأولى، في انتاجه اللافت، الأغاني الخفيفة، بالأعمال الكبيرة. فكانت، من أعماله الخفيفة، على سبيل المثال، “أمير” التي أشرت إليها سلفا، و”الكل يوم معانا”، و”ما بنخاصمك”، و”زينة وعاجباني”. وفي جانب الأعمال الكبيرة، كانت “أوبريت مروي”، و”آسيا وإفريقيا”، و”أي صوت زار بالأمس خيالي”، التي تسميها مكتبة الإذاعة، “فتاة اليوم والغد”، و”أوبريت المولد”، وشعار برنامج التعاون، الذي صاغ شعره الشاعر صديق مدثر، وقام بتلحينه عازف الكمان، الأستاذ عبد الله عربي. وغير هذه وتلك، من الأغاني في الفئتين اللتين ضمتا الأغاني الخفيفة، من جهة، والأعمال الكبيرة، من الجهة الأخرى. ولست هنا بصدد الحديث عن فروق التأليف الموسيقى في الفئتين؛ من حيث تعدد النقلات الموسيقية، ونمط الايقاعات، وطبيعة الجمل الموسيقية، لأن هذا من شأن الاختصاصيين من الموسيقيين. أما أنا الذي بصدده، هو أن الكابلي مثَّل، بالنسبة لي، سُلَّمًا تعليميًا متكاملا. تدرجت فيه من المرحلة الابتدائية، عبر المتوسطة والثانوية، وصولا إلى الجامعة، وما بعدها. فلكل واحدٍ، وواحدةٍ، منا، أساتذةٌ غير رسميين، يعلموننا، ويربوننا، ويهذبوننا، ويصقلون ذائقاتا، وينغِّمون دواخلنا، من غير أن نتنبه إليهم. من هؤلاء، وعلى رأسهم، عبد الكريم الكابلي، الذي تعرفت عليه وأنا طفل، ثم، صبيٌّ، ثم، شابٌ، ثم، كهلٌ، ثم، شيخُ، ولم أستغن عن مدده الثر في أي يوم، حتى هذه اللحظة. وما أخالني بمستغنى عنه، حتى ألحق به، بعد عمر مديد، كعمره، بإذن الله.
    لكن، هل يا ترى، انحصرت فئات، وأنماط، غناء الكابلي في هذي وتلك؟ لا والله، ولا كرامة. لقد كان الكابلي مبدعًا متنوع المشارب، واسع الخيال، جم الثقافة، متوقد الوجدان، فاره الموهبة، وكان مدركًا، منذ بداياته الأولى، لأبعاد مشروعه الثقافي، والفكري، والشعري، والغنائي. يُضاف إلى ذلك أنه نذر نفسه، بالكامل، لذلك المشروع. فأنجز فيه، على مدى ستين عامًا، لم يتوقف فيها لحظة واحدة عن تجاوز نفسه، عددًا كبيرًا جدًا من الأعمال الغنائية المُبْهِرة، التي حملت بصمته الشخصية، التي لا تشابهها بصمةٌ أخرى.
    عقب ثورة أكتوبر بعامين، تركنا أبو عشر الوسطى، وداخليتها ومستشفاها الريفي العتيق، ومكاتب ريِّها، وجنائنها، وسوقها، “وبف نفس” قطاراتها الغادية الرائحة”، و”رزيم” صدرها، الذي لا ينقطع بجوار مدرستنا، الوادعة، ذائعة الصيت، حينها. أكملنا فيها أعوامنا الأربعة، واتجهنا، كما فعل سابقونا، صوب حنتوب الجميلة. وكان الكابلي معنا، يصحبنا في خواطرنا الطرية، وقد ارتفعت في فورة مراهقتنا، حينها، حساسية الانفعال بترميزات وتعبيرات “الرومانس”، مما تحمله الكلمة الشعرية، واللحن. ومع ازدياد المعرفة باللغة وبالأدب في حنتوب “الهادي آدم”، أخذنا نتذوق الكابلي في سمته الجديد، وهو يتجلى في أغاني الفصحى، مثال: رائعة توفيق صالح جبريل، “كسلا”، ورائعة الحسين الحسن، “إني أعتذر”، ورائعة العقاد، “شذا زهر”.
    لن أنسى تلك اللحظة الفارقة، في ذلك الخميس البعيد، في نهايات عقد الستينات، من القرن الماضي، ونحن عائدين من سينما الجزيرة في مدينة ودمدني، متجهين إلى المرفأ على حافة النهر لنستقل، كالعادة، في أيام الخميس، “البنطون” إلى الضفة الأخرى، حيث تقع المدرسة. كانت إدارة المدرسة لا تسمح لنا بمغادرة الداخلية، وعبور النهر إلى مدينة ود مدني، على الضفة المقابلة، إلا مرة كل أسبوعين، وبإذنٍ مسبقٍ من مفتش الداخلية. في طريقنا من سينما الجزيرة، في عتمة الليل، ونحن في طريقنا إلى المشرع، مررنا بجوار مسرح الجزيرة. كان هناك حفلٌ جماهيريٌّ للكابلي. لحظة مرورنا بجانب المسرح، سمعنا من فوق أسواره العالية، عبر مايكروفوناته القوية، بداية إيقاع أغنية كسلا، المشتق من إيقاع “عشرة بلدي”، ثم دخول عبد اللطيف خضر، “ود الحاوي”، بصولو المقدمة على آلة الأكورديون. يا الله! لكم أسر مسمعي ذلك الصولو. ولربما يكفي أن أقول إن ذلك الصولو، أو “الصولة” هي ما دفعتني دفعًا لكي أتعلم، بعد فترة وجيزة، العزف على آلة الأكورديون. كنت عضوا في جمعية الموسيقى، لكن لم تكن بالمدرسة، حينها، آلة أكورديون. غير أن أستاذنا عبد الله بولا، عليه الرحمة والمغفرة، جلب لنفسه أكورديون صغير (أوكتافين). فأخذت أستلفه منه وأذهب به الى حافة الجنائن، الفاصلة بين المدرسة والنهر، بعيدًا عن الداخليات. فتعلُّم الأكورديون وسط الناس مزعجٌ للغاية. فالأكورديون آلة عالية الصوت. كما أن من يتعلم، سماعيًا، يكرر كثيرًا، ويحدث كثيرًا من النشاز. بعد أن عرفت بدايات العزف، اجتهدت لأنفذ تلك الصولو، التي كنت لا أنفك أسمعها تُعاد، مرة بعد أخرى، من المذياع. لكنني عجزت، وخرجت بعد محاولات كثيرة، امتدت لأسابيع، بصورة كروكية لها. كنت أتساءل كيف يخرج عبد اللطيف خضر، تلك التفاصيل، والذبذبات، والتأوهات، التي اتسمت بها تلك الصولو. ثم، بعد عامٍ، أو يزيد، اقتنت جمعية الموسيقى، ولأول مرة، أكورديون ماركة Parrot (ثلاثة أوكتافات)، مع محولات صوت. حينها خرج الكابلي برائعة عبد العزيز جمال الدين “لو تصدق”، فأدخلني الكابلي، بذلك اللحن، وتلك الكلمات، مرحلةً جديدةً، في سلمه التعليمي، غير الرسمي، المتكامل، المبذول للجميع. وتلك صدقةٌ جاريةٌ سوف لا تنفك تصب في ميزان حسانته، إلى يوم يبعثون. لقد كانت “لو تصدق” فتحًا كبيرًا في كلمات الشعر الغنائي، وفي الألحان.
    عقب انقلاب مايو 1969 شكلنا في حنتوب تنظيم طلائع الهدهد، بعونٍ من رابطة الكتاب والفنانين التقدميين “أبادماك”، التي كانت قد نشأت، حينها، في الخرطوم. قمنا في عطلة صيف 1969، بقافلةٍ ثقافية، طافت خمسًا وعشرين مدينةً صغيرةً وقرية، في عموم الجزيرة، قدمنا عبرها للأهالي، المسرحيات، والاسكتشات الفكاهية، والأغاني. وكانت أغنية “لو تصدق”، واسطة العقد فيما قدمنا من أغاني. ومرةً أخرى، تعود صولو الأكورديون في “لو تصدق”، في ثوب أكثر جدة وتأثيرا، فتتردد في مقدمة الأغنية، بضع مرات. وكانت نكهة تلك الصولو تختلف باختلاف العازفين، ولربما كانت مرَّةً بأنامل عبد اللطيف خضر، ومرة أخرى بأنامل الفاتح الهادي، ومرة ثالثة بأنامل سليمان أكرت. لقد كان الكابلي ينمو باضطراد، وكنا ننمو معه، مع فارق المسافة الكبيرة الفاصلة بيننا وبينه. وهذا بعضٌ مما قصدته بقولي: إن الكابلي كان سُلَّمًا تعليميًا متكاملاً، بقي مفتوحا للجميع.
    (يتواصل)

    ---------------------
    عبد الكريم الكابلي: سلُّمٌ تعليميٌّ متكامل (2)
    د. النور حمد
    عندما أتحدث مودِّعا الكابلي، وقد دلف إلى برزخه البهي، راضيًا، مرضيًا، معززًا، مكرمًا، بإذن الله، لا أتحدث عنه كموضوعٍ، وكظاهرةٍ، وحسب، وإنما أتحدث عنه كشخصٍ كان له تأثيرٌ كبيرٌ عليَّ. لقد وسم عبد الكريم الكابلي جوانب عديدة من ذاتي، بميسمه. وكثيرًا ما تحول غلالات الغفلة، وما أكثر طبقاتها، بين المرء والرؤية الواضحة. فقد يعيش شخص ما؛ مفكرًا كان، أم أديبًا، أم موسيقيًا، في داخلك، ردحًا من الزمان، ويؤثر عليك تأثيرًا كبيرًا، ثم لا تعي كل ذلك، إلا بعد حين. أو تعيه، أحيانًا، في الفينة بعد الفينة، وعلى نحو يلفه الغموض. كنت كلما تقدمت بي السن، واستحصد وعيي، كَبُرَ الكابلي في نفسي. لقد أحببت في مجلَّد الغناء السوداني الضخم، كثيرًا من الفنانين، وكثيرًا من الأغنيات، لكن، لم يحتل أحدٌ في وجداني، المساحة التي احتلها عبد الكريم الكابلي. وكما جاء في الحديث النبوي، فإن "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف". وكما يقولون أيضا: "شبيه الشيء منجذبٌ إليه". ولطالما أحسست أن بيني وبينه أخوةٌ روحية. ويدخل هذا، لديَّ، في باب كيمياء العلاقات الإنسانية، بمختلف شكولها؛ المباشر، منها، وغير المباشر. فمنذ طفولتي، كان عبد الكريم الكابلي صديقي العزيز، الذي لم ألتقيه. ولقد بقيت هذه الصداقة الغيبية، بيننا، إن صحت العبارة، وصح قبلها هذا التصور، والتكييف لعلاقتي به، لحوالي أربعين عاما. فأنا لم ألتقيه، في اللحم والدم، إلا في عام 2000 تقريبا. ورغم ذلك، ظل عائشًا في داخلي على الدوام. ولقد كان لقائي الأول به في مدينة أبو ظبي، التي كان في زيارة لها، وكنت في زيارة لها، في نفس الميقات، من مقر عملي، في الكويت، آنذاك. وقد قادني إلى مقر إقامته في أبو ظبي أحد الأصدقاء الذين كان على صلةٍ وثيقةٍ به.
    كنت فرحا جدا بلقائه ورؤيته عيانا. كان يلبس جلبابا أبيضًا، كعادة السودانيين الغالبة، ولأنه كان في انتظار زيارتنا، فقد اعتمر عمامة أنيقةً، ملفوفةً بعناية وبأسلوب. وهذه واحدة من ضروب الكياسة، ومن علامات التمدن؛ أعني: تجنُّبُ لقاء الضيف في غير زيك البيتي. ذكرت له في تلك الجلسة أنني شاهدت الفيديو الذي وثق لزيارته لمنزل كبير الجمهوريين، الأستاذ، عبد اللطيف عمر في مدينة الثورة بأمدرمان. وأبديت له إعجابي بالقصيدة التي نظمها وتغنى بها في ذلك اللقاء، والتي سمعتها، حينها منه، لأول مرة في ذلك الفيديو. يقول مطلع القصيدة:
    دوَّارةٌ شمسُ الضحى على مهلْ
    في خطوِها المحسوبِ يندس الأجلْ
    من غاب عنها راضيًا فهو البطلْ
    وكنت حين سمعتها، وقد يكون هذا مجرد حدسٍ مني، لمحت فيها رمزيةً تشير إلى استشهاد الأستاذ محمود محمد طه. وذكرت له أنني استمعت الى كلمته القصيرة التي رد بها على الكلمة التي ألقاها، ترحيبًا بمقدمه، الأستاذ، عبد اللطيف عمر، في بداية ذلك اللقاء. قلت له أن مما شد انتباهي في مقدمته تلك، قوله أنه قرأ الأستاذ محمود. وأنه قد استخدم في معرض حديثه عن قراءته له تعبير: "وتجولت في رحاب عقله الفسيح". قلت له إن تعبيره هذا لفت نظري. ودلَّني على تذوُّقِهِ، وعمق استيعابه لما قرأ. ابتسم، وأضاء وجه الوضيء أكثر، حين سمع مني تلك الإشارة. وبسبيلٍ من رد الجميل في رد الثناء، ذكر لي أنه شاهد لوحة "بورتريه" لوجه سيدة سودانية، رآها معلقة في إحدى الدور التي استضافته، قبل فترة، في مدينة مسقط. قال لي إنه أُعجب بها، وسأل عنها وعن راسمها، وعرف أنها لي. قلت له نعم، كان هذا قبل عقد من الزمان حين كنت أعمل مدرسًا في مسقط. شعرت أنه التقط اسمى، وقتها، حين سأل عن راسم اللوحة. وللكابلي ذاكرةٌ عجيبةٌ، وحضورٌ ذهنيٌّ مدهش، سأتحدث عنه لاحقا. لم يستمر لقاءنا لأكثر من نصف ساعة، فقد كنت في طريقي إلى المطار، في ذلك الصباح، لأعود إلى الكويت. عند وداعي له، أهداني بخط يده نسخة من شريط الكاسيت الذي كان قد أخرجه للتو، وحمل اسم "سعاد". وحين هممت بالخروج للنزول من العمارة، أصر، بشده، أن ينزل معي. فعل ذلك بإصرار شديد، رغم محاولاتي الملحاحة لثنيه عن النزول. وظل يسير ويتحدث معي، وقد ابتعدنا عن العمارة، حتى وجدت سيارة الأجرة التي أقلتني إلى المطار.
    غادرت أبو ظبي وأنا ممتلئ به أكثر من أي وقت مضى. فقد كانت صداقتي له، منذ طفولتي، صداقة نظرية، من طرفٍ واحد، فأصبحت، منذ تلك اللحظة، صداقةً عمليةً، دخلت حيز المُجَسَّد، كما أضحت صداقةً من طرفين. تكشفت لي في ذلك اللقاء العابر جوانب من شخصيته، عمقت حبي له وزادت من احترامي له. لقد أحسست به وأنا أتأمله وهو جالس قبالتي يتحدث، بصوته العميق، وتمهله اللافت، وهو ينتقى الكلمات، إضافةً إلى سكون جسده، واستقراره في اللحظة التي هو فيها، أنه إنسانٌ متصالحٌ مع ذاته، مُستغنٍ، في غير ما تعالي، أو أنفة، عما هو خارجه. وتساءلت في نفسي: ماذا يريد المرء أن يحقق في حياته أكثر من هذا؟ تصرمت عشرة أعوام لم التق به فيها. وحدث ثاني لقاءٍ لي به في أمدرمان، في منزل صديقه، الأخ الجمهوري، إبراهيم بركات، بحي الروضة في أمدرمان، في حوالي عام 2010. حضر ذلك اللقاء، أيضا، الفنان الكبير، شرحبيل أحمد. ولقد جاءا، خصيصًا، ليسمعا، في تلك الجلسة، بعضًا من إنشاد الجمهوريين.
    مرةً أخرى، غبت عنه لخمس سنوات. وعدت لألتقيه، للمرة الثالثة، في عام 2015، في منزل الإعلامي، الأستاذ لقمان أحمد، في منطقة واشنطن الكبرى. وكان المقام قد استقر به وزوجه الفاضلة، الأستاذة عوضية الجزلي، منضمِّين إلى بقية الأسرة الكريمة، هناك. كان اللقاء احتفاءً من الأستاذ لقمان، وبعض وجوه الجالية السودانية، بالأستاذ، فيصل محمد صالح، الذي قدم إلى واشنطن لاستلام الجائزة الصحفية التي نالها. وصادف أن كنت حينها في زيارة قصيرة لواشنطن، قادما من الدوحة. في تلك الجلسة طلب مني بعض الأصدقاء أن أشارك بالغناء. فاخترت أغنيته العذبة التي صاغ كلماتها الشاعر عوض أحمد خليفة، "يا أغلى من عيني. ولعل الكابلي، وعدد ممن حضروا تلك الجلسة، قد فوجئوا بأنني أغني. عدت عقب تلك الزيارة القصيرة إلى الدوحة، وبعد عام عدت إلى واشنطن لأستقر أنا وأسرتي في منطقة واشنطن، لعامين متتاليين. في هذين العامين توطدت علاقتي به أكثر. وأصبحت أزوره في داره بصحبة صديقي، وصديقه، الأخ الجمهوري، الأستاذ، فايز عبد الرحمن عبد المجيد، الذي كان على صلةٍ وثيقة به. في تلك الزيارات، عرفت أن الاستماع للكابلي وهو يتحدث، ليس أقل إمتاعًا من الاستماع إليه وهو يغني.
    توالت زياراتي له في السنتين اللتين أمضيتهما في واشنطن. وكان الصديق، فائز عبد الرحمن، يأخذني في ساعات النهار لزيارته في منزله. كان شديد الاحتفاء بزياراتنا تلك. وكان، بطبعه المتمدن، ينتظرنا في غرفة الاستقبال في كامل هندامه. لقد احتفظ الكابلي، رغم تقدم سنه، بذاكرة مدهشة. كان يحكي بتفاصيل غريبة عن زياراتٍ له، جرت في السبعينات والثمانينات، والتسعينات، لمدنٍ في غرب أوروبا، وفي كندا، وفي أمريكا، وفي الدول العربية، ويذكر الناس الذي أحاطوا به في تلك الزيارات بالاسم، وما قالوه في أحاديثهم. بل يذكر الكابلي تفاصيل السفر داخل السودان لإحياء الحفلات الغنائية. وكنت حين نخرج من بيته أقول لصديقي فائز: هذا الرجل يملك عقلاً جبارًا وذاكرةً غايةً في الغرابة. أقول ذلك وأشير إلى، إنني، على سبيل المثال، قد لا أذكر بعضًا مما جرى لي في العام الماضي، بمثل هذا الوضوح، الذي يذكر به الكابلي ناسًا وأحداثًا جرت له في الستينات، وما تلاها من عقود، بدقة عجيبة. تصور معي! تسمع منه أنه كان في ألمانيا في الثمانينات في منزل فلان الفلاني وأن العازف الفلاني، حين تحدثوا في الشأن الفلاني، قال كذا وكذا. كنت أستمتع بحديثه، فتستغرقني التفاصيل، ودقة الوصف، وسلاسة السرد، وتشويقه، وكأنني أقرأ رواية لماركيز، أو للورنس داريل.
    كنت أحس أنه كان يجد فينا السودان الذي افتقده. وكنا نجد فيه السودان الذي افتقدناه. فالكابلي، ولا مشاحة في ذلك، هو السودان، بكل ما فيه، مجسَّدٌ، بكل مكنوناته، في شخصٍ فرد. لقد جسد الكابلي السودان روحًا، وقيمًا، ومعرفةً عريضة بتاريخه، وثقافته. ومن المدهش حقا أن الكابلي لم يبلغ في الدراسة الأكاديمية أكثر من إنهاء مدرسة التجارة الصغرى، التي مدتها سنتان، انخرط بعدهما في الخدمة المدنية، في الجهاز القضائي. لكن، رغم ذلك، امتلك حصيلةً من المعارف بالغة السعة، بالغة العمق. يتحدث الكابلي في الفلسفة، وفي الدين والروحانيات، وفي تاريخ الفنون، وفي الأدب، وفي التراث، بتمكِّن الدارس المختص، المتمكِّن. ولا تحس منه، ولا للحظةٍ واحدة، "فهلوة" المتقحِّم، الذي لا يعرف سوى شذراتٍ، مستلفاتٍ، يستعرض بهن. لكن، لا غرابة. فمن يتأمل تكوين الكابلي في كليته يجد فيه روافد شتى. فهو هجينٌ اختلط فيه السودان بأفغانستان. وهو سليل سواكن، وثغر السودان الآخر، بورتسودان. وللمدن الثغور خيوطها التي تشدها إلى ما وراء البحار. وذلك ما جعله ينهل من منابع اللحون اليمينة، ومن بيئة البجا، وجوارها الإريتري. أيضا، هو من القلابات، حيث التماس الثقافي مع أثيوبيا، ووراء ظهره هناك تمتد بادية البطانة الشاسعة، بنمط حياتها وبمساديرها. كان الكابلي ابن المدينة الصقيل، وفي ذات الوقت، كان ابن القرية، بل، وابن البادية القح.
    (يتواصل)






