شيوعيين أخر زمن (قصيدة)

Quote: م.ش.م ثم كنت ممن التحقوا ب 'صوت المعارضة' (عرفت ب 'م. ش. م'، أي 'المنظمة الشيوعية المصرية' فيما بعد). وكانت تتسم بالانضباط الصارم. قادها أوديت وسيدني سلمون. وقد أراداها تنظيما متطرفا يسارا. لايجند لها إلا العمال، كرد فعل للخط اليميني الفضفاض الذي نادي به كوريبل، والذي أصبح يتهم بالانتهازية. عقدت 'صوت المعارضة' بعد ستة شهور من انشائها مؤتمرها الأول والأخير في آخر يوم من عام 1948 نفس اليوم الذي وقع فيه اغتيال رئيس الوزراء، النقراشي باشا. وتحولت 'صوت المعارضة' إلي (م. ش. م). وكانت قيادة (م. ش. م) تتشكل من أوديت وسيدني وميشيل وفاطمة زكي، وأنا (بعد انتخابي لهذا الموقع بعد اعتقال ميشيل). وكانت فاطمة زكي هي التي تخرج إلي الشارع، بينما لم يكن سيدني وأوديت يخرجان أبدا. ظلا في شقة لايخرجان منها أبدا. ولايلتقي بهما أحد أبدا. كان اتصالهما بالتنظيم عبر المراسلات فقط، وعبر شخص فاطمة زكي. وكنا نعتقد، ونحن علي غير اتصال مباشر بالزعيمين سيدني وأوديت أن فاطمة هي الزعيمة الكبيرة، وأن أوامرها الصارمة كانت تصدر منها هي. ولكنها في حقيقة الأمر كانت المسئولة قبل غيرها عن تنفيذ خط أوديت بالذات، وكانت تتعرض كما أدركت فيما بعد عقب ضمي للقيادة لحملات ضارية من أوديت، بتهمة التقصير في تنفيذ كل ما تصورت أوديت أن تنفيذه ممكن، أو حتي مرغوب فيه! أنا لم أستمر طويلا أباشر نشاطي كطالب في الجامعة، لأنه بعد فترة وجيزة من عقد المؤتمر، وتحديدا في فبراير 1949، قبض علي شقيقي عمر، الأصغر مني سنا. كان سنه وقتذاك خمسة عشر عاما. وكان سني أنا ثمانية عشر عاما. قبض علي عمر وكان يهوي قيادة سيارة العائلة خلسة. وكنت قد جندته ضمن كثيرين من المحيطين بي. وكان قد طلب منه نقل مطبوعات تنظيمية من مطبعة الحزب السرية إلي موقع آخر. وضبط متلبسا. وانزعج والدي إلي أبعد حد، لأنه كان وقتئذ عضوا سعديا بالبرلمان. فجاءت المباحث لتفتيش البيت. وكان من حقه أن يعترض بصفته يملك حصانة برلمانية. ولكنه لم يفعل. وعلي أي الأحوال لم يعثروا علي شيء. علما بأن الفيلا التي كنا نقيم فيها من ثلاثة أدوار، وكانت مملوءة بالمطبوعات. بل كان الأمر قد بلغ حد أن زملاء كانوا يأتون أحيانا للإقامة لدينا ليلا دون علم أصحاب البيت! كان لوالدي، في فترة من الفترات، وبعد تركه للحكومة، مكتب صغير في حديقة الفيلا، وكان يري زملاء يدخلون ويخرجون من الباب الخلفي. وذات مرة ناداني، وقال لي: 'من هؤلاء؟' قلت له 'زملائي في الجامعة'. قال: 'دول بلغوا عدد لابد أن أتي بعسكري مرور لتنظيم دخولهم وخروجهم'!! والحقيقة أن تنظيم (م. ش. م) قد انتهج نهجا بالغ التشدد أفضي في النهاية إلي ما هو أشبه بالانتحار. أسلوبه العنيف ذكرني بسلوك قوات كوريا الشمالية في حربها مع كوريا الجنوبية. كانوا يقذفون الآلاف إلي الصفوف الأمامية في وجه وابل من القنابل. كانت م. ش. م. تنتهج نهجا مماثلا. تلقي بالبنات اليهوديات اللاتي أنضممن إلي التنظيم، وتلزمهن بترك أحياء وسط القاهرة التي نشأن فيها لتذهبن إلي أبواب المصانع في شبرا الخيمة، كي يجندن عمالا دون معرفة سابقة بهم!!. كان بعضهن لايتحدثن باللغة