مواضيع توثقية متميزة

مناولة...

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-03-2024, 01:50 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مواضيع توثقية متميزة
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-23-2013, 09:23 AM

بله محمد الفاضل
<aبله محمد الفاضل
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 8617

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: مناولة... قصة الخلق: ح.خ (Re: بله محمد الفاضل)

    النور والتابوت
    محسن خالد



    اجتمع سارتر وجيفارا وسيمون دي بوفوار بإحدى دول أمريكا الجنوبية. ربما بفيدل كاسترو، لا أذكر. أو ربما أتجاهل للنيل من كاسترو وحرمانه من شرف لقاء جيفارا وحده. فالرجل الآخر ومرافقته دَبَّرتُ لهما مكيدة مختلفة. وكاسترو ذنبه عندي كذنب ستالين وكابيلا وناصر ونميري، ذنبهم جميعاً الردة والديكتاتورية والأنانية الفطرية التي أنقذ الموتُ منها باتريس لوممبا. ذاك رجل مات دون أن يتوفر لنا زمن كافٍ لكشفه. مسألة الاجتماع تلك حقيقية وأقسم بالله. ولكن دعنا نتخَيّل الحوار الذي دار فيها. دعنا نَنْجُرْ قليلاً ونتحكَّم في التاريخ، أو نَصْدُق كثيراً ونطالب بالتحكم في أقدارنا. ومن هنا تعجبني ألعاب الكمبيوتر. فبطن هذه الألعاب تمثل المدينة الفاضلة الوحيدة وبالشكل الصحيح. المدن الفاضلة كلّها، ما قبل هذه الألعاب، سخيفة جِدَّاً، لكونها تحاول أن تبني البيوت والقوانين التي تضبط أصحابها أوَّلاً، سواءٌ مدينة إفلاطون، أو الفارابي، أم صياغات توماس مور لذلك كلّه في القرون الوسطى، وإلى جزيرة ألدوس هكسلي. أما الأمور في ألعاب الكمبيوتر فأكثر ذكاءً، لأنَّها تركز على القانون الذي يبني الحياة ذاتها بالتناظر مع مصير وأقدار الكائن الحي بداخلها، من خلاله هو، ومن خلال تكوينه. ها هنا لك حق تقرير الحياة والمصير. أنت بوسعك منذ البداية امتلاك السلاح الذي يناسبك. وباجتهادات معينة -تعرفها مقدماً- يمكنك الحصول على عدد الأرواح التي تكفيك لإنجاز مهمتك. تختار طريقك وسط خصوم نينجا، ثعابين أو خفافيش سامة، كما تشاء. وهكذا يناقشونك في طريقة حياتك حتى تصبح إمبراطور الموضوع. أو على أقل تقدير إمبراطور تكوينك وقدرك وما يترتب عليه من مصير. ولك أن تعرف أن لي أزمة مع هذه المسألة ولن أعفيك من ملاحظاتي الغريبة حولها، وربما ال########ة.
    المهم أن سيمون دي بوفوار كانت تسريحتها حلوة. وكان مزاج سارتر في تلك الأيام رائقاً ويخلو من تطلعاته العدمية. وكلما تشاغل عنهما جيفارا بإشعال غليونه أو التفت لأمر ما، كان سارتر يفعل بصلب رفيقته حركة كتلك التي يفعلونها في دعاية البيبسي.
    يقول لها سارتر بنفس الحذق الذي يستخدمه في صناعة كتبه،..
    "سيمو، ألا تناوليني كأساً؟".
    فتأتيه إجابتها بالدلع نفسه، المروي بالهبهان وماء جوز الهند: تأمر يا مؤلف الوجود.
    ثم تنحني سيمون أمامه فيما يشبه صب الكأس بتأنٍّ، كي تطول حركة دعاية البيبسي. وقطعاً الرجل المرفعين، الذي جاء لاجتماعهم هذا من أقرب غابة مجاورة لا يفوته شيء. ولكنه يتجاهل. ويطول إشعاله للغليون لمزيد من التجاهل.
    ثم فاض بجيفارا، بالضبط عندما سألته سيمون من باب (.........) لسارتر: طبعاً أنت في الغابة وكذا؟ لم تصلك أعمال سارتر الأخيرة؟
    "ليست باروداً لأهتم بعدم وصولها. الغابة تتسَقَّط أخبار المؤن وحدها".
    يضحك سارتر بمجاملة، وهيييه طويلة: أنت تتجاهلنا إذن يا تشي؟ يا لك من رجل!
    يسأله جيفارا وهو ينفض بوته من الحصى،..
    "من تقصد بالجمع هذا؟ التعظيم؟ سيادتكم؟".
    سارتر قصد ذلك، ولكن عيون جيفارا المشهود لها جعلته يجيب: لا.. أبداً، العفو يا سيد جيفارا. أنا أقصد نفسي وسيمون وجان ككتو وجاك لوران وفانيتي.. الشُلَّة يعني.
    طبعاً جيفارا الذي في قصتي هذا يعرف اللغة العربية. ويعرف أن سارتر اسمه الكامل جان -بول سارتر، وعليه فقد أجابه: وإبليس؟ هذا نسيته. كل الجوان حضّرتهم ماعدا جان جونيه، لماذا؟ أليس من شلة الشواطين هو أيضاً!؟
    "ياه، جونيه! يا له من مشاكس. أوه، هذا الغلام اللواطي تمرد عليّ أخيراً. أظنه غاضباً مني. سنصالحه يا سيد جيفارا، لا تشغل بالك".
    "لا تُبَسِّط المسألة بهذه الطريقة الداعرة يا سارتر. ياه، وأوه، ولهفي، مثل هذه اللغة لن تنفعك إلا مع سيمو. جونيه كلامه لك بخصوص العمال وزنوج أميركا وثوار فلسطين واضح. أنت دعاية لا أكثر. ومن هم الزنوج أو ثوار فلسطين ليخدموك بدعاية ما؟ هذه هي كل المسألة".
    "تظلمني والله يا سيد جيفارا. خذ الرفض في أعمالي مثلاً، هذا له اعتباره الثوري. أظنك لم تفهم جيداً كتابي "نقد العقل الديالكتيكي" ولذلك تعتبره عداوة و...."..
    يقاطعه جيفارا محركاً جسمه كله. تسقط بعض الأشياء من فوق المائدة التي أمامه،..
    "أيُّ رفض يا حثالة الذي يخبرك به صُلْب هذه المرأة!؟
    يسأله سارتر بلهجة مائعة ومُنْكِرة: أية امرأة تقصد؟
    يشفط جيفارا غليونه كقُطَّاع الطُرق، ثم يجيبه بلغة كوكني من النوع الذي يستلهمه الإنسان أثناء قضاء حاجته: هذه ال############ التي معك، ألا تراها؟ من خبأت شيئاً في سروالها وكان عليك أن تجده طوال جلستنا هذه كلها.
    "اسمع يا متوحش أنت، أنا لا أسمح لك"، تتدخل تلك الأرستقراطية.
    "ليُجِبْني رجلك المتحضِّر هذا، لماذا يخذل العمال الهامشيين والثُوَّار أين ما وُجِدوا؟" يقول جيفارا وهو يخرج الدخان بمنخريه محاكياً مدخنة عاتية.
    يسأله سارتر بتنطُّع "متى؟ أنت تُلَفِّق يا رجل. ترافق تجار المخدرات وقطاع الطرق، تعاطيت شيئاً ولا بد! أنا أكثر ثورية منك".
    تصمت سيمون. تكتفي بموقعها الحقيقي، كمرافقة لشخص مهم، وكموضوع لا يمكن شرحه بعيداً عن سارتر.
    يسأله جيفارا وهو يُفرغ رماد الغليون بحركة واحدة ومتوترة: قل لي إذن أية تضحية قدمتها بداخل فرنسا؟ ولماذا تواطأت ضد الرفاق في إيطاليا وشيكو سلوفاكيا؟ ولماذا خسرت جونيه بسبب الزنوج وثوار فلسطين بالذات؟ أنت (.........) لدعاية الغرب لا أكثر. جئت للدنيا في الزمن الذي خلت فيه من هيجل وماركس وانجيلز. أنت فيلسوف الدنيا الفاضية والناس الفاضيين. طُز فيك وفي غثيانك. أنت فعلاً ذبابة ولا تُكَلِّف أكثر من مروحة سعف ########ة، كما أنها أيضاً تزيل رائحتك التي كالفساء من الجو.
    يخلع سارتر نظارته باضطراب ويرد بحديث يتقطع من الغضب وانتقاء الكلمات: أنت.. أنت.. أنت رجل قاصر. ثور، مندفع كالثيران، مُهَرِّج. لن تفهم أبداً قضايا الفلسفة والفكر الوجودي. حارب كما تريد لو كانت الحرب تحل لك مشكلة.
    يسأله جيفارا بينما هو يمد أصابعه في وجه سارتر: وماذا يحل إذن!؟ كتبك!؟ نعذرك يا سارتر، لو كنت تنتقل من فخامة وجود لفخامة آخر فأنت رُبّان الوجود ولا شك. وكما يقول أصحابك ناس فَلْسِف فَلْسِف فأنت موجود. والدليل على وجودك ولولة سيمون تحتك في الفراش. فلماذا لا تكتب بعد ذلك عن الغثيان والذباب؟ غثيان الولائم الفخمة والويسكي، وذباب الخراء الدسم. اسمع يا سارتر، الوجود لن تكتب عنه بشكل صائب إلا حين يُهَدِّدك. وجودك آمن يا سارتر، ما الذي ستقوله للناس؟
    ولا أدري ماذا قال له سارتر. فأنا جائع. فكرت في هذه المسألة وقلت لن أثبتها في أحد كتبي الفنيَّة. لأنَّ الأذكياء عندنا سيرمونني بعدم الجدية. ستبقى مع أوراقي الكثيرة التي لا أعرف ماذا أفعل بها.