                  

12-21-2021, 04:57 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)


    --------------------------
    عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (3)

    بقلم: د. النور حمد

    لم يتحرك مطرب سوداني في مساحةٍ بعرض المساحة التي تحرك فيها عبد الكريم الكابلي، من حيث فئة الأغنية، ولونيتها، وإيقاعها، ولحنها. استخدم الكابلي إيقاعاتٍ متنوعةً جدا. وطرق مواضيع مختلفة، وألف ألحانًا متباينة في طابعها. غير أنها جميعها حملت بصمته الخاصة، التي ميزته، بوضوح شديد، عن غيره. كان الكابلي أكثر جيل العمالقة تلحينا للأغاني المكتوبة باللغة الفصحى. ولو أخذنا من فئة العمالقة الكبار ثلاثةً، مثال: عثمان حسين، ومحمد وردي، ومحمد الأمين، لوجدنا أن الكابلي هو صاحب القدر الأكبر في تلحين وغناء شعر الفصحى. لحَّن الكابلي، من قصائد الشعراء السودانيين، مما أذكر، “إني أعتذر”، للحسين الحسن، ولحَّن له أيضا، “طائر الهوى”. ولحَّن لشقيق الشاعر، الحسين الحسن، تاج السر الحسن، “آسيا وإفريقيا”. ولحَّن لعبد المجيد حاج الأمين، نشيد الجامعة، الذي يقول مطلعه، “هبت الخرطوم في جنح الدجى”. ولحَّن لحسن عباس صبحي “ماذا يكون حبيبتي”. ولحن رثاء “سلمى”، التي يقول مطلعها، “أنا أبكيك للذكرى”، ولا يحضرني شاعر هذه الأغنية. ولحَّن لصديق مدثر، “ضنين الوعد”. كما أنشد للناصر قريب الله درته المميزة، “أم بادر”، وللعباسي، “أرقت من طول هم بات يعروني”. وهذا فقط مما علق بذهني من قصائد الفصحى السودانية التي انتقاها، ولحنها، وقام بأدائها.
    أما في الشعر العربي القديم، فقد لحَّن لأبي فراس الحمداني، “أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر”، وللمتنبي، “مالنا كلنا جَوِيٍ يا رسولُ”. كما لحن ليزيد بن معاوية، “نالت على يدها ما لم تنله يدي”. ولحَّن في الشعر العربي الحديث، لعلي محمود طه المهندس، “الجندول وكليوباترا”، ولحَّن لعباس محمود العقاد، “شذى زهر ولا زهر”. ولو تأملنا اختياره لقصائد شعر الفصحى؛ السوداني، والآخر العربي، مما جرت كتابته خارج السودان، في القديم، وفي الحديث، لدلَّنا ذلك على ذائقته الشعرية الرفيعة. لا يُلحِّن الكابلي غثَّ الكلام، ولا مُعتادَه، وبُدَهِيَّه، وفَجَّه، سواءً جرت كتابته بالعامية، أو بالفصحى. لقد كان ينتقى أجوده وأكثره تأثيرًا في “دوزنة” وتنغيم وجدان مستمعه. وعلى ذات النسق يسير الكابلي حين يكتب الشعر الغنائي العامي بنفسه، ليلحِّنه، ويغنيه. وهذا باب فريد أشار إليه فيه، الدكتور، عبد الله علي إبراهيم، في كلمته عنه، التي نشرها عنه قبل أسبوع، تقريبا. ولسوف تكون لي وقفهٌ قصيرةٌ مع الطابع الفريد للشعر الغنائي الذي نظمه الكابلي بنفسه، وهو كثير. فهو ذو نَفَسٍ، ونكهةٍ، ونمطٍ فريد.
    تميز الكابلي، أيضًا، على أقرانه، من جيل العمالقة، بغناء شعر الحماسة الشعبي، على إيقاع الدلوكة. فقد غني، “فرتيقة أم لُبوس لُوِّيْعَة الفرسان”، وغني “خالد ما ليك تنين”، وغنى “خال فاطنة”، كما تغنى ب “الزول السمح فات الكبار والقدرو”، وغنَّى مختلف مسادير البادية، مما لا يحضرني الآن. ولا غرابة، فقد كان الكابلي باحثًا واسع الإلمام بالتراث. وأهم من ذلك، كان ذوَّاقةً، رفيع الذوق، يعرف كيف ينتقي من التراث السوداني، الريفي والبدوي، الثر، أفضل ما فيه. وهذه من ميزات الكابلي الغريبة؛ فهو من أبناء الموظفين ساكني المدن، ولربما يصح أن نصف نشأته وحال أسرته، وتجربة عيشه المدينية بـ “الإفرنجية”. غير أنه، مع ذلك، يتذوق شعر التراث البدوي، ويعرف غميس كلماته، وخفي ترميزاته وإيحاءاته. كما يعرف سير شعرائه، والثقافته الشعبية الساندة، التي تقف وراءه، وكأنه من أبناء البادية، الذين رعوا السوائم في رباها وسهولها، وصالوا، وجالوا، في ############اتها.
    غني الكابلي لعدد من كبار شعراء الأغنية العاطفية، السودانية، المكتوبة بالعامية، مثال: عوض أحمد خليفة، وعبد العزيز جمال الدين، وإسحق الحلنقي، والتجاني حاج موسى، وعبد الوهاب هلاوي، وغيرهم. غير أن بصمته الحقيقة، إنما تتجلى فيما قام بنظمه، هو، من شعر غنائي عامي. لقد أسس الكابلي، منذ بداياته الأولى، مدرسته الخاصة في نظم الشعر الغنائي. ويصعب جدًا أن يموضع المرء نظم الكابلي في شعر العامية الغنائي، فيما هو مألوف من ثيمات وأنماط التعبير، التي تتشاركها كثير من قصائد الأغنية السودانية. فأفكاره، وموضوعاته ورؤاه الشعرية، مختلفةٌ كثيرًا عن غيرها. كما أن للكابلي قاموسه الشعري، الذي يمتاز بفرادةٍ وأناقةٍ بَيِّنَتَيْن، وبتراكيب تعبيرية مبتكرة. لقد تطورت كتابة الشعر الغنائي لدى الكابلي، بصورة لافتة، عبر عقود تجربته الابداعية، التي امتدت لخمسين عاما تقريبا. فحين نتفحص نصوصًا مثل “أوبريت مروي”، و”سكر سكر”، و”الكل يوم معانا”، و”يا جار” و”زينة وعاجباني” وغيرها من نصوصه المبكرة، على جمالها ورقتها، ونقارنها بما جدَّ له في مجال الموضوع الشعري، وفي الأسلوب، تتضح لنا قفزاته المتتالية. فقد فصلت بين تلك النصوص الأولى، والنصوص اللاحقة، مسافةٌ كبيرة، من حيث ابتكار الموضوع الشعري، وقوة الشاعرية، وجودة النظم، ورقة مفردات القاموس، وجِدَّة نمط التعبير. فقصائد من شاكلة: “يا ستار علي من دورتك”، و”الليل عاد والشوق زاد”، و”مشاعر”، التي مطلعها “حسنك فاح مشاعر وعم الطيب فريقنا”، و”زمان الناس هداوة بال، وانت زمانك الترحال”، و”تاني ريدة وكمان جديدة”، و”حبك للناس”، و”شمعة”، و”يا شوق يا نغم”، وغيرهن، مما لا يحضرنني الآن، تتضح هذه القفزة الكبيرة. فهذه الفئة من نصوصه تمثل، بكل المقاييس، حالةً خاصة، قائمة بذاتها. فقد كان مبدعًا فذا، لا ينفك يتخطى نفسه، باضطراد. وما من شك لديَّ، أن تنميته الدؤوبة لقدراته، وتحديه المضطرد لنفسه، وتوسيعه المستمر لإمكاناته، أثر في ذائقة كل من عشق فنه. فقد ظللنا نَكْبُرُ معه، ثقافةً، وأدبًا، وذائقةً موسيقيةً. لقد كان الكابلي، لمن أحبه، وتعلَّق به، وتتبَّع مساره الصاعد، باستمرار، سُلَّمًا تعليميًا، متكاملاً، شديد الغنى، مبذولا للجميع، لوجه الله.
    يتسم نظم الكابلي بصورٍ شعريةٍ، فريدة، فيها، أحيانًا، من الطرافة، ما يجعلك تبتسم لدى سماعها. يقول المتصوفة: “المرء مَطْوِيٌّ تحت لسانه، فتحدَّثوا، تُعرفوا”. أعني بذلك، أن قصائد الكابلي الغنائية، تعكس تكوينًا وجدانيًا متميزًا، ذا منحى صوفيا. وهو في صوفيته التي دسَّها في احترافه الغناء، متجاوز للصوفية التقليدية. فصوفية الكابلي ممتزجةٌ بثقافةٍ عصريةٍ واسعة، وبإلمامٍ ثرٍّ بمدارس الفنون، والآداب الحديثة. فأنت تجد فيها من التعبير، ما هو واقعي، وما هو انطباعي، وما هو رمزي، بل، وما هو سريالي. فمَنْ مِنْ ناظمي شعر الأغنية، خاطب المرآة الحائطية متسائلا، على هذا النحو:
    كلميني يا مراية
    شايفك طربانة
    حكوا ليكي حكاية؟
    ولا كنتي معايا؟
    ولا انتي بتقري، يا ماكرة ظنوني؟
    ولا شفتي الصورة، الشايلاها عيوني؟
    ولا يبقى أكيد، عاداكي غنايا؟

    ثم، مَنْ مِنْ ناظمي شعر الأغنية، كتب عن طلة أنثويةٍ بهيةٍ، عارضةٍ، بحُسْنٍ صاعقٍ، مثل هذا النظم:
    بنور وزهور وعطور، استلم المجالْ
    بصوت منساب، بنُّور، شبهو ناسْ قُلالْ
    بخفة روح عصفورْ
    وإبداعات خيالْ
    خلا قلوبنا طيورْ، وحال أرواحنا حالْ

    ثم، مَنْ مِنْ شعراء الأغنية خاطب شمعةً مشتعلة، بمثل هذا القول؟:

    تسكب من حياتا النورْ
    وترمز للأمل، وتدورْ
    وما عارفة الأمل مسحورْ
    وما قايلة المسافة دهورْ،
    تكمِّل ألف شمعةْ، وشمعةْ
    تسكب روحها مليون دمعةْ.

    ما هذا يا ترى؟ هل هذه رمزية، أم هذه سريالية، أم شيء نسيج وحده، لا بهذا، ولا بذاك؟
    تنقل الكابلي بين الغناء العاطفي الحديث، وغيره من أنماط الغناء. فقد قام، كما سلفت الإشارة، بتلحين نصوص الفصحى، ونصوص العامية. وقد نوَّع في نصوص الفصحى، بين ما أنتجه السودانيون، وما أنتجه الشعراء العرب. كما طرق بالتلحين والأداء، كما ذكرنا، أيضًا، شعر الحماسة الريفي والبدوي. ومع كل ذلك، لم ينس أن يكون له نصيبٌ معتبر في إعادة غناء قصائد شعر الحقيبة. ولقد كان له في هذا الجانب، القدر الأكبر بين مجايليه، من العمالقة، الذين أعادوا إنتاج أغنيةٍ، أو يزيد، قليلا، من أغاني الحقيبة، مثال عثمان حسين، ومحمد وردي، ومحمد الأمين. فقد نوَّع الكابلي انتقاءه من شعر الحقيبة. فقد غني لخليل فرح “ماهو عارف قدمو المفارق”، و”تم دور إدوَّر”، إضافة إلى “نحن، ونحن، الشرف الباذخ”. كما غنى لمصطفى بطران، “دمعة الشوق”. وغني لأبو صلاح، “وصف الخنتيلا”، وكذلك، غنى له، “يا من فاح طيب رياه”، وغنى لسيد عبد العزيز، “بت ملوك النيل”، التي ترنم في مقدمتها بأبيات ود الرضي القائلة: “يعاينن توبتي في كامن ضميري ويمحن”. وغنى الكابلي من شعر الحقيبة غير ذلك، مما لا استحضر الآن. أيضا، تميز الكابلي على رصفائه بغناء أغاني زملائه. وقد بدا لي، مما لمحته في تجربته الغنائية، تعلُّقُه الكبير بمحمد عوض الكريم القرشي، الأمر الذي جعله يكثر من ترديد عددٍ من أغنيات عثمان الشفيع. كما ردد، أيضًا، أغنيات حسن عطية. هذا التشعب، والاشتباك المحمود، مع تجارب الرصفاء، واحدٌ من الأمور الدالة على سعة عقل الكابلي، ورحابة وجدانه، وسلامة نفسه، وسمو روحه. إن من أميز ميز الكابلي، أنه من ذلك العيار العالي من البشر، الذين لا ينافسون رصفاءهم، وإنما ينافسون أنفسهم، وكفى بتلك مَزيَّة.
    الكابلي، وما أنتج في حياته العامرة المثمرة، مثّل، بكل المقاييس، نظامًا تعليميًّا متكامل المنهج، له مراحله المختلفة. وهو نظام يرقى المتعلِّم في مراحله، مرحلةً، مرحلةً، ويجد فيه المتلقي، في كل مرحلة، عمقًا وسعةً أكبر. ولو قيل لي أذكر بعضًا من أهم من كان لهم أقوى التأثير على نموك الروحاني، والوجداني، والفكري، من السودانيين، لوضعت هؤلاء الأربعة على رأس القائمة، وهم: الأستاذ محمود محمد طه، والطيب صالح، ومحمد المكي إبراهيم، وعبد الكريم الكابلي.
    (يتواصل في المقالة الأخيرة)
    ----------------------
    عبد الكريم الكابلي: سُلَّمٌ تعليميٌّ متكامل (4/4) ..