العربية. طبعا كانت استجابتهن للتعليمات الحزبية موضع شبهة. وتعرضن للقبض عليهن بالجملة. وبصفتي كنت مع القيادة داخل شقة لم أخرج منها أبدا، ظللت لفترة اقتربت من العامين منعزلا عن الحياة. ثم قبض علينا كقيادة ل 'م. ش. م'. ودخلنا السجن، وحكم علينا، ومكثنا بالسجن عامين، وكنا لانتكلم مع الآخرين قطعيا، وحتي في السجن، بدعوي أن كلهم بوليس. وقد وصلت الأمور إلي درجة أن أحد زملائنا، كريم الخرادلي، وقد حكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، وكان طالبا عبقريا في كلية الهندسة. (وجد ذات مرة الحل الصحيح لمسألة ظلت تدرس بطريقة خاطئة طوال عشرين عاما!). أرسل إلي سجن الواحات، ولم يكن يتحدث إلي أحد، لأنه كان السجين الوحيد المنتمي إلي (م. ش. م)، فسأله مأمور السجن ذات مرة: 'لماذا لاتتحدث إلي أحد؟' قال: 'لأنهم جميعا مباحث'. قال له المأمور: 'هل تعتقد أنك من الأهمية بحيث أن الدولة تبني لك سجنا وتملأه مباحث، من أجلك أنت دون سواك؟!'. فترات السجن والاعتقال حكم علي بالسجن مرتين: من 1950 1952، ومن 1959 .1964 المرة الأولي بعد عودتي من الخارج، ومكوثي سنتين في حجرة كما سبق وذكرت ظللت سنتين أخريين بالسجن وقد تقرر استثمار وجودي معهم للتخفيف من حدة العقوبة إلي أقصي درجة. فتقرر أن أتصدي أنا للعملية وأن أسيء إلي نفسي من الوجهة القانونية إلي أقصي حد ممكن، حتي تكون الجهود المنتظر من أهلي بذلها لإخراجي من الورطة كفيلة بتخفيف أحكام المجموعة كلها. وهذا ما حدث. فلقد صدرت أحكام بسجن الرجال لمدة سنتين، والنساء لسنة. ثم خرجنا ستة شهور مبكرا. بثلاثة أرباع المدة. غير أن والدي خاف أن أخرج، وأن أعود إلي النشاط الشيوعي، وأن يحكم علي في هذه المرة بحكم أكثر قسوة بكثير من الحكم الأول. فاتصل بوزير الداخلية 'مرتضي المراغي' الذي كان وكيلا لمحافظ بورسعيد وقت أن كان والدي محافظا، ليطلب منه اعتقالي بمجرد انتهاء مدة السجن، كي يكفل تأميني داخل السجن في ظرف اتسم فيه الوضع في الشارع بهشاشة بالغة، عقب حريق القاهرة وقبل استيلاء الضباط الأحرار علي الحكم. وقد أبلغ وزير الداخلية رئيس الوزراء نجيب الهلالي بطلب والدي. وقد أتيح لنبيل الهلالي (نجل نجيب الهلالي) أن يعلم، فأخبرنا بما حدث (لم يكن نجيب باشا يعرف وقتذاك شيئا عن نشاط ابنه السري للغاية). فتقرر أن أقاطع عائلتي مقاطعة تامة اذا ما زاروني في معتقل هايكستيب للضغط عليهم، وعندما جاءت العائلة لزيارتي، لم أقابلهم، طبعا، دون اعتراف صريح، بسبب هذه المقاطعة (حرصا علي أمان المصدر)، وبأمل أن يدركوا سبب غضبي. وقد خرجت أوديت قبلنا، وأنشأت تنظيما كان عبارة عن فخ من البوليس، أعضاؤه مخبرون. ثم هي أدركت، فصفت التنظيم فورا. غير أنها وصفت حركة الضباط بأنها حركة فاشية، وأن هذا يقتضي تجميد نشاط التنظيم. وكنت أنا بعد خروجي أريد أن أذهب لكليتي لأستعيد السنوات التي ضاعت. كنت أريد أن أذاكر وأن أنجح. وأوديت كانت هي الأخري تريد أن أذهب للكلية، ليس من أجل المذاكرة، وإنما من أجل أن أتعرف علي ناس تمهيدا لبناء تنظيم جديد. كانت تريد أن أذهب إلي الجامعة لأجند. لا عمالا 100 % كما كانت تقول من قبل، ولا أن تتم عملية