الأخوات والإخوة الحاضرون هنا سلام
أظنكم تعلمون أن أي كاتب مسئول، ولكن، في الواقع، بقدر أهمية الكاتب، تكون مسئوليته، وأظن أن ذلك هو ما قاد، وما قد يقودنا إلى تحميل مقولات الأخ أسامة الخواض ـ ما يبدو أنه ـ أكثر مما تحتمل. ومهما يكن من أمر، فالجيد هو أننا صرنا على مقدرة من أن نلتقي وأن نتحاور، بقدر ما يسمح به وقت كل منا، وأرجو أن تتسع الصدور، وتطول الأنفاس؛
الإبداع والإتباع؛الحقيقة أنا أرى، أن الأخ منعم، لديه الحق في (بعض) أحكامه على (بعض) مقولات الأخ أسامة الخواض، لأنها فعلا تحتمل أن يتم تأويلها كما ذهب منعم. وخاصة في مسألة الإنتقال من منهج إلى الآخر. وطالما أن الأخ أسامة الخواض لم يقدم تبريراته لذلك، وتركها عائمة في السياق العام للمقال؛ أو لحسن نوايانا، فهو يتحمل المسئولية.
ولكني أرى أن هناك نقطة فيها نوع من التحامل على الأخ أسامة الخواض، وهي المتعلقة بمحاورة المناهج والإضافة إليها، والحقيقة أنا لا أرى أن من ذكرهم الأخ منعم كأمثلة للتحاور مع تيارات الحداثة؛ كذلك، ومع احترامي لمحمود أمين العالم ويمنى العيد وغيرهم، إلا أنني أرى أن ما قدموه لا يخرج عن السقوف المصنوعة أصلا في المنابع، والسبب في رأيي هو الوضعية الحضارية، وضعية اللاحق والملحوق، التابع/المتبوع، وفي رواية أخرى المراكز/الهوامش، التي لا تتيح للتابع/اللاحق/الهامش ـ خارج إطار المعجزات ـ إلا هامشا لـ"اللحاق"، إذا وضعنا في الإعتبار واقع وسائل الحركة وسرعتها عند الملحوق مقارنة بما يتوفر لـ"اللاحق"؛ وأظنكم تعرفون أن نفس هذه الأحكام والاتهامات، ظل يتعرض لها أشخاص تتوفر لديهم إمكانيات لا تقارن مع إمكانيات (الحداثيين) السودانيين؛ وعلى سبيل المثال محمد عابد الجابري، الأكاديمي المرموق، الذي ظل يواجه الاتهام بابتساره للمناهج الحديثة، والبنيوية بالتحديد؛ وكذلك محمد أركون باللاإضافة وهو يعترف بذلك ولديه مبرراته. أنا أرى، هكذا، أن القضية، المتعلقة باستلاف المناهج واتباعها وتطويرها، مرهونة لحد كبير، بالشروط التاريخية التي تحف بنا. ولا أعتقد أن الأخ أسامة الخواض أو غيره، من (الحداثيين) السودانيين، بمقدورهم تجاوز هذه الشروط بالبساطة التي يوحي بها النقد الموجه إليهم. إذن ما العمل؟ ولماذا لم نقم نحن الذين نقدم نقدنا لهم بالتحاور مع هذه التيارات، وإضافة ما يمكن إضافته إليها؟
هذه الأسئلة تكشف أنهم، ورغم كل شيء، يقفون أمامنا! وبالمنطق الإيجابي، أننا ندفعهم إلى الأمام، أو في أحسن الأحوال، نقوم بما نقوم لكي لا نعبر فوق تجربتهم، دونما استفادة، ولذلك أرجو أن يقدم لنا الأخ أسامة الخواض والآخرين المزيد من الشهادات والمرافعات حول تجربتهم، وخاصة فيما يختص بـ"عضم" القضية؛ ألا وهو كيف يتبنون المناهج وكيف يطبقونها وكيف يبدلونها؟ لأن في كل عتبة من هذه العتبات ضرورة ما تستدعي الإنتقال إلى ما بعدها، وأظن أنه هنا يكمن جوهر المسألة، حتى وإن اكتفينا بتبني هذه المناهج/التيارات ولم نساهم في تطويرها. وأنا إذ أقول قولي هذا، أرمي لأن يكون طموحنا مؤسسا فحسب؛
وتظل المشكلة قائمة؛يقول الأخ منعم
Quote: فالمعروف أن البنيوية تقوم أصلا على إحلال الأبنية اللاواعية مثل " النسق والنظام اللغوي والأسطوري واللاشعوري محل الوعي الفردي والجماعي في صناعة وتغيير التاريخ . لذلك فهي تعمل جاهدة لتنقية النشاط الأدبي والإبداعي عموما من تلوث المعنى الاجتماعي والسياسي . أما بعد البنيوية فتقوم على تدمير مبدأ الإحالة المرجعي ، سواء كان هذا المرجع التقاليد والأعراف اللغوية والاجتماعية أو المعارف الإنسانية المشتركة ، وبالتالي يصبح في هذا السياق الحديث عن أي دور للكاتب في المجتمع حديث بلا قيمة |
