تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 08:41 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الشاعر اسامة الخواض(osama elkhawad)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-23-2004, 06:28 AM

Dr.Elnour Hamad
<aDr.Elnour Hamad
تاريخ التسجيل: 03-19-2003
مجموع المشاركات: 634

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا (Re: osama elkhawad)


    العزيز اسامة، وكل ضيوفه في هذا البوست المهم

    قالوا: ((التاجر لمن يفلِّس بيرجع لدفاترو القديمة!!)).

    وها أنذا أرجع لدفاتري القديمة، ولكن ليس بسبب الفلس، ولله الحمد، وإنما لأن طرفا من هذا الحوار سبق أن جرى بيني وبين الأخ، والصديق، التشكيلي، حسن موسى. ورأيت أن أورد طرفا مما كتبته لحسن قبل بضع سنوات، في مسألة "الحداثة"، و"ما بعد الحداثة"، لصلة ذلك الموضوع بالحوار الجاري الآن.

    جاء في خطابي لحسن، والذي سبق أن جرى نشره بنشرة "جهنم" التي يصدرها حسن موسى من فرنسا، ما يلي:

    ((قلت أنت في عن مدخل ورقتك:

    ((هذا المدخل توسع من برنامج هذه الورقة فوق طاقة المجال ومقتضى الحال. وعليه سأحاول التزام الإيجاز في كل مدخل ومخرج عساني أصون الطموح المركب الذي أضمره نحو تعريف منهجية جمالية تاريخية تعين على فهم موقفنا من ثقافة ورثناها من أسلافنا وثقافة اكتسبناها من معاصرينا، مثلما تعين على فهم أسباب التحول في أشكال ممارستنا الثقافية الجمالية السودانية بين أسباب التقليد المحلي وأسباب الحداثة بشقيها الوافد والمستنبت من ضرورات الواقع المحلي الجديد)) .. انتهى نص حسن موسى.

    وظني أنك سوف تنتهي في هذا الأمر بكتاب، وليس ورقة. فالورقة لن تتسع لأكثر من طرق خفيف على رؤوس مواضيع، هي بطبيعتها، أصولية، وشائكة، ومعقدة. فأنت حين تتحدث عن الجسد، كشفا أو تحجيبا، أو ما بين الاثنين. أو تتحدث عن الإغراء والإغواء، وكل فنون بنات حواء، في جرجرة الذكور إلى الفراش، حسا كان ذلك أو معنى ـ ـ سواءً فعلن ذلك برسم خطوط الحناء التي تشير إلى ما تغطى من مراقد الفتنة تحت تلافيف الثياب المسدولة، أو رسمن فصودا على الخدود، دعون بهن عابري السبيل إلى التوغل ـ ـ فأنت لا محالة خائض، رضيت أم أبيت، في قضايا الجنس والكبت. وقد خضت في ذلك بالفعل. وذاك أمر طبيعي، بل ومطلوب في نظري "الضعيف"، كما تقول أنت دائما.

    بالطبع كان في وسعك أن تحصر أمرك في الورقة، في تعضيد قضية الرسم على الجسد، كواحد من صور الممارسة التشكيلية. وتوضيح كون ذلك النوع من الممارسة التشكيلية، فنا بصريا هاما، شأنه شأن غيره من الفنون البصرية. وأن تصنيفات الحداثة الغربية الاستبعادية الضيقة، قد أهملته، وأخرجته من دائرة الضوء. فالشعوب التي تمارسه ليست مظنة إنتاج فني ذي بال، في نظر الغربيين. فهذه الشعوب تقع خارج المركز الأوروبي، الذي هو وحده مظنة الإنتاج الفكري والفني والثقافي ذي البال. في حين أن الرسم على الجسد لم يكن ليقل أهمية، أو دلالة، عن الرسم على السطوح الأخرى. وسيرك في هذه الوجهة سير يشاركك فيه كثير من الغربيين، من ناشطي ما بعد الحداثة، وما أكثرهم في الثقافة الفرنسية. وأنت في هذا الشأن، من أهل مكة الذين هم أدرى بشعابها. أما في غرب الأطلسي فأحب أن أشير بخاصة إلى كتابات، سوزي غابلك Gablik Suzi وأخص كتابيها:
    Conversations before the End of Time
    The Reenchantment of the Art