    بقلم: د. النور حمد

    برحيل عبد الكريم الكابلي تنطوي، أو تكاد تنطوي، الحقبة الوسطى من حقب السودان المستقل. هذه الحقبة الوسطى أعقبت سابقتها، التي بدأت بمؤتمر الخريجين، وانتهت بالاستقلال. وقد اتسمت هذه الحقبة الوسطى التي يمكن تسميتها بـ “دولة الأفندية والعسكر”، خاصة فيما يتعلق بالفشل في بناء الدولة، وفي التنمية والاستقرار السياسي، والعجز البنيوي وبالاضطراب، بل، وبالفشل الذريع في تحقيق الوحدة الوطنية. ويوشك فشل “دولة الأفندية والعسكر” هذه، أن يوردنا، في اللحظة المفصلية الراهنة، موارد الحتوف. نسأل الله اللطف والعناية. لكن، مع ذلك، اتسمت هذه الفترة المنقضية، بإشراقٍ كبيرٍ، في مجال فن الغناء، وفي مجال الفن التشكيلي، والشعر، والصحافة، وكرة القدم. أما في مجال الغناء، فقد كان عبد الكريم الكابلي أحد أبرز أعلامها.
    لخصوبة تلك الفترة أسبابها، وعلى رأسها حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي، النسبية، التي حققتها الإدارة الاستعمارية، في الفترة الممتدة بين ثورة 1924، وحتى استقلال السودان في يناير 1956. كان هناك أمنٌ شاملٌ واستقرار، وكان هناك أملٌ في المستقبل. ولعل صلاة سير دوقلاس نيوبولد من أجل السودان وأهله، التي حفظها الكابلي عن ظهر قلب، وكررها مراتٍ في لقاءاته وحفلاته، تحمل إشارة إلى فهم الكابلي للأثر الكبير لحالة الاستقرار التي رسخها البريطانيون وأثرت بقوة في مجالات الإبداع. ولقد سبق أن كتبت عن الأثر البريطاني على ازدهار ستينات القرن الماضي، في مقالتي الموسومة، “حقبة الستينات وتبديد ميراث البريطانيين”. وهي مقالة جرى نشرها في الكتاب الذي حمل عنوان: “السودان في ستينيات القرن العشرين”. وهو كتابٌ صدر عن مركز دال الثقافي، في عام 2018.
    بدأ ازدهار فن الغناء عقب أفول الدولة المهدية، وانمحاق نزعتها الطهرانية المتزمتة، وانقضاء حالة الاضطراب الأمنية، الذي سادت نهاياتها. ولقد استمر فن الغناء في التفتُّق والازدهار، بقوة الدفع الأولى تلك، حتى بلغ سبعينات القرن الماضي. ومع إحكام شمولية نميري قبضتها على البلاد والعباد، وبزوغ فجر الهوس الديني، بدأ مؤشر الرسم البياني للإبداع الشعري والغنائي والتشكيلي في الانحدار، متأثرا بما أصاب الدولة. فالفنون، والآداب، وبخاصة فن الغناء، إنما تمثل المولود الشرعي لأحوال الاستقرار السياسي والاقتصادي في حياة الشعوب. ولقد كانت هذه العناصر متوفرة، بقدرٍ معقولٍ، في فترة الإدارة البريطانية للبلاد. بل، إن هذه العناصر هي ما بدأنا نفقده، تدريجيًا، بمجرد خروج المستعمر. ولم يمض عقد ونصف من الزمان، عقب الاستقلال، حتى فقدنا كل ما ورثناه من البريطانيين. وهذا، كما سلفت الإشارة، مبحثٌ بكرٌ، في سوسيولوجيا الغناء، وفي سيسيولوجيا الآداب والفنون، عامةً، في السودان.
    وُلد عبد الكريم الكابلي في عام 1932. وحين نالت البلاد استقلالها، كان عمره 24 عاما. فهو بهذا، ابن تلك الحقبة. وما لبث الكابلي، حين ناهز الثلاثين، أن أضحى أحد أبرز نجومها البازغة. حينها، تناثر الأفندية في عواصم المديريات ومدنها. ونشأت مجاميع السمر، ونشأت العلاقة بين الأفندية والمغنين. فأخذ عدد من أشهر المغنين في التطواف على تلك المجاميع النخبوية، وكذلك، على سائر الجمهور. ومع منتصف القرن الماضي، تراجع شعر الحقيبة؛ بحِسِّيَّتِه التشريحية الغرافيكية لجسد الأنثى، وأخذ نمطه يخلي مكانه، تدريجيًا، لأنماط شعرية حديثة، ولموسيقى أكثر تركيبًا، وثراءً لحنيا. صاحب ذلك انتشار دور السينما التي عكست أساليب الحياة الحديثة فيما وراء الحدود. وبما أن الهوس الديني لم يكن أواره قد استعر بعد، مثلما جرى في نهايات حقبة نميري، إضافةً إلى ما تلا في فترة حكم الإنقاذ، فقد كان المناخ النفسي، السابق لهاتين الفترتين المضطربتين، رائقًا. ومن ثم، سمح بازدهار الفنون والآداب، وسائر الأنشطة التي تعكس ثقافة الشعب وحيوته الوجدانية. وقد شهد عقدا الستينات والسبعينات، من القرن الماضي، قمة الازدهار الغنائي.
    في الستينات، لمع في سماء الشعر، صلاح أحمد إبراهيم، ومحمد المكي إبراهيم، ومحمد عبد الحي، والنور عثمان أبكر، وعلي عبد القيوم، وعبد الرحيم أبو ذكري، وكمال الجزولي، وغيرهم. كما كان محمد المهدي المجذوب، المخضرم حينها، مستمرا في الإنتاج، ولكن بدفق حداثيٍّ جديد، أوجد به لنفسه مقعدًا في المركبة الجديدة، التي حملت من جاءوا بعده. أيضًا، كانت مدرسة الخرطوم في الفن التشكيلي، حينها، ملء السمع والبصر، في النطاقين العالمي والإفريقي. أما في مجال الغناء، فقد كان عقد الستينات هو عقد وصول الكابلي إلى كرسي عرشه المميز. كما شهدت الستينات لمعان نجوم فكرية وأدبية سامقة، مثال: جمال محمد أحمد، ومنصور خالد، والطيب صالح. وهي ذات الفترة التي أصبح فيها اسم الأستاذ محمود محمد طه على كل لسان.
    ساد الحقبة الغنائية الأولى، التي تبلورت نهايات الربع الأول من القرن العشرين، نمط الغناء المسمى “حقيبة الفن”. فتسيَّد تلك الفترة كلٌّ من، كرومة، وسرور، والأمين برهان، وعلي أبو الجود، وإبراهيم عبد الجليل، وفضل المولى زنقار، وغيرهم. وقد مثل الرائد الكبير، إبراهيم الكاشف حلقة وصل، بين تلك الفترة، وما تلاها. فهو قد غنَّى على نمط الحقيبة، ثم ما لبث أن أحدث النقلة اللحنية البائنة، المصحوبة بالأوركسترا، وبالمقدمات الموسيقية التصويرية، واللزمات المبتكرة. ومشى على دربه في ذلك، عبد الحميد يوسف، وأحمد المصطفى، وعثمان حسين، وإبراهيم عوض، والتاج مصطفى، وعبد العزيز داؤود عبر ثنائيته مع برعي محمد دفع الله، والعاقب محمد حسن، وعثمان الشفيع في ثنائيته مع محمد عوض الكريم القرشي، وعائشة الفلاتية، ومهلة العبادية، ومنى الخير، وغيرهم. برزت في تلك المرحلة نقلةٌ أخرى جديدة، مثلها كلٌّ من: محمد وردي، وعبد الكريم الكابلي، ومحمد الأمين، وأحمد الجابري، وصلاح بن البادية، وأبو عركي البخيت، وزيدان إبراهيم، والبلابل، وثنائي العاصمة، وغيرهم. وبطبيعة الحال، هناك نجوم آخرون، مؤثرون، غير هؤلاء، لا يقل إسهامهم وصيتهم عن هؤلاء المبدعين البارزين، لكن لا يتسع الحيز لذكرهم، حصرا.
    أردت أن أخلص مما تقدم إلى القول، إن رحيل عبد الكريم الكابلي يمثل لديَّ، علامةً فارقةً من علامات انقضاء تلك الحقبة السودانية الزاهرة، التي أرى أنها قد كانت “فلتة”، وازدهارًا خارج السياق. ونحن نقف اليوم عند مفترق الطرق، بين حقبتين مائزتين في السياسة وفي الثقافة السودانية. حقبة شملت ثلاث مراحل، انطوت الآن أو تكاد. وحقبة جديدة نستقبلها الآن، لا تزال تُمْتَخَضُ في رحم الغيب. وتمثل ثورة ديسمبر التي لا تزال فصولها تتوالى، فجرها ومخاضها العسير، الذي لا نزال في بداياته. ومشوار هذه الثورة، فيما يبدو لي، حتى تدرك غاياتها، سيكون طويلا. من رماد دولة الأفندية، ومع بزوغ فجر حقبة المليشيات المجوقلة على “التاتشرات”، يخرج طائر الفينيق الشبابي بمليوناته، وقيمه الجديدة الطازجة، وبسالته الأسطورية، التي أخذت بمجامع قلوب العالم. يخرج الفتيان والفتيات بفطرة سليمة أبت أن تتشوه، مستعيدين من تحت ركامٍ كثيف، قيمهم الانسانية الكوشية الصوفية. صادحين بملامح موسيقى جديدةٍ مختلفةٍ، شكلتها ذائقتهم الكوكبية، ليبنوا بوجدانٍ جديدٍ، الحياة السودانية الطليقة، المشتهاة، فوق ركامٍ من الأباطيلِ والترهات البليدة. ولسوف تغرب شمس عصرنا نحن، الذي مثل الكابلي ورصفاؤه من المبدعين، حملة مشاعله، لتشرق شمسٌ جديدة.
    برحيل الكابلي ترحل بقايا تأثيرات الإرث الكلونيالي الممتدة في الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التي انعكست على حالة الفن، على مدى نصف قرن، امتد منذ عشرينات القرن الماضي، حتى سبعيناته. إننا نودع الآن دولة الأفندية المضطربة، التي أفضت بنا إلى الارتداد إلى الخلف، والوقوع في براثن الهوس الديني، والشوفينية القبلية، والمناطقية، وأفضت بنا، في نهاياتها، إلى حقبة المليشيات المسلحة، وانعدام الأمن الشخصي، وادلهمام صورة المستقبل، وسيطرة اللهث وراء الضروريات، ونشوء مناخٍ نفسي خانق، وانسداد وجداني بليغ.
    يموت الآن، وببطء، موتًا مؤلمًا، عهدٌ مضطربٌ عقيم. في حين يولد بإزائه عهدٌ جديدٌ وضيءٌ، لمَّا تتضح ملامحه بعد. في منطقة الظلال هذه نودع المبدع العظيم، عبد الكريم الكابلي، بكل ما رمز اليه في تجربته الإبداعية الباذخة، وكل ما مثلته حقبته “الفلتة” هذه. قال الأستاذ محمود محمد طه، قبل عقودٍ طوالٍ، وهو يحكي بتفاؤل يقيني، عن مستقبل السودان وأهله، قائلا: “وسيكون يومنا خيرٌ من أمسنا، وسيكون غدُنا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”. ولا شك عندي أن الكابلي، صاحب القلب الحي، الثائر، التائق، دوما، للجديد المثمر، قد سُرَّ سرورًا عظيمًا، وهو يشهد في خواتيم حياته الخصيبة العامرة، انطلاق هذه الثورة العظيمة. لقد قدر الله أن يفارق عبد الكريم الكابلي عالمنا هذا، وتجري مواراة رفاته في بلاد بعيدةٍ وبيئةٍ ثقافية غريبة. وهو ما جرى، من قبل، للشاعر الضخم محمد الفيتوري، الذي صور طرفًا من هذه الحالة، حين قال:
    في زمنِ الغربةِ والارتحالْ
    تأخذني منك وتعدو الظلالْ
    وأنت عِشقي، حيث لا عشقَ يا سودانُ، إلا النسور الجبالْ.
    وحين قال، أيضا:
    لا تحفروا لي قبراً !
    سأرقد في كلِّ شبرٍ من الأرض
    أرقد كالماء في جسد النيل
    أرقد كالشمس فوق حقول بلادي
    مثلي أنا، ليس يسكن قبرا
    ألا رحم الله المثقف والشاعر والموسيقار والإنسان الخلوق النبيل، عبد الكريم الكابلي، وتقبله بين الصالحين المُجتبين الأخيار. فقد عاش حياةً خصبةً مثمرةً، تعدت تأثيراتها ذاته وأسرته ومحيط أقاربه ودائرة أصدقائه، لتملس حياة الملايين؛ داخل السودان وخارجه. فسلام على عبد الكريم الكابلي في الخالدين.
                  

12-21-2021, 05:02 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    الدكتور جلال الدقير يرثي الكابلي: (عبقري من عهد الرشيد)
    --------------

    قال أبو الفرج الأصفهاني (صاحب الاغانى) عن اسحق إبراهيم الموصلي: (إن الغناء أصغر علوم اسحق، وأدنى ما يوسم به)، وقال عنه الخليفة المأمون نجل الرشيد: (لولا اشتهار اسحق بالغناء لوليته القضاء لما أعلم من غزير علمه وعفته و نزاهته، و لكنه اشتهر بالغناء وغلب على جميع علومه ولم يكن له فيها نظير)، إذ كان عالماً باللغة والتاريخ وعلم الكلام، ناظماً للشعر وراوياً له، وقال الخليفة الواثق: (ما غناني أو تحدث فى مجلسي اسحق إلا ظننت أن زيد لي فى ملكي).
    ترى عمن كان يتحدث صاحب الأغاني والمأمون و الواثق؟ عن اسحق أم عن عبد الكريم الكابلي، إذ ما رأيت فناناً عربياً معاصراً اجتمعت له شوارد الكلم، وسعة الثقافة، وبدائع الألحان، ونوادر مقامات الموسيقى، وفخامة الحضور، بمثلما اجتمعت للكابلي،
    قدم له الرئيس بوتفليقة الوسام الذهبي امتناناً من الجزائر وشعبها وثورتها لعبد الكريم، ووقفت جميلة بوحيرد ومآقيها تفيض بالدمع، و لم يُر الزعيم الخالد عبد الناصر واقفاً منتشياً وهو يصفق في حرارة إلا مرتين، مرة عندما غنت سيدة الغناء العربي في حضوره قصيدة صلاح جاهين التي لحنها رياض السنباطي عام 1959 عن السد العالي (كان حلماً فخاطراً)، ومرة ثانية في المسرح القومي بأم درمان عام 1960، عندما غنى عبد الكريم من ألحانه أنشودة آسيا وإفريقيا لتاج السر الحسن، (مصر يا أخت بلادي يا شقيقة.. يا رياضاً عذبة الورد وريقة.. يا حقيقة.. ملء روحي أنت يا أخت بلادي.. سوف نجتث من من الوادي الأعادي).
    لقد تغنت أم كلثوم قبله بسنوات بقصيدة أبي فراس (أراك عصىّ الدمع) بثلاثة ألحان.. لحن وضعه الفنان القامة السنباطي وآخرين وضعهما عبده الحامولي وزكريا أحمد، و في كلها أبدعت وأشجت.. عندما وقف أمامها في المسرح القومي عام 1967، لقد زارت الخرطوم فى إطار جولتها لدعم المجهود الحربي عقب النكسة، كان عبد الكريم يعلم أنه يطاول قمماً أربع في الأداء والتلحين عندما غنى من تلحينه: (أراك عصىّ الدمع شيمتك الصبر).. ومع صعوبة التطريب في السلم الخماسي مقارنة مع التنسيق السباعي، إلا أن عبد الكريم ليلتها أجاد وأطرب وتفوق، فشدت أم كلثوم على يده بحرارة بعد أن صفقت طويلاً.. وكان له جمهور معجب ومحب في بلاد الشام، مهد الحضارات وسط النخب والعامة، وقال عنه الفنان السامق وديع الصافي أن عبد الكريم الكابلي صخرة من صخور الغناء العربي.
    يكمن دائما بين البلاء والمصيبة إحساسنا المضني بطعم الرحيل المر ووقعه اللاسع، حزناً عميقاً نحسه وحسرة نعانيها كلما عبر على جسر الرحيل الأبدي المضروب على رقابنا العابرون من الأهل ورفقاء الدرب والأحباب.. ولذلك أتاني مؤلماً فاجعاً خبر صديق سامق القامة وفخيم المعنى صبيح الوجه وبسام المحيا، عبد الكريم كان إنساناً سمحاً جميلاً ذا عريكة لينة وطبع رقيق، كان عبد الكريم أديباً متعمقاً فى شتى مناحي المعرفة الإنسانية والفنون والآداب، وكان شاعراً يزين قلائد القصيد بحسان من جواهر الكلم، فيأتي شعره غرداً من غير لحن، وكان قارئا نهماً باللغتين العربية والإنجليزية، مهتماً بكل أنواع العلوم والفنون والآداب، ويشهد كل من جالسه على موسوعية معرفته.. وكان مغنياً متميزاً فى أدائه الذب ارتكز على معرفة بأصول الموسيقى و دقائقها، بارعاً في اختيار الإيقاعات التي يطوعها لتناسب كل بحور الشعر الفصيح وألوان الشعر العامي، فيأتي أداؤه مناغماً بين جميل الكلام وبديع الألحان، يصوغ السحر والروح والخلود.. أجزم أنه ليس من مطرب عربي أو إفريقي، تغنى لهذا الكم المتنوع من الشعراء امتد زمانهم أكثر من ألف عام، لقد جارى مغنين من عهد هرون الرشيد مثل الموصلي وإبراهيم بن المهدي فى ضبط الأوزان التي تبنى عليها مقامات الموسيقى، وميز بينها تمييزاً دقيقاً تلمسه فى أدائه، غنى لكل الألوان، ولكنه كان يعشق الشعر العمودي، غنى لأبي الطيب المتنبي (أرى ذلك القرب صار ازورارا.. وصار طويل الكلام اختصارا) غنى ليزيد بن معاوية أمطرت لؤلؤاً (نالت على يدها)، تغنى للأخطل الصغير وأبى نواس وأبى فراس الحمداني، وفي الأزمان المعاصرة تغنى لأحمد شوقي وابراهيم ناجي وأبدع وأجاد فى لحن الجندول، الذي رقصت على انغامه كليوباترا.. خلد حرائر الجزائر اللائي كن وقوداً لثورة المليون شهيد بلحنه الخالد لقصيدة الشاعر البحريني على شريحة (لؤلؤة البحرين)، قصة البطلة فضة الأمازيغية، وهي تقاتل الاستعمار في أحراش الجزائر ورصد الفرنسيون إمكانات ضخمة لاغتيالها فهربها الثوار إلى البحرين، حيث تمت تصفيتها هناك، وكانت رائعة الكابلي أغلى من لؤلؤةٍ بضة صيدت في شط البحرين.. تغنى عبد الكريم لطيفٍ واسعٍ من شعراء الفصحى والعامية في السودان على رأسهم الفيتوري وإدريس جماع و عمر الدوش الذي غنى له سعاد (شان البت سعاد أصلي عارف جنها فى زول بيركز وينستر).. غنى للعباسي و لإخوان الصفا صديق مدثر والحسين الحسن والسفير عبد المجيد الأمين (هبت الخرطوم في جنح الدجى)، وآخرين كثر من عمالقة الشعر الغنائي، ومن أبرز ما تميز به بحثه فى التراث السوداني وتقنينه، ساعده فى ذلك المام واسع بالسودان وقبائله وتنوعه، ولكم تحدث عن القيمة الوطنية والفنية لهذا التنوع، كما وثّق فى كثير من المحاضرات والأبحاث المنشورة لذلك التنوع، بل وجعل التراث السوداني جزءاً من المزاج العام للغناء السوداني، وطاف حراً بجناحين مرفرفين بين رياض الموروث الشعبي المعطر بالكبرياء والشموخ وعزّة النفس وعفّة البيان.
    تشاء تصاريف القدر أن اكتب هذه الخواطر وأنا في مدينة دبي، المكان نفسه الذي تعرفت فيه عليه أول مرة وأنا طبيب امتياز في منتصف العشرية السابعة، وامتدت علاقتي به عقوداً طويلة، تجمرت بالمودة والمعزة وطيب الصلات، فيها كثير من المحطات ما يستحق التوثيق. لكني أقف عند اثنتين.