    شعرت بالكُرْه لنفسي وللأفكار، فأنا جائع وضَارٍ في هذه الساعة. جيفارا في هذه اللحظة معه حق دون شك، وهذه هي الطامَّة تقع حينما تطغى وحشية الواقع على جدوى الفكر، ولكن ليذهب جيفارا في داهية. بماذا سيفيدني حقه وباطله؟ لست مشتاقاً للمعتقل في هذا الحر. كنت في إجازة صيف والجامعة متعطلة عن العمل. ويا ليتني كنت أمتلك سيمونَ خاصة بي، مُفبركة، كالتي منحتُها أنا لسارتر. فربما كان بوسعها أن تحل مشكلة الغداء هذه.
    كنت في منزل "عبده تِيِّه" وزوجته "الست"، أفقر شخصين وأكرم زوج خلقهما الله. كنت أراحمهما أحياناً لو كان معي مالٌ. وهذا ربما حدث ليوم أو يومين من حياتي فقط. وباقي عمري كله ألجأ إليهما محتاجاً. هما من جبال النوبة بغرب السودان، يُعِزَّانني جداً وأُعِزُّهُمَا. الست تصبح مهنتها أحياناً صنع العرقي. "الست" هذا لقبها، أما اسمها الحقيقي فصعب جداً على نطق اللسان العربي. كما أنهم لم يكرروه أمامي كثيراً كي أتمَكَّن من حفظه. لأنهم حين يأتون إلى مدن الحضر -التي يسيطر عليها تجار المواشي والصابون من العرب- يتركون خلفهم حتى أسماءهم.
    أما "تِيّه" فقد كان يعمل فيما يتعارفون عليه بسوق الشمس والحرامية.
    باختصار تعودتْ ابنة حَلَب -غجر- اسمها "جليلة" أن تلاحقني في بيت الست وتيَّه بشكل غامض. يوم قرأت تحَوُّل "فيرمينا أداثا" الغامض، من حب "فلورنتينو إيريثا" لحب الدكتور، تذَكَّرت علاقتي الغامضة بجليلة. وربما مَرَّ ماركيز نفسه بمثل هذه التجارب الغامضة. على كل حال ليس بالضرورة، ولكنه في النهاية سيحكيها عن آخرين لأنه كاتب محترم. المهم أنني لا أعرف ما الذي تريده مني جليلة ولا ماذا أُريد أنا منها، ولا أعرف حتى كيف تعارفنا! العلاقة بيننا استفزازية بدون سبب. الست لم يُعرف عن بيتها دعارة إطلاقاً. والناس أحياناً يواصلونها بالسلام عليها من عند عتبة بابها، غالباً عندما تتباعد زيارات بوليس الانضباط لها. وللصدق وبعيداً عن أية مزايدات سياسية ########ة، لم تكن الست تصنع الخمر إلا حينما لا تجد عملاً. فقد كانت تعوّل أكثر على خدمتها في البيوت. لم تكن امرأة مشبوهة مطلقاً. ولكنني طلبت منها أن تمنحني فرصة مع هذه الحلبية لو لاحقتني في بيتهم مرة أخرى، وكان.
    أنا كنت راقداً على السرير وأُفَكِّر في تلك القصة التي حكيتها لك عن جيفارا والآخرين، والست كانت خارج الغرفة. وربما هي لمحت جليلة عند الباب الخارجي فاخترعت لها حجة غادرت بها المنزل، لا أعرف. ولكنني لم أسمعهما تتحدثان بالخارج، وهذا مجرد تخمين. الجوع كان يحصرني في نفسي ويُقَلِّل من مقدرة حواسي. كنت منكفئاً على وجهي ويدي أسفل بطني، حركة عفوية بلا شك، ولكنها أرادت إذلالي. قصدتْ إذلالي وحده ولا أدري لماذا، ولا حتى كيف ولا من أين دخلت ورأتني في ذلك الوضع. بدأت إدانتي وتفتيشي بعيونها أولاً. ثم سألتني باستفزاز ووقاحة كي تجرحني لا غير،..
    - ما الذي تفعله؟
    الحنق مع الجوع يُدَوِّخان ويُفْقِدَان السيطرة،..
    "أمارس العادة السرية، تجي نمارسها سوا؟".
    - يا منحط، يخسي عليك وعلي خلقتك السوداء.
    "وعليك إنتِ وعلي شناتك أم برص".
    سمعت منها وهي خارجة: سترى يا ########.
    تهددني بأخيها الحلبي ياسر، الذي كان في المدرسة يفعلون له ويفعلون به. ناديت ناحيتها،..
    "ياسر أحلى منك. أخبريه هو الآخر كي نمارسها سوا".
    وانتظرت.. والست لا تعود. ربما تجلب معها من الخارج شيئاً يؤكل. ولكنها لا تعود. أخذت طفلها معها.
    تذكرت كيف تآمر الفقر والجيران عليها حين ولادة طفلها. لقد تهَرَّبوا منها جميعاً. كادت المرأة أن تموت وزوجها عبده يبكي لجوارها. لن أنسى ما حييت موقف أخي هاشم وبطولته معها. كان ما يزال طبيب امتياز. ولكنه ليس من نوعي، هو رجل يعرف ما يريد. وفوق ذلك يسانده عقل جبار وإلحاح لئيم. لا أدري من أين يأتي هؤلاء الناس بامتيازات التدرب على إنجاح الحياة. أخبرتُه عند الباب فجاء معي ركضاً. عبده تيه كان يبكي ويهرول هنا وهناك كالسيدة هاجر حين حاصرتها وطفلها الصحراء والعطش. لقد رأيت من أخي هاشم ليلتها وجهاً متبدلاً وجدية أرهبتني أنا شخصياً إله الشجاعة. المرأة تدهورت حالتها وكادت أن تنفق بين أيدينا كحيوان. لا مجال لنقلها ولا لأي مقترح آخر عدا الولادة. وها هنا حيث الموت أضمن وأقرب من أي مشوار غيره، تصارع هاشم معها فوق هذا العنقريب ال######## كأنَّها حيوان، وجَرَّها حتى طاحت على الأرض والدماء تُغَطِّي المكان كله، ومثل بقرة حقيرة وضعت طفلها، الذي غسلناه من التراب أكثر مما غسلناه من دم النفاس. أسيكون بشراً هكذا أم دودة لا أعرف!
    أية حياة هذه التي يطالبونا فيها بعد ذلك بالأدب وعدم الفحش والانضباط؟ كُس أمها عيشة وبلد. دعنا نَسَلْ: لماذا أوصى ألدوس هكسلي في جزيرته الفاضلة بأن يشهد كل امرئ في حياته حالة وفاة وحالة ولادة؟ لا بُدَّ أنني اخترت حالة الولادة الخطأ لأشهدها. لقد صارت الحالتان عندي ذاتا حكمة واحدة.
    كنت مغاضباً إخوتي، هم أصلاً لم يعرفوني إلا وأنا رجل، ماذا لو لم أُقبَل في جامعة الجزيرة! ألكانوا لا يعرفونني حتى تاريخ اليوم؟ سأفترض ذلك وأعيش على هذا الأساس، لأرى فيم سأفتقدهم!؟ من عال نفسه وهو مُجَرَّد طفل من تسَلُّق النخل، لن يعدم ما يتسلقه في هذه المدن التي يبنونها من التسلُّق.
    أعرف أن مهنتي غريبة بعض الشيء ولذلك سأشرحها. طريقتنا الوحيدة في ريف السودان الشمالي لحصد التمور، هي أن يذهب أحد إلى رأس النخلة ومن ثم يُلقي بالتمر على الجوالات والبروش المفروشة له على الأرض، أو ينزله بحبل. حسب نوع التمر. فالتمور اللَّيِّنة لو ألقوا بها من علو النخلة ستفسد طبعاً. ما زالوا يفتقرون لرافعات كالتي توجد في العراق والسعودية ومجمل بلاد التمور. وبالإضافة إلى ذلك أقوم بمهمة تلقيح النخل وتنظيفه. حين أكون راضياً عن نفسي أُسمي مهمتي هذه "مهمة ألوان الفراش وفاغي الورود وعسل النحل"، وحين أكون مغاضباً نفسي أقول "معرَّص الأخضر". كنت في طفولتي شيطاناً -كما يمتدحني الناس- ولا أحد غيري بوسعه أن يفعل ذلك. ماعدا رجل آخر اسمه "عبد الرحمن السيد" وهذا شاعر عامية شهير وبالغ السخرية. أما الرجل الأشهر على الإطلاق في هذه المهمة فهو أخي "الحسين" من جهة أمي. سيرد أخي "الحسين" آخر، من جهة أبي. وقد كانت هذه الحرفة مهنة جانبية بالنسبة له. في الأصل هو مزارع والناس أكلوا له الكثير من الفول المصري والبصل. ما يهمنا أنه هجر مهنته الجانبية هذه وسافر لمدينة كسلا لاحتراف الزراعة وحدها. هو رجل طيب لحد لا يمكن الإحاطة به في كتاب. ورغم ذلك لن يساعدني في دراستي أبداً، لعامل الفقر وحده ولا غيره. ولذلك كنت أقول لنفسي: هذا الرجل بالكاد يقرأ ولا أظنه يكتب، ولكن لو كان ثرياً لما تَرَدَّد لحظة واحدة في أن يكون لي أعظم مما كان "ليو" لأخيه فان جوخ. ولكنني كنتُ لنفسي أعظم من كليهما.