    غير أن الذي لمسته من ورقتك، هو أنك تنحو بالأمر منحى تأصيليا. أعني منحى يطرق أمهات القضايا المعاصرة، خاصة ما يتعلق بموضوع الجنس، والكبت، والتنمية في الدول النامية، أو التي تعيش من حيث البنية السياسية والاقتصادية، حالة يمكن تصنيفها بأنها "قبل حداثية"، أو قل، "قبل صناعية"، أو نوعا ما، "قبل رأسمالية". وحين تتحدث عن استراتيجية (سودانية) لتملك الحداثة، أجدني لا افهم تماما ما تعني. أحس بالحاجة إلى إيجاد مقابل في اللغة العربية لكلمتي Modernism و postmodernism ودعنا نستخدم، ما درج الأكاديميون والصحافيون العرب، على استخدامه، وهما كلمتي، الحداثة، وما بعد الحداثة. فالحداثة modernism تعني، فيما تعني، كما تعلم، رؤية الوجود وفقا لفيزياء نيوتن، وما انبنى عليها من فلسفات التنوير العقلانية الأوروبية، ابتداء بديكارت، وإيمانويل كانط. وما تبع ذلك من تعريف ضيق للعقلانية، وما تبع ذلك أيضا، من نشوء للنزعة الفردية المفرطة، والمفاهيم الاقتصادية الاستهلاكية، التي جعلت من الكائن البشري مجرد حشرة اقتصادية. فضلا عن ما توج به علم النفس الغربي، ذلك المنحى، بمفاهيمه العجيبة، البائسة ـ في نظري أيضا ـ والتي تحصر تفسير دوافع السلوك الإنساني عموما، بما تمليه الأنا السفلى.

    أما إن كنت تعني تملك الحداثة، وفقا (لـ )، أو استرشادا ( بـ ) ما سطرته أقلام دعاة ما بعد الحداثة، postmodernism و مشاريعهم النقدية المعروفة، فذلك منحى مختلف. وظني أنك تعني بتملك الحداثة، مفاهيم ما بعد الحداثة، التي تهتم فيما تهتم بـ "روحنة" العيش البشري على ظهر الكوكب، وجوهر ذلك العودة للترابط، والتعاضد، والجماعية. كما أن حركة ما بعد الحداثة اهتمت فيما اهتمت، بمحاربة النزعة الاستهلاكية، والعودة لاحترام الطبيعة، والاقتصاد في استهلاك مواردها، وما إلى ذلك. فكثير من مفكري ما بعد الحداثة، يعترضون على عصر الحداثة، والمفاهيم التي روجت لها أسسه المعرفية. خاصة فهم الوجود كظاهرة مادية، والنظرة العلمانية، والاستهانة بالقيم الروحية، والتطفيف العملي لأهميتها، في حياة الناس. ولقد ورد في ورقتك نص هام جدا، وقد سبق لي أن اقتبسته، في كتابتي عن التشكيلي الراحل، عمر خيري. غير أن لي تحفظا على بعض أجزائه. يقول نصك:

    ((فالحداثة في تعريفها الابتدائي، تتلخص في السعي الواعي الحتمي المتقدم نحو مجتمع الوفرة، والرفاه المادي، والروحي، لكل الناس، بدون فرز. وهو أمر ممكن اليوم، لو قبل القابضون على مفاتيح السلطة، والثروة إعادة توزيعها بالعدل بين الناس !!! وأصر على علامات التعجب، لآن هذه الفكرة البسيطة، فكرة العدل، صارت اليوم في زمن ما بعد الحداثة (بوست مدرنزم)، صارت فكرة تثير العجب في خواطر الجميع، المستبعَدين، والمستبعِدين معا! وربما كانت قيمة حداثتنا المرتجلة، من واقع المباصرة البراغماتية الآنية، تتلخص في قدرتها على الطعن في مبدأ الحداثة الغربية الإستبعادية، ونقدها، وتقويمها، بحيث تتأهل لاستيعابنا جميعا، شرقيين كنا أم غربيين، على شروط العدل، والحرية)).. انتهى نص حسن موسى.