التجنيد بواسطة عمل سياسي، ولكن بمجرد الاتصال واقامة علاقات شخصية، تحاشيا للفاشية السائدة. وكان ينبغي أن يكون هذا هدفي بغض النظر عن النجاح. فإن المذاكرة في نظرها كان ينبغي أن تكون مجرد مبرر للذهاب إلي الجامعة. اليهود والحركة الشيوعية أحب أن أشير هنا إلي نظرية أؤمن بها. تبلورت هذه النظرية في ذهني عبر محطات كثيرة، والفكرة الجوهرية فيها أن هناك مرحلتين أساسيتين في التاريخ المعاصر للشيوعيين المصريين: مرحلة 'يهودية'، فمرحلة 'قومية'، ولم تكن هناك أبدا مرحلة 'بروليتارية'. هذا ليس معناه أنه لم يكن هناك عمال في الحركة، ولكن السلطة لم تكن للعمال أبدا. لم تحكم الطبقة العاملة الحركة الشيوعية المصرية أبدا. وأنا أزعم أن المرحلة الأولي قد يري البعض فيها (لست منهم) أبعادا صهيونية، خاصة لو تناولنا الموضوع من زاوية رؤية 'الاستعمار الثقافي'. لقد غابت الحركة الشيوعية عن الساحة المصرية كلية ما بين 1924 ­ 1940 والسبب في ذلك أن الانجليز كانوا مصممين علي ابعاد السوفيت تماما عن المجتمع المصري، بالرغم من أنه قد وجدت بعض التنظيمات الشيوعية في مصر لدي بعض الجاليات الأجنبية طوال هذه المرحلة. كانت الجالية اليونانية أهم جالية أنشئت بداخلها تنظيمات شيوعية، تلتها الجالية الإيطالية، وكان لدي هذه التنظيمات تعليمات بألا شأن لها بالشعب المصري. لماذا؟ لأن مصر كانت ملاذا للحزبين الشيوعيين اليوناني والإيطالي في ظل حكم ميتاكساس وموسوليني الفاشيين. كان شيوعيو البلدان الفاشية يحتمون بجاليتهم في مصر دون علم السلطات المصرية. ولذلك لم يكن ينبغي تعريض هذا النشاط لأي نوع من الاضطراب. وأنا لست من أنصار التقسيم التآمري للتاريخ. ولا أرجع ما جري في مصر إلي مخطط يهودي. ولكني أقول ان هناك أمورا تكشف عن سياق منطقي معين يتعذر ادعاء أن الصدفة وحدها جمعت مكوناته. في سنة 1936، غزا موسوليني الحبشة. فخشي الانجليز أن يستفيد موسوليني من المشاعر المعادية لإنجلترا في الحركة الوطنية، فقرروا مهادنة الوفد باعتباره حزبا وطنيا كبيرا، تخفيفا لوطأة التهديد الفاشي الذي أصبحت له قاعدة عند منابع النيل، فوقعوا المعاهدة بغية مهادنة الوفد. ولأن الحركة الوطنية لم يكن لها بعد أممي ينظر إلي عدو عدوي (الفاشية) علي أنه قد يكون عدوا أسوأ. فإن التيار الأكثر راديكالية في الحركة الوطنية قد راح يؤيد ألمانيا وايطاليا. وفي 40/.1941 أخذ كورييل وغيره يتحركون. ولايبدو صدفة أن أنشئت ثلاث أو أربع منظمات في نفس الوقت، أهمها طبعا (ح.م). (وإسكرا)، و(الفجر الجديد) بقيادات كلها يهودية. لقد كان تنظيم 'إسكرا' تحت قيادة ثلاثمائة زميل يهودي يتزعمها هليل شوارتس، والمراكز القيادية كلها لهؤلاء اليهود باستثناء اثنين وصلا للقيادة هما شهدي عطية الشافعي وعبدالمعبود الجبيلي. وكان لشوارتز نظرية سماها 'نظرية المراحل'، حيث كان يعتبر المثقف الأجنبي هو الأكثر قدرة علي استيعاب الماركسية، لأن الماركسية تتاح للفكر الأوروبي. وبالتالي، فإن المجتمعات المتخلفة ليست لديها القدرة علي استيعاب هذه الفكرة مباشرة. ومن ثم فإن المرحلة الأولي ينبغي أن يقودها زملاء قادرون علي استيعاب هذه الثقافة.. إنهم الزملاء