    نظرتُ لهامات النخل العالية والمسكونة بالثعابين والعقارب وحيوان "أبو عفنة"، ثم عاهدتُ قَدَري ومصيري "طريق السماء طريقي. أُلدغ أو أسقط وأنسحل لن أعيش مع خالتي، ولن أتسوَّل أحداً. هذه الدار التي بلا سقف لن أغادرها إلا لرأس نخلة أو للمدرسة".
    خالتي "عائشة" في ذلك الزمن كان عندها ستة صبيان وثلاث بنات. وفقرها يكفي لفتح سودان كامل في السويد. ثم زاد صبيانها سابعاً، وطلبت منها أن تُسَمِّي السابع باسمي كذكرى، فوعدتني ونكصت. الشخص الآخر الذي أسمته عليه منحها نعجة. قلت لها: سأنال منك وأكتب ذلك في كتاب ذات يوم ولم تُصَدِّقني. ولكنني كنت لنفسي أعظم من كلهم. ولا يقدر أحد على أن يكون ذكرى لي.
    كنت في صف ثالث ابتدائي وانحصر تعاملي مع ثلاثة أشخاص فقط من تجار التمر. رجل وامرأتان. اللَّرس -هذا لقبه واسمه منصور- ثم المَلْكَة وأم سلمة. كلهم ماتوا. وكانوا أنزه ما يكون في التعامل مع طفل. أشكرهم بشهامة، فقد دعموني في تحقيق طفولتي الرجل.
    إدريس قريمان جمعني به مصير الطفولة المتشابهة القسوة قبل مصير الحرب. روى لي ورويت له وكنا عائدين من بيت شراب. اتفقنا على تحية تلك الطفولة الجندية والباسلة. قلنا نحيّيها بكامل عطب العساكر والشراب.
    "معك سلاح؟"، سألني إدريس.
    "ألم نخرج من بيتك معاً!؟".
    "آه، نسيت يا محسن. لن نحتفل بالبارود إذاً؟".
    تَرَنَّح بثبات ومرح كما هي عادته: نكتفي بالتحية إذاً.
    "خلاص نكتفي، وماله؟"، أختصر ثرثرته أنا.
    كنا قد بلغنا المقبرة ونمشي وسط وعثتها وحجارتها الكئيبة الرابضة في الظلام كمخلوقات حَيَّة وتترقَّب. يتوقّف إدريس ليسألني: هذا الطريق لا أعرفه، من أين جاء؟
    كنت من فرط سكري أرى كُلَّ الأشياء تتحرَّك،..
    "ربما قصدنا. أو قد يكون تبعنا كجرو".
    أضحك أنا بعنف تنفتح له أشداق كل أزمة في الإنسان وأضيف: لا تهتم به يا إدريس.
    "صحيح، لا نهتم به. هو حر. ضَع البوريه يا محسن، سنُحَيِّي الآن".
    وضعت البوريه فوق رأسي وصففت نفسي عسكرياً لجواره.
    "نحتاج لكركون سلاح؟"، يسألني هو.
    "لا تثرثر يا إدريس. دعنا نُحَيِّي. أنت سَكرت أم مالك؟".
    "أنا؟ أنا حصان. أنت لا تعرفني. نُحَيِّي، وماله؟".
    كنا سكرانين جداً. نترنَّح ونُطَوِّح من الشراب. الواحد منا لا يقوى على الوقوف باستقامة إلا إذا سَنَد نفسه لشاهد قبر. حَيَّينا طفولتنا معاً، والشوارع كما يقول عنها الشاعر محمد نجيب: "خَلَتْ من ابن آدم ومن نباح للكلاب، وأنت تُؤذِّن بالرؤيا لصلاة منفردة".
    إدريس شرب أكثر مني وأصبح رديئاً. تباغته الذكريات فيسألني: وجوليفار؟
    كنت قد نعست، وكرهت حالنا والشراب والحبيبات وأي مقترح آخر عدا النوم.
    "يلعن دين الشراب ودين جوليفار. نريد أن نبيت يا إدريس".
    رآني مَرَّة مُدرِّسنا في الابتدائية على رأس نخلة. كنت أعمل لأم سلمة. هو من قريتي ويعرف ظروفي. لا أدري من قال له إن فكرة الإشادة بكفاحي أمام الطلاب فكرة صائبة. خَطَب في الطلاب طويلاً ومريراً عليّ. أستاذ "التاج" فعلها بحسن نية، ولكنني سئمته. ختم خطبته بوصفه لي بالعبلاج –القرد- المستقل والذكي. كنا بداخل الفصل، ولم يستطع زملائي أن يضحكوا لوصفة العبلاج. من يضحك سأحرمه من التمر الذي أنا وكيله الأوَّل في المدرسة، بثقل وكيل مرسيديس بينز بدول الخليج. سخرتْ مني عيونهم فقط، أما أفواههم فخشيت العواقب. تألَّمت. ما أردت له أن يميزني عنهم ويضعني في كرنتين خاص بي كالأجرب. أنا مثلهم وأفضل. أنا بحجم ماعون قدري، من هو مثلي تُشَوِّهُه مخاوف الآخرين، التي تتنكر في اسم الوالدين والأهل والقبيلة. من هو مثلي يجب أن يكون عُرضة للجوع والريح وللشتاء في طريق عام، لذاكرة الفرد المستوحدة والضارية. مثلي لا يخرج رأسه من البيضة إلا في خلاء كامل من الزواحف، وتحت سماء كاملة من المناقير. هو وصفني بالذكي ولكنه لم يُقَدِّر لأي مدى. كلمة عبلاج تلك لم تكن مُوَفَّقة أبداً. حوّلتْ خطبته في نفسي إلى نوع من التحرُّش. من هذا المنطلق دعني أشتمهم لك أجمعين وأنال منهم. هم أصلاً -هؤلاء الأساتذة- لم يعلموني إلا الكسور العشرية، أما الخط العددي والساعة أم شوكات فقد صفعوني عندهما وما زلت أجهلهما حتى اليوم. أمي حين سَلَّمتني لهم في المدرسة كنت أكتب وأحفظ القرآن على قراءتين. "الدوري" و"حفص" مع إلمام كثير من قالون وورش. قالون قرأتها مع عبد الرؤوف المزمل ولا أدري من أين تعَلَّمها هو. أظنه تعَلَّمها من صديق مغربي أو ليبي لا أعرف -كان يَتعَبَّد بها- وأنا لم أقابله منذ زمن طويل كي أسأله. وأيضاً كان معي بعض إلمام قليل بالقراءات الأخرى وخصوصاً قراءة عبد الله الشامي. أما كتب الإعراب فلا حصر لها مع تركيز على "مفصّل الزمخشري" والألفية والآجرومية وهمع الهوامع. كانت هذه مسألة أساسية وسيقتلك أبو صلاح عبد الله شيخ الحيران علناً لو قال لك أعرب وتلكأت. يقولون إن أبي كان رجلاً ضليعاً في القرآن واللغة أكثر من عبد الله الطيب. وصارماً تجاههما أكثر من أبو صلاح عبد الله شيخ الحيران. فأبي أيضاً كان مُعَلِّم قرآن ولغة كما تُصَرِّح أختي فاطمة في أي مجمع ناس تجده. حكت لي أنه كان يصحح عبد الله الطيب عبر الراديو أثناء برنامجه الإذاعي الشهير في تفسير القرآن وإعرابه. ولكن ربما كان يقول لها أي كلام، من يعرف؟ لن تحكم لي فاطمة في مسألة كهذه. الوحيد من أبنائه الذي كان بإمكانه أن يكشفه هو أنا. إخوتي جُلُّهم فنيون ومهندسون وطبيب واحد، وأنا لم أدرك الرجل. لقد فلت مني بغنيمته وفشخرته على فاطمة تلك. لحكمة الأقدار قامت بتعليم أبي جَدَّته بنت المُفتي. وأنا قامت بتعليمي أمي البتولا بنت عبد الله المُوفَد. أما أنا فخذلان أبي لي في التعليم حدث نتيجة لوفاته المبكرة بالنسبة لميلادي. ولا أتذكر له إلا مشهداً واحداً. أما هو فأبوه قد خذله لأنه كان صياد سمك. فالإعراب والقرآن لن يهمانه إلا إذا كانا شباكاً تعين على قبض السمك.
    أنا مواليد 1973 / 4 / 14م في الحقيقة. وأبي توفي في عام 1979م. هو مات في بلد أخرى بعيدة، مع زوجاته الأخريات وأبنائه الآخرين. أنجبني وهو شيخ فوق الثمانين بقليل. أمي كانت شابة وجميلة للغاية، وربما زَوَّجوها له لكونها مطلقة ولها ولدان من طليقها –ابن عمتها. أنجبني في الزمن الإضافي للعبة نسائه الوافرات كالهدف الذهبي. لا أدري كيف أنجبني في تلك السن، ولا أدري كم سنة أحذف من تاريخ وفاته -إما ثلاث أو أربع- كفترة سافر فيها هو من عند أمي بقريتنا المسيكتاب ليقضيها مع زوجاته الأخريات ويموت بأرض الجزيرة. أريد أن أعرف لماذا أنا لا أتذكر أي شيء عنه، ماعدا مشهداً واحداً فقط ولا غيره. يا ترى كم كان عمري وقتها؟ ولماذا خَلَت ذاكرتي -التي كانت تعمل- من أي ذكرى ثانية له. هل جاء هو حين بدأت ذاكرتي تعمل بالضبط، ثم غادر بيتنا بعد تسجيلي للمشهد بالضبط؟ لا أعرف.