    ذهبت فى ربيع العام 1980 للملكة العربيه السعودية في مهمة سياسية، أحمل رسائل لقيادات في المملكة من شهيد المنافي؛ الشريف حسين الهندي تخص الحزب، ومن ضمنها طلب السماح بدخول مجلة الدستور للمملكة، وقتها كان عبد الكريم قد ضاقت به سعة الوطن الذي أحبه فغادر مغترباً في مدينة الرياض، يعمل بإحدى المؤسسات، ولكن لم يغادر حب الوطن قلبه. ذهبت لزيارته وما انتهينا من حديثنا إلا وجهت له عفو الخاطر دعوةً لزيارة المملكة المتحدة، ولحساسية الموقف، قلت له إن الدعوة في ظاهرها من رابطة الطلاب السودانيين، وكنت أرأسها وقتذاك، ولكن باطنها دعوة من الشريف الحسين، وكانت بينهما مودة وإلفة.. لم يتردد في قبول الدعوة، ولباها بعد أشهرٍ قليلة.
    عند وصوله كان الشريف خارج بريطانيا في سعيه الدؤوب لتعزيز قدرات المعارضة من أجل اسقاط النظام.. النظام المايوي؛ وإحلاله بالبديل الوطني الديمقراطي، ولكنه وجهني باستضافة الرجل بما يليق به.. فاحتفينا به بما يستحق، أقمت الحفل الرئيسي بقاعة الكافييه رويال بمنطقة البيكاديللي الشهيرة، وهو مكان تقام فيه أرقى الحفلات، وتقدم فيه الملكة الجوائز للمتميزين من أهل الفنون والآداب، ومن أشهر من تعاقب على رئاسته الفخرية الأميرة ديانا.
    احتشد ليلتها السودانيون وأسرهم كما لم يحتشدوا من قبل، وأبدع الكابلي ليلتها وأجاد.. غنى فيها للوطن وللجمال وللتراث وللحب.. بدأها برائعة الخليل (نحن الشرف الباذخ)، واستمر ينثر الدرر من الغناء الفصيح والعامي، ثم رتبنا له زيارات للمدن الأخرى التي بها كثافة من السودانيين، فأشاع فيهم البهجة والنضار، وأزاح عنهم كثيراً من هجير الغربة ورمضائها.
    لم يلتق بالشريف إلا فى الليلة الأخيرة لوجوده في بريطانيا بدارى بضاحية ايلنج.. كان لقاءً فهيماً فخيماً ومهيباً، فكلا الرجلين ذو إيمانٍ، مثقف عميق بالخالق العظيم، وكلاهما صوفي متبتل، فعبد الكريم قادري، والشريف هو من هو.. وعندما يتصل الأمر بالسودان وقبائله وتاريخ الحضارات فيه وما صحبه من تراث أغلب توثيقه مشافهة غير مكتوبة فان كلاهما مستودع ذاخر لكثيرٍ من النفائس والمواهب والدرر، ومع استطالة اللقاء الذى امتد لثلاث ساعات لم يتسع في نهايته إلا لأغنيةٍ واحدةٍ طلبها الشريف (بت ملوك النيل) وختمها الكابلي بطبل العز ضرب يا السُرّة قومي خلاص، فى نهايتها سألني الشريف من شاعر هذه الأغنية؟ فقلت له لا أعرف.. قال لي بسخرية (أحسن تعرف تراث أهلك العبدلاب.. هذه القصيدة قالتها حبوبةً ليك هي السرة بت الشيخ ناصر الأرباب، التي اقسمت بالله أن لا تقوم من سجادتها حتى تسمع بموت من ظلم أهلها وكان لها ذلك، (طبل العز ضرب يا السُرّة قومى خلاص.. طبل العز ضرب والخيل تسابق الخيل.. والظالم وقع كية الفراس.. والظالم وقع يا السرة داوي جراح).. ثم نفث الدخان من سيجارة في فمه وأردف قائلاً: هي القالت في أبوها الأرباب ناصر (قمر العشا الضواي للخصيم كواي.. بجر مسداري وبنم في الأرباب سيد الاسم) لم أأسف على شيء مثل أسفي على عدم تسجيل تلك الأمسية.
    أما المحطة الأخرى التي أريد أن أذكر لقاءه بعد أكثر من ثلاثين عاماً بالشريف الآخر، زين العابدين الهندي، صوفي آخر قضى العمر فى محراب الوطن، باحثاً فى صدور أهله عن قيم الحرية والعدالة والديمقراطية الراشدة.
    كتب عن ذلك نثراً مموسقاً مزركشاً بالبهاء، وكتب كثيراً من الشعر الغرد النضير، ولعل من أجمل ما كتب أنشودة الهجرة و الاغتراب، مشاعر قوم وموال أمة، أغنية حب وتصد وعرفان.. تغنى فيها للسودان شبرا شبراً.. تغنى للنيلين الأزرق والأبيض.. غنى لرهد المفازة ولمريدي وللسوباط.. غنى لبحر العرب وبطانة أبوسن و جبل مرة.. غنى فيها لأدروب و هبباي بركة، غنى لعلي دينار أدَّاب العُصاة زول زول، ولحريق المك في قلب الدخيل.. غنى للقصر الجمهوري الضبح غوردون من الإضنين، وغنى للأزهري النكّس ذُرى العلمين.
    بعد جهد اقتنع الشريف أن نأخذ الانشودة للكابلي ليحولها للوحةٍ إبداعيةٍ توثق هذا العمل الذي ظل مطموراً ثلاثة عقود من الزمان.. صدح الكابلي بالكلمات وايقاعها البديع ومعانيها العميقة.. وقع في حبه منذ الوهلة الأولى.. سكب عبد الكريم فى ذلك الأوبريت عصارة إحساسه وذوقه الفني واختار له من الإيقاعات ما طوّف به جميع أنحاء السودان، استغرقه ذلك قرابة العامين، ولم يكمله حتى اختار الله إلى جواره الشريف. اتفقنا أن يخرج إلى الناس فى الذكرى الأولى لوفاته.. وكان يوماً رهيباً مهيباً.. تفوق فيه عبد الكريم على نفسه، وخرج الأوبريت إضافةً نوعيه مميزة ومثقفة للمكتبة الفنية السودانية.
    رحم الله الفنان الأديب المؤدب المرهف الشفيف عبدالكريم.. رحيله؛ كما أسلفت رحيل حقبة مترعة بالجمال وقيمه، كان محباً عاشقاً لوطنه، عندما أحس بدنو أجله حمل نفسه على المجيء للسودان، يحمل أثقال السنين وأحمال الداء، و كأني به يودع الارض والأحباب الذين أحبهم وبادلوه حبهم و عشقهم، أتى والبلاد اجتاحتها ثورة هزت وجدان العالم فجرها شباب يبتغون ذُرى المجد، ويحلمون بغدٍ أفضل، وفجر أبلج. وبحس الفنان المرهف والوطنى الغيور أوصى الناس بكلماته.. (ليست الثورة تهليلاً وتطبيلاً لفرد.. ليست الثورة تدعيماً وتكريساً لقيد.. إنما الثورة جهد بعد جهد بعد جهد.. إنما الثورة أيدٍ فوق أيدٍ فوق أيدٍ.. لقلاع الجهل للفقر للداء الألد.. لشرور النفس والحقد وجور المستبد)، حزنى عليه شخصي وعام ففقده فقد أمة، رحمه الله وأكرم نزله وشمله بعفوه ورضاه ووسع له في مقاعد المقربين، وأنزله مقعد صدقٍ بين جناتٍ ونهر.

    جلال يوسف الدقير
    الجمعة 10 ديسمبر
                  

12-21-2021, 05:13 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    الكابلي واضرابه من عمالقة الفن السوداني كرموز للقوة الناعمة في افريقيا وبلاد السودان ..

    بقلم السفير/ محمد المرتضى مبارك إسماعيل

    حكى احد سفراء السودان الاماجد واحسبه إن لم تخني الذاكرة سعادة السفير عبد الباقي احمد حسن، انه خلال فترته سفيرا للسودان بالصومال وفي إحدى ليالي مقديشو ايقظه من النوم طارق، فاذا به وزير خارجية تلك البلاد الشقيقة. وظن سفيرنا ان خطبا جللا قد حدث، ولكن سعادة الوزير طلب منه أن يسمعه احدى أغنيات الكابلي والتي استمع اليها باهتمام شديد، وقد اهداه سعادة السفير كاسيت الأغنية في نهاية الزيارة.
    المشتركات الثقافية وخاصة في جانب الغناء والذي تطور في السودان وصار النموذج الذي تحتفي به وتقتفيه الجماهير والنخب في العديد من الدول الافريقية وبخاصة في بلاد السودان من اقصى شرقها في الهضبة الإثيوبية الي بلاد السودان الفرنسي في مالي والسنغال، امر مشهور ةقد سارت بذكره الركبان ولكن تعوزه البحوث الاستقصائية الجادة والبرامج الوثائقية الشاملة والمعمقة والمؤسسات التي تقوم على ذلك كجزء من الهم والشأن الثقافي.
    اذكر خلال عملي كدبلوماسي بسفارتنا بلاغوس وخلال احدى زياراتي لعاصمة الشمال مدينة كانو ان اقتنيت من سوق المدينة بضعة وعشرين من أشرطة الكاسيت لفنانيين سودانيين لم اسمع بمعظمهم ولعل بعضهم ليست لهم تسجيلات حتى بمكتبة الإذاعة السودانية. وخلال فترتنا بلاغوس من 1994- 1998 كانت هناك فرقة سودانية واحدة وحدثني مؤخرا بعض الثقاة ان بنايجريا الان ثمانية فرق غنائية سودانية تجد رواجا كبيرا في الذائقة النايجيرية خاصة في الشمال والحزام الاوسط.
    وخلال عملي بسفارتنا بتونس وكنت آندئذ الدبلوماسي الوحيد بالبعثة، قدم الينا فريق الهلال للتباري مع الترجي التونسي. وقبيل وصول الهلال علمت ان ادارة النادي قد اتخذت قرارا هاما قضى ان يصحب فريق الكرة في جميع رحلاته مبدعين سودانيين وكان ممن صحب الهلال في تلك الرحلة الفنانان الكبيران حمد الريح رحمه الله، وكمال ترباس متعه الله بالصحة والعافية والشاعر الكبير أزهري محمد علي. تحدثت مع السيد صلاح ادريس بان هذه سانحة كبيرة لتقديم الفن السوداني في الساحة التونسية. فأجاب بالموافقة وان الامر متروك لرغبة الفنانين.
    استضافت القناة الرئيسة في التلفزيون التونسي حمد الريح وكمال ترباس في برنامج نسمة صباح وغنى حمد الريح اغنيته للشاعر التونسي ابو القاسم الشابي: اسكتي يا جراح واسكني يا شجون. وقد سيطر على أنحاء الجمهورية التونسية في ذاك الصباح الطرب والاعجاب من روعة الغناء السوداني وجودة تغنينا بأشعار الشابي والتي فاقت اداء نظراءهم في تونس والعالم العربي. وقد أحيا الفنانان والشاعر أزهري حفلة امتدت لثلاث ساعات بفندق ابو نواس احد اكبر الفنادق بوسط تونس العاصمة. وشهد الحفل العديد من رموز الثقافة والادب في تونس والسفراء العرب. وزارنا في تونس أيضا الفنان الشاب ياسر تمتام لإحياء بعض مناسبات الجالية الاجتماعية فجعلناه يغني للتوانسة اغنية: عذبة انت كالطفولة كالاحلام، للشاعر ابو القاسم الشابي فكانت دهشة واعجاب التوانسة فوق حدود الوصف. فتأمل حال غياب الفن السوداني في احدى اكثر البلاد العربية تنظيما للمهرجانات الفنية.
    ربما يحق لنا أن نحلم بمهرجانات غنائية ومسرحية وفي الفن التشكيلي راتبة كمهرجانات قرطاج المسرحية والغنائية، تشارك فيها الدول الإفريقية والعربية وبخاصة دول حزام الاقليم السوداني في شتاءات الخرطوم الجميلة تكون هي بدورها وسيلة للسياحة الثقافية التي تدر على البلاد مداخيل جيدة وتكون سوقا للكثير من المنتجات السودانية ودافعا لرقيها خاصة المشغولات التراثية اليدوية والتي نصيبها 12% من الدخل القومي وتوظف 20% من العمالة النشطة في بلد كتونس لا يتمتع بمثل ثراء وتنوع السودان.
    ان اثر العمالقة كوردي وكابلي واضرابهم من عمالقة الفن والفكر والادب والذي يتجاوز اثرهم السودان الى معظم اقليمنا العربي والافريقي وما ورائه الى العديد من أصقاع العالم، يجب ان يكون دافعا للاحتفاء بتراثهم الخالد وتعظيم نفعه وانتشاره وان تولد من ارحامه العديد من ابداعات فناني ومفكري وادباء المستقبل.
    رحم الله الفنان والأديب والشاعر الكبير عبد الكريم الكابلي واسكنه فسيح جناته وبارك فى ذريته واثاره الفنية والثقافية.

    [email protected]

    ------------------

    في وداع الكابلي البريع – (2) يا الكٌلّك ذوق ..

    بقلم: عمر الفاروق سيد كامل

    بسم الله الرحمن الرحيم
    قلّنا أن النخبة المدينية ، أسهمت بشكل كبير فى تأسيس وتطوير التجربة الغنائية للأستاذ عبد الكريم الكابلي ، نسأل الله أن ينزّل على قبّرهِ الرّحمات و الشآبيب الرُّضاب . لذا فإن الوقوف ـ من باب العرّفان ـ على تكوين هذه النخبة أو بالأحّري النخب من الأهمية بمكان ، والأهم من ذلك تبّيان أثرها _ من ناحية إختيار المفردة واللحن وحتي طريقة الأداء _ فى منتوج الكابلي الغنائي و الفني . صحيح أن الكابلي بدء الغناء و هو فى الثامنة عشر من عمره بين أضرابه ومجايليه فى بورتسودان وبعض مدن الشرق ، إلا أن موهبته الحقيقة لم تبنّ نواجزها إلّا عقب مجيئه للعاصمة الخرطوم ، للإلتحاق بمدرسة التجارة الثانوية فى أم درمان فى النصف الثاني من الأربعينيات وبداية عمله بالمصلحة القضائية فى العام 1951.
    الشاهد أن عشّرية الخمسينات كانت فترة للنجومية الغنائية ، لا سيما بعد رسوخ تلك اللونية الجديدة فى الميلودي و الأداء ، أو ما أطلق عليه بين الجمّوع بالغناء الحديث ، وما صاحبه كذلك من لونية جديدة فى الشعر الغنائي lyrics . حيث يقول الدكتور الفاتح حسين ، أنّه لولا جهود و إبداعات عازف الكمان السّر عبدالله و إسماعيل عبدالمعين وإبراهيم الكاشف و حسن عطّية وأحمد المصطفي والتاج مصطفي و عثمان حسين و سيد خليفة و آخرين مبدعين ، لظلّ الغناء و الموسيقي السودانية تقف حتي يوم الناس هذا علي مدرسة الحقيبة و طريقة أداءها المميزة .
    تكوّنت المجموعة المحيطة بالإستاذ عبد الكريم الكابلي في مرحلة البدايات ، من زملاء العمل في المصلحة القضائية و نفر من الموظفين في المصالح الحكومية الأخري والأصدقاء المقرّبين من الأهل و الحي ، وفي مرحلة لاحقة شملت المجموعة عدد من المثقفين والشعراء و الموسيقيين والمغنيين والضباط ورجال الأعمال و وجهاء المجتمع . المعاصرون لهذه المرحلة أشاروا أن إبداع الكابلي تفتّق من خلال جلسات السمر وإحياء المناسبات الخاصة ، و التي كان يردد فيها أغاني الفنانين الذين سبقوه ، بتشجيع من الزملاء والأصدقاء ، ومما يجدر ذكره أن المحيطين بالأستاذ حرصوا أن يكون للكابلي أغنياته الخاصة ، هذا بالتوافق مع حرصه شخصيا أن يكون له منتوج غنائي مطبوع ببصمته الخاصة .
    تحلّقت حول الأستاذ عبد الكريم الكابلي نخبة متميزة كذلك ، عندما إنتقل للعمل بمروي فى العام 1954، ضمّت الأداري الكبير حسين محمد أحمد شرفي مفتش المركز ، و المربي الكبير الأستاذ مصطفى أبوشرف ، و القاضي صالح محمد علي عتيق ، ومولانا عوض الله صالح ، و الشاعر مهدي محمد فرح ، و الدكتور الطبيب حسن كُشْكُش ، والأستاذ إبراهيم يوسف الذي مدّ الكابلي بقصيدة الأستاذ عباس محمود العقاد ” شذى زهر ولا زهر” ، كما إمتدت علاقات الأستاذ الكابلي بوجهاء المنطقة ، العمدة محمد أحمد كنيش والعمدة ود بشير أغا والعمدة أحمد أبوشوك والعمدة سعيد ميرغني و الناظر أحمد سعيد ، كما أرتبط بصلات قوية بعدد من المغنّيين المحليين ، الذين أعانوه – كما ذكر هو نفسه – بقصائد و كلمات و ألحان تغنّي بها لاحقا ، من أشهرها كما هو معلوم أغنية مروي . و يمكن لمن أراد الإستزادة فى هذا الجانب الرجوع لمقالة الدكتور أحمد إبراهيم أبوشوك الممتازة عن ذكريات ومذكرات الأستاذ الكابلي في مروي.
    التأثير العميق و الأبرز فى مسيرة الأستاذ الكابلي الغنائية والفنية بل و الأدبية ، يعود فى تقديري بالأساس لمجموعة أخوان الصفا ، وهي مجموعة من الأصدقاء جمع بينهم حب الشعر والأدب ، والراجح أنهم سمّار الليالي الذين عنَاهم الكابلي فى أغانيه . ولربما أطلقت المجموعة على نفسها هذا الإسم تأسّيا بالمجموعة التي ظهرت فى القرن الثالث الهجري والعاشر الميلادي بمدينة البصرة ، وعُرفت بإسم أخوان الصفا و خِلّان الوفا ، وهي جماعة من الفلاسفة عملوا على التوفيق بين العقائد و الحقائق الفلسفية المعروفة في ذلك العهد ، فكتبوا في ذلك خمسين مقالة سموها ” تحف اخوان الصفا ” ، وهنالك كتاب ألّفه الحكيم المجريطي القرّطبي سماه ” رسائل اخوان الصفا ” ، وكانت اهتماماتهم متنوعة تمتد من العلوم و الرياضايات إلى الفكر و السياسة ، و تمحورت رسائلهم حول السعي إلى سعادة النفس و تطهيرها عن طريق المعارف .
    أمّا مجموعة اخوان الصفا الأمدرمانية فلقد تشّكلت من الشعراء ، صديق مدثر ، الحَسيّن الحسن ، عبدالمجيد حاج الأمين ، و الضابط العظيم إبراهيم أحمد عبدالكريم و الضابط المتفرّد عوض أحمد خليفة وآخرين . و الشاهد أن هذه المجموعة هي من صقلتّ تجربة الكابلي الغنائية ، ذلك عبر الإختيارات الرائعة لعدد من القصائد التي صاغوها هم أو صاغها غيرهم من الشعراء والمبدعين ، ولاقت هويً كبيراً فى نفس الكابلي فأبّدع لنا الروائع الغوالي . وللتدليل على ما ذهبنا إليه ، فإن دُرراً غنائية ثمينة مثل ، يا ضنين الوعد لصديق مدثر وحبيبة عمري للحسين الحسن ، ونشيد طريق الجامعة ( هبّت الخرطوم في جُنح الدّجى) و نشيد يا ناصر لعبد المجيد حاج الأمين ، و يا أغلى من عينّي و كيف يهون عندك خصامي للجنرال عوض أحمد خليفة ، كانت جميعها من أشعار و كلمات أعضاء هذه المجموعة .
    و نواصل ،،،،

    [email protected]
    -------------------

    الكابلي: يا لمخارجه الفصيحة ..
    بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم

    جلسة للوطن : شاملة جامعة النجبا اللباب
    طلب مني اتحاد الكتاب السودانيين في فبراير 1989 أن أنوب عنه في تقديم الفنان الموسيقار عبد الكريم الكابلي الذي خصنا بتقديم مطولته الغنائية “ليس في الأمر عجب” في حفل الاتحاد بالاستقلال ولأول مرة. ونشرت خطبتي بعنوان ” جلسة للوطن : شاملة جامعة النجبا اللباب”.
    لقد كنت في أوائل الستينات أحضر تقديم الفنان عبد الكريم الكابلي لأغنيته “المولد” للشاعر الحاذق محمد المهدي المجذوب في فناء الندوة الأدبية بأم درمان لمؤسسها طيب الذكر عبد الله حامد الأمين. وشعرت بشيء من الميزة أن خصنا الكابلي بأمرين. أولهما أنه أختار قصيدة لواحد منا (الأدباء) في وقت كان شعر الأغنية قد أصبح فصيلاً أقرب إلى أهل الغناء منه إلى أهل الأدب. وثانيهما أنه قبل أن نكون شهوداً حضورًا في تدشين “المولد” مغناة.
    واستقر عندي أن بعض الغناء تظاهرات لكونه تحالفاً لتعساء وتضامناً بين منبوذين لحبهم المستدير للوطن. ليس وطن الحكم والأسلاب والانتخاب والانقلاب وهلمجرا ولكنه الوطن كوحدة وجود مثل نملة الشاعر التيجاني يوسف بشير التي في رقتها رجع صدى الإله: هذه الفكرة المتعالية المتجاوزة.
    وحب الوطن في مفهوم أهل وحدة الوجود من الوطنيين يبدأ بما نحسبه روتيناً. يبدأ بـ “قدلة” المغني خليل فرح (ت 1932) المأثورة:
    قدلة يا مولاي حافي حالق
    بالطريق الـشـاقيه الترام
    أو ربما بـ “جمعة جامعة” في قوله مادح المهدية الفذ، أحمد ود سعد الذي رثى كيان المهدية الذي هدته جحافل الاستعمار (1898):
    دوب لي جمعتهم (اجتماعهم)
    وصلاة جمعتهم
    دوب لجلستهم
    ومؤانستهم
    قال العالم الشاعر عبد الله الطيب: “الإنسان كثير بأخيه”. وتكاثر الكابلي بنا وتكاثرنا به في تلك الليلة في مدينة أم درمان وهو يشجينا بـ “المولد”. بدا لي وقتها، وكنت من ناشئة التقى في الأدب، وكنت حديث عهد بأم درمان، وما أزال، أننا بـ “المولد” قد فتحنا بالقصيدة الكون السوداني الموطؤ بالدكتاتورية النوفمبرية (نوفمبر 1958)
    وهنا نحن نلتقي بالكابلي بعد نيف وعشرين عاماً في تظاهرة أخرى من أجل
    “ليس في الأمر عجب”. في أقرب المواضع إلى أم درمان، وأكثرها استهواء لأفئدة شعراء أغنية الوطن الكامل: في مقرن النيلين الأبيض والأزرق، مقر اتحاد الكتاب.
    بدا لي أن هذا التضامن أصل في مثل الذي يحاول الكابلي اليوم من أغنية الوطن الممتنع. ونظرت في كتاب “ملامح من المجتمع السوداني” للمؤرخ الأدبي الذرب المرحوم حسن نجيلة فرأيته أطَّر لصوت المغني خليل فرح بفصول سماها “بين الجد واللهو”. وهي دراسة أولية جداً في علاقة “القعدة” (مجلس الشرب والندامى) كشكل من أشكال التنظيم والتضامن الاجتماعي في الحركة الوطنية وأصوات الوطنية في الشعر والغناء. فقد كانت الصحبة تحالفاً، والوطن نخباً، والنخب امرأة، والمرأة “عزة”، وعزة هي الوطن:
    نحن صُحبة وإخوان نجاب
    لي دُعانا المولى اسـتجاب
    جلسة كانت ما ليها باب
    شاملة جامعة النجبا اللُباب
    وكانت “القعدة” أُنساً ولكنها أيضاً موعد مضروب للأداء السياسي يتأخر بعض من حضرها لتوزيع المنشورات. وكان الفتية المعجبون بأنفسهم من فرط ودهم المستدير يحسنون الحديث والصمت معاً:
    إن مرقنا [أي من القعدة] السر في الحجاب
    وإن قعدنا إخوانك عجاب
    وكان لهم هذر تآخى فيه الكأس والوطن:
    خبي كاسك ما ينوبنا ناب
    كلو خشم [باب] المركز ذئاب
    وكانت الشلة حزباً لا بل فيلقاً:
    مُـتشـابهونَ لـدى العِـراكِ كأنَّما نبتتْ رماحُهُمُ مع الأجْسادِ
    كان الوطن غائباً في ثنايا الاسـتعمار. وكانت المرأة غائبة في لثامها الاجتماعي. وفي الإبداع ليس الغائب [قفا] شجرة كما هو في المثل السائر. الغائب في الإبداع ينتقم لغيابه. ولذا كان الوطن عاطفة باثولوجية عالية. وكانت المرأة حضورًا ميتافيزقياً عالياً في إبداع العشرينات من هذا القرن.
    اسمع “عزة” الخليل، أغنيته، وأناته الحرى لتقف على ما أعنيه بالعاطفة الباثولجية، واسمع أغاني “حقيبة الفن” لتلك الفترة لترى النساء غير الحقيقيات المصنوعات من محض التشهي ومن باب “البنت” في اللغة. وكان الجيل الرجالي في حاجة إلى بعضهم البعض جداً، وإلى تزييت اجتماعي من الراح بنت الكرم ليتحمل كل هذه الغيبات التي تثأر لنفسها.
    ولذا كان التضامن جذرًا قديماً في مثل هذا الحب المتهافت للوطن مثل الذي نحاول الآن في “ليس في الأمر عجب”. وإننا لنتضامن مع الكابلي جداً لأن اللغة التي هي عدتنا ككتاب ترتاح إلى خارطة مخارجه الفصيحة. ولأنه أخرج أثقال الأغنية السودانية كلها، غثَّها وسمينها، فأرَّخ لها بصوته الفريد في عشق للوطن آسر ولمَّاح.
    نقول للكابلي: لا تخبئ كأس الوطن الجميل على امتلاء “خشوم” المركز بالذئاب والتماسيح والقطط السمان فأنشدنا يا هذا.