    قولك: "فالحداثة في تعريفها الابتدائي، تتلخص في السعي الواعي الحتمي المتقدم نحو مجتمع الوفرة، والرفاه المادي، والروحي، لكل الناس، بدون فرز"، قول فيه نظر. فهل فعلا كانت الحداثة، سعيا حتميا متقدما نحو مجتمع الوفرة والرفاه المادي و"الروحي" لكل الناس بدون فرز؟ لا أظن ذلك. اللهم إلا إذا نظرنا إلى الأمر من وجهة نظر عقل الوجود الباطن والغائية المستترة المسير للأمور من وراء الأفعال غير الواعية. فالحداثة، وإن أحدثت فتحا غير منكور في اتجاه السيطرة على البيئة، وتنمية الموارد، والنهوض بأساليب العيش، وقهر الأمراض المستعصية، إلخ، من ناحية. فإنها من الناحية الأخرى، نوعت نفس لحن الاستغلال القديم، المعزوف منذ عهود العبودية، وعهود الإقطاع. ولا ينبغي أن نمنحها حتى فضيلة حسن النية. أكثر من ذلك، فإن الحداثة استخدمت الثورة الصناعية، والقوانين التي كتبها أثناء تخلق الديمقراطيات الغربية، أهل السلطة، وأهل الثروة، فقننت للاستغلال، بل وأحكمت الأبواب، وسدت المنافذ في طريق الثورات، ولا تزال تفعل. والثورة الفرنسية التي جاءت بالنظام الجمهوري، انتهت بمسحوقي النظام الملكي، إلى موت بطيء في بطون المناجم، ومصاهر الصلب، أول الأمر، ثم، آخر الأمر، إلى كتابة لا تنتهي للفواتير، من بطاقات للائتمان، وأقساط سيارات، وأقساط منازل، وفواتير الخدمات بأنواعها، وغيرها من الفواتير التي لا ينقطع سيلها من بريد قاطني نصف الكرة الشمالي. وتمثل أمريكا النموذج الأسوأ في ذلك المنحى المستنزف دوما لطاقة الإنسان والسالب دوما لإنسانيته. أما الرفاه (الروحي)، فحدث، ولا حرج. فقد أصبح أثرا بعد عين، خاصة، بعد أن أصبح كل شيء، على إطلاق الأشياء، سلعة تباع وتشترى.

    غير أن نصك، رغم ما لاحظته أنا عليه في السطور السابقات، يضرب على وتر حساس، ويلمس قضية جوهرية، وهي أن مفاهيم ما بعد الحداثة، على ذكائها، وبراعتها في نقد حقبة الحداثة، قد فشلت أن تلمس موضوع العدل لمسا مؤثرا. ويهمني جدا، هنا أن أعضد رأيك القائل بأن كارل ماركس، لا يزال نافعا، في هذا الصدد. ويقيني أنه سوف يظل نافعا، ما ظل الرأسمال مسيطرا، وما ظلت قضية العدل البسيطة، والبديهية، غير مفهومة. الأديان هي التي ركزت على فكرة العدل. وخاصة المسيحية، كما عاشها عيسي بن مريم، وهو يسيح في البرية المتوسطية، داعيا للعدل، وللسلام وللإخاء وللمحبة. ولقد دعا الإسلام في عمقه التصوفي، إلى العدل والحرية، بأكثر مما فعل في نموذج دولته "المدينية". ومسلك النبي صلى الله عليه وسلم في أمر المال، كان مسلكا مستقبليا. ولابد من الإشارة هنا، إلى أن دولة الإسلام المدينية، مثلت قفزة كبيرة في مجال العدل، إذا ما قورنت بحالة مجتمعات القرن السابع، في حقبة ما قبل الإسلام.

