شيوعيين أخر زمن (قصيدة)

Quote: هنري كورييل وبالمناسبة لم أكن أبدا ممن التفوا حول كورييل في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية. كنت دائما في صفوف من انتموا إلي مجموعات تخالفه الرأي وحتي تعاديه. ولكن أنظر لتاريخه اليوم علي أنه ليس شخصا يمكن طرحه جانبا بسهولة. كان لاشك شخصية. وهناك فريق من الناس في مصر تعبده، بداية بأحمد حمروش وانتهاء برفعت السعيد، ولست قطعا عدوا لأي منهما، بل هناك أناس غير شيوعيين يعظمون من شأن كورييل، أذكر علي سبيل المثال ثروت عكاشة. فإن هنري كورييل قد أبلغ مصر، علي حد قول البعض، بموعد وقوع العدوان الثلاثي في 29/10/1956 قبل وقوع العدوان بأيام. غير أن النبأ لم يؤخذ بجدية. ولم يستفد من هذا الإنذار المبكر. ومع ذلك، فإن كورييل سعي دائما إلي محاولة التوصل لحل سلمي للصراع العربي/ الإسرائيلي، ولم يكف عن ترتيب لقاءات وأمور كثيرة في هذا الصدد. واصل هذه المعركة حتي ضد رأي كثير من زملائه الذين انتموا إلي تياره. أنا شخصيا لم أكن أعرفه، وهذا ربما عيب سببه الصراعات الداخلية. لم ألتق به إلا مرة واحدة وفي مناسبة غير مألوفة أسردها باختصار علي النحو التالي¢ بعد أن تأسس 'التكتل الثوري'، وكان ذلك بعد اندلاع حرب فلسطين بشهرين تقريبا. قرر شهدي ان يكتب تقريرا مطوالا يبرر به تكتله،وكان ذلك في عز الأحكام العرفية،ووقتها كان معنا في التكتل شخص قريب من سفيرنا في إيطاليا وقتئذا اسمه علي ما أتذكر عادل حقي.كنا دخلنا 'التكتل الثوري'، ولأن السفير كان غائبا في ايطاليا ترك مفتاح شقته بالايموبيليا مع ابنه العضو معنا بالتكتل الثوري، وتقرر طبع ألف نسخة من هذا التقرير بهذه الشقة. إلا أن أعضاء التنظيم الأصلي 'حدتو' علموا. فقرروا الاستيلاء علي الشقة. وقتها كان هناك قسم اسمه قسم 'الأحذية' وهو الاسم الحركي لقسم يضم ضباطا بالجيش، وكان به عدد من ضباط الجيش، أذكر منهم ضابطا باسم عبدالمنعم بصيلة وغيره. فكنت بالشقة قبل وصول هؤلاء الضباط للاستيلاء علي التقرير. وقد أخذنا نحرقه. وبدأ الدخان يتصاعد من النوافذ. وتجمعت جماهير ف يفناء الايموبيليا وجاءت المطافيء. وفجأة فتح باب الشقة بعنف ودخل مع الضباط علي الشلقاني. (قريب عادل حقي) وقد كان أصلا في 'اسكرا' ثم انضم لكورييل. ودخل علي الشلقاني ومعه هنري كوريبل. كنا نحن بداخل الشقة من الزملاء المكلفين بحماية طبع التقرير. وبعد أن غالبونا واستولوا علي ما أمكن الاستيلاء عليه من التقرير وقد كانوا حوالي عشرة، قصدني كورييل وقال لي: أنا لا أعرفك شخصيا، ولكن أسمع عنك. ثم أصر بأن يأخذني بسيارته لنتحدث. وكنت أنا ضده، ووقفت أدافع عن التكتل الثوري. وظللت عضوا متحمسا به حتي تحولت مع كثيرين غيري إلي 'صوت المعارضة' وإلي م. ش. م، لم يكن لي أي استعداد للاستجابة لكورييل، وأشعرني بأنه من النوع الناعم الأقرب إلي القسيس الجيزويت منه إلي المناضل الشيوعي، ولم ألتق به أبدا مرة أخري. ولابد أن أشير إلي حرص بعض القيادات اليهودية علي تجنيد أبناء الطبقات العليا، وأنا أذكر ذلك لأنني لا أريد أن تنسب لي أمجاد لا أستحقها. وما أعنيه بذلك أن القول بأنني انتميت إلي الحركة الشيوعية حبا في الفقراء، أو ميلا للشعب، أو