    [email protected]

                  

12-21-2021, 05:15 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    النغم الحاكي للمعنى في غناء الكابلي ..

    بقلم: د. خالد محمد فرح

    mailto:[email protected]@hitmail.com

    رحم الله تعالى الفنان الكبير الشامل ، والعبقري المتفرّد ، الأستاذ عبد الكريم الكابلي ، الذي أسال رحيله الفاجع مؤخراً ، دموعاً غزيرة ، وأحباراً كثيرة أيضا ، أهريقت من داخل السودان وخارجه في تأبينه ، والاعراب عن الاسف الممض على فراقه ، وخصوصاً من أجل بيان مكانته السامقة في دنيا الفن والثقافة والابداع ، مما جعله إحدى مفاخر السودان الساطعة ، التي يزهو بها بين العالمين في هذه المجالات ، وخصوصاً في مجال فن التطريب والغناء.
    لقد أطنب سائر الكتاب وأجادوا في بيان عبقرية الفنان عبد الكريم الكابلي ، وغزارة علمه ، وسعة ثقافته وتنوعها ، وملكته الفذه في نظم خرائد الشعر الغنائي وتلحينها، ووضع الموسيقى الراقية للعديد من الاغنيات الخالدة له ولغيره من المطربين ، كما أشاروا إلى دأبه واجتهاده في بعث مختلف انماط التراث الغنائي والشعري التقليدي في السودان ، وأدائه المعجب لها ، فضلاً عن اختياراته الباذخة وادائه المدهش لباقة من عيون قصائد الشعر العربي الفصيح سواء كانت لشعراء سودانيين ، أو لسواهم من الشعراء العرب القدامى منهم والمعاصرين.
    بيد أنني أودّ من خلال هذه العجالة أن الفت الانتباه الى خصيصة أساسية ومهمة ، تميز بها أداء الاستاذ عبد الكريم الكابلي للالحان التي تغنى بها عموماً في تقديرنا ، ألا وهي ميله الواعي الى التنغيم الحاكي للمعنى ، أو إبراز الحالة النفسية او الشعورية التي تعبر عنها الكلمات المغناة ، اًي تصوير مقتضى الحال بصفة عامة.
    لقد سبق لي في الواقع أن نشرت مقالا قبل ما يزيد عن العشرة أعوام بعنوان ” في الألحان الحاكية المعنى ” ، تناولت فيه هذا المفهوم بصفة عامة ، حيث تتبعت فيه هذه الظاهرة ، من خلال عدد من الاعمال الغنائية السودانية التي تجلت فيها عبقرية التلحين ، لأن الحانها قد عمدت في بعض مقاطعها ، الى تصوير المعنى الوارد في النص الشعري وتجسيده تجسيداً بديعاً يكاد يحسه المتلقي إحساساً ملموسا ، مما يعظم الاثر الفني الكلي للعمل الغنائي المعني. ولا شك في أن تصوير المعنى بالنغم أو الموسيقى ، غاية فنية سامية ، يسعى لبلوغها كل ملحن ومؤدٍ جاد بصفة عامة.
    وكنت قد ذكرت في ذلك المقال ، مثالاً على عبقرية التلحين الحاكي للمعنى ، رواية حكاها لي مرة صديقي العالم و الاكاديمي الضليع ، والاديب الأريب الدكتور الصديق عمر الصديق ، مدير معهد البروفيسور عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم ، نقلاً عن قريبه المهندس الإذاعي الراحل ” علي عبد القادر ” ، مفادها أن الفنان الرائد الكبير ابراهيم الكاشف ، كان في أول عهده ، يؤدي المقطع الذي يقول: ” أذكر جلوسنا على الرُبى … نستعرض أسراب الظبا ” ، من رائعة الشاعر عبد الرحمن الريّح ” رسائل ” ، أو ” حبيبي أكتب لي وانا أكتب ليك ” ، كان يؤديها في أول الأمر كما قال ، بنغمات سريعة ومتحفّزة ، وذلك بسبب جهله لمدلول كلمة ” رُبَى “. ولكن الكاشف ، تواضعاً منه ، واحتراماً لفنه ومستمعيه ، وتوخّياً لإصابة دَقّة المعنى بالنغم الذي يلائمه ، لم يستنكف من أن يسأل ذلك المهندس من معنى كلمة: الرُبَى ، فلما أخبره أنّ معناها هو: النجود والمرتفعات والتلال الخ ، عدل إبراهيم الكاشف عن ذلك اللحن السريع المتحفز ، إلى نغمها الحالي ذي النفس الطويل والممدود ، الذي يعبر عن معنى الارتفاع: أذكر جلوسنا على الرباآآآآآ … نستعرض أسراب الظباآآآآ.. الخ.
    ومن بين النماذج الرائعة الدالة على تجسيد المعنى عن طريق النغم في روضة الغناء السوداني الحديث أيضاً ، تجلّي عبقرية الفنان محمد الأمين ، في تنغيمه الباكي والحزين لمفردة ” النحيب ” في أغنية ” وحياة ابتسامتك ” ، حيث عمد ببراعة إلى تجسيد معنى النحيب بالتنغيم فقط على هذا النحو:

    تشهد الأيام
    يشهد الليل والنحيب
    والنحيب … أييييييييب !!
    فكأنه ينتخب هو نفسه.
    أما الفنان الراحل الكبير عبد الكريم الكابلي ، فنعتقد أن هذه الخاصية أو السمة الفنية والأدائية المميزة ، تتجلى في مجمل تراثه الغنائي بصورة واضحة ، على نحو ما سنوضحه للتو عبر نماذج قليلة تمثيلية فقط ، وغير استقصائية باي حال من الاحوال.
    ففي أغنيته ” زيد في صدودك ” – على سبيل المثال – يعمد الكابلي إلى تضخيم صوته بصورة ملفتة عند لفظه لكلمة ” الكبير ” التي ترد في المقطع:
    زيد في صدودك
    وانا أسهر كتير
    ما تقلل غرورك
    أنا شايفك أمير
    أمير عليّا وعلى قلبي ” الكبير “.
    وانما فعل الكابلي ذلك في تقديرنا ، لكي يصبغ هذه الكلمة ويلونها ويشحنها بظلال ومعاني الكبر المقصود.
    وفي أغنية ” كل الجمال يا غالي ” ، يكاد الاستاذ عبد الكريم الكابلي يضحك هو نفسه ، عندما يشدو بهذه الاغنية ، وذلك حين يقول: ” ووين رنين الضحكة ! “.
    أما في أوبريت مروي ، فيبلغ الكابلي شأواً عظيما في عبقرية التلحين الحاكي للمعنى ، عندما يصل في الاداء الى المقطع الذي يصف إحدى حسان مروي:
    تحكي خطو الريمة العايرة
    على نعم الساقية الدايرة
    تغني ليها تقووول .. اووووووول
    والله ظلم علينا ظلم يا ناس القوز علينا ظلم
    والشاهد هو تنغيمه للفعل ” تقول ” في المقطع السابق ، فإنه يحاكي فيه بالفعل ، صوت أنين الساقية ، وصرير أخشاب حلقتها وهي تنوء بحمل القواديس المملوءة بالماء.
    وأخيراً ، لا يقتصر هذا التنغيم الحاكي للمعنى عند الكابلي ، على الأغنيات المؤلفة باللهجة السودانية العامية ، وإنما يقابلنا حتى في بعض الاغنيات المكتوبة باللغة العربية الفصحى ، مثل رائعة الحسين الحسن: إني أعتذر ، أو ” حبيبة قلبي تفشّى الخبر “.
    ويتجلى ذلك – على سبيل المثال -في أداء الكابلي للبيت:
    وهَوّمتُ حتى تبدّى أمامي
    ظلامٌ رهيبٌ ، كفيفُ البَصَرْ
    والشاهد هو ان هذا الفنان الاستثنائي ، يعمد في أدائه لهذا البيت ، الى محاولة تجسيد هذه الصورة الشعرية ، بما فيها من التهويم والظلام الكثيف وهلم جرا ، ولعمري فإنه ينجح في تلك المحاولة نجاحاً باهرا ، حتى ليكاد المرء يحس بهذا المعنى ماثلاً أمامه.
    وبالجملة فإن أداء الكابلي لهذه الاغنية كلها من حيث اللحن والموسيقى وخصوصا التنغيم ، مفعمٌ بالشجن الذي يجسد معاني التودد والضراعة والاعتذار والتوسل الباكي للحبيبة لكي تغفر للشاعر تفشي ذلك الخبر بالرغم منه.. تأمّل إن شئت مثلا تنغيمه للفظة ” المنكسِر ” في البيت الذي يقول:
    فعدتُ تذكّرتُ أن هواك
    حرامٌ على قلبيَ المنكسر
    فإنك تكاد تلمس انكسار ذلك القلب لمسا.
    تغمد الله الاستاذ الكابلي بواسع رحمته ومغفرته ، وأكرم نزله عنده في جنات النعيم.

                  

12-21-2021, 05:34 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    عبد الكريم الكابلي.. شاهد على قرنين
    رابح فيلالي
    09 ديسمبر 2015

    من النادر جدا أن تجتمع كل عناصر الإبداع في إنسان واحد، لكنها الحالة التي تحدث مع الفنان السوداني الكبير "عبد الكريم الكابلي "بما جمعت أنامله من كل مقومات الفنان الشامل الذي يكتب القصيدة ويلحنها و يغنيها في أجمل صورها، ويحقق بذلك معادلة الاختلاف الأولى في مساره الفني الطويل والحافل. والكابلي لا يتوقف عند هذا الحد، إنه يضيف إلى هذا المشهد الإبداعي المتكامل روح ذلك المثقف الذي يملك رؤيته الخاصة للمسارات السياسية والإنسانية والاجتماعية ويجعل من تلك الرؤية فلسفة تحدد مسارته الفنية والإنسانية في الحياة بصورة عامة.

    ليس هذا هو كل الاختلاف في حياة الكابلي فنانا وإنسانا، فالرجل الذي انتظر طويلا عند رصيف الحياة حتى يطلق فنه على أسماع أهل النيلين لأنه كان لا يريد لعمه الذي تولى تربيته بعد وفاة والده أن يقول إن ابن أخيه اختار أن يكون "مغنواتي "، وهو أمر لا يجلب الفرح للعائلة الكبيرة في تلك المرحلة من التاريخ العربي. صبر الشاب اليافع طويلا، وعاش تحت الظل عازفا ومغنيا في جلسات سمر الأصدقاء الخاصة، قبل أن يخوض مرحلة جديدة من حياته، ويخرج أعماله الفنية بصوت فنان سوداني آخر في تلك المرحلة من بدايات الرجل.

    ولأن للقدر ترتيباته الخاصة، تأجل ظهور الرجل إلى لحظة تاريخية كانت لها معانيها في روح الفنان، وهو يغني لإفريقيا ولآسيا عندما قررت القارتان أن تخوضا معركة عدم الانحياز في سبعينيات القرن الماضي، في وقت كان العالم جميعه يعيش مرحلة القطبية الثنائية بين الشرق والغرب.

    منذ ذلك التاريخ، والكابلي رمز للتاريخ في السودان وهو الرجل الذي غنى للإنسان السوداني وللإنسان العربي والافريقي في نصف قرن، كان العالم يتشكل حينها في صورة حركات تحرر واسعة في أغلب الدول العربية، ثم جاءت مرحلة لاحقة تحقق فيها الاستقلال لأغلب هذه الدول قبل أن تحاول هذه الدول الفتية بعهد الحرية في حياة شعوبها أن تخط مسارها المستقل في السياسة العالمية من خلال حركة عدم الانحياز لتلحق هذه المرحلة بمرحلة الانشغال بالتنمية وتحقيق المطالب الاجتماعية لشعوبها، وصولا إلى مرحلة ارتباط الدين بمظاهر التطرف. ينضاف إلى هذا كله ظهور أزمة الهويات المحلية والهوية الجماعية، ليتبع ذلك محاولة من هذه الدول الانخراط في المنظومة العالمية المحيطة بها قبل أن تغرق مجددا في سلطات مطلقة لقيادات عسكرية أرهقت شعوبها، لينتهي المشهد لاحقا بما اتفق على تسميته بالربيع العربي، وما تبع ذلك من تفكك للرؤية السياسية ونمط الدولة التقليدية في أكثر من بلد عربي واحد.

    في كل هذا التاريخ يوجد الكابلي هناك، وهو ذلك الفنان الذي اختار أن يغني ويكتب ويعيش للفن بقيمه الإنسانية التي يجتمع عليها الناس في كل مكان من العالم، وفي كل زمان من التاريخ وفي أي مرحلة من التحولات السياسية المرتبكة الطبع في قارة افريقيا المزدحمة دوما بأزماتها واضطراباتها المتجددة.

    في كل هذا الخط الطويل من التاريخ وعبر كامل هذه التقلبات المتراكمة والمتجددة، يظل الكابلي دوما هو الصوت عينه والإنسان ذاته الذي لا يتغير يغني هناك ويقول شعره في كل العواصم التي عبرها وينخرط في رحلة طويلة في عمل تلفزيوني طويل ومرهق جدا، يحاول من خلاله أن يوثق لتراث السودان، وتقديمه لأبناء وطنه بأجمل زخم معرفي متاح، لأنه كما يقول هو شخصيا في مفرداته إنه من الصعب أن يجمع الناس على معرفة تفاصيل الفن السوداني بالنظر إلى اتساع الرقعة الجغرافية الواسعة للبلاد بحكم كونها البلد الأوسع مساحة في القارة السمراء قبل انفصال الجنوب عن الشمال عام 2011، إضافة إلى ذلك التنوع العرقي والاجتماعي والثقافي الذي يجعل من السودان بلدا بسمات قارة كاملة لذلك يؤمن الكابلي أنه من الصعوبة بمكان الجمع بكل تفاصيل مكونات المشهد الثقافي في بلد مثل السودان.

    لم يغير الكابلي من قناعاته الإنسانية ولا من خطه الفني، وهو بذلك الثبات أسس لنفسه الخط الشخصي الذي جعله يشكل بهذا الخط حالة نادرة جدا في المشهد الفني العربي، كونه آخر من بقي من تلك الأسماء التي ساهمت في تشكيل الذاكرة الفنية المشتركة الجماعية للعرب في النصف الثاني من القرن العشرين. إنه آخر من بقي من أولئك الكبار في جيله الفني كالراحلة الكبيرة أم كلثوم والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ والشيخ إمام وآخرون.

    يبقي الرجل على هذه القناعة وهو يتحسس الحمل الثقيل الذي يحمله على كتفيه ويجد نفسه في مواجهة تحولات جديدة لم تكن في أحلامه. فهو على قناعة أن السودان الذي جمع بين أطرافه النيل بمياهه لن تفرقه حسابات السياسة، لكن القدر كتب له أن يشهد انقسام السودان إلى شمال وجنوب، وإعلان استقلال الجنوب بعد حرب طويلة استمرت نصف قرن من الزمن، وبعد مفاوضات ماراثونية بين الجانبين ومرحلة انتقالية استمرت لخمس سنوات قبل أن ينتهي الوضع إلى ما هو عليه الآن عاصمة في الشمال وأخرى في الجنوب.

    لم يكن الأمر سهل القبول في مشاعر فنان من طينة الكابلي، ولكنه الواقع الجديد الذي خلف مرارات أخرى في القلب بسبب تلك الأزمات والحروب التي تهز أجزاء مختلفة من السودان، وهو الأمر الذي جعل هذا الفنان وهو يختار الحياة مع ابنيه في هذه المرحلة من حياته بواشنطن أن يطلق مؤسسته الخيرية الدولية من العاصمة الأميركية، ويكون باكورة أعماله في هذا المشروع الخيري الصرف هو إطلاق كتابه الأول باللغة الانجليزية " أنغام لا ألغام ".

    في ذلك المساء، التف أبناء السودان في واشنطن حول فنانهم، فالكثير منهم كبرت مشاعره ممزوجة بأغنيات الرجل على اختلاف إيقاعها وطبوعها وتوثيقها للأحداث المحلية والدولية وترسيخ انتمائها إلى النيل بكل سحر الطبيعة فيه وطقوس حياة السودانيين من حوله.