    وببساطة شديدة، لا حرية بلا عدل. العدل، شرط من شروط الحرية، ولازمة من لوازمها. لم تستطع، نظرية ما بعد الحداثة، في تخلقاتها المختلفة أن تخرج تماما عن عباءة العقلانية الغربية، أحادية الجانب - وما كان ينبغي لها أصلا -. ولربما تعين علينا نحن ـ وأزعم أن لنا وعيا مختلفا بالظاهرة الوجودية، ومقاربة مختلفة لفكرة العيش على ظهر الأرض ـ أن نحاول الخروج كلية، من صندوق العقل الغربي. وأعني هذا الصندوق الصناعي، الميكانيكي، الضيق، الذي تشكل في الأربعمائة سنة الماضية. بذلك فقط، نستطيع أن نفهم أبسط الأمور، فهما مستقيما.

    في كتابه اللافت للنظر، الذي صدر عام 1984 عن دار نشر جامعة كورنيل بولاية نيويورك، والذي أسماه The Reenchantment of the World ، كتب موريس بيرمان ما نصه:

    For more than 99 percent of human history, the world was enchanted and man saw himself as an integral part of it. The complete reversal of this perception in a mere four hundred years or so has destroyed the continuity of the human experience and the integrity of the human psyche.

    وقد أورد بيرمان أيضا، بعضا مما كتبه، كلود ليفي شتراوس عام ،1972 وذلك حيث قال شتراوس:

    A well-ordered humanism does not begin with itself, but puts things back in their place. It puts the world before life, life before man, and the respect of others before love of self. This is the lesson that the people we call “savages” teach us: a lesson of modesty, decency and discretion in the face of a world that preceded our species and that will survive it.
    (p. 235).

    فقضية العدل التي أشرت إليها أنت، هي واحدة من هذه الأمور البديهية البسيطة، التي استعصت على العقل الغربي الحداثي، بسبب من عجلته ودوغمائيته العلمانية، التي تعالت بلا وجه حق على الحكمة القديمة. وأساليب الأولين في تقديس البيئة. وأحسب أنها استعصت أيضا على شقه ما بعد الحداثي. وعبارتك التي قلت فيها "نحن غرب الغرب" والتي سخرت فيها من كبلينغ حين قال: "الغرب غرب، والشرق شرق، ولن يلتقيا" حتى أنك وصفته بـ "مقطوع الطاري". عبارة جيدة، وفيها قدر عال من "التنبر" "الجعلي" الذي يعجبني. غير أننا لن نكون "غرب الغرب" إلا إذا "أكلنا رأسه" و"شرّقناه". فقول كبيلينغ لا يزال متجسدا في تفاصيل حياتنا، إلى يوم الناس هذا. أي أن الشرق لا يزال شرقا، والغرب، لا يزال غربا، كذلك! أنا مثلك، أؤمن بأن البشرية ذات مصير واحد، ولابد لها أن تجتمع على رؤية وجودية موحدة، نوعا ما. وأنه لا يوجد توازي سرمدي في مجال الأفكار. أي، بمعنى أنها لا تلتقي أبدا. الغرب بحاجة إلى من يخرجه من الصدفة التي أدخل نفسه، وكل بني البشر فيها. كيف؟ أيضا، لا أدري بالضبط، كما تفضلت أنت!!