تعاطفا مع الجماهير، فكل ذلك غير صحيح. وعندما أنظر إلي الوراء، أجد أن المحرك الأساسي كان منظورا فلسفيا للتاريخ، تصورته مجسدا في الماركسية بفضل تتلمذي علي أستاذي الفرنسي رونيه جرائيبه. كانت القضية في التحليل الأخير قضية هوية، بالذات لدي القيادات اليهودية. وكانت كل الطرق تستخدم لضمان عدم تعرض هويتهم (وتحديدا: أمانهم في جو متقلب) لأخطار، بما فيها الاتصال رأسا بالدولة عن طريق تحبيذ تجنيد أولاد الارستقراط. وكانت الشيوعية في ذاك الوقت جذابة للغاية: انتصارات متلاحقة للشيوعية بعد معرك ستالينجراد، نصف العالم شيوعي، هزيمة الغرب أمام هتلر، ثم يستعيد الغرب وضعه بفضل الدور الحاسم للسوفييت. كانت الشيوعية لها وقت ذاك جاذبية لاتقهر، حتي في الطبقات العليا. وكنت أري في الوسط الذي نشأت فيه، وسط الباشوات، إعجابا بالروس بعد أن كانوا يكرهونهم ويزدرونهم. ويقولون: ها هي الدول التي بهدلت البلاد الصغيرة، أنظروا كيف بهدلتهم روسيا! كان هناك كلام كهذا. في البداية تقهقرت روسيا، ولكن بعد عامين عقب معركة ستالينجراد تتابعت الانتصارات. كانت ترمز للقوة. وهكذا استغلت القيادات اليهودية الدعوة للشيوعية ليأتوا بجمهور لاينظر إليهم علي أنهم يهود. وإنما يراهم مناضلين تقدمين بغض النظر عن الهوية اليهودية. وما المانع أيضا أن يأتوا بأولاد الطبقة العليا؟ ليس فقط من أجل ما يمثلونه من قدرات مالية، ولكن لما عندهم أيضا من علاقات ونفوذ ومكانة اجتماعية. وكثير من المنظمات الشيوعية كانت تنظر هكذا إلي أولاد الذوات.. ونحن نعرف اليوم كيف كان اليهود متغلغلين في المجتمع المصري، دعك من المصريين الأصلاء بينهم مثل قطاوي باشا هؤلاء يهود مصريون، ولكن طبعا كان هناك حنين ما لإسرائيل، وأنا أذكر أنه بعد تولي صدقي باشا الوزارة سنة 1946 عوملت معاملة خاصة في صفوف إسكرا، وكانوا سعداء جدا بأن لي أقارب علي قمة السلطة. لقد انفجرت حدتو بعد حرب فلسطين. كيف يمكن تفسير ذلك؟ ليس صدفة أن كل القيادات اليهودية أزيحت علي مراحل، بعد نشوب حرب فلسطين، بدأت عمليات إزاحة القيادات اليهودية، كل تنظيم بدوره، حدتو، ع. ف. إلخ. وكانت القرارات الجماعية للشيوعيين المصريين وليست قرارات كورييل، هي التي تسود. وعندما أممت قناة السويس كتتويج لحركة عبدالناصر الثورية ذات البعد القومي، وحد الشيوعيون أنفسهم مع عبدالناصر 'البرجوازي'، لدرجة أنه أصبح من غير المحتمل والمعقول والمقبول أن يكون الخلاف بين الشيوعيين أعمق من خلافهم مع عبدالناصر، وهذا هو الذي حسم الوحدة، والذي حسم الوحدة لا مجرد الرغبة في الوحدة، ذلك أنه كانت هناك مجموعات يهودية في حدتو تقاوم الوحدة. الذي وحد الشيوعيين أنه لم يكن بوسعهم ألا يتحدوا فيما بينهم وأن يتحدوا مع عبدالناصر، والأمر الذي عطل الموضوع هو أن الزملاء اليهود ناهضوا بعناد تلخيهم عن مراكزهم القيادية. ولكن في النهاية تخلوا. وهنا تحول التنظيم من تنظيم تابع لليهود إلي تنظيم تابع للناصرية. وعندما نصحهم خروشوف بحل الحزب (هذا علي الأقل السيناريو الذي أتصوره)، لم يعترض الشيوعيون، وأعطوا ولاءهم لعبدالناصر، انطلاقا من افتراض أن عبدالناصر وارد أن يسير في طريق التطور اللارأسمالي، وأن يصبح هو نفسه اشتراكيا