    يقول الرجل إنه في مؤلفه هذا لا يقدم دراسة علمية، وإنما يحاول أن يقف على مشارف ذاكرة قرن من حياة السودان والأفارقة والعرب وحتى بقية العالم، وقرن آخر يبدأ لتوه ويحمل الكثير من أسئلة القلق في تفكير الجميع وفي تفكير النخب الباحثة عن الإجابات الشافية بصورة خاصة، وأن كل الذي يطمح إليه هذا الفنان هو إطلاق تلك الشرارة التي يمكن لها أن تشجع الناس على التفكير في الزوايا التي يريد الرجل أن تكون محل تفكير الناس في هذه المرحلة القلقة من التاريخ الإنساني. كثيرة جدا هي القصص التي يقدمها الرجل وهو يستحضر محطات من ذاكرة غنية ومتجذرة في الزمان والمكان، إلا أنه وهو يحاول الانتقاء بين مخزون هذه الذاكرة الواسع، يقول إنه اختار أن ينتصر لقوة الأنغام في صناعة السلام، وليس إلى بارود الألغام في صناعة الموت، ومشاهد البؤس في حياة الناس.

    هذا هو الخط الذي يميز الكابلي عبر هذا المسار الطويل وفي كل مراحل العمر بالانتصار لقيمة السلام، وبالدعوة إلى ارتفاع إنساني ثقافي يأخذ الناس بعيدا جدا عن دائرة الأحقاد ويؤسس لفرصة الحياة في سلام وفقا لقيم القبول بالاختلاف والرحمة في العلاقة بالآخر .

    والحقيقة أن هذا الخط يتجلى بوضوح أكثر وأنت تقرأ الكابلي شاعرا أو تنظر إليه كصاحب رؤية في كل ما يتعلق بالشأن العام والإنساني في صورة شاملة.

    هذا الخط والتميز الذي بناه الكابلي في كل مراحل العمر هو الذي جعل من أعماله تجد قبولا في أجزاء مختلفة من العالم، حيث ترجمت بعض أعماله إلى لغات في أجزاء من قارة آسيا، وقدمت على مسارح هناك، كما أثمرت عن شراكة فنية بينه وبين فنانين آخرين من هذا الجزء من العالم في إطار الالتقاء حول القيمة الإنسانية الشاملة والسامية.

    يحاول الكابلي وهو يعيش في واشنطن أن يقدم إسهاما آخر يضاف إلى إسهاماته الكثيرة التي قدمها فيما سبق من العمر من خلال مد جسور التواصل بين إبداعه الفني ورؤيته الفكرية وكتاباته التي يحاول من خلاله أن يقدم للأجيال الجديدة من العرب والأميركيين رؤيته لتحولات تاريخ إنساني، يبدو الآن بعيدا في نظر الكثيرين ويحاول من خلال كل ذلك أن يقدم الإسهام الحضاري الذي يؤمن إلى درجة اليقين أنه كفيل ببناء جسور من الاحترام المتبادل والفهم الأفضل بين جزءين من العالم يقول بشأنهما إن الكثير يمكن أن يتحقق بفعل الالتقاء حول القيم الإنسانية النبيلة التي يؤمن بها الناس جميعا.

    يفعل الكابلي ذلك وهو يتنقل بين مراكز النشاط الاجتماعي والفكري لأبناء الجالية من العرب الأميركيين ويقدم كتابه للقراء في كل زاوية في واشنطن ويقدم فنه وأغنياته ورؤيته للإنسان والسلام من على منصة مكتبة الكونغرس. ويؤمن الرجل يقينا أن قيمة السلام وحدها من يملك القدرة على صناعة الوجه الأجمل للعالم وفي كل أجزائه ودوما.

    رابح فيلالي
                  

12-21-2021, 05:18 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    مروي في ذكريات الأستاذ عبد الكريم الكابلي ومذكراته ..

    بقلم: أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك

    رحل الأستاذ عبد الكريم الكابلي بولاية ميتشغان بالولايات المتحدة الأمريكية في يوم الخميس الموافق 2 ديسمبر 2021م، وأهل السياسة والعسكر في السودان يتقاتلون على ثريد أعفر، مفسدين ثورة ديسمبر المجيدة، التي ضحى أبناء السودان وبناته في سبيل انجاز غدها المشرق، الذي يحلمون به في ظل دولة تتوفر فيها مواصفات جاكلين روس (Jacqueline Russ) : تمارس السلطة بهدف حماية الحريات العامة، وخدمة الفرد والمجتمع، وإصحاح البيئة، وتوفير الحياة الكريمة للناس أجمعين، وفق مبادئ وقيم إنسانية قوامها سيادة القانون، وإحقاق الحق، وإقرار مبدأ الفصل بين السلطات لتسمو قيمة العدالة. لكن هيهات! يبدو أن الإحباط العام قد تجسَّد في فرضية الأديب الروائي محمد سليمان الشاذلي “السودانيون لا يحبون السودان”، وذلك على حساب رؤية كابلي الوطنية: “شمس الصباح والصباح رباح شمسك يا وطني*** طعم النجاح الزانو كفاح.. طعمك يا وطني*** حتى الجراح الزمانن… راح مهرك يا وطني*** أهلي الفصاح أسياد الصباح درعك يا وطني*** كل الملاح الجمالهن… فاح زينتك يا وطني*** أنت عندي كبير… وحبي ليك كتير”. رحل الأستاذ كابلي، في هذا الزمن البخس “تاركاً مدن السودان تهبُّ في جنح الدجى؛ لتستدعي صباحاً رباحاً يحمل الفكرة والوعيَ معًا. وإنَّ كان رحيله الموجع يجعل أيامنا أكثر جفافاً، فإنَّ إرثه الإبداعي المحتشد بمعاني الوطنية والحماسة والنُّبْل والحبِّ والإخاء والعطاء يفتح بوابات العيون نحو تلك المعاني ويشدُّ النفوس إليها، ويبقى زاداً لشعبه في مسيره الْمُضْنِي بحثاً عن وطن الجمال، الذي ترفرف فيه رايات الحرية والسلام والعدالة”، هكذا نعاه المهندس عمر الدقير. وبهذه المناسبة الحزينة أعيد نشر الحلقة الثالثة من مقالٍ كتبته عن “مروي ذكريات ومذكرات: شرفي- الكابلي – وقيع الله”، لأن هذه الحلقة الثالثة تشكل جزءاً من حب الوطن الذي أضحى يتسرب من بين جوانحنا في السنوات الأخيرة. لكن يظل السؤال قائماً لماذا لا يحب السودانيون السودان؟ فالإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى مساحة أوسع من لحظات تذكرنا للأستاذ الرحل عبد الكريم الكابلي، طيب الله ثراه، أو إلى قراءة متأنية فيما كتبه الأديب الشاذلي.
    ذكريات الكابلي في مروي
    الأستاذ عبد الكريم محمد الكابلي، شاعرٌ، وملحنٌ، ومطربٌ، وباحثٌ في التُّراث الشعبيّ السُّوداني. وُلُد بمدينة بورتسودان في ثلاثينيات القرن العشرين، وقضى طفولته ودراسته الأولية بين بورتسودان، والقضارف، ودوكة، والقلابات، ثم أكمل دراسته المتوسطة بمدينة الثغر (بورتسودان)، حيث تفتقت مواهبه الفنية، لدرجة جعلت أساتذته وزملاءه يقدمونه لأداء الأناشيد المدرسية. وفي تلك الفترة الباكرة من عُمره أجاد العزف على آلة الصفارة، وآلة العود، وطوَّر تلك الملكات والمواهب بعد انتقاله إلى مدينة أمدرمان، للالتحاق بكلية التجارة الثانوية الصغرى، وبعد تخرجه عمل كاتباً بمصلحة القضاء (الهيئة القضائية لاحقاً). وإلى جانب أدائه الوظيفي برع في إحياء جلسات السمر مع زملائه وأصدقائه، مقلداً كبار الفنانين في الخرطوم. وعن ملامح تلك الفترة يحدثنا الأستاذ الكابلي قائلاً: “كنت أمني النفس بدراسة القانون، الأمر الذي يستلزم الهدوء والتفرغ للمذاكرة، وكان مطلباً عسيراً لي بالخرطوم، بعد أن ظهرت موهبة الغناء، وتكالب الأصدقاء على الاستماع، والجلسات الغنائية الخاصّة. كنتُ وقتها أعمل بمكتب التركات لغير المسلمين بالقضائية، وكان يعمل معنا العم العزيز حسن حمدي رحمه الله، بعد تقاعده للمعاش، وكان قد عمل تقريباً في أكثر محاكم السُّودان، مما جعلني أطلب منه ترشيح بلدٍ أجد فيها ضالتي، وهي التفرغ للدرس والمذاكرة، فقال دون تردد: عليك بمروي، وبالفعل ذهبتُ إلى قلم المستخدمين، وطلبتُ النقل إلى مروي.”
    بَيْدَ أن الكابلي لم يجد في مروي الوقت الكافي للدراسة والتحصيل لدخول كلية القانون؛ لكنه بدلاً عن ذلك التحق “بجامعة مروي الكبرى”، حسب قوله، التي كان قوامها يتشكل من النُّخبة الإدارية والقضائية التي كانت تعمل في مدينة جاكسون باشا آنذاك، والتي يذكر الأستاذ كابلي بعضاً من معالمها قائلاً:
    المفتش حسين أحمد شرفي، والقاضي مولانا صالح محمد علي عتيق، والقاضي الشرعي مولانا عوض الله صالح، وفي المساحة المفتش باب الله، والشاعر الفذ مهدي محمد فرح الذي لحنت له أغنية “يا حليلكم”، وكان ينادى بالأستاذ حتى عندما جاء ليعمل برئاسة المساحة بالخرطوم؛ لغزارة علمه، فهو من الرواد الذين تلقوا دراسة بانجلترا في المساحة الجوية، وكان ولا يزال ضليعاً في اللغتين العربية ودارجها؛ وحيدر المشرف على “الميز”، وكانت تضبط الساعة على موعد وصوله وخروجه من مكتب المساحة؛ ومفتش المساحة نور الدين؛ وفي المستشفى الدكتور حسن كُشْكُش؛ وفي المجلس الأستاذ إبراهيم يوسف، شقيق الإعلامي الأشهر الأستاذ أبو عاقلة يوسف، وهو الذي مدَّني بقصيدة الأستاذ عباس محمود العقاد “شذى زهر ولا زهر”؛ وفي قسم البساتين الأستاذ إبراهيم أحمد؛ وفي المشاريع الزراعية الحكومية الأستاذ خير الله، وكان مسؤولاً عن تجارب القرير، حيث الناظر المهيب ود بشير أغا الذي غنى لوالده الشاعر حسونة شاعر الشايقية الأكبر “غنيت ليك يا ود بشير *** كرسيك قدام كرسي المدير *** ود عضام راجلا شكلو غير”؛ إذ كان مهاباً، وفي بسطة من الجسم؛ وفي المشاريع الخاصّة الأستاذ حران، ثم الأستاذ المربي الكبير مصطفى أبوشرف، ناظر المدرسة الوسطى، وصاحب الذكريات الطريفة، وكذلك الأستاذ حامد عمر الأمين، وفي المركز الباشكاتب سعد محمد إبراهيم؛ وفي النقل الميكانيكي العم عبد الرازق، وإبراهيم منزول، صاحب الدعابة والبديهة الحاضرة، إلى جانب العديد ممن يضيق عن ذكرهم المجال، رحم الله من غادر منهم إلى الدار الرحيبة، والعافية لمن بقي منهم بيننا في الحياة. كانت مجموعة أولئك الموظفين أسرة واحدة بكل ما تحمل معاني الأسرة المتلاحمة من معنى.
    لم تكن علاقات الأستاذ كابلي في مروي محصورة في قطاع الموظفين وزملاء العمل الديواني، بل تخطتهم إلى العديد من أعيان المنطقة ووجهائها، الذين تعرَّف عليهم خلال زياراته الميدانية لمحاكم الإدارة الأهلية في المنطقة، وسياحاته الخاصّة داخل مدينة مروي وما جاورها، ونستشهد في ذلك بقوله:
    فقد تخطى الأمر مجموعة الموظفين إلى إقامة علاقات طيبة مع مواطني مروي، والمناطق المجاورة… وقد سعدتُ أيما سعادة بصداقتي ومعرفتي بالاحباب محمد عبيد رحمه، وسيدأحمد خطاب، ومحمد عبد القادر، والعم الصادق القمّش، وأحمد من الله، والضكير، وعازف العود إبراهيم حسن، ومحمد عبيد الله، والحلاق العم بابكر، الذي أخبرني بأنه كان يقوم في شبابه بحلاقة شعر رأس جاكسون باشا. ومن نوري العمدة لاحقا محمد أحمد كنيش، ومن قنتي العم العمدة ود أحمد أبوشوك، الذي كلما ذكرته عضضت أصابع الندم، لأنني لم أكتب ما كان يحدثني به من أشعار حسونة، وتاريخ منطقة الشايقية، وسير بعض الموظفين المصريين الذين تركوا في المنطقة ذكريات حسنة؛ ومن كرمكول العمدة سعيد ميرغني، وكان رجلاً كريماً، كلما ذكرته طافت بخيالي صورة الكريم الذي وصفته أغنياتنا التُّراثية بـ “عوج الدرب”؛ لأنه كلما سمع صوت سيارة مارة بالطريق العام ليلاً يطلب من أبنائه الخروج السريع بالفوانيس، وبطاريات الإضاءة، جلباً لتلك السيارات؛ لإكرام وفادة راكبيها، وأحيانا يلح على مبيتهم. ثم من الدبة ذلك الرجل المهيب الذواقة للغناء، العم الناظر أحمد سعيد. ومن كريمة الرجل الكريم الموسر كرار محمد الحسين، والإخوة الحارث منصور، والتيجاني حسون، وعلي عثمان رحمة، وعشرات العشرات ممن يضيق عن ذكرهم المجال.
    ويتنقل الأستاذ الكابلي من دائرة المعارف والأعيان في منطقة مروي إلى دائرة الغناء والطرب، قائلاً: “ولا بد لي من أن أذكر الفنان “بنده”، صاحب الصوت الجهوري، وقد استمعت إليه بإعجاب كبير، وهو يغني على آلة “الدلوكة” الإيقاعية العديد من أغنيات أهلنا الشايقية، وبينها أغنية “بوبا عليك تقيل” التي ضمنتها في أغنيتي “فيك يا مروي”، وهي أغنية تراثية”. بنده هو عبد الرازق فضل المولى (1919-1989م)، عاش صباه بالبركل، حيث أكمل تعليمه الأولى. وبدأت شهرته الغنائية تلوح في الأفق بأغاني الحقيبة، والإنشاد الديني. زار بنده الخرطوم في الثلاثينيات من القرن العشرين، وتأثر بصوت الفنان زنقَّار، الذي كان من وراد قهوة الزيبق آنذاك. وبعد ذلك عاد بنده إلى وطنه الأم بالبركل، وكوَّن فرقة غنائية من مـحمـد حـسنين، وعــوض النــور، وعطا عطا الفضيــل، وسلمان ود كريمة، وجيب الله، والطـريـف في الأمـــر، حسب رواية الأستاذ صلاح الرشيد، أنَّ فرقته الغنائية كانت تضم امـــرأة تــُدعـــى “فـضيلــه ســـوميت”، ضابطـــةً للإيقــــاع. وفي عقد الخمسينيات والستينيات غنى الفنان بنده للشاعر محمد عـبـد العـزيـز، والشاعر حسن الدابي، ومن أغانيه التي حظيت بشهرة واسعة في المنطقة: “القمر بوبا”، و”الرايقة شتيلة قريره”، و” جود يا بارى جود”.
    لا مشاحة أن ذلك الوسط الفني والإبداعي في منطقة مروي قد أضاف للأستاذ الكابلي بُعداً فنياً آخر، جعله يرتبط ببعض الفنانين، والشعراء، والمبدعين في المنطقة، ويتغنى بكلمات بعضهم في جلسات الاستماع الخاصّة. وقد أشار الأستاذ الكابلي في حديثه عن العمدة محمد أحمد أبوشوك، رئيس فرع البديرية، والعمدة ود بشير أغا، رئيس فرع الشايقية شمال، إلى العامل حُسونة، وأشعاره الرصينة. والشاعر حسونة، كما نعلم، شاعر مطبوع، لا يُشقُّ له غبار، عرفه أهل المنطقة بالعامل حُسونة، وكانوا يتقربون إليه بالهدايا والنذور، لأن الشاعر في عرفهم كان يمثل لسان حال قومه، وصحافتهم السيارة، وتلفازهم المتنقل، لأنهم يتعرفون من خلال أشعاره عن فضائل الحسان والعذارى في المنطقة، أمثال جمال الباشا في البخيت، وستنا بت الشيخ في العفَّاض، ويأنسون بمدحه في جُود الرجال الذين كانوا يقذفون للقريب جواهراً ويرسلون للبعيد سحائب، ومن أمثال هؤلاء الشيخ أحمد أبوشام (المعروف بأحمد درويش)، الذي ردَّ حسونة على خصومه قائلاً: “في اللحم كجَّنت اللسان … عشان فسَّل أحمد أبوشام … هو درويش عقلو تمام”، ويقفون بفضل مجالسته على أحوال المنطقة، وسير أعلامها، وصراعاتهم السياسية، ويتبلور ذلك في مدحه للعمدة ود بشير أغا في القرير “ود بشير عمدة مو عمدة سماسير … خيلو بين الجبلين تغير”، والعمدة ود كنيش في نوري، ” الأغا ود كنيش الرجال بتاب وأنت عيش”، والعمدة أحمد أبوشوك في منطقة قنتي “أحمد أب شوك قدل فشل اليلومو … ويا بحر المسور القاسي عمو”، والشيخ محجوب ود الخليفة “سيد جزايراً متبطحات … بالغرب قبل أب كليوات”. والقصيدة التي أشار إليها الأستاذ الكابلي في عابر حديثه عن أعيان منطقة مروي، وهي القصيدة المعروفة بـ “قولي فوق الأغا ود بشير”، والتي يقرأ نصها الكامل هكذا:
    يا مريسيل يا زريزير
    بي جناح الريش مني طير
    جيب لي قاف الشيخ ود بشير
    وصفو فوق الخيل يا حمير
    وغادي من القمح يا شعير
    جانا الضحى وقام العصير
    فوق بليماً بنسف الدّير
    شفتو متل البرق البشيل
    شن بِلِم ناس ديل مع ديل
    وشن بِلِم الترعة والنيل
    وشن بلم القمره والليل
    يابا داخرنك لي التقيل
    عمدة مو عمدة بواجير
    حقو رتيب التوابير
    وكرسيه قدام كرسي المدير
    خيلو بين الجبلين تغير
    ومن جبال تقلي علي قدير
    بالوعر كم شقوا التناقير
    وطبلو دقَّ وخلفولوا النقير
    سيدي سيد عامراب القرير
    وسيد عفو السقّاي والحفير
    سيد جريف نوري أب تناقير
    وسيد دويم شات والبسابير
    ود عضام راجلاً شكلو غير
    حاشاه من اللوم أب بشير
    أشونو القالوا ضرب النذيز
    ***
    وفي ضوء هذه الخلفية المشرقة إبداعاً ومتدفقة طرباً وعطاءً من جوانبها المختلفة، رسم الأستاذ عبد الكريم الكابلي لوحة شاعرية زاهية ورائعة عن مروي في أواخر خمسينيات القرن الماضي، يقرأ نصها الكامل هكذا:
    فيك يا مروى شفت كل جديد
    فيك شفت عيون لعبو بي شديد
    وانكويت بالنار من زهور في خديد
    مهما زاد وجدي ما ينسي الريد
    لأنو قلبي حنين وبعشق التغريد
    بي محاسن الكون بي جمال الغيد
    يلا نمشى النيل في أواخر الليل
    بين رمال ونخيل يغنى لينا جميل
    بوبا عليك تقيل القمر بوبا
    يا مريسيل تعال بوصيك
    في الرمال الصيد بلاقيك
    لو بعزمك وبتعلق بيك
    قولو حالف ما بباريك
    وما بدليها التهمة فيك
    جيت ماري العصير
    لقيته تملا فوق بير
    الرقيبة قزازة عصير
    العيون متل الفناجين
    الزراق فوقه تقول حرير
    الضمير عاج التكارير
    السنون براقن يشيل
    وإنت ريحتك فرير
    ولا بت السُّودان أصيل
    شوف فلانة الواردة وحوَّه
    دخلت سكنت قلبي من جوه
    واتغابت فوقو الخوه
    تحكى خطو الريمه العايرة
    على نغم الساقية الدايرة
    تغنى ليها تقول
    والله ظلم لينا ظلم
    يا ناس القوز علينا ظلم
    الشال السيدة وخلا حرم
    سفر التلات والله عدم
    سعينا الريد جنينا حكم
    وقلنا الحب والله قسم
    متين يا الساقية نترك النوح
    يجيني قميري يقولي نروح
    نزور الشوفتو ترد الروح
    حبيبي السادة خفيف الدم
    فيك يا مروى شفنا كل جديد
    فيك شفنا جمال كل لحظة بزيد
    يزبي وجداني وبى حلاتو أشيد
    وإن نسيت ما نسيت يوم لقيت الصيد
    ساهي في حسنو وبى غناهو سعيد
    كم أضاع صبري
    يالحلة تنوري يا الحلة تنوري
    يا بنية تنوري حاشاك تتغيري
    قسمي الشبال كتري
    لي قلوب الناس كبري
    ويا عيوني اتصبري
    ***
    في سياق هذه القصيدة طرح الصحافي نجيب نور الدين سؤالاً على الأستاذ الكابلي مفاده: “آسيا وإفريقيا، ومروي، وليلة المولد، أعمال فنية ذات طبيعة خاصّة، وهي الأقرب إلى الأوبريت والغناء الجماعي، وتحمل مضامين جديدة في الشعر الغنائي. كيف يقرأ كابلي هذه التجارب التي تشكل محطات مهمَّة في مسيرته؟ وإلى أين أفضت بتجربته الفنية عموماً؟” فأجابه الأستاذ الكابلي بشأن مروي، قائلاً: “ربما كانت أولى هذه المحطات أغنية مروي؛ إذ حملت ملمحاً غنائياً لم يكن معروفاً من قبل، هذا حسب علمي، وقد أكون من المخطئين، فقد ذخرت بالصور المتحركة إلى جانب تضمين ثلاثة كوبليهات من منطقة أحبابي الشايقية، حيث كنت أعمل، وقد وصفها بعض النقاد في حينه بأنها نواة لأغنية الأوبريت.”
    هكذا كانت مروي إضافة جديدة وحقيقية على المستوي المهني، والمستوى الاجتماعي، والمستوى الفني-الثقافي للأستاذ عبد الكريم الكابلي، بل إنها أضحت تمثل واسطة عقد في تاريخ مشواره الغنائي، الحافل بالإبداع، والمتدثر بمختارات التُّراث الشعبي السُّوداني الناظمة لثقافاته المحلية. وفي خاتمة هذا الجزء من مقال: “مروي ذكريات ومذكرات” تبقى لنا بشارة سارة، نبعثها على جناح حمام زاجل إلى الأستاذ عبد الكريم الكابلي، فحواها أن ديوان الشاعر حسونة الذي جمعه الأستاذ الراحل عمر الحسين محمد خير (ت. 2005م)، وحققه تحقيقاً جامعاً مانعاً، في طريقه للنشر، آملين أن يكون هذا الديوان إضافةً حقيقيةً للمكتبة التُّراثية في السُّودان، ومحلّ تقديرٍ واحتفاءٍ عند رهط الباحثين المهتمين بتراث منطقة مروي الكبرى، ومن بينهم شاعر “يا مروي شفت فيك كلَّ جديد”.
    (تبع: مروي في مذكرات الإداري بشير حسن وقيع الله)
    [email protected]
                  