    باختصار شديد، أعتقد أن التفريق في العبارة العربية بين مفهوم الحداثة، ومفهوم ما بعد الحداثة ، أمر ضروري. فذلك يخدم غرضا منهجيا لا معدي عنه. ولذلك فالسؤال يكون، ماذا تعني بقولك، (تملك "سوداني" للحداثة)؟ فهل تعني "الحداثة"، التي بدأ الغرب يقلع خيامه من أرضها ليرحل، أم تعني "ما بعد الحداثة"، أم أن لك منحى خاصا بك. ولا اعتراض لدي، على أن يكون لك منحى خاصا بك. فأنا لي منحى خاصا بي أيضا. إذ لا أجد في كتابات ما بعد الحداثة، على أهميتها، ما يشفي لي غليلا. المهم لو كان لك منحى خاصا فإنه يتعين عليك تعريفه، وتبيينه. فالبنية المفهومية للحداثة، ولما بعد الحداثة تختلف، على الأقل في نظر أهل الفريقين، ونظر سائر أهل الأكاديميا. كما أن العقل الغربي الراهن، والنظام الغربي الراهن، يبدوان محصنين ضد فكرة العدل البسيطة، والبديهية. الحداثة الغربية، أساسها الظلم، وتبريره، وإعادة إنتاجه، وأعلم أنك توافقني الرأي في ذلك. هذا هو الصندوق الغربي الذي يتعين علينا الخروج منه. ولست بحاجة هنا، للإشارة إلى منافحات فرانسيس فوكوياما البائسة، لنفخ الروح من جديد، في المفهوم الرأسمالي القديم، القائل بـ "عملية" و "عقلانية" الإبقاء على التفاوت، وعلى الفوارق التي بغيرها لا يكون الناس منتجين.

    ولي سؤال أطرحه هنا: هل في وسعنا حقا تملك الحداثة الغربية، أو حتى، "بعد الحداثة" الغربية؟ خاصة في ظل معطيات الإلحاق القائمة الآن؟ وضمن محدودية المفاهيم الغربية في تفسير الظاهرة الوجودية، والطبيعة البشرية؟ وهل يعني تملك الحداثة الغربية، أن طريقنا للتنمية الاقتصادية، والاجتماعية، هو عين الطريق الذي سلكته الدول الغربية، والتي تحاول جاهدة الآن، فرضه على كل الكوكب، أم أن لدينا خيارا مختلفا؟ المهم، نظرتي الشخصية للموضوع، هي، إن أنت أردت أن تتجاوز بالأمر طروحات ما بعد الحداثة، التي تظل، في نظري، رغم قيمة إسهاماتها النقدية لمفهوم الحداثة الغربية، طروحات محدودة، وأسيرة للبنية العلمانية للعقل الغربي، فإنك لا محالة موغل في خضم أصول القضايا، ومواجه التحدي الكبير. أعني تحدي الخروج من مأزق مشهد الحياة الغربية الراهنة الذي يحاول أن يبتلع كل ما تبقى خارجه في أركان الأرض.

    أنا كثير الاعتراض على مفاهيم ما بعد الحداثة. وخاصة ترويجها لنوع جديد من النسبية التي توشك أن تكون مطلقة. لقد مددت مفاهيم ما بعد الحداثة النسبية القديمة المشرجة في بنية الفكر الغربي العلماني، والتي هي إحدى علله الكبرى والأساسية. نظرية ما بعد الحداثة في نقدها للاستعلاء الثقافي، حاولت أن تعطي كل الثقافات أهمية متساوية. لا فضل لثقافة على ثقافة ـ لا بالتقوى، ولا بغيرها ـ. رؤيتي للموضوع هي أن أفكار ما بعد الحداثة، قامت بفرش الأفكار، والثقافات، على بساط واحد. هذا الفرش الأفقي، وهذا "التبطيح" العجيب، لم يكن إلا تمديدا، وتمطيطا، مزعجا، ومخلا لمفهوم النسبية المفتوحة الذي قامت عليه الرؤية الفلسفية الغربية. ذلك المفهوم الحداثي الأوروبي، الذي ينفي لولبية الزمن، و ينفي أن للتطور رأس سهم. ومفهوم النسبية المفتوحة هذا، معارض لمفهوم الغائية، ومفهوم العقل الكلي الذي أومن به. ففي نظري أن كل الأشياء، والأفكار، والثقافات، والنظريات، وأشكال المعرفة المختلفة، ذات شكل هرمي. بعضها أقرب للجوهر من بعضها الآخر. وبعضها أنفع من بعض. ولا يمكن أن تتساوى في القيمة، مساواة مطلقة. ولا في القدرة على خدمة الغاية بالتساوي. فـ "لكل لطيف، سلطان على كل كثيف". كما قال الأستاذ محمود محمد طه.