    كان يجلس على عنقريب -سرير خشبي- عالٍ. أمامه طربيزة مصبوغة بلون أزرق وعليها طعام. دعاني لآكل معه. حاولت دَسْ يديّ في الطعام مباشرة. اعترضني: اغسل يديك.
    وانتهينا. ولا أي نتفة مشاهدة زيادة. وحين أتذَكَّر أمره لي بغسل يديّ عبر تلك الذكرى الشحيحة والمجذوذة أتساءل بيني وبين بالي: لو عاش ذلك الرجل لكان له معي برنامجه إذاً؟ لا تصدقني، ربما أنا فقط أُعَوِّض عن فقدي له. فقد تيتّمتُ مبكراً، وكلمة أبي هذه أنا لم أستخدمها في حياتي مطلقاً، ولا حتى في هذه الذكرى المجذوذة. وبعدها بقليل صرتُ عَجيَّاً بضياع كلمة أمي.
    كان عملاقاً وإنْ كنتُ لا أتذكر هيئته جيداً. أما ملامح وجهه فقد دعمها في ذاكرتي الفوتوغراف الذي أخذوه له بداعي الذهاب إلى الحج. أمي لم تحج وليس لها أي فوتوغراف. التصوير الفوتوغرافي ظهر في أواسط القرن التاسع عشر 1839م، ولم تعاصره أمي بلقطة واحدة في ثمانينات القرن العشرين. لغرائب الصدف، صوتها محفوظ على شريط كاسيت سَجَّله ابن عَمَّتها "المقبول". وهذا رجل له هواية عجيبة. أرجو أن تقارنها بنظيراتها من جنس جمع الطوابع وتوقيعات المشهورين. هذا "المقبول" يجمع أصوات من يظن أنهم سيموتون قريباً. والناس يخافونه جداً إذا رأوه يحمل مُسَجِّلته ويقصد أحداً. لأنه مثابر ولا يعرف الفشل. لا تسألني كيف؟ أنا أيضاً لا أعرف كيف. وهو يمارس هذه الهواية منذ زمن الأسطوانات. ولكن أمي تحديداً كانت مصابة بداء القلب ويمكن توقع موتها. وكفنها الذي اشترته بنفسها، نزل قبلها للقبر سبع مرات في صحبة أموات آخرين. كانوا يأخذونه لأنه مخيط وجاهز ثم يعيدون لها واحداً بدلاً عنه فيما بعد. معلومة الكفن هذه بالإضافة لجمالها الوقور كامرأة وتدينها تُمَثِّل مُلَخَّص سيرتها في القرية.
    المهم أنني ذهبت للمقبول في بيته عندما كان يجاور النهر. فزرت الآخرة من ناحية قريتنا وتناولت أُنسي وشايي هناك. أسمعني في البداية أكثر من عشرين "مرحوم". لم يكن يتباهى بتوقعاته مطلقاً. بل كان يعرض ذلك أمامي كما يعرض أي خبير تشريح قطع البني آدم لطلابه. يهمهم معي بصوته الغليظ والمخدوش،..
    "تلاحظ؟ هذا عمك المرحوم "فلان"، في التسجيل الثاني أظنَّه أوضح".
    "ولكني لا أعرفه" أُجيبه وأنا أتزحزح من مكان لمكان.
    "طبعاً طبعاً. جدتك "الحرم" تعرفه. أنت صغير لن تعرف شيئاً".
    فَكَّاه الأصفران عريضان ولحيته كثة. يهمهم بكل جد وهو ينحك "هنا شريط المرحومة "فلانة" مقطوع، لو سألت المرحومة عن ضرّتها لتحدثت أكثر. مزاج المرحوم "فلان" يكون رائقاً في الساقية، كان يجب أن لا أُسَجِّل له في القرية. ذلك الغبي، الصوت الثالث، تسمعه؟ كان يجب أن لا أدعه يجلس معنا، هذا لن يموت قريباً".
    قلت في بالي: هذا الرجل لا يلعب أبداً. بل أكثر جدية من البير كامو. وهذه ساحة أعرض لمناقشة العبث كنحت من صميم الحياة.
    أردتُ مَرْحَلة الموضوع، كي لا أبدو متلهفاً لسماع صوت أمي. هكذا نشأنا على أن العاطفة منقصة للرجل. أُدحرجه في اتجاهي: كلهم لا أعرفهم.
    هو أيضاً يمرحل الموضوع من ناحيته،..
    "المؤذِّن علي القاضي، تعرفه أم لا؟".
    "أعرفه".
    "تريده؟".
    "أُريد أمي. أتذكر صوتها أكثر".
    انحشرت زوجته "مُنَى" بيننا، ورفضت ذلك بشكل قاطع. تخشى عليّ من التأثر. وبدأت هي بالبكاء مقدماً. قلت له: دعنا منها، أخرِج الشريط.
    هو أصلاً كان منشغلاً بإخراجه. كنت أحاجج زوجته أنا. همهم بارتياح: ها هو، البتولا عبد الله رقم 23.
    خشخش صدره وتعالى وهبط خلف ضحكة،..
    "هنا أيضاً المؤذِّن على القاضي موجود. صوته بعيد ولكنه واضح. أثناء حديثي مع أمَّك سيُؤذِّن".
    جلباب المقبول من النوع الذي يأتون به من السعودية، ثقيل ورمادي بأزرار كالتي تُثَبِّت الحذاء. زوجته كانت تتحلَّف عليه وترجوه أن لا يُدير الشريط. التفت ناحيتها مهدّداً: ستخرجي وألا أرميك برّه وأقفل الباب؟
    تنهَّفَت وهي تخرط دموعها: أريد أن أسمع معكم.
    قال لها وهو يهز الشريط في وجهها: أنت لن تسمعي ولن تتركينا نسمع.
    تحَلَّفت هي من جديد وأهملها هو. أظنه معتاداً على ذلك. أو ربما هنا تكمن هوايتها هي. وضع الشريط في المسجل وسمعته يتحدث مع أمي. صوته الأجش ذاته، وصوت أمي الذي كأنَّما نبع من ذاكرتي فحسب، فهو لم يقطع أي مسافة من زمنهما ليبلغ زمني. قطعاً هو أدار جهاز التسجيل قبل أن يصلها. كانت تقول له،..
    "أهلاً، حبابك يا مقبول. إن شاء الله "منى" وأولادك طيبين؟"، في ذلك الزمن كانت أسرته تقيم في أم درمان.
    -علي القاضي يؤذِّن في هذه الأثناء-
    همهمت زوجة المقبول لجانبي وهي تنهنه،..
    "يا حليلها البتولا، تسأل عني وعن وليداتي، حنينة والله البتولا".
    كانت امرأة لها جلال وشهمة جداً. فيها رُقي ضافٍ من بعيد كظل الشجر. المرأة الريفية المختلفة والراقية بشكل فطري لا علاقة له بالثقافة والظروف، رُقي الله والرسول.
    أكثر ما أتذكره عنها صدقها، لقد صنعت لي عقدةً مع الكذب والكذّابين بشكل مَرَضي. وأيضاً أداءها المتواتر نِيِلاً لصلاة الضُحى، كانت لا تُفَرِّط فيها مطلقاً. موتها ترك فراغاً في همهمة أصوات القرية المتبتِّلة عند الصباح.
    دفنَّاها والناس يبكون ويودعونها بذلك التوقع الذي وصفه الطيب صالح في رواية مريود عند دفن مريم، قال {دفناها عند المغيب كأننا نغرس نخلة، أو نستودع باطن الأرض سراً عزيزاً سوف تتمخَّض عنه في المستقبل بشكل من الأشكال}.
    أمي دفنَّاها عند الفجر، وكأنَّ حادثة موتها تُصَحِّح مواقيت الدفن الخاطئة التي اختارها الطيب صالح. الموت الغرس مواعيده الفجر وليس الغروب. لأنَّ مريم هي المرأة التي ماتت من عند العمر الذي كان يجب أن تقود من عنده حياة مختلفة. من عند صباح-بداية، وليس غروب-نهاية، فمريم لم تمت من عند العمر الذي انتهت إليه عبر حياة عاشتها عن طريق الخطأ، مع زوج لم تحبه. وإنما ماتت من عند طفولتها وهويتها السابقة –مريوم- ومن عند حبيب حياتها التي لم تعشها -مريود. الشخص المتحد معها، أنَاها على الضفة الأخرى، الذي ينادي من على شاطئ النهر: مريوم، مريوم. فيرجع صدى صوته من الضفة الثانية: مريود، مريود.
    أُمي كانت مريم شندي، فكلا الرجلين اللذان زُوِّجت لهما، لم يكونا يستحقانها أبداً، ابن عمتها وأبي على حد السواء، كانت مثل أم الرجل الأميبي، من قال عنها حين سؤاله عن جمالها الإنساني والتكويني "نعم كانت جميلة، جميلة ومختلفة لدرجة أن يُمنح وجهها لطابع بريد، لا لزوج".
