24: الخبر بين لحظة وضحاها
الشاعر التونسى منصف المزغني
جواز سفر الفيتوري إلى قبره
الخميس 30 أبريل 2015 / 22:46
منصف المزغني
١-
عن السفر بلا جواز السفر
سقراط وهوميروس وامرؤ القيس والجاحظ وأبو نواس والمتنبي والمعري وابن خلدون وكبار الرحالة والمستكشفين مثل "ابن بطوطة" وَ "ماركو بولو" و"كريستوف كولومبس" و"فاسكو دي غاما" لم يحتاجوا في عصورهم القديمة إلى وثيقة اسمها جواز السفر وأوراق ثبوت جنسية، فمسقط رأسهم محدّد في الارض، ولكنهم لا يعرفون حدوداً لموضع أرجلهم على الأرض، إنهم يحطون الرحال في هذه البلاد أو تلك دون وقوف في طابور بسفارة طلبا لتأشيرة قد تُعَطى أو تٰرْفَض، وهكذا لم يكن شغلهم ساعةَ السفر غيرَ زادٍ وزوادة، وراحلةٍ للبر أو سفينةٍ للبحر.
ولو كان أمرُ الحدود بين البلدان قائماً بالشكل الذي نعرفه الآن بين البلدان، لما أمكن لكثير من الكتاب والشعراء أن يهربوا بجلودهم من عيون حرس حاكم غاضب عليهم، ولما وجد أبوالطيب المتنبي طريق الهرب من مصر زمن كافور الاخشيدي، كما لو كان ناس القرون الماضية يعرفون جواز السفر والتأشيرات، لقضى رحالة شهير مثل ابن بطوطة شطر عمره وهو يتنقل بين السفارات في انتظار التأشيرات، ولما أمكن له الوصول من أقصى المغرب العربي إلى بلاد الصين ، وهو يعبر بلدانا مفتوحة البر والبحر.
لم تكن الأرض معروفة بشكلها الكرويّ، كانت تسمى أرض الله الواسعة، وكان المسافرُ كالعصفورة، بلا جواز سفر أو جنسية أو تأشيرة.
٢- جواز السفر بين الحق والمنحة
ماهي جنسية المبدع في العصر الحديث، وقد صار الكلُّ مربوطاً بجنسية وجواز سفر؟
ولسؤال كهذا خاطب الشاعر محمود درويش وطنه المغتصب فلسطين حين تأمل جواز سفره غير الفلسطيني:
"أيا وطناً لم أجد ختمه في جواز السفر؟"
لقد صار جواز السفر حق هوية، بل هو ابسط حقوق المواطنة في المواثيق الدولية في العصر الحديث، إنّه ليس ثواباً أو عقاباً، ورغم هذا، فإنه بات يخضع للابتزاز والمساءلة، وشهدت أغلب وزارات الداخلية العربية وغيرها من الأنظمة الشمولية الأخرى في العالم، ملفات قاسية وفصولاً مؤلمة للسياسيين والمبدعين والمعارضين خاصة، فقد فَقَدَ الكثيرُ من هؤلاء جنسيتهم الأصلية واضطروا إلى حمل هويات أخرى.
كانت الجنسية تُسْقط وجواز السفر يُسْحَب من المغضوب عليهم كما تُسْحَبُ رخصة السياقة من المخالفين لقواعد المرور. وفي الوقت نفسه كانت الجنسيات تُمْنَحُ، وجوازات السفر تُعْطَى لغير مواطني بلدانها من الرياضيين وَالراقصات والموالين الأجانب والغرباء والسياسيين واللاجئين والمرتزقة وغيرهم، ولا تُمْنح التأشيرة لكل شخص مشبوه أو غير مرغوب فيه.
٣- الفيتوريُّ السودانيُّ الليبيُّ البِدونيُّ
أ-
كانت للشاعر السوداني المولد، السوداني الجنسية، محمد مفتاح الفيتوري، خلافاتٌ مع نظام جعفر النميري في السودان جعلت الأخير يُسقط عن الشاعر الجنسية السودانية ويسحب منه جوازَ السفر سنة 1974.
وحين علم العقيد الليبي معمر القذافي بوضع هذا الشاعر المتميز"صنّاجة أفريقيا العربية"، فالتَقَفَهُ ومنحه جنسية ليبية وجواز سفر، ومناصب ديبلوماسية مريحة في روما وبيروت والرباط حتى إسقاط نظام القذافي سنة 2011 .
وحين جاءت جماعةُ "الربيع الليبي" إلى السلطة في طرابلس، أسقِطت الجنسيةُ الليبية عن الشاعر، فلم يعد ليبيّا ولا سودانيّا، وصار في شيخوخته مقيماً بالمغرب بلا وطن محدد، ومن جماعة ما يسمّى (البدون) .