12-21-2021, 05:39 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    الواشنطن بوست تكتب عن الكابلي: جسّدت موسيقاه آمال السودانيين
    في ديسمبر 17, 2021
    الفنان عبد الكريم الكابلي

    نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية مقالا عن الفنان السوداني الراحل عبد الكريم الكابلي. وفي مقالها وصفت الصحيفة الكابلي بأنه الفنان الذي “جسدت موسيقاه آمال العديد من السودانيين العاديين في نضالهم من أجل التقدم والهوية الوطنية”. موقع “اوبن سودان” ينشر أدناه ترجمة لمقال الواشطن بوست:

    توفي عبد الكريم الكابلي ، المغني وكاتب الأغاني والملحن السوداني في الثاني من ديسمبر في مستشفى بمدينة فلينت بولاية ميشيغان. وتمثل موسيقاه التي هي مزيج من الأصوات الحديثة والتقليدية – آمال العديد من السودانيين العاديين في كفاحهم من أجل التقدم والهوية الوطنية. كان عمره 89 عامًا وعاش مع أسرته في مدينة الإسكندرية بولاية فرجينيا.

    وقال نجله سعد الكبلي، إن سبب الوفاة هو مضاعفات مرض باركنسون.

    ونعىنعت كبار الشخصيات الاجتماعية والسياسية السودانية الكابلي ، بمن فيهم رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ، الذي وصف الكابلي في تغريدة بأنه “رمز للفن السوداني ، حفر اسمه في ضمير شعبنا. بأحرف من نور”.

    لقد قدّم الكابلي تراث السودان الموسيقي المتعدد ، وعزف منفردا على العود أو بمصاحبة فرقة أوركسترا كبيرة ، وتناولت أغانيه الحب وموضوعات الأغاني الشعبية للبطولة والفروسية والسياسة.

    وشملت تسجيلاته أغانٍ باللغتين السودانية العامية والعربية الفصحى وأعمال كتبها شعراء معاصرون وتاريخيون. غنى ولحن بطريقة ولغة تروق للمستمعين الحضريين المعاصرين وذائقتهم . وقد أدى غنائه بالسلم الخماسي الشائع في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى – وهو صوت يميز الموسيقى السودانية عن السلم السباعي الأكثر شيوعًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

    أكمل الكابلي، الموسيقي الشاب الواعد ، تعليمه في أم درمان ، وهي مدينة رئيسية بالقرب من الخرطوم ومركز للحركات القومية والثقافية. عمل كاتبًا في المحكمة لكنه احتفظ باهتماماته الأدبية والموسيقية بينما كان يشتهر بكونه شاعرًا ومفكرًا وفنانًا. قدم في البداية أداءً خاصًا بين الأصدقاء ولكنه سرعان ما بدأ في الكتابة والتأليف لمطربين مشهورين. في الخمسينيات من القرن الماضي على إذاعة أم درمان ، المحطة الإذاعية الرئيسية في البلاد ، عمل في لجنة التقييم الأدبي والموسيقي عندما كان المغنون والموسيقيون يؤدون جلسات بث مباشر.

    جاء ظهوره الرئيسي في عام 1960، عندما طلب منه الغناء أمام الرئيس المصري الزائر جمال عبد الناصر. و في ذروة المناهضة للاستعمار في المنطقة ، غنى الكابلي إحدى أشهر أعماله “أغنية آسيا وأفريقيا”. كتبها شاعرها للاحتفال بالذكرى السنوية الخامسة لمؤتمر باندونغ الذي يسعى إلى التضامن والتعاون بين الدول المستقلة حديثًا في إفريقيا وآسيا. قام الكابلي بوضع اللحن وغناه مع إشارات لقادة الاستقلال مثل المهندس غاندي من الهند وجومو كينياتا من كينيا وكذلك الثورة الجزائرية ، كما احتفل بالعلاقات التاريخية للسودان مع مصر.

    ويقول قال عمر الجزلي ، المذيع بتلفزيون السودان منذ فترة طويلة وصهره: “كانت هذه هي المرة الأولى التي غنى فيها أمام جمهور عام – أمام عبد الناصر”.

    لم يكن الكابلي منتميًا إلى أي حزب سياسي أبدًا ، لكنه سجل تطورات سياسية مهمة في الأغنية. أشاد عمله “في مسار الجامعة” بثورة أكتوبر التي قادها الطلاب في السودان عام 1964 ، وهي أول انتفاضة شعبية سلمية في المنطقة لإسقاط نظام ديكتاتوري عسكري بنجاح.

    لكن الشعبية الأكبر للكابلي كانت مستمدة من أغانيه العديدة التي احتفلت بالحب والجمال والطبيعة. وهي تشمل “حبيبة عمري” و “زمان الناس” والأغنية المبهجة “سكر سكر”، المستوحاة من الرقصة الأمريكية في الستينيات “كريز زا تويست”. قام الكابلي أيضًا بآداؤ قصيدة عربية كلاسيكية من القرن العاشر هي”أراك عاصي الدمع”، وغنى عن مدينة مروي القديمة في شمال السودان على طول نهر النيل ، و أشاد ببيئة دارفور الخلابة من خلال “مرسال الشوق (جبل مرة)”.

    دعا الكابلي في موسيقاه إلى حقوق المرأة في “فتاة اليوم والغد” وحقوق الأطفال في أوقات الحرب في “لماذا؟”. وفي عام 2004 ، تم تعيينه سفيرا للنوايا الحسنة لصندوق الأمم المتحدة للسكان ، وانضم إلى جهود السلام الشعبية في منطقة دارفور التي مزقتها الحرب في السودان.

    استقر الكابلي في منطقة واشنطن في عام 2012 ، ووصل بتأشيرة “تمنح للأفراد ذوي القدرات أو الإنجازات غير العادية” كما تقول سعاد علي ، الأستاذة المشاركة في الأدب العربي و الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية بجامعة أريزونا.

    ولد عبد الكريم عبد العزيز الكابلي ، الأكبر من بين ثلاثة أشقاء في مدينة بورتسودان بشرق السودان على البحر الأحمر في 13 أبريل 1932. وهاجر جده لأبيه إلى السودان خلال الحكم المصري العثماني في أوائل القرن التاسع عشر من كابول (ومن هنا جاءت تسمية اسم الكابلي) واستقر في مدينة سواكن الساحلية القديمة ، حيث أصبح تاجرًا. والدة الكابلي لها جذور في شرق السودان والمنطقة الغربية من دارفور. أثرت هذه الخلفية المتعددة الأعراق والإقليمية على نظرته وموسيقاه. وقال في فيلم وثائقي لعام 2019 تم بثه على التلفزيون السوداني: “الشرق هو منطقتي، لكني أعتبر كل السودان مكاني” .

    عندما كان طفلاً أثناء الحكم الاستعماري الأنجلو- مصري المشترك في السودان في النصف الأول من القرن العشرين ، تلقى الكابلي أولاً تعليمًا دينيًا تقليديًا في خلوة عمه (مدرسة قرآنية). ثم تابع إلى المدارس الحكومية الحديثة ، أولاً في بورتسودان ، حيث أبدى اهتمامًا مبكرًا بالشعر والموسيقى العربية بعد سماعه أغاني المطربين السودانيين والمصريين المعاصرين على فونوغراف في أحد المقاهي المجاورة.

    علم نفسه العزف على الصافرة والفلوت والعود وغنى في مجموعة مدارس الأولاد. في سن 16 ، واصل تعليمه في أم درمان.

    ويقول الباحث بيتر فيرني ، الذي أدرج بعض أغاني الكابلي في مجموعة أقراص مدمجة لعام 2005 : ” بينما يتمتع الكابلي بشعبية كبيرة في الداخل وفي البلدان المجاورة ، إلا أنه لم يحظ بنفس المستوى من الاهتمام العالمي الذي أولاه منتجو الموسيقى “العالمية” للمغنين والأنماط الموسيقية الأفريقية والشرق أوسطية الأخرى”.

    وإلى جانب الغناء ، حاضر الكابلي عن الموسيقى السودانية والفولكلور في الجامعات والمؤسسات ، بما في ذلك مكتبة الكونجرس في عام 2015. وفي نفس العام ، شارك في تأليف كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان ” أنغام لا ألغام: رسالة أمل لفنان أفريقي. ”

    وفي حفل أقيم بالخرطوم لتكريمه في عام 2019 ، كاد الكابلي يرقب موته ويعبر عن روحانيته ، حيث قرأ من قصيدته “الذات الإلهية”:

    أشتاق لقائك يا ربي
    في لهفة صوفي نشوان
    روحي لسمائك تسبقني
    أما قيدي والجسم الفان
    سيعود زهورا وورودا
    في تربك.. مرسمك الألوان
                  

12-21-2021, 05:20 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    ورحل عنا كابلي زرياب السودان ..
    بقلم: عصام دبلوك

    كابلي الذي رحل

    [email protected]

    نشأة كابلي الأولى بسواكن الميناء أتاحت له أن ينهل شأنه شأن كل قاطني الموانئ من عبق الحضارات الكثيرة وقيل بلد بلا ميناء لاتملك مقومات الحضارة والنهوض. أتاح له شط البحر أن يعرف قيمة اللاءلئ وجياد الكلمات. فارتاد ثمين وعذب النظم والقصيد. كان كابلي كسوق عكاظ متجملا بنفيس القصائد فتغني بأغلى لؤلؤة صيدت من شط البحرين مزينا بها جيده الفني
    اغلى من لؤلؤة بضة صيدت من شط البحرين
    لحن يروي مصرع بضة ذات العينين الطيبين..
    وعرج على مضارب بني حمدان فأخذ منها درة ابي فراس الحمداني…
    تسائلني من أنت وهي عليمة بي
    وهل بفتي مثله على حاله نُكر
    فكانت عصى الدمع ممزوج بسلمنا الموسيقى المتفرد ولم يكن لهوي زرياب السوداني نهى أو أمر فكان كالفراشة أو إن شئت فقل نحلة فلقد كان يفرز الشهد. وصقله تجواله بالسودان وصقلته رفقة إخوان الصفا وفي مروي شاف كل جديد
    بين الرمال والنخيل
    فيك يا مروي شفت كل جديد
    فيك شفت عيون لعبو بي شديد
    وانكويت بالنار من زهير في خديد
    ومهما زاد وجدي ما بسيب الريد
    لاني قلبي حنين بعشق التغريد
    بي محاسن الكون وبي جمال الغيد
    يلا نمشي النيل
    بين الرمال والنخيل…
    غني للتراث وفرسان التراث
    وعرج على ود المك
    دا إن اداك وكتر ما بيقول اديت
    أب درق الموشح كلو بالسوميت
    أب رسوة البكر حجر شراب سيتيت
    كاتال في الخلا وعقبن كريم في البيت
    أرق المرهف من طول الهم فذهب إلى واحة محمد سعيد العباسي ينشد الإسترخاء
    فشدا
    ارقت من طول هم بات يعروني .. يثير الذكرى و يشجوني .. منيت نفسي آمالا يماطلني بها زماني من حين الى حين .
    كان يقطف من كل حقول القصيد
    للحماسة وفرسانها
    كوراك ضرب مرقن جا راقدن دار
    انزالة النصارى الكلهم بولاد
    كرار علي كبر عليهم زاد
    سيفك في غضاريف الرجال صياد
    متين يا علي تكبر تشيل حملي
    حينما يسأم و لايجد من يبثه اللواعج كان يخاطب المرايا
    كلميني يا مراية أنا شايفك طربانة
    حكوا ليك حكاية ولاّ كنت معانا
    و لاّ إنت بتقري ياساحرة ظنوني
    و لاّ شفت الصورة شايلاها عيوني
    و لاّ يبقى أكيد عداك غنانا
    غني للخرطوم متمنيا العيش بها

    الخرطوم الله عظم شانك الجود والكرم مدقوق على بيبانك
    يا الخرطوم
    بسال الكريم يجعلني من سكانك
    يا الخرطوم
    انتي عاصمه بلدي تاني ليك بجي
    يا الخرطوم
    فيك نيل جاري لاترع لا خواري
    وهنيئا للخرطوم بك زريابنا وكابنا ومرواد عمانا كنت.
    هب عبد الناصر من مقعده والخرطوم تضمد جراح ٦٧ وهي تستقبله إستقبال الفاتحين وهو المهزوم كماذكرت صحيفة لندنية هب وكابلي يشدو حماسة
    تهتف الخرطوم تحيا القاهرة
    هب ناصر مصفقا والدمع يغالبه.
    غني لنضالات أفريقيا الوليدة وحركة عدم الإنحياز بعدها غضة الإهاب
    عندما أعزف يا قلبي الأناشيد القديمةْ
    ويطل الفجرُ في قلبي على أجنحِ غيمةْ
    سأغني آخر المقطع للأرض الحميمة…

    وعرج على جزر الملايو وغابات كينيا ولأندونسيا ..
    سأغني آخر المقطع للأرض الحميمةْ
    للظلال الزُرق في غابات كينيا والملايو
    لرفاقي في البلاد الآسيويةْ
    للملايو .. ولباندوق الفتيةْ

    يا صحابي فأنا ما زرت يوماً أندويسيا
    أرض سوكارنو .. ولا شاهدتُ روسيا
    غير أني والسنا في أرض أفريقيا الجديدةْ

    وعرج على كنانة ناصر

    مصر يا أخت بلادي يا شقيقةْ
    يا رياضاً عذبة النبع وريقة .. يا حقيقة .

    لقد جمع الشاعر وصاغ العالم في هذا النظم
    العبقري الكلمات وارتوت عروق المستمعين بعذب لحن وسُكر كابلي
    وحلق في سماوات الهند و روحانية الزاهد غاندي وعبق طاغور فارس المغني عذب الصوت
    فلقد مدّت لنا الأيدي الصديقة
    وجه غاندي وصدى الهند العميقةْ
    صوت طاغور المغني

    لم تخلص حكاوي كابلي ولم يجد دواءا للقلب العليل المرهف..
    انا والليل ومر جفاك مساهرين نحكي للافلاك مساهرين…
    لا خلصت حكواينا ولالقينا البدواينا

    تغير الزمن وملامحه إلا كابلي

    تلقي الزمن غير ملامحنا وانحنا بقينا مانحنا

    وانا الصابر علي المحنة ..
    لو كان الزمن نساك انا مانسيت…..
    اوفي يوم زمن قساك انا ما قسيت
    وبقي صابرا على الزمن وتعاريجه وتصاريسه القاسية في بلادي يأتي سُكرك بعد رحيلك وقد رحلت عن عبر المحيطات إلى أمريكا الجديدة تعاني إكتئاب الزمان والمكان وبُعد الرفاق وردي عثمان حسين حمد الريح وفرسان القصيد اللي رحل واللي منتظر وروحك تشتهي نخيل مروي ورمال القضارف والأبيض.
    الفاتحة لك وعليك سحائب الرحمة فلقد غابت شمسنا ووقع خيالنا.
                  

12-21-2021, 06:10 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    عبد الكريم الكابلي.. وداعاً «الزول السمح»



    ضمن عدة ضروب غنائية، برع الكابلي في تقديم أغاني المراثي (المناحات) بشكلٍ استثنائيٍ، إلى حد أنه ضخ في شرايينها عنفوان الحياة، فمن يرثيه لنا اليوم ليعيد لنا كل تلك السيرة وتلك الحياة؟

    مقداد خالد

    لمن لا يعرف السودان، فهو باختصار شديد «بلاد الثورة، والنيلين، وعبد الكريم الكابلي». الثورة لا تزال فعلاً مستمراً إلى يومنا هذا، والنيلان لا يزالان مستمرين في حب هذه البلاد حتى في خرابها الأخير على يد العسكر، وما أدّل على ذلك من عناقهما الدائم بالخرطوم، وكابلي وإن غادر دنيانا فمواهبه المتعددة مستمرة في تغذيتنا بقيم الثورة والتحرر والجمال، خالدة كالنيل، وباقية كالثورة.