لايناهض الشيوعية يوما ما، لذلك كان علي الشيوعيين عدم معاكسة حركته في اتجاه الشيوعية، وألا يشكلوا قطبا ينفره من الشيوعية، بل قطبا يجذبه. وليس مصادفة أنه بعد ستة أشهر من الخروج من السجن، وبعد كل ما تحمله الشيوعيون في السجن من عنت وتعذيب واضطهاد، قد تخلوا عن تنظيماتهم المستقلة. ومحافظة علي كرامة الشيوعيين، جاءت عمليات الحل خارج السجون وبعد الخروج، وليس داخلها. والكل حل، باستثناء الذين تبنوا الخط الصيني المدين لخط خروشوف أصلا. لقد كان يوجد في مصر ماويون، وكنا في السجن نتابع بعناية شديدة الخلاف الصيني السوفيتي، ولم نكن مدركين أبعاد هذا الخلاف قبل دخولنا السجن عام 1959 ولم يكن الخلاف قد بلغ ذروته قبل 1959، وبالتالي لم نكن مدركين أبعاد الموضوع. أما داخل السجن، فلم يكن هناك مفر من التسليم بخطورة الخلاف. وكنا نسمع الاذاعات. وأبرز مجموعة تبنت الخط الصيني قادها ابراهيم فتحي وشملت عادل رفعت وبهجت النادي وعلي الشوباشي وغيرهم. ثم كان هناك محمد عباس فهمي العضو المخضرم بحدتو الذي تبني هو الآخر الخط الصيني. سياسات الاتحاد السوفيتي كنا نؤمن بأن السوفييت هم المرجع. ولكن تعرض ايماني للاهتزاز، ربما قبل غيري في هذا الصدد لظروف أتيحت لي ولم تتح لكثيرين غيري في مصر علي نحو مماثل: أولا عندما مات ستالين، بكيت عليه أكثر مما بكيت علي أبي. هكذا كانت تتجسد الأشياء في أعيننا سنة .1953 كنت أعتقد أن مقتضيات الاستقامة تقتضي تغليب أشياء علي أشياء، الحزب علي العائلة، وعلي حبي لأهلي، حتي لوالدي ولوالدتي. وهذا ما جعلني أتكشف إذا كان ما أغلبه كذبا، أو تضليلا، أو تلاعبا بي، فإنه من حقي استعادة حريتي في نقده. الصدمة الثانية، التي أوجبت النقد، كانت المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، كان المؤتمر صدمة كبيرة. وتساءلت: ما الذي حدث؟ علما بأني في ذاك الوقت (فبراير 1956) كنت قد عدت إلي كلية الهندسة، كما دخلت كلية الحقوق في تواز مع دراسة الهندسة الإلكترونية ابتداء من عام 52/.1953 سافرت أوديت قبل أيام من هبة مارس الشهيرة. سافرت وتخلت عن جنسيتها المصرية. وكانت معها جنسية فرنسية أصلا. سافرت ولم تعد. وحاولت أن تشكل في باريس مجموعة تدافع عن مصر. وأنا ظللت فترة أسهم ما وسعي في دعم أنشطة أوديت في باريس من القاهرة ماديا. فكان والدي قد توفي وأصبح بمقدوري النهوض بهذه المهمة. إلي أن جاء يوم وقررنا نحن المتبقين من م. ش. م. القديمة. فاطمة زكي ونبيل الهلالي والمستكاوي وبولس حنا وسعد الطويل. وقال بولس ان استمرار الوضع علي ما هو عليه غير معقول. فنحن مقبلون علي مواجهات خطيرة (علي ما عرف فيما بعد بالعدوان الثلاثي: إسرائيل وفرنسا وانجلترا). فإن أوديت ومجموعتها تقيم في فرنسا وهي يهودية. فهل يستقيم أن تقود من هذا الموقع الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي؟ قرار صعب ولاشك أننا قد تأثرنا بوجهة نظر بولس، لأن كلامه كان مقنعا (ظل بولس معنا في مجموعة م. ش. م. حتي انضممنا إلي 'حزب الراية' فالمتحد، فحزب 9 يناير، ولم ينفصل عنا إلا بانتقاله إلي حدتو ونحن في المعتقل، وهو محام ناجح الآن وعمل طوال سنواته محاميا مع نبيل الهلالي في مكتبه). وقبيل انفصالنا عن أوديت ومجموعتها، أرسلت هي وسيدني سلامون نقدا ذاتيا، جاء فيه أننا عادينا الوفد معاداة لم تكن مبررة. وقاطعنا كل الشيوعيين الآخرين بصفتهم بوليس وتيتويين، وهذا أيضا لم يكن له ما يبرره. والحقيقة أن هذا النقد الذاتي الذي جاء بعد أوانه وعلي نحو أوحي بأن الغرض منه هو فقط استعادة الاتصال قبل فوات الأوان، لعب دورا أساسيا في مقاطعتنا لهم بعد ذلك بصفة نهائية. وقد اشترطت 'الراية' كي تضم مجموعة م. ش. م إليها، استبعاد مجموعة باريس كلية، وأن نقطع بهم كل صلة. وشعرت بأن هذا القرار، الذي نقله إلينا اسماعيل صبري، صعب للغاية. كان وأدا لمرحلة تاريخية، وتجارب قاسية وسجن. ولكننا قبلناه. إسماعيل صبري عبدالله شخص عبقري وعقل موسوعي وداهية، ولكن مشكلة اسماعيل أنه كان يريد أن يجمع بين تواجده في مركز قيادي بالدولة (المؤسسة الاقتصادية وقتذاك) وبين قيادة الحزب الشيوعي المصري. فكان يتجنب قدر ما يستطيع التواجد المادي مع الشيوعيين. تحاشيا للتعرض لظروف تكشف هذه الأزدواجية. فمثلا، كان اتصاله الوحيد بالحزب طوال مرحلة معينة قبل اعتقالات 1959 عن طريق التواجد بشقتي في الزمالك، حيث كان يتولي مسئوليته كمسئول أمام اللجنة المركزية والمكتب السياسي عن الفيوم والمنيا وبني سويف. كنت أنا مسئولا عن الفيوم وأحيانا عن بني سويف، وأمضي يوما أو يومين كل أسبوع بين زملائنا بهما. وكان هناك زميل آخر مسئولا عن المنيا. وكان إسماعيل يأتي ليجتمع معهم عندي بمنزلي بالقاهرة. وكان اسماعيل يعتقد أن للبوليس عينا داخل اللجنة المركزية. هل هذا صحيح أو غير صحيح؟ لا أعلم، ولكن كان هذا ايمان اسماعيل. حل الحزب، كيف تم؟ وأسباب أزمة الحركة حل التنظيم كان صفقة بين عبدالناصر وخروتشوف. هذا رأيي. وهناك قرائن قوية علي ذلك، حتي مع افتراض عدم وجود أدلة قاطعة: أولا بعد خروجنا من السجن في 1964، وجدنا أننا نحن الشيوعيين المصريين، لم نكن وحدنا الشيوعيين الذين حلوا الحزب، بل كان هناك أيضا علي المستوي العربي الحزب الشيوعي الزائري. ثم طبق هذا فعلا في كوبا كان كاسترو والثوار المنتمون إلي حركته وطنيين، وحل الحزب الشيوعي نفسه ونصب كاسترو نفسه زعيما له. ولم يكن كاسترو شيوعيا إلا أنه سمي نفسه شيوعيا. ثم كانت هناك ثانيا نظرية المنظر السوفيتي أوليانوفسكي الذي ظل 19 سنة في السجن أيام ستالين، ثم أصبح أحد كبار منظري القيادة السوفيتية أيام خروشوف، وسميت نظريته ب 'الطريق اللارأسمالي إلي الاشتراكية'. وكانت الفكرة المركزية هي أن القادة الوطنيين اليوم أصبحوا بصدد موازين قوي قد تغيرت وأصبحت متاحة لهم فرص تطور لم تكن موجودة من قبل. فإن الاشتراكية صاعدة والرأسمالية هابطة، وان كثيرا من القوي الوطنية وأرد أن تصبح روافد للبلدان الاشتراكية ولقضية الشيوعية. ولاينبغي للتنظيمات الشيوعية المحلية أن تعوق تطور القادة الوطنيين، وأن تكون مبررا أو سببا في إشعارهم بأن الشيوعيين ضدهم، ويدينون بالولاء لدولة أجنبية. بل لابد من تشجيعهم علي مواصلة الطريق نحو الاشتراكية. هذا الاتجاه علي الشيوعيين تشجعه بأن يتركوا لهم التنظيم. ففيه مكسب أكثر للأطراف المعنية جميعا، ودور أكثر فعالية للشيوعيين هم أنفسهم. ومن هنا كانت المشكلة مع خروتشوف هي أن يخرجوا من السجن بكرامتهم. وألا يطالبوا باستنكارات. وفجأة تغير الموقف فعلا. وبعد أن كانوا يسألون عند نهاية مدة السجن: 'هل أنت مازلت شيوعيا؟' واذا أجاب بنعم. أو حتي اذا أمتنع عن الرد، فكانوا يعاودون إلي السجن، فإن هذا كله تغيير فجأة في ابريل 1964، قبيل وصول خروتشوف لافتتاح السد العالي وخرج الكل، مسجونين ومعتقلين، دون ما التفات إلي مدة العقوبة. فكيف يمكن تفسير ذلك؟ لاشك أن هناك صفقة قد تمت علي نحو أو آخر. هل هي صفقة؟! ثم لا ينبغي النظر إلي فكرة الصفقة علي أنها معيبة. فلها تبرير نظري. ثم كان هناك وقتها انقسام بين حدتو والحزب. والاثنان بعد ثلاثة أشهر من الخروج أقدما علي حل الحزب. وحدث فعلا أن بعض الماركسيين قد احتضنتهم الدولة، ووضعتهم في مراكز حساسة. بيد أنها كانت مراكز إعلامية ولم تكن مراكز صنع القرار، وإنما مراكز كفيلة بأن تسمع بها السلطة. علي أن تقرر هي إن كانت هذه المراكز مقبولة أم مرفوضة. لم يؤخذ أي من الماركسيين في مركز تنفيذي. بل فقط في مراكز فيها ابداء الرأي. ثالثا كلفت في هذه الفترة من محمد الخفيف الذي كان علي صلة وثيقة بزكريا محيي الدين (كان وقتذاك رئيسا للوزراء)، بالاتصال بمكتب رئيس الوزراء لتقديم كشوفات عن الزملاء العمال الذين لم يكونوا قد عادوا إلي عملهم، ذلك أنه كان هناك قرار بإعادة الزملاء إلي أعمالهم. وكانت الطلبات تصب عندي وأتابع. وكنت 'أقابل سمير مصلح، مدير مكتب زكريا محيي الدين، بمعدل مرتين في الشهر أحيانا، كي نراجع إلي أي حد نفذت القائمة أم ظلت معلقة. وفي أول مرة سافرت فيها إلي الخارج، جاءت لي دعوة من تشيكوسلوفاكيا وبولندا. قبلت الدعوة. وفوجئت بتلقي رسالة من رئيس الوزراء تبلغني بأن زكريا محيي الدين يطلب مقابلتي. وسألني: هل أنت مسافر إلي تشيكوسلوفاكيا وبولندا؟ قلت نعم.. قال لي: لا أريد منك سوي شيء واحد، وهو أن تبلغهم عن وضعك، ولم أفهم دلالة هذا الطلب وقتذاك، ولكن أدركت فيما بعد. فيبدو وكأنما هناك وعد أو اتفاق ما، وها هو أحدهم (أنا) بوسعه أن يشهد، وأن يبلغكم بنفسه حقيقة أوضاعهم. وعندما ذهبت لبراغ، كان نوري عبدالرازق يتقلد هناك منصب الأمين العام لاتحاد الطلبة الديموقراطيين (وهو الآن سكرتير عام منظمة التضامن الأسيوي الافريقي). فجمعني نوري ذات يوم علي الغداء مع عزيز الحاج. أحد كبار مسئولي الحزب الشيوعي العراقي وقتذاك (تخلي عن الحزب فيما بعد، وكان منذ وقت قريب مندوب العراق في اليونسكو، ممثلا لصدام حسين!). وقال لي عزيز الحاج: كيف تحلون الحزب؟.. وأبدي معارضته بكل حزم، وبحدة. وحدث وقتذاك أن زرت المجر وبولندا، فضلا عن تشيكوسلوفاكيا، وبصرف النظر عن حل التنظيم. فلقد عاملتني البلدان الاشتراكية بشرق أوروبا معاملة متميزة. رابعا نفس الاهتمام بمصالحة الماركسيين المصريين مع عبدالناصر شهدته القاهرة في الندوة التي عقدت ب 'الطليعة' سنة 1965 بين مجموعتها من الماركسيين ومجلة السلم والاشتراكية في براغ. وهي مجلة الأحزاب الشيوعية العالمية. وكان معني ذلك أن موسكو تقول لعبدالناصر إننا نتبني مجلة 'الطليعة'، ونعتبرها مجلة 'صديقة'، ونوعا من همزة الوصل بيننا. كل هذا يؤكد أن عملية الحل قد تمت بمباركة السوفييت