ولكن، سوف ينتظر الفيتوري العجوزُ (الذي توغل المرض في جسده الصغير) الموتَ البطيءَ في المغرب حيث يحيا مع زوجته المغربية وابنتهما .
ولعل كان يسترجع بيت عبد الرحمان الابنودي :
عاد اللي يعجّز في بلاده
غير اللي يعجز ضيف.!!
ب-
بعد ثلاث سنوات تذكّر النظّامُ السودانيُّ بقيادة عمر البشير أن الفيتوري الليبي صار بلا جواز سفر وبلا جنسية، وهكذا جاء وفد سوداني ديبلوماسي الى المغرب بحثا عن الشاعر لتسليمه هدية لم يطلبها: إرجاع الجنسية السودانية، وجواز السفر السوداني بعد أربعين عاما (1974-2014) من الحرمان والنسيان.
في مقطع الفيديو الذي صوّر زيارة الوفد الرسميّ ووثّقها، ظهر الفيتوريُّ مذهولاً وهو لا يدري ماذا يحدث حوله، فقد كان في غيبوبة شاملة وهو يستلم جواز سفره، ولم يشعر بلذة الهدية التي صارت شبيهة بوصول طوق النجاة لمن غرق.
ولا قبور للشعراء
أ-
حين بلغ الفيتوري شاطىء الموت لم يكن محتاجا لجنسية، أو جواز سفر، أو حتى إلى قبر.
كان السودان هو المحتاج إلى ابنه الفيتوري الذي قال فيه:
في زمن الغربة والارتحال/ تأخذني منك وتعدو الظلال/ وأنت عشقي/ حيث لا عشق يا سودان/ إلاّ النسور الجبال/ يا شرفة التاريخ/ يا راية منسوجةً/ من شموخ النساء/ وكبرياء الرجال؟
ب- حين مات الشاعر الفيتوري أكثر من مرة بين إشاعة وتكذيب، كان الشاعر محتاجاً الى المساعدة، ولكنه لم يجد إلاّ صدى بيت لمحمود درويش:
"يحبّونني ميّتًا كي يقولوا: لقد كان منّا وكان لنا"
ج-
- ماذا ينفع الشاعر إِنْ تنازع النظام السوداني مع زوجة الشاعر المغربية وابنته حول دفنه؟
- هل ربحت الزوجة معركة دفن الشاعر في الارض المغربية العربية الأفريقية التي كانت مثواه الأخير؟
- وهل خسرت الديبلوماسية السودانية معركة دفن الفيتوري في أرض السودان؟
- لم يدرك الذين سلموه الجواز أنّ الأوان فات لتسليم الشاعر جواز سفر
- لقد بلغ الفيتوري الشيخوخة التي أوصلته إلى مطار الديخوخة، فلم يعد محتاجاً إلى جواز سفر أو قبر.
د-
- غادر الفيتوري هواء الكرة الأرضية على ظهر اللغة الشعرية إلى ما أبعد من جنسيةٍ يسحبها النميري ويعيدها البشير، وأعلى من نياشين القذافي، وأغلى من جوائزه القليلة، ومن عشقه الرومانسي لافريقيا ومن قبره.
- لكنّ قبره تحدّه الفصحى بأغنية لا تموت:
"عشقي يفني عشقي / وفنائي استغراق / مملوكك لكني / سلطان العشاق"
- والحق الحق!
- الحق هو ان الشاعرالفيتوري عاش حياة مأساوية مثل افريقيا ، وهو حي يرزق في اعماله الشعرية في:
" دنـيـا لا يـمـلكُها مــن يـملكُها /
أغـنـى أهـليها سـادتُها ..الـفقراءْ /
الـخـاسرُ مـن لـم يـاخذ ..مـنها مــا تـعـطيه عـلـى ..اسـتحياء/
والـغـافل مــن ظــنَّ الأشـياءَ هــــــى الأشـــيـــاء !
/ تــاجُ الـسـلطانِ الـغاشمِ تـفاحهْ / تـتأرجح أعـلى سـارية ِ ..الـساحهْ
تـــاجُ الـصـوفـى ..يُــضـىْ / عــلــى سِــجـادة ..قَـــشْ
صـدقـنى يــا يـاقوت ..الـعرشْ
أن الـمـوتـى لـيـسـوا ..هــمْ هــاتــيــكَ الــمــوتــى
والـــراحـــة لــيــسـتْ هــاتــيــك ..الـــراحـــة".
- لقد صار الشاعر محمد مفتاح الفيتوري ساكنًا مرتاحًا في ديوانه،هاربًا من قبره و فاتحاً أبياته كي تسكنها ذاكرة الأحياء فوق أرض من الألَم و تحت سماء هي الفصحى .
مرة اخرى: شكرا على مرورك وجميل كلماتك فى حق فقيدنا وما جدت به على أبياتى من كرم تذوق.