هل هذا الوصف للبنيوية وما بعدها صحيح يا أخ منعم؟ وبالتالي، هل الأحكام التي قررتها صحيحة؟
أشك في ذلك يا أخ منعم، فأنت تقول (المعروف) وتذهب إلى ما تعتبره (أصل) البنيوية، حسنا، فقولك، يدل أن هناك أشياء أخرى في البنيوية، ليست أصلا أو لا تعتبرها أنت كذلك. وهذا في حد ذاته يتيح فرصا للدخول في تفاصيل أخرى، فأنا (أعرف) أن البنيوية منهج أو طريقة للبحث، تتعامل مع وضعيات معينة على أساس أنها (بنيات) ولا تعتبر هكذا أو تسمى بهذا الإسم إلا لأن عناصرها تنتظم في أنساق، بنتها، وما تزال تواصل إعادة بناءها. وأن لكل بنية وظيفة، وتتميز بالكلية
Totality
والتحول الدينامي
Dynamic Transformation
والضبط الذاتي
Self-Regulation
ولذلك يعتبر الأمر الأكثر أهمية هو التعامل مع هذه البنية من داخلها، وفي داخلها هذا، يتم الإعتداد أكثر باللاشعوري ـ أن جازت التسمية، لأنه الأهم معرفيا، والأهم هذه ترجع ـ حسب ما أفهمه عن البنيوية ـ إلى دوره في عمليات التحول الدينامي والضبط الذاتي من جانب، وإلى أنه ليس ملقى على الطريق لأخذه، وإنما يحتاج إلى بذل الجهد لمعرفته. ولهذا السبب، ترى البنيوية "لا جدوى" (النضالية) المفروضة على العلوم والإبداع الأدبي، وليس "المعنى الإجتماعي والسياسي" مطلقا هكذا. أما ما بعد البنيوية، ومنهجها "التفكيكي"
Deconstruction
وأرجو أن تقبلوا تحفظي على المصطلح العربي "تفكيك" لأنه مع الأسف لا يوفي المعنى المقصود بكلمة ديكونستركشن، والتي هي، حسب فهمي لها، من استعمال دريدا وفوكو، إنها لا علاقة لها بما توحي به فكرة التفكيك، أو الهدم المباشرة، وإنما هي أقرب إلى فكرة التمثيل الغذائي في الجسد، فهو يعني تزامن عمليات الهدم والبناء في نفس الوقت، بحيث لا يكون هناك أي معنى من أرجاع وظيفة أي جزئية إلى ما كانت تحتله سابقا، قل مثلا؛ الحامض الأميني في سلسلة البروتين البقري في الشواء، عندما يتم تحويله إلى جزئية في البروتين البشري، ليعمل ضمن عضو في جسم الإنسان. فمن الواضح أننا لا نجني شيئا من إرجاع الجزيء إلى أصله البقري، في هذه الحالة. ومع أن مثالي هذا مبتسر، إلا أنه الأقرب لتوضيح فكرتي حسب إمكانياتي؛
وبالفعل هناك تعارض في هذه النقطة بين البنيوية وما بعدها (التفكيكية). ولكن يا أخ منعم إذا سألنا السؤال؛ ما الذي يتم تحليله "بنيويا" أو تفكيكه "ما بعد بنيويا"، ومن يقوم بالتحليل أوالتفكيك، ولماذا؟ الأجابة على هذه الاسئلة هي التي تجعل من الحديث عن دور الكاتب في المجتمع حديث ذو قيمة. بل أنني أفهم أن واحدة من (غايات) هذه المناهج النقدية، أن تعمق دور الكاتب في المجتمع، وليس نفيه، كما ذهبت أنت، ولذلك لا أرى تناقضا في موقف ومقولات الأخ أسامة الخواض في هذه النقطة من وجهة نظر بنيوية. ولكني لا أنفي عبثية بعض التطبيقات. وكل ما أوده هنا، ألا نحكم بناء على جانب واحد من المسألة، وهي مسألة متعددة الأوجه كما ترى.
هناك نقاط أخرى متعلقة بـ؛
العلاقة بين الماركسية والبنيوية
ومفهوم القطيعة التاريخية أو المعرفية
واللغة والتجريب
سأحاول أن أعود أليها
تصبحون على وطن
وللجميع مودتي