    أنا مواليد 1972 / 1/ 1م في جواز السفر بناءً على دخولي المدرسة. أرادت أمي أن تدخلني المدرسة باكراً ولم يكن من الممكن إعادة ولادتي. لذلك قام أحد الأساتذة بما يمكنه من "كلاكيت" وأعاد تصوير شهادة ميلادي من جديد. فأنا كنت خريج خلاوي أكتب وأقرأ. كما تعَرَّفت على الأخفش وأصحاب شذور الذهب والخصائص وقطر الندى والنحو الواضح -هؤلاء نسيت أسماءهم الآن- وغيرهم. يعني ما شاء الله لم تتبقَّ لي إلا الكسور العشرية. لزمن قريب كنت أتساءل ولم أكن مقتنعاً أبداً بنظرية أبو صلاح شيخ الحيران، ما الذي يقصده من تدريسنا كشاف الزمخشري؟ ما الذي كنا سنعرفه له؟ كنا نزيل مخاطنا من جهة، ونسمّع له كالآلات من جهة. لم نكن نفهم، والآن لم نعد نتذكر. الأخفش أنا أتذكره لأننا كنا نسخر من اسم كتابه "همع الهوامع" لا أكثر. فإذا ضربك أبو صلاح نقول إنك تلقيت درساً في "لبع اللوابع" أو "لطش اللواطش" وأيضاً "شلوت الشلاليت".
    لم أكن أعرف أن العلم يتناولونه كعلف الدابة، فقط كي تسهل مسألة اجتراره والمتعة به ذات يوم. أشكر هذا الرجل وأترَحَّم على روحه الطاهرة باسمي واسمكم جميعاً. وسأعفي اسمه داخل كتابي هذا من حركات الإعراب وابتزازه في حكاية "أبو" صلاح "أبي" صلاح "أبا" صلاح هذه، تثميناً لدوره في تعليمي، لذا دعنا نقل "أبو" صلاح في جميع الأحوال. وأيضاً كاجتهاد من قِبلي أنا فيما عَلَّمني. فقد تبدلت لالتحاقي بمدارس أخرى جديدة بالنسبة لي ومتمردة في النحو. صرت أكثر جرأة ووقاحة. لأنني أحببت بعد أبو صلاح إبراهيم مصطفى وتلميذه المخزومي. ليسقط العامل ولنفتح للّغة باباً جديداً بكامله. صرت أعارض معهم مدرسة "البصرة" وأناصر مدرسة "الكوفة".
    لقد ارتدّيت وشكراً جزيلاً وعفواً يا أبو صلاح. فأنت لا تعرف كيف شَكَرتك وزارةُ التربية مُمَثَّلاً في تلميذك محسن. سأعود لأشتم لك الأساتذة غير المثقفين وأنال منهم من جديد. الأستاذ "ع" من قرية مجاورة، لن أذكر اسمه صراحة، سأحرمه من أن يشتهر على حسابي. سأرمز إليه فقط كي يتعَرَّف عليه القرويون في قريته وقريتي. وما أدراك ما سُخر وثقالة الريفيين في ناحيتنا، عليه أن يرحل. فقد صار لي كتابٌ وصار بوسعي أن أنال منه ومن الحكومة ومن كثيرين. كتبنا حكومتنا وبيوتنا.. نقضي عندها بما نشاء ونرتاح فيها كيفما نشاء. السلطة القادمة للكتابة والفكر ولا غيرهما. علاوة على أنني لا أمتلك بيتاً حالياً، وليس لي إلا ظل كتابي هذا. لأن حسين أخي من جهة أمي تزوج وسكن في بيتي الذي تسقفه السماء ذلك.
    كنت يومها في صف أول ابتدائي، حينما طلب مني الأستاذ "ع" أن أقرأ عليه سورة "البلد". وعند هذا الموقع من السورة كنت أقرأ،..
    "وما أدرِاك ما العقبة. فَكَّ رقبة، أو أطعَمَ في يومٍ ذي مسغبة".
    تلوَّى "ع" كالحيَّة ثم صفعني بعنف منذ البداية. جَرَّني بقسوة من شعري: من أين تقرأ يا حيوان؟ هذا قرآنك أنت. صَحِّح يا بهيمة، اسمعني جيداً.
    ثم قرأ عليَّ هو،..
    "وما أدراك ما العقبة. فَكُّ رقبة، أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبة".
    قلت له: كله صاح.
    ويا ليتني لم أقل، هجم عليّ كالجاموس، لم يمهلني لثانية واحدة. انكال عليّ ضرباً وهو يصيح،..
    "كله صاح!؟ مجنون؟ مجنون أنت، أم ماذا؟ أعوذ بالله، شيطان، شيطان رجيم".
    طاخ، طاخ، بهمجية ووحشية عجيبة. كان ينتصر للدين مني ويأخذ بثأر الصحابة. صاح من جديد: كما في الكتاب يا ملعون.
    جهله لقراءات القرآن جعلني أجهل ما يقصده. ظننت أن كتابهم ككتب أبو صلاح. تركت القراءات وأخذت أعرب ككشاف الزمخشري، قلت له بسرعة مذهلة،..
    "في حالة حفص "فكُّ" خبر مبتدأ، وفي حالة الدوري "فَكَّ" فعل ماضي، وفي حالة فلان وكتاب علان وكذا وكذا".
    ولم يغثني ذلك. لم ينتبه، لم يلاحظ، ############. هذا الطفل المجنون والكافر يهذي بالفعل، ولكن ألم يذكره هذيانه هذا بشيء؟ ألم يقابله في مكان ما؟ ألا تشبه هرطقته هذه دروساً قابلته هو في سنته الأخيرة بالمعهد قبيل تخرجه ومجيئه لتنوير الناس؟ ما زلت حتى هذا اليوم محتاراً في ذلك الرجل. لم يلاحظ أبداً أنني يا دوب جئتهم كي يعلمونني بينما أتفَوَّه بمصطلحات مثل: فعل ماضي وخبر مبتدأ وجملة اسمية وفعلية وغيرها. كما وبإمكاني أن أعرب "أو" و"ذي" اللتين يجهل إعرابهما هو نفسه في الآية الكريمة. أنا شخصياً أفشل تماماً عن تفسير عماه ذلك. صاح مهتاجاً وهو يضرب ويرفس من جديد،..
    "يا رب القدرة، يا رب القدرة. قرآن حار، ببوخه. كما في الكتاب يا مجنون".
    عجزت. القراءات جربتها كلها، هو لا يريدها. الإعراب جربته كله، هو لا يريده. ماذا يريد ذلك الرجل القاسي إذاً؟ عجزت وبكيت. وما عاد بإمكاني سواهما.
    كنت صغيراً ولا أمتلك كلمة أخرى عدا "كله صاح"، وهي تُهَيِّجه. لم يكن بوسعي أن أشرح له القراءات في تلك السن. فقط أكرر أمامه بصورة ببغائية ودموعي تنسال بمذلة،..
    "الدوري، حفص، الدوري. اسأل أبو صلاح. والله العظيم جد".
    ولم ينجدني كل ذلك. فما هو الجِد الذي أعنيه وأُقسم عليه؟ مخلوق صغير مهان ويُركل ودمعه يتشتت بذنب أنه يعرف أكثر مما تتطلبه الحصة. لو فقط تمَهَّل وهدأ من ثائرته وروعي ليسألني: ما حفص هذا؟ كنت سأتتبعهم له واحداً واحداً. فشيخ عبد الله لا يتركك حتى تعرف شيوخ القراءات هؤلاء أكثر من أولاد خالتك وعمتك. بلدانهم، نشأتهم، تواريخ ميلادهم ومماتهم، عَمَّن أخذوا، لمن أعطوا، مَنْ يُقدَّم على مَنْ، ومن يؤخر عن من. كنت سأخلق فيه ولو بصيص انتباه. فربما يلاحظ أن تلك القصص فوق مقدرات تأليف الأطفال. كي يبعث بي للمدير على الأقل، ليفحصني. ولكن ذلك لم يحدث. ما يزال يطالبني بأن أقرأ كما في كتابه. والضرب وإحساس المهانة شَتَّتا تركيزي بالكامل. لم يعد بوسعي التمييز بين القراءتين. هذه مسألة لن أغفرها له ولوزارته التي بعثته أبداً. شيء لا يعقل!
    خمشني من أسفل أذنيّ وعنقي وهو يقول لي بتهَيُّج مخيف،..
    "والله، ووالله.. لن أتركك أبداً حتى تقرأ كما في الكتاب".
    وأنا كنت قد فقدت السيطرة على الموضوع تماماً. فقراءات القرآن بالبسكويت الذي كانت تشتريه لي أمي تشجيعاً وتحبيباً لم تكن شيئاً سهلاً. ناهيك عن بالإذلال والضرب ووحشية ذلك الرجل. بكيت كآخر مَرَّة في حياتي. وندمت لكوني افتخرت على رفاقي بأنني لست محتاجاً للحفظ مثلهم. ما زلت إلى الآن أتذكر صوت بكائي المخنوق والطريقة التي كان يرتجف بها صدري.
    الأستاذ يريدني أن أقرأ كما في كتاب وزارة المعارف. ذلكم الرخيص وال########، المطبوع بماء الكركدي. أنا أقرأ كما يقرأ أبو صلاح عبد الله شيخ الحيران، فما أنت وما وزارتك؟ هنبول الوزارة التي بعثت بك لتُعَرِّفني الجهل.