    وصل نعي عبد الكريم الكابلي من الولايات المتحدة إلى السودان، صبيحة الجمعة 3 كانون الأول/ ديسمبر الجاري بتوقيت السودان، مع مراعاة فروق الحزن.

    في آخر أيام حياته، عانى الكابلي من المرض، كما عانى من حقب الديكتاتوريات التي لا تحتمل (كل الجمال)، وتعمل -حيث كانت- على نشر ثقافة الدمامة والقبح، ما قد يكون -مع أسباب أخرى- اضطره إلى مغادرة الوطن الذي لطالما غنى له، بعيداً في نواحي بلاد اليانكي التي تتغنى بتقديم مصالحها على مصالح العباد والبلاد.

    تساؤل مشروع
    لماذا يُعد الكابلي بدعاً عن بقية فناني السودان؟ هذا سؤال قد يعنّ على القارئ العربي، وربما خرج من أفواه بعض السودانيين، ففي تاراتٍ لا كرامة للنبي بداره، هذا مع الإقرار بأن كابلي ظل ويظل محل تكريم كبير من جُل السودانيين.

    أما الإجابة، فنجد أنها تكمن في الأثر الذي خلّفه كابلي، أثر لا يتوقف عند الغناء، فهو مغنٍ مجيد، وشاعر ألمعي، وملحنٌ متفرد، وباحث حذق في الموروث السوداني، وخطيب مفوه، ومقدم برامج يحفظ لوحه، ومترجم رصين، وشخص غير قابل للتكرار، هذا مع كوني من بلدٍ يكثر فيها التقليد –تقليد كل شيء تقريباً- من البضائع وحتى استنساخ الفنانين، ولكني لم أسمع يوماً عمّن يسعى لتقليد كابلي، ربما خشية، وإن كان غالب الظن أن ذلك يعود إلى معرفة الجميع بأنه لا يُجارى، وأن قدراته لا يتصورن أحد بإمكانية الاقتراب منها.

    ولكن ومن باب معرفته الرئيس، ونعني الغناء، ترك كابلي كماً هائلاً من الأغاني التي يجد فيها كلٌ منّا ضالته على تنوعنا واختلاف لهجاتنا، بل وألسنتنا، وتتوزع هذه المزامير بين اللغة العربية الفصحى، والعامية السودانية، والموروث والفولكلور الموغل في القواميس العصية.

    وضمن تفريعة ثانية لغنائه، نجد كابلي لم يشذ، فأدى أغاني الحقيبة التي تعد إحدى لوازم المرور إلى قلوب السودانيين، وخاطب ببقية أغنياته الرفيعة النخب، ووصل غمار الناس بلطيف وخفيف الغناء، كما ضرب بأوتاده بعيداً في البادية، يتسربل بكلماته الفُرّاس، وينعى عظام الناس.

    وأهدى الكابلي (1932 – 2021) السودان أغانٍ كثيرة، حتى باتت وصاياه أناشيد تُقرأ: “شيدوه.. وزينوه.. وطن الجمال/ علوه.. وخلوه.. في عين المحال/ وأفدوه.. وأهدوه.. الروح والعيال”. أحب قيم التحرر والحرية، فأحبه الثوريون، وباتت عباراته أيقونات مثل: “القومة ليك يا وطني”.

    غنى للحب، فأحبه الناس (حبك للناس/ خلاني أحبك تاني). لم يكن غناؤه للنسوة محض غناء، وإنما كان دساتير حقوقية بأن المرأة نصف المجتمع (نصفٌ قد حوى كل المعاني). تبتل كدرويش عارف في حب النبي محمد، فأحبه المتصوفة، ولا سيما حين مدحه (ليلة المولد يا سر الليالي.. والجمال.. وربيعاً فتن الأنفس بالسحر الحلال).

    تخطى الحدود
    كما تسمع الكابلي في شوارع الخرطوم، فقد يطرق سمعك في أماكن أخرى، كمقاهي القاهرة، وأزقة بغداد، وصولاً إلى ساحات أديس أبابا.

    كيف لا يكون ذلك، وأول ما سمع الناس بكابلي، كان حين حاز تمام الإشادة من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، بعدما تغنى أمامه برائعة تاج السر الحسن (آسيا وأفريقيا) الممجدة لدول عدم الانحياز، وتضمنت مقطعاً بات أحد محددات علاقة البلدين: (مصر يا أخت بلادي يا شقيقة).

    وحظي كابلي كذلك بإطناب كوكب الشرق أم كلثوم، بعدما سمعته يغني (حبيبة عمري تفشى الخبر)، فاعتبرته “همزة وصل جيدة بين الوجدانين السوداني والعربي”.

    وضمن مجموعة كبيرة من أغنياته، أفرد الكابلي حيزاً للغناء الفصيح، وبكل جودةٍ وإجادة كانت “أراك عصي الدمع” لأبو فراس الحمداني، و”نالت على يدها ما لم تنله يدي” ليزيد بن معاوية، و”شذى زهرٌ ولا زهرِ” لمحمود عباس العقاد، وبأغنية تعلي شأن الثورة الجزائرية للشاعر البحريني علي شريحة “أغلى من لؤلؤة بضة.. صيدت من شط البحرين”، ومن بساتين شعرنا الفصيح، اخترنا على سبيل المثال لا الحصر رائعة صديق مدثر “ضنين الوعد”.

    وعلّ من ضمن أجمل آثاره، ترك الكابلي ألبوماً بمشاركة الفرقة الإثيوبية، الأمر الذي أعاد إنتاج أغانٍ ضاجة بالحياة والموسيقى، ولا يكتمل سماعها إلا وأنت تحاول محاكاة رقص الأحباش شديد الحيوية. وفي هذا المقام، تأتي على نحوٍ خاص أغنية “غزال الروض”.



    ولتعرف أي عيون قد أنطفات الجمعة، نحيلكم إلى تلخيص الكابلي لرسالة الفن، حين قال: “الرسالة الخالدة للفن الخيّر تتمثل في أنه كيف يجعل الحياة مكاناً جميلاً”. وفي موضعٍ آخر، نجده يقول في الشأن ذاته: “من الناحية الفنية، ولا أبتعد عن الفقه كذلك، لأن الفقه بالنسبة إلي هو قمة الفن، فالقضية التي تتصل بالفنون هي القضية ذاتها التي تتصل بكل أوجه الحياة الأخرى، طيبه طيب ومفيد، وخبيثه خبيث ومكروه”.

    لم يُعرف للكابلي تحزب، اللهم إلا للإنسانية ولبلده، ولكن لا يخفى على أحد حبه للحرية والتحرر. يظهر ذلك في غنائه وأفعاله السمحة، فقد غنى بعد إطاحة ثورة شعبية بالجنرال جعفر النميري في نيسان/أبريل 1985 “ليس في الأمر عجب”، وأنشد إبان ثورة كانون الأول/ديسمبر “لا لمن يشهر للحرية العذراء ناب”. وعليه، لم يكن مستغرباً أن يحرص –رغم ظروفه الصحية- على زيارة السودان بعد إطاحة الجنرال عمر البشير في نيسان/أبريل 2019، وعقبها أبرز دعمه للحكومة المدنية وحملة “القومة للسودان” الخاصة بالتبرع بالمال لأجل البناء والإعمار.



    وبشأن الجدل الذي ثار عقب وضعه الجواز الأميركي في جيبه الخلفي، وبروز أصوات ناقدة وممتعضة للخطوة، قال الكاتب والناقد موسى حامد وقتذاك: “كل تلك المشاعر لا تفسر إلا من خلال سياق محدد هو أن الكابلي قيمة فنية سودانية عظيمة، ساهمت في تشكيل وجدان السودانيين وذائقتهم الغنائية. وبنيله الجنسية الأميركية، اهتزت عند محبيه كل تلك القيم، لتتفرق بعد ذلك ردود الأفعال والمشاعر”.

    ولكن علمنا اليوم أن تلك الهزة محض لوم وعتاب لحبيب. وقد بان ذلك جلياً في تحول مواقع التواصل الاجتماعي السودانية إلى سرادق عزاء كبير، شاركنا فيه كلنا بريفنا ومدننا، بمن ينادي بالدولة المدنية ومن يوالي العسكر، فاجتمعنا نحن، من تفرقت بنا السبل شَذَرَاً مَذَرَاً، ثوارنا بقائد الجيش ورئيس وزرائه، ومثقفينا وعامة الناس، ونخبنا ومن انتخبتهم السياسة ليكونوا في القاع.

    ولد الكابلي في مدينة بورتسودان لأسرة محبة للمعارف والفنون، وله تجربة سابقة في أروقة المؤسسات القضائية، كما عمل في فترة من حياته كمترجم في السعودية.

    ضمن عدة ضروب غنائية، برع كابلي في تقديم أغاني المراثي (المناحات) بشكلٍ استثنائيٍ، إلى حد أنه ضخ في شرايينها عنفوان الحياة، فمن يرثيه لنا اليوم ليعيد لنا كل تلك السيرة وتلك الحياة؟

    رحم الله عبد الكريم الكابلي بقدر ما قدّم في كتاب حياته بصفحاته التسعين، مختومة بصوته الرخيم في تحولاته العديدة وهو يردد: “صلّ ياربي على المدثرِ.. وتجاوز عن ذنوبي وأغفر
                  

12-21-2021, 06:11 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    في رثاء الوطن في رثاء كابلي.. في حلم الثورة إذن

    بكري الجاك

    هنالك حقيقة إجتماعية ظللت أتوقف عندها كلما تمعّنت في تاريخ حركة نهوض أي أمة أو شعب أو جماعة في التاريخ الحديث أنه كلما حلت المصائب والخطوب بشعب أو بجماعة ما فإنها تعود لشيء ذو معني عميق في ماضيها لتستنهض الطاقات وتشحذ الهمم للنهوض، هذا المشهد أفضل صورة له في ذهني صورة الشهيد عباس فرح وهو يترنح في مواجهة الموت ليتكئ على ترس يبدو في ظاهره أنه محض حجارة متراصة لكن هذا الترس في ذهني كان اتكاءة عباس على ماضٍ عريق وتليد يستحق الاحتفاء به.

    كتبت من قبل في مكان ما في زمن ما أن كيف لشعوب تغنى لها الخليل في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي “عزة قومي كفاك نومك” أن يخرج من بينها سلالة من البشر وصلت بها الوضاعة أن تقدم كل الوطن وثرواته وأهله وعشيرته وأطفاله كقربان للحصول على حفنة من الدنانير وبعض من زينة الدنيا ونعيمها الزائل. عباس حينما ترنح في خطواته قبل أن يتوكأ على ترسه تخيلت أنه في خطوته الأولى جالت بخاطره صورة بعانخي وهو يمتطي حصانه متوجهاً شمالاً، وفي خطوته الثانية صورة تهارقا منتصباً كإله لا يموت، وفي خطوته الثالثة صورة ملكات سوبا وعلوى والمعرة وهن يقدن الجيوش، وفي خطوته الرابعة صورة حريق المك نمر للغزاة، وفي خطوته الخامسة صورة ملوك الفونج وهم يرسلون رسالة إلى الغزاة، وفي خطوته السادسة قد رأى نفسه بين جنود ممالك الداجو والتنجور والمسبعات وسلاطين المساليت وهم يتبخترون في الأرض، وفي خطوته السابعة رأيته ينضم إلى جيوش المهدية في كرري وإلى صولات وجولات عثمان دقنة في جبال شرق البلاد وفي وقفة ود حبوبة وهو يتحدى مشنقة المستعمر، وفي خطوته الثامنة رأيته يعانق ترسه حينها أيضاً وجد نفسه يعانق عبد الفضيل الماظ.

    نحن شعوب السودان حاقت بنا المهانة وتربع على حكمنا من هم أقل وضاعة من أسوأ شيء فينا نعلم به، صحيح أننا لسنا موحدي الوجدان إذ تتعدد لغاتنا وثقافاتنا ومشاربنا وأعراقنا لكن بيننا من التاريخ المشترك الذي يحفزنا على النهوض والوقوف جنباً إلى جنب سوياً ليس في تحرير هذا الوطن فحسب، بل في مسيرة الإنسانية الساعية إلى التحرر والانعتاق من القهر والتسلط. هذا ما تغنى به الكابلي (الذي مات مقهوراً بعيداً عن وطنه) في أغنية آسيا وأفريقيا قبل نصف قرن من الزمان، وفي محفل الكلام عن شدوه بـ”القومة ليك يا وطني” فإن ثورة ديسمبر ظلت على مدار أكثر من عامين تنفخ الروح في هذه القومة وفي ذاك التاريخ وتستنهض الرغبة في الوقوف في الوقت الذي كل ما يرجوه منا العالم هو الجلوس، فهل هنالك أمل في حملة السلاح أن يجعلوا من حلم عباس وهو يستنهض هذا التاريخ في خطواته الثمان ممكناً، فقط بالكف عن استخدام سلاحهم.

    مع عباس خطوة بخطوة لبناء الجمهورية السودانية الثانية ومع قومة كابلي للوطن.

    خارج أي نص
    إذا كنت من أصحاب المصلحة في الاستقرار لأنك في مرحلة تشطيب البيت أو ترتيب أمور حياتية أخرى، الرجاء لا تعكس وضعك الذاتي على كل آمال السودانيين في الانعتاق والتحرر وصناعة المستقبل في تسويق البؤس فقط من أجل استقرار يحقق أهدافك الذاتية.

    2 ديسمبر 2021م
                  

12-21-2021, 06:13 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    كلمات اغنية أمطرت لؤلؤا
    نالت على يدها مالم تنله يدى
    نقشا على معصم اوهت به جلد
    كانه طرق نمل فى انا مله
    او روضه ترصعتها السحب بالبرد
    و قوس حاجبها
    من كل ناحية
    و نبل مقلتها
    ترمى به كبدى
    مدت مواشطها
    فى كفها شركا
    تصيد قلبى به
    من داخل الجسد
    انيسه لو راتها الشمس ما طلعت
    من بعد رؤيتها يوم على احد
    سالتها الوصل قالت لاتفر بنا
    من رام منا وصالا مات بالكمد
    قالت قالت
    قالت لطيف خيال زارنى و مضى
    بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
    و قال و قال
    خلفتة لو مات من ضمأ و قلت قف
    عن ورود الماء لم يرد
    و استرجعت سالت عنى فقيل لها
    ما فيه من رمق دقت يد بيد
    و امطرت
    لؤلؤا من نرجس و سقت وردا
    و عضت
    على العناب بالبرد
                  

12-22-2021, 06:16 PM

الكيك
<aالكيك
تاريخ التسجيل: 11-26-2002
مجموع المشاركات: 21172

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الفنان عبد الكريم الكابلى المثقف الوطن� (Re: الكيك)

    تاج السر الحسن: لم نسمر بآخر المقطع بعد
    آسيا وأفريقيا: الشاعر وجغرافياه
    عبد الله علي إبراهيم
    كنت حضرت احتفال ولايات الساحل الشرقي الأمريكي بالموسيقار عبد الكريم الكابلي الذي قامت بالدعوة له وتنظيمه منظمة أبنوس ووكالة البحر الأحمر للسياحة بولاية فرجينيا. وطوال ما أنا في حفل التكريم لم تبرح أفق ذاكرتي وعاطفتي أغنية "آسيا وأفريقيا" للشاعر المرحوم تاج السر الحسن التي وضع لحنها الموسيقار الكابلي في الستينات الأولى. وكتبت مرة عن كيف خصنا الكابلي بسماعها منه الأول مرة لها في دار الندوة الأدبية بحي البوستة بأم درمان لمؤسس الندوة وصاحب الدار المرحوم عبد الله حامد الأمين. وكتبت عن هذه الأغنية، الميثاق السياسي، في مناسبة رحيل شاعرها في 2013 كلمة استعدت فيها ذكرى لي مع الشاعر وشغفاً بالقصيدة التي كانت خارطة طريق وعينا بأشواق التحرر الوطني، وشغباً بها.
    كان الراحل تاج السر الحسن أول كاتب على الإطلاق رأيته بعد أن كنت قرأت له. كان ذلك حين زارنا في رابطة أصدقاء نهر العطبرة في نحو 1957 وهو في طريقه من زيارة أهله في جزيرة أرتولي بجهة بربر في عطلة له من الأزهر الشريف. ويقال عن الجزيرة إنها توأم لجزيرة أخرى إسمها أرتل بدار الرباطاب إفترقا من مقامهما في الشمال وتخبطا عكس تيار النيل حتى بلغتا حيث هما الآن. وكنا قرأنا له مع زميله جيلي "ديوان قصائد من السودان" صدر عن دار الفكر اليسارية في مصر في 1956. بل وأملى علينا شيخ أبوزيد الجعلي، مدرس اللغة العربية المعروف، قصيدة "أحن إليك يا عبري" لجيلي في سنتنا الثانية بعطبرة الوسطى. واذكر غرابة طباعة الديوان. فقد كان لون ورقه أخضر لا أبيض زانته رسومات الفنان الطليعي المصري زهدي. واذكر أنني اطلعت عليه في مكتبة السودان أول دخولي جامعة الخرطوم ووجدت من شطب "سلام" من بيت في قصيدة لتاج السر عن نضال الطبقة العاملة حيَّا فيها "سلام والشفيع". وكان سلام رئيساً لاتحاد نقابات العمال والشفيع أمينه العام. ووقع فعل الشطب بسلطة الشيوعيين الغليظة في المحو والإثبات. فقد كان سلام ترك حزبهم آنذاك.
    لا زالت "آسيا وأفريقيا" أغنية تُطرب. ولكنها في جيلنا اليساري أغنية وعهد بالزمالة مسؤول لتغيير العالم بعد تحريره. فقد حفيت أقدامنا تظاهراً أو تضامناً أو شدواً لكل موضع مذكور في النشيد: القنال، وهران الجزائر، أفريقيا، ماوماو كينبا، الصين الجديدة، أفريقيا جومو نكروما، وسيكتوري وماندلا، وموديبو كيتا، والملايو، وناصر . . . أم ناصر. كانت تلك جغرافيا خلجات فكرنا وصحونا ومصب أشواقنا. ولذا عجبت من الخلف الذي تهافت من هذه الذرى الإنسانية الشماء إلى "أعربي أنت أم أفريقيا". وقلت لهم حتى بح صوتي لقد رزقنا الله فضاءات هوية وسعها السموات والأرض و"آسيا وأفريقيا" التي كتبها أزهري تقدمي ليهتدون.
    خضعت "آسيا وأفريقيا" لتحرير استدعى بعضه تحولها للغناء بالطبع. ولكن بعضه من قلم الرقيب. أذكر احتجاجي أول غنائها في عهد عبود على استبدال "ولا شاهدت روسيا" ب "ولا شاهدت آسيا". ثم لم أجد حتى في النسخ الأحدث البيت "للمنارات التي شيدها أول مايو" لتناغم "الملايو". ووجدت المرحوم الشاعر في لقاء تلفزيوني استعاد مقطعاً من القصيدة عن "بيان بيان فو" وهي المعركة التي أجهز فيها الرفاق في فيتنام بقيادة هوشي منه على الاستعمار الفرنسي. وبلغ إعجاز هوشي فيها حداً دفع بأزهري آخر هو المعلم كرف لمدحه. وقرأ تاج السر المقطع على التلفزيون بوجد عجيب يتصفح وجوه الشباب في الحلقة التلفزيونية الذين "يطرشهم":
    يا بيان فو
    أرضنا للنور والأزهار تهفو
    مشهد القلعة ما زال بعينيّ معلق
    والأعادي جثثاً في صخرها الأزرق تشنق
    قد رأيت الآن جندياً مغطى بالدماء
    قلبه الأحمر كالوردة ملق في الفضاء
    كان من باريس لكن مات قهراً في بيان فو
    وداعاً تاج. وليس هذا آخر سمرنا بآخر المقطع إن شاء الله.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de