    بعبارات أخرى، نحن لن نستطيع أن نغير القانون الطبيعي. العقل الأوروبي الخارج من أضابير العقلانية الكانطية ظن أن الإنسان سوف يصبح مع تطور العلوم التجريبية سيد مصيره. ولا زال كثير من الغربيين يظنون هذا الظن. وأوضح ما تكون النسبية التي يعتنقها العقل الغربي تجسيدا، تلك التي تظهر في مجال سؤال الأخلاق. فالنسبية وصلت بالعقل الغربي إلى ما يمكن أن يصل إلى حد التجريب الاعتباطي، خاصة في مجال العلاقات الجنسية. حتى أصبح وكأن الفضيلة هي ما يتواضع عليه الناس، بغض النظر عما ينبغي أن يكون عليه الأمر من ضرورة المصاقبة للقانون الكلي، والترتيب الكوني "الغميس" المسير للظواهر. نحن لن نتحكم في وجهة الوجود، مهما صنعنا. والسبب بسيط. وهو أن الوعي المحيط بظاهرة الوجود، أمر متعذر. وقد عرف ذلك المتصوفة من قديم الزمان وقد قال قائلهم (والعلم كالجهل عندي) . قصارى ما يمكن أن نفعله، هو محاولة اكتشاف وتفهم القوانين التي تسيره، ومحاولة التساير معها. والفهم العميق في هذه الوجهة يعين على محو الظلم، والاستبعاد، ودعاوى التفوق الزائفة. غير أن هناك تفاوت في فهم مسار العقل الكلي، وهذا هو ما يجعل بعض أشكال الممارسة الثقافة، والإنتاج الفكري، والفلسفي أهم من البعض الآخر. غير أن ذلك، لا يعني عندي مطلقا، تهميش الثقافات، أو قمعها، أو التعالي عليها، أو تذويبها، أو استئصالها قهرا. بالديمقراطية الحقيقية يمكن أن ندير صراع بقاء الأصلح بشكل متمدين، لا عنف، ولا قهر فيه، قدر الإمكان.

    وأحب أن أحشر هنا (خاطرة اعتراضية). وذلك على وزن (جملة اعتراضية). وهي أنني أحس بأن إنشاء معسكر جديد بعد سقوط (الاتحاد السوفيتي العظيم ـ كما كان يحلو لنميري دائما أن يقول في خطاباته!!)، لن يكون ممكنا، أو حتى مجديا، لو أصبح ممكنا بالفعل. لا أرى أية إمكانية عملية لبروز كتلة جديدة، تنزع حقوق بني الإنسان من يد الرأسمال القابضة، خاصة مع التفوق الغربي التقني الراهن، وذراعه الاقتصادية الطويلة. يحاول المتأسلمون المأفنون إنشاء كتلة، ولكنها كتلة بلا طاقات ولا قدرات فكرية، وبلا طاقات أو قدرات مادية، أو علمية، أيضا. فلم يبق لنا غير التفكيك. ويبدو أن قضية أهل الكوكب سوف تتوحد، ولأول مرة. العالم اليوم يتداخل، ويتمازج. لم يشهد العالم هجرة للناس كالتي تجري الآن. هذه الهجرة ـ هجرة عقول كانت، أم هجرة أيدي عاملة، أم هجرة جوع وجفاف وتصحر ـ هذه الهجرة القسرية، هي التي ستنخر بنية العقل الغربي من الداخل. ولن يجدي زعيق الفرنسيين والألمان ضد المهاجرين الجزائريين والأتراك فتيلا. قٌال مصطفي سعيد ـ غشيت قبره شآبيب الرحمة ـ: "جئتكم غازيا". وها نحن سكان الجنوب الفقير المضطرب، قد جئنا غازين للشمال، المستقر الهانئ. ولكن غزوتنا الجماعية هذه المرة، ليست من أجل اصطياد بنات السكسون، من الحدائق العامة، والتجمعات الشعبية، لملء الفراش كل ليلة، وإنما للنخر في بنية العقل الغربي الهرمة. وهذه فائدة إضافية لفوائد الأسفار المعروفة، وفوائد الهجرة بكل أنواعها. ومشروع النخر من الداخل هذا، مشروع ربما طال واستطال. ولكنه سوف يؤتي أكله ذات يوم.