    أبو صلاح كان يحيط به أكثر من مائتي حَوارِي. هذا في سورة البقرة، وهذا في سورة الأعراف، وذاك في فاطر، وآخر في الحشر، وهكذا حتى سورة الناس. ويُمْلِل هو عليهم جميعاً من ذاكرته وحدها وفي جلسة واحدة، نسميها "الرمية". يجلس منذ هذا الصباح وحتى الصباح التالي. لا ينهض إلا للصلاة. هذا لا يمكن أن نسميه رجلاً حافظاً، بل هو القرآن يُمْلِل نفسه للناس كبشري يجلس تحت شجرة "سنط" عملاقة.
    ولكن ذلك المُدَرِّس يريد فقط ما في كتابهم المطبوع بمحلول الكركدي، ماذا نفعل له؟
    النهار أخذ يخوض في العصر. انتبهت إلى أنني لم أعد أحداً بعينه. بل مجرد أحاسيس، أفكار، أنانية عوز تُدين الآخرين، وشر ينصب شراكه. ولكن ربما هذا ما نحن عليه بالضبط. حياتنا ليست قصة متماسكة كما تظن. ليست مترابطة. كلها تتكون من مثل هذا التقطُّع من التفكير ال######## والانشغال البسيط. لا تصدق أن هنالك من هو مختلف، اللهم إلا البهائم. عندما أرى صورة رؤساء وهم يتباحثون في التلفزيون أضحك. الأهم هو المواضيع التي يبحثونها بداخل صلعهم ومع أنفسهم في تلك اللحظات، التفكير السري وغير المعلن، والذي لا يمكنهم أن يفخّموا به أصواتهم كخطبهم المهيبة والمجلجلة. حياة الإنسان الحقيقية هي بالضبط تلك التفاهة السرية. وكل ما يعيشه الإنسان بحق، هو هذا التكتم الخافت والمحرج. قَدِّر بنفسك إذن كيف هي كتب السيرة الذاتية التي تكتب عن حياتهم لا تقول عنهم شيئاً، ولكم هي مختلفة عَمَّا هم عليه في الحقيقة. كتب السيرة على هذا النحو تُخَلِّد الوظائف والمهام والأشياء بشكل عام. والروح لا يمكن تخليدها بالفعل إلا بمناقشة الاستغراق ودقائق التفكير والشغب النفسي والضيق، الكفر والإيمان. أي أنَّ الروح تُخَلَّد بفعل مادتها المفترضة من الهيمانات.
    شعرت بالجوع من جديد. قلت لنفسي: ربما تأتي "الست" وتجلب معها من الخارج شيئاً يُؤكل. ولكنها لم تأت. حاولت النوم، ولكنه لم... قلت سأذهب لصديقي د.عمر السنوسي فربما أجد شيئاً آكله.
    طرقت بابه والنهار أخذ يخوض في العصر. يقطع أبوها من عيشة!؟ وجدت معه رجلاً من زملائه الأساتذة في الجامعة. قَدَّمه لي د.عمر على أنه بروفيسور آداب يحاضر في جامعة الجزيرة. وقَدَّمني له على أنني طالب اقتصاد يدرس بنفس الجامعة. وما يلي هذا التعريف من شاب واعد ومهتم، له روايات وأشعار وبحوث وكذا وكذا. وذلك البروفيسور يتأملني ويحدجني بنظراته كأنه سيعثر على دليل يقبض به على كذب د.عمر.
    بعد مرور لوازم التعارف جلست أنا في مواجهة البروفيسور. سأل هو د. عمر وكأنه يواصل معه حواراً قطعه قدومي،..
    "ها، قلت ماذا تقرأ هذه الأيام؟".
    أجابه د. عمر: هذه الأيام أكتب. أما آخر الليل -يضحك د. عمر- فأحاول تجميع بعض الخيوط لدراسة تُقارب بين أعمال "مايكوفسكي" و"أنغوبلي مادنغوني" و"سالم حميد". أريد نصوصاً أوفر من مادنغوني لو كانت لديك؟
    سأله البروفيسور متجاوزاً طلبه،..
    "وماذا عن أعمالك المسرحية؟".
    "متوقف. من يريد مسرحاً هذه الأيام؟ هذه المقاربة اتفقت عليها مع مجلة المركز الثقافي الفرنسي".
    حاول د. عمر أن يعيده لموضوعهما الأول. البروفيسور أفتى بصدد مايكوفسكي،..
    "ربما بوشكين يخدمك أفضل".
    بدا لي ذلك الرجل غبياً جداً ومنذ البداية. فأولاً د. عمر لم يوضح أي شيء عن مقاصد دراسته وأغراضها كي يعلم هذا البروفيسور أن بوشكين يخدم أكثر أو أقل. تذَكَّرت قصة صديقي "صحابي الصادق" على الفور. حكى لي هذا الصديق أنه ذهب إلى حيث يفرش الباعة الكتب بجانب حدائق شارع النيل، واختار كتاباً وقال للبائع إنه سيأخذ هذا الكتاب نظير خمسمائة جنيه فقط. فأجابه البائع: أبو خمسمائة هي تلك المجموعة في الطرف، دع الذي في يدك هذا وخذ منها واحداً.
    في ماذا يختلف هذا البروفيسور عن ذلك البائع الجاهل؟ لأنه مبدئياً يمكن الربط بين أعمال الثلاثة المذكورين، ولكن بوشكين ما دخله؟ إما أن ذلك البروفيسور سيسعده أن يذكر بوشكين أمامنا بتلك الطريقة المفخَّمة، وإما أنه يجهل بالكامل أشعار الجميع، الذين ذكرهم د. عمر والذي ذكره هو. احتار د. عمر، ولكن أدبه الوافر أملى عليه مجاملة،..
    "مشروعي يخدمه مايكوفسكي أكثر، أما بوشكين فسيجعل الموضوع مختلفاً".
    لم يفهم البروفيسور المتسلِّط السخرية الكامنة في هذه العبارة، قال مُصِرَّاً،..
    "الروس جيدون، ولكن تنقص كتاباتهم مسحة الضباب والمغامرة كما في الآداب اللاتينية مثلاً. الواقعية السحرية تبز واقعيتهم الاشتراكية. الأيدولوجيا والإلحاد لن يخدما لا الفن ولا الإنسان".
    قَوِّم بنفسك مدى تفاهة أفكار الرجل ومحفوظيته وقِدَم ألفاظه وتكرارها. هنالك نوع من التفاهة لا يمكن تحليله من شدة انحطاطه وتكراره، ولا تعرف معه أتضحك أم ماذا تفعل! أما أنا فقد نسيت غضب الجوع وسلبيته وانشغلت بعواطف امتعاض غيرها. كما أَلْفِت نظرك إلى أنني قَدَّرت من خلال ملابساته كلها أنَّه إسلاموي ويتحدث هو أيضاً من خلال الأيدولوجيا. يتحدث عن روسيا هذه وكأنَّ كُتَّابها تنتجهم دولة بحجم واحدة من دول الخليج. خلعت حذائي بحركة قرف وغمغمت مع نفسي بكل أداة سخط أمتلكها. التفت نحوي البروفيسور، قال لي وكأنه ضيف ظريف يُشْرِك خادم بيت من زارهم في حوار مع سيده، ليعطي الحضور دليلاً على نوعية التعامل في بيته هو. سألني: وأنت، ماذا تقرأ؟
    "أنا؟ قل لي أنت أولاً رأيك في أنطوان شيخوف؟".
    "هنالك من هو أفضل منه".
    "شخصياً لم يقابلني هذا الأفضل منه".
    أجابني بلهجة ليست مستبدة، ولكنها مترويّة ببطر: لن أقول لك بأنك لم تفتش جيداً، ولن أناقشك الآن، هذه مرحلة ستمر. وستعرف بعدها أن هنالك من هو أفضل منه.
    سألته بغيظ: مثل من؟
    لو قال لي دستوفسكي لتقاصرت حماستي كثيراً، لكنَّه وبفخامة أوديو عجيبة أجاب: ليف تولستوي.
    أنا لا أكره كتابة ليف تولستوي، ولكنني لن أقارنها بأعمال شيخوف مطلقاً. ما يزال شيخوف يمثل لي هو ودستوفسكي وحكايات إيطاليا لمكسيم جوركي شيئاً مهماً من ناحية الكتابة الروسية. قرأت مسرح شيخوف كله، وتقريباً كل أعماله القصصية. بل أكاد أحفظ له قصصاً من نوع "المبارزة" و"عنبر 6"، "الخادم"، "مذكرات رجل عجوز"، ومجمل أعماله تقريباً. كنت أيضاً قد قرأت شيلخوف وتورغنيف وكوبرين وراسبوتين وجوركي وألكسي تولوستوي وكورلنكو، وأسرتني أعمال هؤلاء أيضاً. ولكن حتى تاريخ اليوم يسيطر عليّ حب النبش الجواني وتفتيت الوجود بحرقة دافئة، ما تجده أكثر عند أنطوان ودستوفسكي. كنت أرتبهم هكذا: شيخوف ودستوفسكي، ألكسي تولستوي، حكايات إيطاليا لمكسيم جوركي. لقد تعلقت بألكسي جداً وأعدت قراءة "الشقيقتان"، "طفولة نيكيتا"، و"الأمير الأعرج" كثيراً. وكذلك "الدون الهادي" لميخائيل شيلوخوف و"الهارب" لفالنتين راسبوتين، ثم يصبح بإمكان الكونت ليف تولستوي أن يرد في قائمتي بعد ذلك لو كان يود. ولكي تعجب أكثر أقول لك إن كتاب "حكايات إيطاليا" هذا من أهم الكتب التي أثّرت في حياتي. وأعني بالذات الفصل الذي كتبه مكسيم جوركي عن الكونت ليف تولستوي. لقد كتب عنه بقداسة وحشية مذهلة ورهيبة. بالرغم من عدم الارتياح وسوء التفاهم الذي تَمَيَّزت به علاقة الرجلين. ولكن ماذا تقول؟ هذه هي الكتابة عندما تريد نفسها. لن أقول إن حب جوركي لشيخوف هو سبب فشله في أن لا يكتب عنه بذات المستوى -أي كشخصية روائية لا علاقة له بها- لأنه نجح جداً في الكتابة عن فلاديمير إيليتش لينين. لا أعرف، ولكن من المقدمة التي كتبها المخرج قسطنطين ستانسلافسكي لمسرح شيخوف تتلَمَّس تبصراً أفضل لروح شيخوف.
