يوم من أيام فاطنة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-27-2024, 07:00 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة هشام ادم(هشام آدم)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-03-2006, 01:58 PM

هشام آدم
<aهشام آدم
تاريخ التسجيل: 11-06-2005
مجموع المشاركات: 12249

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: يوم من أيام فاطنة (Re: هشام آدم)


    ( الحلقة الأخيرة )


    لم يكن هناك ما يُمكن القيام به. إن الوقت متأخر من الليل، وهذا المطر الغاضب في الخارج لا يرحم الاثنتا عشرة عيناً المشدوهة والمترقبة شيئاً ما. والبرق الخاطف الذي كان يُتيح - في كثير من الأحيان - لعوض الزين أن يرى في لمحة خاطفة بعضاً من تأثير جداول المياه المتدفقة على حائط البرندة الخارجي. الصمت هو الكلام الوحيد الذي كان مصلوباً على أفواه الجميع، وبعض النظرات الخائفة التي لا تعرف طريقها في هذا الضوء الخافت المُوحي بمزيدٍ من الخوف.

    وفجأة صُعق الجميع عندما سمعوا صوت جلبة عالية من مصدر قريب جداً. في البدء لم يعرفوا بالتحديد مصدر الصوت، ولكنه بدا قريباً جداً لدرجة دعت عوض الزين وأبناءه الأربع للنهوض والإسراع لتفحّص مؤخرة المنزل، بينما وقفت الحاجة فاطنة في مكانها وهي تنظر إلى حيث جهة الصوت. كان الظلام حالكاً لدرجة لا تُمكنها من رؤية شيء، ولكنها لم تجرؤ على أن تتحرك شبراً واحداً من مكانها. فتح عوض الزين باب البرندة وخرج حافياً فوجد نفسه في بركة من الوحل والماء يتدفق سريعاً داخل البيت، فأغلق باب البرندة وراءه ومنع أبناءه من ملاحقته طالباً إياهم البقاء في أماكنهم. تقدّم تجاه مصدر الصوت رويداً حتى ارتطمت قدماه النحيلتان بكومة طينية كبيرة فاستعان بيديه لمعرفته. وعندما عرِف، كان غير قادرٍ على أن يُصدّق ما اكتشفه. وفجأة سمع صرخة نسائية قادمة من مكانٍ ما غير بعيد:

    * ووووووووووووب عليييييييي!!

    عندها فقط، أسرع عوض الزين ودخل البرندة، تقترب منه فاطنة بتلك العرجة المتثاقلة يكاد قلبها يفرّ من بين أضلاعها ومن بين خرزات السبحة التي تُعلّقها على صدرها.

    - في شنو يا الزين؟ الكواريك دي شنو؟
    * حيطة البيت وقعت يا فاطنة.
    - ووووووووووووب عليييينا. ووووب عليينا.
    * يا وليه ده ما وكتو. لمّوا البتقدروا عليهو من عفش البيت. لازم نطلع من البيت حسّي.

    لم تستطع فاطنة الحركة للوهلة الأولى، بينما أسرع عوض الزين وأبناءه - كلٌ منهم في اتجاه - لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه. دخل عوض الزين غرفة نومه وبدأ في تحسّس المكان بيديه وهو يرتطم بكل ما أمامه عرقه يتصبب من تحت طاقيته، لم يكن يعرف تحديداً سبباً لهذا العرق في هذا الجو القرص، ربما لم يكن عرقاً ربما كان ماءً نازلاً على وجهه من إحدى مُرُوق السقف. ولكنه لم يكن يأبه كثيراً لنفسه، كان يُريد أن يُنقذ أسرته بأقصى سرعة، كان يعلم أن عامل الوقت في غاية الأهمية، وأنه بقدر ما أسرع بقدر ما كان أفضل له. رفع يديه وأنزل حقيبة الحديد، وفي هذه الأثناء دخلت الحاجة فاطنة تتهادى، وهي تغمغم بكلمةٍ واحدة فقط:

    - يا لطيف .. يا لطيف .. يا لطيف .. يا لطيف.

    بدأ عوض الزين والحاجة فاطنة بحمل ما تمكّنا من إيجاده في الظلام من ملابس وذهب وأوراق مهمة: شهادات ميلاد، جوازات سفر، أوراق جنسية، شهادات تطعيم، شهادة البحث الخاصة بالبيت. وفي الغرفة المُجاورة، راح الأخوة الأربع يلهثون في حمل ما يستطيعون حمله من كتب مدرسية وملابس وأحذية بينما حمل مُزمّل الأدوات الكهربائية الخاصة به ووضعوها في حقائب. وفي الخارج بدأت أصوات الصراخ تتعالى مُختلطة بصوت الرعد خالقةً جواً إضافياً من الرُعب والهلع. وفجأة سمع الجميع صوت طرق شديد على باب المنزل، وصوت عزيزة تصيح بعلو صوتها:

    - يا فاطنة .. أمرقوا البحر غرّق البيوت.