    لقد انتقد كتاب ما بعد الحداثة، الحداثة الغربية المرتكزة على عقلانية "كانط" التي قادت لتطورات هامة كثيرة، ما كانت لتكون لولاها. وأهم هذه التطورات تتمثل في فصل الدين عن الدولة، وفي ترسيخ الممارسة الديمقراطية. غير أن العلل الفلسفية لفكر الحداثة هي التي أبقت على الديمقراطية شكلا بلا مضمون انساني حقيقي. فالديمقراطية التي بدات ممارستها في الغرب، منذ قرون، لم تتعد كونها ديمقراطية رأسمال المال، وتنامي الأرباح بغير حد، وإفساد أغلب الموروث الإجتماعي البشري، الذي اعتمد الجماعية، والتكافل، والتراحم. باختصار، وقفت بنا عقلانية "كانط"، وتفريعاتها، مثل حمار الشيخ، في العقبة.

    فرّق الصهيوني النافذ البصيرة ـ رغم صهيونيته ـ والمدعو، مارتن بوبر، منذ الأربعينات، بين الزمان الأنثروبولوجي، والزمان الكسمولوجي. قال بوبر، إن هيجل قد بنى مأوى كسمولوجيا للإنسانية، غير أنه، كان وقتها، غير صالح للسكن. ورغم أن هيجل قد ترك تأثيرا على كل أقاليم الروح في القرن قبل الماضي، غير أن الحاجة لعقلانية "كانط" كانت لا تزال قائمة، وملحة. لقد نجح هيجل في كبح جماح سؤال "كانط" الأنثروبولجي، ولكن لفترة محدودة فقط. ثم دارت الدوائر على فكر هيجل. ولذلك فقد اعتبر بوبر، أن هيجل قد جاء حينئذ من المستقبل. أما أنا، فأرى أن وقت هيجل الحقيقي قد جاء فعلا مرة أخرى! وبالمناسبة، كلما أعدت قراءة كتب الأستاذ محمود محمد طه، كلما أحسست بأن إعادة قراءته من قبل المثقفين السودانيين، بأناة، أمر ضروري. أعني قراءة محايدة، مستبصرة، غير متأثرة بالتصنيفات التنميطية التأطيرية الغربية مثل، براغماتي، ومثالي، إلخ. من يدري؟ فلعل المثالية تكون أكثر الأمور واقعية، وعملية في هذا الإطار التاريخي الذي يضمنا الآن!!

    مما كتبته سوزي غابلك، في هذا الصدد، ويجد صدى في نفسي، قولها:

    ((فلاسفة الحقبة الديكارتية أخذونا بعيدا عن الإحساس الشمولي بالوجود، وذلك بتركيزهم على التجربة الفردية. وفي المحصلة النهائية، فقد قاد ذلك، أيضا، إلى تضييق منظورنا الإستاطيقي. والسبب في ذلك هو توجه الحقبة الديكارتية نحو قلة التفاعل مع الآخر، وضمور العلائق، والنفور من المشاركة)). أمتهى نص سزي غابلك، وانتهى به مقطف خطابي إلى حسن موسى.

    لقد اشرت يا اسامة إلى مالة الفردية، وقلت ان الأستاذ محمود استعارها من فكر الحداثة الغربي، والبسها لبوسا إسلاميا، إن صحت عبارتي عنك. غير أني أفرق بين ((الفردية) التي تحدث عنها الأستاذ محمود محمد طه، وبين ((الفردانية)) التي هي ما ينعيه مفكرو ما بعد الحداثة، على أفكار حقبة الحداثة الغربية. ((الفردانية)) الحداثية، مطابقة للانانية. ((الأنا السفلى)) التي ترى أن مصالحها مناقضة بالضرورة لمصالح الآخرين. اما ((الفردية)) الصوفية فهي على العكس. هي إعلاء للرغبات الضيقة من أجل التمتع بالحرية الواسعة. وهي بهذا المعنى مصاقبة لإتجاهات ما بعد الحداثة، وليس لاتجاهات الحداثة. ولي عودة لهذه الجزئية.

    ملاحظة أخيرة يا أسامة:

    في ردك على (أساسي)، على ما أذكر، قلت إنك لست فقيها، ولذلك فأنت لا تفتي في مشروعية ما جاء بهالأستاذ محمود. في تقديري أن مثل هذا الرد يكرس ظاهرة التخصص في الدين، والتي هي ظاهرة خاطئة بدات عند اليهود والنصارى وتلقفها منهم المسلمون في عهود انحطاطهم. الدين فكرة شأنه شأن غيره من الأفكار. وهو امر لا تخصص فيه، ويجب على المثقفين الا يتركوا نقاشه لمن يسمون بـ (رجال الدين) بحجة أنهم متخصصون في هذا الجانب. هذا الإتجاه يطيل عمر الكهنوت الإسلامي الذي ساد لأكثر من عشرة قرون. مهم جدا الا يتهيب المثقف الخوض قي شؤون الدين. وقد مثل الدين أكثر العوامل تأثيرا على صياغة الحياة على ظهر هذا الكوكب. وقد حدث ذلك لكل الثقافات التي عرفتها الإنسانية، ولكل الجماعات البشرية التي عاشت على وجه البسيطة. ومسألة التخصص هذه، واحدة من إشكاليات حقبة الحداثة التي اتسمت بالصفوية. وقد عاش رجال الدين كصفوة ارتبطت عضويا بمراكز السلطة، ومراكز الثروة. وقد جرى استخدام الدين بهذا الشكل الإحتكاري الإستبعادي من اجل إقصاء العامة منه، من جل ضمان الإبقاء على امتيازات اصحاب الإمتياز.

    لي قدام
    النور حمد



                  

العنوان الكاتب Date
تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-15-04, 04:51 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Dr.Elnour Hamad01-15-04, 05:44 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-15-04, 06:33 AM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا elfaki01-15-04, 07:39 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا الجندرية01-15-04, 05:32 PM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Mandela01-15-04, 06:09 PM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا abuguta01-15-04, 06:19 PM
      Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا اساسي01-15-04, 06:41 PM
        Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا elfaki01-15-04, 07:20 PM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-16-04, 04:52 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-16-04, 05:43 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Yasir Elsharif01-16-04, 12:47 PM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-16-04, 09:49 PM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Yahya Fadlalla01-16-04, 11:09 PM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-17-04, 11:00 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا الجندرية01-18-04, 11:35 AM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Abdel Aati01-18-04, 01:15 PM
      Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Tumadir01-18-04, 01:41 PM
      Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Tumadir01-18-04, 01:59 PM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-21-04, 04:19 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-22-04, 02:40 AM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Dr.Elnour Hamad01-22-04, 10:42 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-22-04, 02:28 PM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا عشة بت فاطنة01-22-04, 09:23 PM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-23-04, 02:17 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-23-04, 03:45 AM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Dr.Elnour Hamad01-23-04, 06:28 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-23-04, 06:14 AM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا elfaki01-24-04, 06:33 AM
      Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Dr.Elnour Hamad01-24-04, 08:22 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Yasir Elsharif01-24-04, 08:24 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Yasir Elsharif01-24-04, 01:44 PM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-25-04, 06:41 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-25-04, 11:23 AM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Dr.Elnour Hamad01-25-04, 09:43 PM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-26-04, 06:39 AM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Hisham Amin01-26-04, 01:09 PM
    Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا Haydar Badawi Sadig01-26-04, 09:39 PM
  Re: تجسير الهوة بين الاسلام والحداثة: الفكر الجمهوري مثالا osama elkhawad01-27-04, 06:21 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de