الأجانب. ثم يصبح للمثقفين المصريين دور تال (مرحلة التمصير)، ثم يأتي تجنيد العمال كمرحلة ثالثة (مرحلة التعميل). طريق روميل إلا أن ما تم في الحركة الشيوعية هو التوقف عند المرحلة الثانية. ومن هنا سيطر المثقفون ذوو الاتجاه القومي. فكثيرون ممن جندوا من القواعد كانوا رموزا لأناس تعرضوا لعمليات إفساد وتحير في الهوية بصور شتي، ولو لمجرد أنهم قد نزعوا من بيئتهم العمالية، بدلا من زرع الحركة كلها في بيئة عمالية صحيحة وأصيلة. وهذا ما حدث بالنسبة لجميع المنظمات بدرجات متفاوتة. أنا لا أريد أن أظلم أحدا. ولا أهون من شأن تضحيات أحد، لأن هؤلاء جميعا قد ضحوا، وأغلبهم قد تفاني في التضحيات. إلا أنه في نهاية الأمر، قد كثرت ظاهرة البروز كزعماء قبل أن يكونوا شيوعيين ويختبروا كشيوعيين! وكانت لهم قيم قبل أن يكونوا شيوعيين، وفقدوا الكثير من هذه القيم بعد أن أصبحوا شيوعيين. ذلك أنهم قد استدرجوا للعبة أخري. واتبعوا آلية أخري. كان روميل سوف يقتحم مصر لو كان قد انتصر في معركة العلمين عام .1942 وأصبح الطريق مفتوحا أمامه إلي القدس وفلسطين. إذن كان خط الدفاع الأخير في صده هو معركة العلمين. وهنا جاز لنا أن نتساءل: ما هي الأيديولوجية التي تجمع ما بين اليهود وغير اليهود في مواجهة روميل؟ الأيديولوجية الوحيدة اللاعنصرية ضده هي الماركسية. وانجلترا التي منعت دخول الشيوعية في مصر أصبحت محرجة. ذلك أن معركة العلمين قد لازمتها معركة ستالينجراد في روسيا، ولم يكن واردا أن تركز انجلترا وقتذاك علي معاداة الشيوعية. واستنادا إلي هذه الحقائق، امتنعت عن التدخل، ووجد اليهود في هذه الايديولوجية الماركسية ملاذا واحتماء في إطار أوسع من اليهودية، إطار كفيل بجذب الحركة الوطنية المصرية أيضا. فضلا عما تسرب إليهم من أنباء عن اضطهاد اليهود وتعرضهم للإبادة بالجملة في معسكرات النازي، ومن ثم كان الشيوعيون هم الحلفاء الطبيعيون لليهود في مثل هذه الملابسات. وبدأ عدد من الشخصيات اليهودية ينشئون منظمات. بيد أن القضية بدت قضية هوية تتعلق بأشخاصهم. وبهذا المعني، فإن الشعب المصري استخدم ووظف، لغرض يتعلق بهوية اليهود. لا أقول أن ثمة مخططا جمع هؤلاء اليهود، وإلا لفسدت العملية. وأنا أقطع فعلا بأن 99 % منهم كانوا أناسا مخلصين ومؤمنين بما كانوا يفعلونه. أما عن موقفهم الرسمي من الصهيونية. فهذا تكتنفه التباسات، أذكر منها إن إسكرا أنشأت تنظيما ضد الصهيونية اسمته 'المنظمة اليهودية المصرية المعادية للصهيونية'، وكان قائدها رجلا محترما جدا، كان أستاذا للرياضيات. اسمه شيء ما (لا أذكر) 'هراري'. إلا أن كورييل قرر حل هذا التنظيم عندما تمت الوحدة بين (ح. م) و (اسكرا)، وشكلتا معا (حدتو) في منتصف 1947، من منطلق أن هذا التنظيم ذو طابع انعزالي حيال الجماهير اليهودية في مصر، وأن قطاعا هاما من الجماهير اليهودية له ميول صهيونية، ومن ثم علينا أن تقنعهم بأن يكونوا ماركسيين بدلا من معاداتهم بإنشاء تنظيم عنوان ذاته إدانة لهم. صحيح أن هذا القرار بحل هذا التنظيم كان قبل نشوب حرب فلسطين الأولي عام 1948، ولكنه مؤشر عن موقف من الصهيونية يتعارض تعارضا صريحا مع شيوعية اتسمت بصبغة قومية.