    ركض وجدي إلى الباب حافياً وحتى دون أن يحتمي بشيء، لقد كان الأمر أصعب بكثير من أن يتبلل شعره السَبيبي، أو تتبل ملابسه. فتح الباب فإذا بشبح عزيزة في الظلام وهي تضع على رأسها حَلّة كبيرة وتقول وهي تلهث:

    * وين أُمّك يا وجدي؟
    - أمي جوّه ...
    * كلّمها أمرقوا سريع البحر غرّق بيوت الحّلّة الورا كُلّها.

    ترك وجدي الباب مفتوحاً وركض مُعفّراً قدميه في الوحل الذي ملأ الحوش تماماً. وقف عند مدخل البرندة وهو يلهث :

    - قالوا البحر غرّق بيوت الحِلّة الورا.
    وقف الجميع وهم يستمعون إلى وجدي بكل خوف، قلوبهم على حناجرهم وأعينهم لا تعرف طريقها للرمش. وقتها رفع عوض الزين حقيبة الحديد على كتفه ممسكاً بها بيديه الاثنتين وهو يقول:

    * خلاص أرح يا جماعة. شلتو حاجاتكم؟
    فرد الجميع : ( أيوه ) تحرّك الجميع خارجين من البرندة وهم يحملون على رؤوسهم وأكتافهم الحقائب والكراتين والأكياس التي امتلأت بما استطاعوا حمله من أغراض. كان الصادق هو آخر الخارجين، فالتفت إليه عوض الزين وهو يقول:

    - آ الصادق، جيب الرادي معاك. ما تنساهو.

    عندها تذكر وجدي أن قِطّته ما زالت بالداخل، فعاد وبدأ يبحث عنها:

    * بِس بِس .. سَوتو سَتو

    أخرجت القطة رأسها، فحملها بيده ووضعها داخل قميصه. خرج الجميع من المنزل. كان الشارع سيلاً من المياه المتدفقة حتى كادت الحاجة فاطنة تسقط على الأرض، لولا أن تداركها إبراهيم فسندها. كان سُكان الحي كلهم قد تركوا بيوتهم وغادروها وهم يُرددون جُملة واحدة ( لا حول ولا قوة إلاّ بالله ). انطلق الجميع إلى الشارع الرئيسي وعبروا الشارع إلى الجهة الأخرى. وقفوا هناك وكلهم يلهجون إلى الله بالضَراعة أن يتوقف المطر. ولكن المطر لم يتوقف كان يهطل بغزارة وكأنه لن يهطل بعد اليوم أبداً. واختلطت أصوات الرجال والنساء وبكاء الأطفال بأصوات الرعد وتساقط المطر على بركة المياه التي خلّفها المطر. وظلّوا واقفين في انتظار أن ينجدهم أحد، ولكن دون جدوى. وفي الصباح توقف المطر ولكن لم تُشرق الشمس أبداً وظلّت السماء مُلبّدة بالغيوم، كأنها تقبض بين طياتها ابتسامات الأطفال وأمنيات الأمهات ودعوات الرجال التي لم تفتأ تشقُ عباب البحر الذي أكل البيوت ولَفَظَ عِظِامها خشباً وأعوادَ خيزران.

    وقفت الجموع وهي ترى الحي وقد أصبح جزءً من البحر وبعض الأعمدة والأشجار التي ظلّت واقفةً كشواهِد القبور. وبدت على سطح المياه قطع متناثرة: خشب الدواليب، ملابس الأطفال، سفنجات، عِلب فارغة، وفقاعات وزبد بحري، وكأن البحر يسخر منهم جميعاً فيمدّ لسانه لهم. بعض الأطفال راح يلعب بأطراف ثوب البحر، ويركلونه بأقدامهم الصغيرة، بينما وقف الرجال يتشاورون أحياناً ويتشاجرون أحياناً. كانت الحاجة فاطنة في كل هذا تجلس على الأرض واضعةً ثوبها ويديها فوق رأسها، إنها المرة الأولى التي تبكي فيها الحاجة فاطنة بصدق منذ توفي والدها قبل أربعة أعوام. وسالت دموعها مُنسابة على إحدى تجاويف شُلوخها. إنه الكبرياء عندما ينكسر دخل المرء، فينكسر معه طعم كل شيء. وفجأة تنهض الحاجة فاطنة كمن تذكّر شيئاً ما، نهضت كغير عادتها، فلما تعتمد على يديها ولم ترفع مؤخرتها - كما تفعل في كل مرة -، بل اتكأت على مصطبة كانت تجلس إلى جوارها ونهضت، ولم تلتفت إلى أحد. سارت حافية - كما خرجت من بيتها ليلاً - مُتجهةً ناحية البحر، لم ينتبه إليها أحد، كان كل واحدٍ ينعى نفسه ما أصابه وما أصاب بيته، ولكنها كانت تعرف أن بيتها لا يزال هناك. إنها تعرف مكانه دون أن تكون هناك شوارع ولا علامات؛ فقلبها الذي ما زال يطفو هناك في نقطةٍ ما على البحر حيث تذكرت صورتها وصورة عوض الزين. يا إلهي، كيف لم تتذكر أن تأخذه معها؟ كيف هان عليها أن تترك ذكرياتها المُصوّرة تغرق أمام عينيها بل كيف تغرق القرية نفسها وهي التي علّمت آلاف الرجال والنساء والأطفال السباحة! انطلقت الحاجة فاطنة بعرجتها تطأ في كل خطوة - بكل قوتها - على الماء وتقدّمت ولم تلتفت إلى الوراء، رفع عوض الزين رأسه عندما صرخ الناس:

    * يا حاجة فاطنة .. يا حاجة فاطنة. يا عوض الزين قوم ألحق مرتك.

    انطلق عوض الزين نحوها يناديها بأعلى صوته، ولكنها لم ترُدّ عليه. وصل الماء منتصف جسمها وهي ما تزال في إصرارها على المُضي قُدماً. حتّى أمسك بها عوض الزين من الخلف:

    - آآآ وليه جنّيتي؟؟ ماشة وين؟
    * خليني يا الزين .. خليني.
    - آآآ وليه مالك؟ ماشة وين إنتي؟ الناس قاعدة تعاين لينا.
    * قُلتْ لك خليني يا الزين. أنا بعرف أعوم.
    - آآآ مَرَة إنتِ ماك نصيحة؟ ماشة وين بس وريني.
    * الصورة يا الزين.. الصورة.
    - صورة شنو؟ كدي قولي بسم الله.
    * صورة عِرسنا يا الزين، نسيتا فوق الكومدينو.
    - يا مرة صورة شنو تعالى مارقة الله يرضى عليك.

    في هذه الأثناء إنطلق أبناء عوض الزين وراء أبيهم وخاضوا البحر ومعهم ثُلّة من شباب الحي:

    * أُمي ...
    - يا حاجة فاطنة ...

    التفتت الحاجة فاطنة وراءها فرأت الصادق وإبراهيم ومُزمّل ووجدي ففاضت عيناها بالدمع، وهي واقفة وسط الماء، يحمل الماء جلابيتها فوق السطح وهي تُمسك بعوض الزين وتروح في فضاءات من البكاء المُر. لم تكن الصورة بالنسبة للحاجة فاطنة مُجرد صورة، أو مجرد ذكريات قديمة جميلة. بل كان بالنسبة إليها أكثر من ذلك. وقفت عزيزة على آخر طرفٍ للماء وهي تنظر إلى ذلك المشهد العائلي وعينيها تُرقرقان بالدمع. لقد كانت تعلم ما تعنيه الصورة لفاطنة تماماً. كانت فاطنة تبكي على الصورة وعلى الحوش وعلى شجرة الحناء التي هي بعُمر أكبر أولادها، وعلى مشلعيب المطبخ، وعلى الصينية الصفيح، وعلى دجاجاتها السبع، وعلى عالم كامل تركته وراءها يغرق في موجٍ لا يرحم ولا يعرف معنىً للتعب ولا الجُهد. كانت الحاجة فاطنة تبكي وتضرب بكفيّها على خدها وهي تقول ( سجم خشمك يا فاطنة، سجم خشمك ). ولأول مرة يبكي عوض الزين!!!!!
                  

العنوان الكاتب Date
يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-02-06, 10:06 AM
  Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-02-06, 10:09 AM
    Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-02-06, 10:11 AM
      Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-02-06, 10:13 AM
        Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-02-06, 10:17 AM
          Re: يوم من أيام فاطنة نادية عثمان01-02-06, 08:58 PM
            Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-03-06, 09:03 AM
              Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-03-06, 01:43 PM
                Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-03-06, 01:47 PM
                  Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-03-06, 01:50 PM
                    Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-03-06, 01:56 PM
                      Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-03-06, 01:58 PM
                        Re: يوم من أيام فاطنة هشام آدم01-14-06, 08:13 AM
                          Re: يوم من أيام فاطنة Sahar Abdelrahman01-14-06, 06:28 PM
                            Re: يوم من أيام فاطنة معتز تروتسكى04-04-06, 10:32 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de