    لم أقل لصاحبنا البروفيسور العتيد شيئاً. بل تشاغلت عنهما هو ود. عمر بنفسي. ودار حوارهما منفصلاً عني هنا وهناك. فجأة التفت إليّ البروفيسور بملامح جديته القريبة من الشر تلك. ربما عَدَّ انزوائي ذلك زعلاً ما، لقِلِّ المعرفة، لصغر السن، المهم زعل بشكل من الأشكال. فأراد أن يفعل شيئاً طريفاً يُراضيني به.. اسمع، يستنبهني هو، تُذكِّرني بشخص ما يا ابني!
    فكّر قليلاً ثم أضاف: تشبه كوجاك، تعرفه؟
    "لست رجلاً أبيض لأشبه لك كوجاك هذا".
    - لا، هذا كوجاك أسود. قريبك هو؟
    أنا لا أعرف كوجاك الذي يعنيه هذا. لم أكن أعرف في ذلك الوقت أنَّه ممثل سوداني. فقط كنتُ أعرف كوجاك السينما الأصلي والأصلع. شعري في ذلك الزمن -قبل الصلعة- كان يُغطي وجهي وعنقي. كيف رآني أصلعَ؟
    صمتنا قليلاً وشعرت باضطهاد الحكم من علٍ مرة ثانية. أحكام أكاديميي الجامعات، الذين لا يقبلون في تقويم كلامهم بأقل من قرآن. قلت له ببرود حاد وغير متردّد مطلقاً،..
    "أتعرف من تشبه أنت؟".
    - لا، لا أعرف.
    "############ة".
    وهذه الكلمة مرادف سوداني لكلمة "الطيز" وأكثر فجاجة منها. ربما عَوَّل الرجل على كوني أحد مجانين أسرة د. عمر الذين يُنَكِّرهم كطلاب جامعات خوفاً على وضعه الاجتماعي. فقد اندهش وبُوغت أكثر مما غَضِب. نظر ناحية د. عمر باستغراب وفجيعة. فلم تكن قد مرّت عدة دقائق على تقديم عمر لنا لبعض، بوضعية أستاذ وطالب في مؤسسة واحدة. كل ما أحزنني أن د. عمر حُوصِر وشعرت به انجرح. كلمة قاضية ولا أدري كيف حصلت عليها وأنا بين أساتذة جامعة. لا يمكن قولها حتى ل############ بداخل وكرها على هذا النحو، فكيف مع بروفيسور آداب!؟ لم آبه حينها كثيراً. كان يغطيني في تلك الفترة ضباب يعزلني عن لباقة الحياة الخارجية بالكامل. صدقني، كنت أقرأ شعر أزهري وعاطف والصادق وحميد وأخرج إلى أركان النقاش وأنا مسطول بالفعل وليس ادَّعاءً. ثم أجد نفسي ملهماً والسماء تناولني الكلام ولا علاقة لي بأي أحد ولا أعرف أي شيء. لا أدري كيف عدت من ذلك المكان. كما أنَّ أُبوية الأكادميين هذه وصلف رجال الأمن بالنسبة لي يأكلان بفم واحد ويخرأان بدبر واحد. كيف يقول إن تفضيلي لشيخوف هذه "مرحلة" لن يناقشني فيها؟ ألأن تولستوي بالنسبة لشيخوف كان شيخاً مثله أم ماذا؟ لماذا لا ينزل هذا الرجل لأقرب سماء من السابعة ويشرح لي المسألة؟ كنت بداخلي أفور وأهمهم: عليه أن يعلم أن تولستوي محميته هذا، لولا الحمايات لما صار شيئاً. ومن قبل كان محمية دعاية الصحافة والنقاد الضعفاء ومحمية غروره الذي أرهب به الناس. ماذا لو قلت له إن تولستويه المنفوخ هذا لا يساوي شابتراً واحداً من الطيب صالح أو صنع الله إبراهيم، القعيد، الكوني، حيدر حيدر، أبَّكر إسماعيل، بشرى الفاضل، أو مستغانمي وسلوى بكر، سليم بركات. حيدر حيدر في ذلك الزمن لم يكن موضة، كنت أعرفه وحدي كسر.
    لقد قرأتُ معظم -معظم هنا للتواضع- شخوصه، أعني تولستوي، ولم تؤثر فيّ أو تلمسني شخصية له ربع ما لمستني شخصية "إلياس نخلة" لعبد الرحمن منيف، الذي لا أُطيقه هو الآخر. كيف سيكون موقف البروفيسور يا ترى لو طرحتُ له المسألة على هذا النحو المحلي؟ بلا شك كان سيقتلني، بفتوى أنه لا فائدة من حياتي، فهي لن تكفي للمراحل التعلُّمية الكثيرة التي تنتظرني. قنيطة قنيطة، لن يقرر لي هو وهذه الصحافة ال########ة ما يجب أن أفهمه عن الكتب.
    تنحنح الرجل بطريقة شيخ عادي ما بقي معه أي امتياز أكاديمي ولا كرامة علم. ترك أستاذيته. مثل هذه الكلمات الحميمة تضع المتعجرفين في مواعينهم. قال لي بنبرة –عن حق لم تكن غاضبة كثيراً- ما يزال يلتبسُ عليها الأمر،..
    "أنا رجل في سن والدك".
    قاطعته: بل أكبر قليلاً.
    قلت في بالي: أُصِرُّ على اللؤم لآخر كلمة بحوزتي. سيتفادى المواصلة معي خوف كلمات جديدة. لست أستاذاً مثله لأخسر شيئاً ويذلني وغدٌ مثلي. يمكنه أن يلاحقني في الجامعة ويطردني منها. ولكن د. عمر الذي أغضبته هو أيضاً لن يتركه. لا حَلَّ معه سوى أن يصمت ويمصمص شفاهه من الغضب. ولكنه لم يصمت،...
    - في بيتكم تتحدثون هكذا؟
    "في بيتي أتدرب على الحديث هكذا. شتيمتك هذه لن تجد لي أهلاً تقع بهم".
    - هو هكذا إذاً؟
    أجبته على مقصده فوراً: نعم مواليد وتربية شوارع.
    نهض بغضب مُحَنَّك، جلبه معه من إنجلترا التي درس فيها. التفت ناحية د. عمر وقال له بصوت محاضرات: شكراً يا دكتور.
    أراد أن يُشركه معه في الذنب وإحساس المذلة والحرج. تَحَلَّف عليه د. عمر بأن لا يذهب بينما هو يعتذر له. وسمعت منه بعض الكلمات السيئة لترضية الرجل. لن أنسى لعمر ما حييت أنه لم يطردني له. ولو طردني لما ألقيتُ عليه السلام بعدها أبداً. إمَّا ذلك البروفيسور كله أو أنا. تبعه د. عمر وهو يقسم عليه ويتمَسَّك به حتى الباب. سمعته يقول لدكتور عمر: ذَكِّرني باسمه؟
    أجابه د. عمر: دع هذه المسألة لي يا أستاذ. هو ولد عصابي ومضطرب قليلاً، له مشاكل عدم أسرة كما سمعت. الذي يعرفه هذا كثير عليه. لو طردناه سنسلمه للشارع، في ظني يجب أن نربيه، ندعمه، يجب أن ندعمه يا أستاذ لو كنا ماذا وماذا وعليه، ومش عارف إيه...
    كانا يتساومان حولي كخروف. عندما عاد د. عمر وجدني أشرب عصير الرجل. أعرف أن د. عمر أستاذ فنون ومسرح بحق وموهبة ولم يحصل على ذلك بالمذاكرة. أردت إضحاكه كي أتفادى غضبه. هذه واحدة من وسائلي الصحيحة لمعالجة الأمور مع الأذكياء مثله. بادرته متعجلاً،..
    "تتساومان حول مساعدتي، صحيح؟ ثم تركته يذهب بجيوبه المنتفخة دون أن يتبرع لي بشيء. إذن أدخل أنت يدك في جيبك. أنا لستُ الجيش لتقترحا نفسيكما كفرع توجيه معنوي لنجدتي بالكلام فحسب".
    جلس ورأى العصير في يدي ولم يهتم. هذا الرجل أنا أعِزّه بالفعل وها قد أغضبته بتوريطي له في حماقة ########ة. هذه الحادثة ستصبح أُنس البروفيسور مع زملائه ربما لسنة قادمة. رأى د. عمر أسناني الصفراء خارجة من قِرابها أيضاً. كنت مبتسماً. تقدمته كي يلحق بي عند ضحكة. آخ، لقد غضب بالفعل، خذلني. قال لي بغيظ،..
