كرري ومنصور خالد والتربية الوطنية! محمد التجاني عمر قش [email protected] قرأت مقالاً للدكتور منصور خالد، هذا الرجل المثقف، الذي ظل فاعلاً في الساحة الفكرية والسياسية في السودان لأكثر من نصف قرن تقريباً، ولا يزال عطاؤه مستمراً مهما اختلف معه الكثيرون، وأنا اختلف معه فيما ذهب إليه من قول ورد في مقاله الموسوم "النواقص الذاتية" حيث قال:( بيد أن في التفاخر الكاذب-أي التفاخر بغير حق-تشويهاً للتاريخ مثل قول الشاعر: كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية والنهر يطفح بالضحايا بالدماء القانية ما لان فرسان لنا بل فر جمع الطاغية نعم هؤلاء الأسود خاضوا اللهيب بجسارة، كما قال الشاعر في صدر البيت الأول إلا أنهم لم "يشتتوا كتل الغزاة الباغية" كما جاء في عجز البيت الثاني.) نعم، في واقع الأمر، خرج الشعب السوداني مهزوماً من مذبحة كرري، ولو ترك على تلك الحالة لانهارت الروحة المعنوية لدى معظم أهل السودان سواء في ذلك من أيد المهدية ومن عارضها! ذلك لأنه في بعض الأحيان يكون الإنسان بحاجة إلى ما يسمى ب "defense mechanism" أي ما يمكن ترجمته "بآلية الدفاع" من أجل تحقيق التوازن النفسي في بعض الظروف الصعبة حتى لا يحدث انهيار أو نتائج تكون أشد وخامة ووقعاً على الفرد والجماعة. ولهذا السبب أعتقد أن مثل هذا الشعر يعد عملاً عبقرياً ظل يمد الشعب السودان بقدر من الروح المعنوية التي كانت سبباً في كثير مما حققه السودانيون من نجاحات في عدد من المجالات السياسية والعسكرية والإدارية كما يشهد بذلك تاريخ السودان بعد المهدية وحتى فترة طويلة بعد الاستقلال من الاستعمار البريطاني. ليس هذا فحسب، بل إن كثيراً من أغاني الحقيبة تصب في ذات الاتجاه بمعنى أن القصد من تلك الأغاني هو رفع روح المعنوية لدى الجمهور، وهذا في حد ذاته واحد من أهم مقتضيات التربية الوطنية. والغريب في الأمر، أن الدكتور منصور خالد هو من أدخل منهج التربية الوطنية في المدارس السودانية إبان توليه حقيبة وزارة المعارف في عهد مايو، فكيف يفوت عليه هذا الهدف السامي الذي كان الشعراء يرمون إليه من خلال هذا النوع من الشعر الذي يمكن أن نطلق عليه مصطلح "الشعر التربوي" بمعنى أنه يهدف إلى تربية الناس وخاصة الناشئة على حب الوطن والإخلاص له والاستعداد للدفاع عنه في أحلك الظروف، بغض النظر عن الهزيمة العسكرية التي الحقها الجيش البريطاني الغاشم بجنود المهدية العزل والبواسل. علاوة على ذلك، يعد الوصف الحسي للمرأة في شعر الحقيبة تشجيعاً للشباب وحثاً لهم على الزواج؛ خاصة إذا علمنا عدد من قتل من الرجال في مذبحة كرري نتيجة تفوق جيش الاستعمار في العتاد والآلة الحربية التي حصدت عشرة آلاف أو يزيدون من خيرة أبناء هذه الأمة. ولذلك كان من الضروري أن توجد وسيلة أدبية سريعة الوصول إلى قلوب ومشاعر الشعب السوداني حتى يتجاوز آثار تلك الكارثة ويتهيأ للنضال ضد المستعمر، وقد نجح في ذلك كما هو معلوم بكل المقاييس، وقد تحقق ذلك بفضل هذه القصائد الوطنية وأغاني الحماسة التي لا تزال تجد صدى وقبولاً لدى جماهير السودان وتثير فيهم قدراً كبيراً من التفاعل والطرب. وما ذلك إلا لأن هذا الشعب الأبي قد جبل على حب الوطن ونشأ عليه بتأثير مباشر للشعر الوطني والحماسي الذي يحث على التمسك بالقيم النبيلة مثل الشجاعة والكرم وحب الوطن والوفاء. وفي هذا الصدد كتبت: سحر محمد بشير ما نصه: (كثيرون من شعراء بلادي تغنوا للوطن السودان منذ عهد الاستعمار وحتى نال السودان استقلاله. فجاءت قصائدهم قوية ومعبرة لأنها نابعة من حبهم الفطري للسودان دون اعتبارات أو انتماءات سياسية، فخلدت قصائدهم على مر الأزمان، وتغنى بها كبار الفنانين، ونذكر منهم على سبيل المثال الشاعر خضر حمد شاعر القصيدة المشهورة "إلى العلا" ومحمود أبوبكر "صه يا كنار" وشاعرنا الذي رحل مؤخراً محمد عثمان عبد الرحيم "أنا سوداني" وعلي نور شاعر المؤتمر والهادي العمرابي والتيجاني يوسف بشير وسيف الدين الدسوقي، وكان الغرض من تلك الأغنيات شحذ الهمم واستنفار الطاقات نحو حب الوطن السودان). باختصار شديد، أود أن أقول للدكتور منصور خالد إن التغني بكرري ليس فخراً كاذباً بل هو مقصود من أجل غرس التربية الوطنية في الأجيال التي أعقبت تلك النكسة الكبيرة؛ وهذا لعمري أمر مشروع يتسق تماماً مع مفهوم التربية الوطنية التي تهدف ضمن، أشياء أخرى كثيرة، إلى " تحقيق الأهداف التعليمية الآتية: وهي تحديداً الانتماء والولاء للوطن الغالي والاعتزاز به؛ لأن ذلك هو بالتأكيد محور وجود الأمة، مع الالتزام بمبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية والتحرر من التعصب والتمييز بجميع أشكاله الطائفية والمذهبية والعرقية والإقليمية". ومن جانب آخر لا ننسى أن هذه الأشعار تعد أحد وسائل حفظ التاريخ والتراث السوداني؛ ولذلك فهي جديرة بالاهتمام والتوثيق والدراسة حتى نستخلص منها العبر، لا أن نتهكم بها أو نزدريها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
محمد التجاني عمر قش
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست