|
اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله
|
نشر الكاتب القادم للكتابة السودانية بقوة عبدالغني كرم الله القصة التالية في صحيفة الراي العام بملحق عيسى الحلو الثقافي الذي يصدر كل اربعاء ويشارك فيه الكاتب الشاب بهمة وقد اعجبتني القصة ورايت فيها ما رآه الكاتب الحسن بكري في تصوير عبدالغني الدقيق بحيث ثبدو القصة الواردة هنا جزءاً من نسيج حكي طويل . واراها حركة موسيقية في سيمفونية حكي طويلة تترى عسى ان يستمتع قراء المنبر بها. أوردها هنا نقلاً عن الصحيفة دون إذن منها ولا من الكاتب فإلى النص وهذا بمثابة تحيةلروائيي الدوحة: النور حمد /هاشم كرار/امير تاج السر/الحسن بكري/ولكاتب هذا النص الغني عبدالغني .إنهم ابناء زمن الرواية السودانية الجدد.كل عام وأنتم والنور والنور وعمادومعتصم وربيع وكل المبدعين الآخرين بخير. عدت من الدوحة محملاً بزاد وفير يكفيني لقطع بيداء اخرى في عامي الجديد. الاربعاء27ديسمبر2006 قصة قصيرة جديدة
طفولة صبيحة الغد، امتحان الجغرافيا
بقلم: عبد الغني كرم الله
أمرت أمي، أخواتي الصغار بالخروج من الغرفة، والغناء في حوش الدار، لعرس وهمي، وعلى طبل من جالون شل، والعروس سارة، والعريس هبة، بمقدور أخواتي ان تتزوج البنت بنتا، وتلد بعد دقائق من العرس فارسا، لا يشق له غبار..
غرفتي بعيدة عن سعال حبوبتي، وقريبة من غرفة اختي الكبرى «حديثة الولادة»، والتى اختزل وليدها كل اللغات في البكاء فقط، سواء أكان جائعاً، ام عطشاً، أو يريد الغطاء، أو حتى فرحاً وعلى أمومة أختى ترجمتها كما ينبغي، وبسرعة البرق، فهو لم يتعلم الصبر بعد، كأمي.
خرست الدار بأوامر أمي، «أمي تحلم بدكتور بهي الطلعة»، ولكن لم يخرس نباح الكلام ونهيق الحمير، وطيف آمنة،وهو أخطرهم جميعاً، ونقّاط الزير، والذي يثير كنه الوقت، بإيقاعه الموزون، مستغلا عتمة الليل، وسكونه...
وضعت أمي فانوس الزيت وسط الغرفة، ألسنة اللهب تتراقص مع النسيم الواهن، والذى يدخل من النافذة، وكأنه يتكاسل من الذهاب لباب الحوش البعيد، مثلي، رغم جبروتها، وقدرتها على إلتهام حقل قمح كامل، كما فعلت في عام تعيس لمخزن خالي دفع الله، تستسلم للنسيم رغم حرارتها القبيحة، ومع هذا لم ينفر منها النسيم، كم تنفر أناملي حين تحرقني على غرة، ويظل مهيمنا عليها، لا يريد ان يقتلها، يتلاعب بها كغزال ولبوة، وهي راضية، ويظهر هذا في رقصها المستسلم، ومعهما يرقص ظلي على الحائط الطيني الخشن، تمتد أنفي حتي الركن، بل تنحني مع الركن، وكأنها تريد ان تشم أي تمرة مخفية، أو طحنية، ومع هذا لم أحس بألم، من تمطط أنفي على حائطنا الطيني، ولكن فانوسنا الزيتي مهجساً بهذه الرسومات السريالية..
تتموج الظلال على صفحة كتاب الجغرافيا، كنت راقداً في السرير، هذه عادتي في القراءة، أمواج من ضوء تتموج على صفحة الكتاب،وبين السطور، نار ونور، كما يلد عصب الحيوانات موسيقى، ضوء شاحب، يحاكي ضوء القمر، جعل غرفتي كمعابد الهنود، مناخ ديني عميق، خلقه نور الفانوس الزيتي، خوف لذيذ، أشبه بخوف الراهب من غرائزه النائمة والظلال التى تختبئ من لهب الفانوس، تتراقص الظلال، في لعبة الاختباء، بسرعة وذكاء، كي لا يراها اللهب، وللحق لم ير اللهب الظلال على الإطلاق، كما لم نر العدم في حياتنا، رغم جري خيالي خلفه طوال الليالي، كل الاشياء تلعب لعبة الاختباء، في ظلالها على حائط الاوضة، وعلى ارضيتها الترابية، ظلال علبة السكر، وبرطمانية الدلكة، والراديو، وترسم اشكالاً غريبة، لم تحلم بها ريشة بيكاسو..وعيون اللهب لم تر الظلال الذكية، الماكرة، حتي الآن..!!
الصفحة «63» من كتاب الجغرافيا، بلا غلاف، متآكل الأطراف، مزخرفة صفحاته ببقايا طعام، وزيت وطحنية، وشعيرية جافة، علقت كالدودة، الصفحة الأخرى مطوية، وممسك الكتاب بيدي اليسرى، واليمنى تحت رأسي، يبدأ الكتاب من الصفحة «17»، وينتهي في الصفحة «113»، والصفحة «17» تتخذ شكل المثلث، كل سطورها ناقصة، ما عدا الأخير، أما الأول فيبدأ بحرف واحد، «ك»، والسطر قبل الأخير ينقصه حرف واحد، أطراف الكتاب منفوشة، حين اضعه على المخدة يبدو كهرم مقلوب، ولكني دائماً ما اضعه تحت المخدة، خوف ان تلتهمه معزتنا الجائعة، القلوب والاسهم التى تخترقها، تملأ اغلب صفحاته، واسماء ثلث فتيات الحلة مدونة عليه، لست انا المجرم،وإن اضفت اسم «آمنة»، في وسط القلب، والسهم يخترقه، وثلاث دمعات حارة، ورب الكعبة، خفت أن تثقب صفحات الكتاب كلها، ولكني خير خلف لخير سلف، بل هناك اسماء فتيات مكتوبة بصورة طفولية، وفيهن من تزوجن، وانجبن، وتطلقن..
«خريطة نهر النيل، المنبع الى المصب». نهر النيل، قريتي تنام وتصحو وتلعب وتبكي وتفرح على ضفافه، يبدو كخيط رهيف، يتعرج من أسفل الصفحة حتى أعلاها، حسب حبه للوهاد، وخوفه من الجبال والتلال، ليس بمقدوره ان يتسلق الجبال كالقرود، ولا أن يطير كالصقور، ولكنه يحبو مثل «سعد ابن اختي الصغيرة، المزعج». والمدن الكبيرة تبدو عبارة عن نقاط سوداء «جوبا ملكال كوستي الخرطوم عطبرة دنقلا، مدني» لا أثرلقريتي، أحسست باضطهاد ما، وبغرور يحتضر، وبخوف من السماء.
حين خرج النيل من يوغندا، هل كان يعرف وجهته، قاصدا أهله مثلاً؟ أما كان يتسكع كمتشرد، جاعلاً من المشى وسيلة وغاية، كالشعراء، هل كان يعلم؟ أو يحس بحدسه المرهف، بأنه سوف يلتقي بشقيقه النيل الأزرق في مقرن الخرطوم، أم كانت مفاجأة سعيدة، جعلتهما يلتحمان في حضن سرمدي، يجرى يسارا، ثم يعود، يميناً ثم يعود، يبحث عن شئ نفيس ضائع، ذهب أم قبر ولي أم شجرة سماوية، كي يقيل فيها، ويروي جذورها السعيدة، هل كان يدرك بأن الخرطوم ومروي ستشيدان على ضفافه، وحقل خالى دفع الله يروى منه، وعباس ابن خالي، سوف يغرق فيه، وأدريس يتوضأ فيه، نعمة ونقمة، حين يثور، يبدو كثور، لم يقتل، كملاك الموت، عاقلا، بل مبشراً بالجنة، بل يعيش فيها، من الذى قتل عباس، النهر أم ملاك الموت، أم هما شئ واحد، هل خرج ملاك الموت، الساكن في الجنة الى الأرض كي يغرق عباس، وجاء للارض، فارق جنته، أم الجنة بداخله، تبدو لي، ان الجنة بداخله، لأنه خالد فيها أبدا، نعم ملاك الموت عاقل، وحكيم، ورحيم، ولهذا يسكن الجنة.. حتى تلك التى بداخله، إنه رحيم، رغم تلوثه بالدماء، وإلا لما سكن الجنة، خالدا فيها أبدا..
دائماً النيل يخرجني عن مذاكرتي، ويجعلني احب الشعر، أكثر من كل الاشياء، أمي حريصة علي، وأنا حريص على غريزتي، أود ان اطير، وأحلق، وأدخل المقابر، واتكلم مع العصافير، وأنام مع جذور الاشجار، وأمي تريدني مجرد دكتور، محاطاً بمرضى، ويملأ أذنيه العطاس والانين والسعال.
صوت الجالون، بل الطبل يخرجني من عالم الداخلي، كعادته كل مساء، يعلو صوت الجالون، الطبل الحديدي، فقد خرج الفارس، من خيال أخواتي، كي يلعب معهن، يتصارعن في الزواج به، سارة وهبة ورشا، يخرج صوت الفارس من فم رشا:
اريد الزواج من سارة!!
تغضب هبة، وتضرب وجه الفارس، وجه رشا، فيبدأ العراك والصراخ، حقيقة لا مجازاً فتصرخ أمى من وراء الحجرات:
اسكتوا يا بنات، مدثر بذاكر!!
ويبدأ العرس الوهمي مرة أخرى، ويعلو صوت الجالون الحديدي، وهذه المرة الغناء من اجل الغناء، أنهن اعضاء بارزات في مدرسة «الفن للفن»..
تصرخ أمي، وتعصى اخواتي، بل لا يسمعن صراخها مع ضجة وهرج العرس اليومي، وللحق، لا أحد يخاف من أمي، وخاصة أخواتي، وأنا.
اسكتو يا بنات..
أمي لا تعرف، ان طيف آمنة بداخلي، أعلى وأغلى وأحلى، من أصوات اخواتي، العاريات، الجائعات أغلب الاوقات، النائحات، في فرحهن، حياة متمسكة بقشة القوت، كي لا تنقرض كالديناصورات، كثقافة شفوية عظمى، ابتلعها فم الزمن، ذلك الماحي العظيم..
فجأة يخرس المكان، تنتهي اليقظة ويبدأ النوم عند أخواتي، بلا نزاع، كحائط كبير أبيض وأسود، وخط مستقيم يفصل بينهما، بين اليقظة والنوم، وكأن اليقظة أخذت حقها كاملاً، وآن للجسد ان ينام، كما يطفأ النور، هكذا تتلاشى اليقظة، كالنور، ويعم ظلام النوم، بل ضياء النوم، فتغرق اخواتي في نوم هنئ، في فسحة الحوش، على اديم الارض، وظل الجالون واقفا، بعد ان فقد روحه، كان طبلا، يوزع وينفخ الموسيقي في جسد الدار الفاترة، تصل ايقاعاته الى الفئران والدجاج والماعز، فتحس بأنس، ويقشعر جلدها له.. وقرونها..
لم يعد سوى جالون، مطفق، مهترئ، بردت اطرافه، من فراق ايدي اخواتي الغضة، والتى تنفخ فيه الروح كالمسيح، بل أنضر، وأخضر.
بيوتنا، نبتت كالنيم من الأرض!!
النهر يجري من أسفل الضفة الى أعلاها، حفر مجرى طويلاً، بلا طورية أو كوريك، كم قويةرقة الماء، ألم تقتل رقة عبلة، عضلات عنتر، لا أثر للتراب على ضفافه، هل ألتهم التراب؟ أم جرى به في بطنه، كحامل، وألقى به في البحر القصي، هل زحف نحو الخرطوم كي يطوقها، بل الخرطوم لم تكن، حين كان، «أين كانت»، اقشعر جلدى، حين محي الخرطوم وقريتي من الذاكرة، وتخيل مكانها غابات كثيفة، وكان النيل يجري لوحده بينها، يا له من زمن، يمحو ويثبت، منذ بداء الزمان، كالارقام، لا نهاية له، ولا بداية..
***
توقظنا الشمس، بعد ان ايقظ الديك، أمي في عتمة الليل، إن كانت حقا قد نامت، وللحق، لم أرى أمي نائمة، كنت انام وهي صاحية، واصحو وهي صاحية، بل كثيرا ما كنت اصحو، في منتصف الليل، كي اتبول، فاسمع صوتها «أولع ليك الفانوس»، فأرفض، لأني اعرف طريقي بضوء الذاكرة، وخلال عتمة الليل، تبدأ وردية البول، فتصحو اختي، ثم رشا، ثم سارة، حتي صياح الديك، كنت اتمنى أن اسبق امي في اليقظة، أصحو قبلها، ولكن هل «يسبق الغزال قرنيه»؟
**
تخرج اختي رشا من الدولاب، وأخرج أنا من تحت العنقريب، والنسيم المحمل برائحة الجرير من النافذة، حين نسمع صوت أمى:
- الفطور جاهز..
|
|
|
|
|
|
|
العنوان |
الكاتب |
Date |
اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | Bushra Elfadil | 01-06-07, 02:33 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | Hussein Mallasi | 01-06-07, 02:40 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | motaz | 01-06-07, 02:48 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | Ali Alhalawi | 01-06-07, 03:19 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | عبدالغني كرم الله بشير | 01-10-07, 07:27 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | عبدالغني كرم الله بشير | 01-08-07, 07:50 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | Abu Eltayeb | 01-08-07, 08:24 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | Yaho_Zato | 01-08-07, 06:40 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | kabashi | 01-10-07, 03:43 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | ست البنات | 01-08-07, 08:35 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | محسن خالد | 01-09-07, 02:44 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | عبدالغني كرم الله بشير | 01-15-07, 06:40 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | عبدالغني كرم الله بشير | 01-11-07, 06:29 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | ست البنات | 01-09-07, 07:13 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | nourelhadi awad | 01-10-07, 10:13 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | عبدالغفار محمد سعيد | 01-10-07, 04:18 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | ست البنات | 01-11-07, 09:28 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | نجوان | 01-11-07, 10:24 AM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | عبدالغني كرم الله بشير | 01-11-07, 12:00 PM |
Re: اهدى لقراء المنبر في مطلع العام الجديد قصة لعبدالغني كرم الله | عبدالغني كرم الله بشير | 02-08-07, 09:54 AM |
|
|
|