    - هذا الرجل ضيفي يا محسن. لبيتي حرمة، وللعمر حرمة، ولأستاذيته أيضاً حرمة.
    لم أخجل، كنت محجوباً في ذلك الزمن كما قلت لك. أردت فقط أن أتخلص من حصاره لي. هو صديقي ولا يمكنني مراوغته بالطريقة ذاتها. يعرفني ويعرف أموري جيداً.
    "بالجد أنا آسف لحرمة بيتك وحدها. ولكن أية حرمات تعرفها لأمثال هؤلاء؟ أليسوا هم أنفسهم مَنْ قالوا لك لن تُحَضِّر في هذه الجامعة، حتى تأتيهم بدليل يخترع علاقة تربط التربية بالدراما؟".
    هذا الكلام حدث بالفعل في زمن قديم. كنت في المتوسط أو بداية الثانوي -لا أذكر- ولم يكن هو دكتوراً. رافقناه إليهم أنا وصديقي كاظم الزعيم عِدَّة مرات. بينما هو يحاول إقناعهم بأن لعلوم التربية صلة تربطها بعلم الدراما. كي يسمحوا له بالتحضير والعمل في الجامعة. كان قد عاد لتوِّه من العراق، مع مكتبته الهائلة التي حصدها جراد الأمن. وعرّفني عليه كاظم الذي كان بعثياً في ذلك الوقت. غالباً من خلال د. عمر -لست متأكداً- ولكن كاظم أصغر مني أنا. ولو حذفنا من عمره أي شيء فسنضعه في رداء قصير وندخله المدرسة الابتدائية. وحينها لن يصبح بوسعه أن يكون بعثياً أو أي مخلوق آخر، عدا آكل للآيسكريم. فلا بُدَّ أنه صار بعثياً بعد قدوم د. عمر.
    اعترضني بضيق، دون شك،..
    - لن تبتزني بهذا الكلام؟ لأول مرة في حياتي أجد نفسي لا أعرف ماذا أفعل.
    قلت له ضاحكاً كي أُسَوِّف غضبه قليلاً: لقد عشنا لحظة في الحقيقة، لا تندم. الانتباه الكامل لا يوفره إلا منتهى الحرج أو منتهى الخوف.
    ضحكت وأردفت بسرعة ومُصرَّاً على موضوع علاقة التربية بالدراما،..
    "والله أنا لا أذكر يا دكتور، كنت صغيراً وأرهب النظر إلى الأساتذة من أمثاله. ولكن بحق ألم يكن هذا الرجل معهم حين كنت تفاوضهم؟ من يبحثون عن دليل يثبت علاقة التربية بالدراما فلا بُدَّ أن يكون هذا الرجل الغبي رئيس كَشَّافتهم".
    نلت منه أخيراً، ضحك وأجابني: بحق، ألا تذكر؟
    "لا أذكر والله".
    - بالفعل كان معهم. لم يكن رئيسهم، ولكن كان بإمكانه أن يتدَخَّل.
    تمرغت أنا من الضحك على المقعد مثل جحش. حتى رفست الدوسيه الكبير الذي جاء به الرجل لدكتور عمر.
    "يا نبوي أنا، يا محسن. ألم أقل لك؟ أو هذه رهبانية الطبيعة. الأشياء تعرف طرقها الغامضة حتى لو تبعثر من حولها الناس وتعاظم فوقها التاريخ. يستاااهل. كان رديئاً أستاذكم متدلي البطن هذا، ويستاهل".
    سألني د. عمر مع ضحكة ماكرة وهو يهز رأسه ناحيتي: وأنت؟
    "أنا أيضاً رديء، لن أمتدح لك نفسي مطلقاً".
    "بس سؤال يا دكتور، زولك دا كوز وألا ما كوز؟".
    - أولاً ما زولي، زول رقبتو براها، ثانياً مصاحبني بالغصب وكوز.
    "ال######...".
    قلت في بالي: كل ذلك حدث كي نصل إلى هذه النقطة، المهمة أو غير المهمة، لن تفرق كثيراً. فأنا فعلاً لم أكن أتذَكَّره. كيف يتم القدر؟ هل هو أصلاً يُعِدُّونه حسب الأشخاص الذين سيتواجدون في مستقبل مشترك ما؟ هل يتكون القدر بناءً على ذهابنا نحن إليه، أم على مجيئه هو إلينا؟ كاظم وعمر كانا من مدني، أما أنا فمن شندي وقد أتيت إليها زائراً. أم تُرى هو القدر قوانين عامة تفرض التفاصيل تلقائياً بكونها أقوى من الزمان والمكان؟
    هل كان بوسع البروفيسور أن يلحظ صبياً صغيراً بصحبة الطالب عمر، سيهينه ذات يوم في بيت هذا الزميل الماثل في صورة طالب الآن؟
    لا أعرف. المهم أنني وجدتُ غداءً ولا أعرف ماذا فعلتْ "الست" زوجة "عبده تيَّه".

    محسن خالد
    مدينة دوكة 1994م
                  

العنوان الكاتب Date
مناولة... بله محمد الفاضل09-01-13, 08:01 AM
  Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-01-13, 08:03 AM
    Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-01-13, 08:14 AM
      Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-01-13, 08:17 AM
        Re: مناولة... إلى محمد عبد الله حرسم.... بله محمد الفاضل09-01-13, 08:26 AM
          Re: مناولة... إلى جميع الفرقاء، اختلفوا بحُب.... بله محمد الفاضل09-01-13, 02:06 PM
            Re: مناولة... إلى جميع الفرقاء، اختلفوا بحُب.... طه جعفر09-01-13, 03:23 PM
              Re: مناولة... إلى جميع الفرقاء، اختلفوا بحُب.... بله محمد الفاضل09-01-13, 05:50 PM
            Re: مناولة... إلى جميع الفرقاء، اختلفوا بحُب.... بله محمد الفاضل09-01-13, 03:46 PM
              Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-02-13, 03:06 PM
                Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس راشد سيد أحمد الشيخ09-02-13, 03:20 PM
                  Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-03-13, 08:11 AM
                    Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-03-13, 08:25 AM
                      Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-03-13, 08:41 AM
                Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-03-13, 03:01 PM
                  Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-03-13, 03:23 PM
                    Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس Ishraga Mustafa09-03-13, 04:23 PM
                      Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس الفاتح ميرغني09-04-13, 05:31 AM
                        Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-05-13, 07:41 AM
                      Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-04-13, 08:16 AM
                  Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-04-13, 08:33 AM
                    Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-04-13, 10:49 AM
                      Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس ibrahim fadlalla09-04-13, 11:18 AM
                        تفاصيل صغيرة بله محمد الفاضل09-05-13, 07:36 AM
                        Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-05-13, 07:45 AM
                          Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-05-13, 08:01 AM
                            التاريخ، نقيضاً للتاريخ بله محمد الفاضل09-05-13, 09:42 AM
                              Re: التاريخ، نقيضاً للتاريخ بله محمد الفاضل09-05-13, 10:13 AM
                    Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-07-13, 10:19 AM
                      Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس ibrahim fadlalla09-08-13, 07:28 AM
                        Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-08-13, 07:44 AM
                      Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-08-13, 08:36 AM
                        Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-08-13, 08:42 AM
                          Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-08-13, 09:45 AM
                            Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس mustafa mudathir09-08-13, 08:47 PM
                              Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-09-13, 09:26 AM
                              Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-11-13, 07:53 AM
                                Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-11-13, 07:57 AM
                                  Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-11-13, 08:00 AM
                                    Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-11-13, 08:04 AM
                                      Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-11-13, 08:25 AM
                                        Re: مناولة... لنقرأ معاً: بيان الحداثة - أدونيس بله محمد الفاضل09-12-13, 10:37 AM
                                          Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-14-13, 08:13 AM
                                            Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-14-13, 08:39 AM
                                              Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-14-13, 01:57 PM
                                                Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-14-13, 02:02 PM
                                                  Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-14-13, 02:34 PM
                                                    Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-14-13, 02:39 PM
          Re: مناولة... إلى محمد عبد الله حرسم.... محمد عبد الله حرسم09-22-13, 10:00 AM
            Re: مناولة... إلى محمد عبد الله حرسم.... بله محمد الفاضل09-22-13, 10:07 AM
  Re: مناولة... جورج بنيوتي09-15-13, 01:03 PM
    Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-15-13, 02:43 PM
      Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-16-13, 06:08 PM
        Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-17-13, 09:27 AM
          Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-17-13, 10:10 AM
            Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-17-13, 10:14 AM
              Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-17-13, 03:20 PM
                Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-17-13, 04:50 PM
                  Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-17-13, 05:26 PM
                    Re: مناولة... ibrahim fadlalla09-18-13, 02:29 PM
                      Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-19-13, 08:05 AM
                        Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-19-13, 08:22 AM
                          Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-19-13, 08:30 AM
                            Re: مناولة... يا درش بله محمد الفاضل09-19-13, 08:32 AM
                              Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-19-13, 08:40 AM
                              Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-19-13, 08:40 AM
                                Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-19-13, 08:50 AM
                                  Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-19-13, 09:42 AM
                                    Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-19-13, 10:38 AM
                                      Re: مناولة... ibrahim fadlalla09-20-13, 10:40 AM
                                        Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-21-13, 07:11 AM
                                          Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-21-13, 07:16 AM
                                            Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-21-13, 02:34 PM
                                              Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-21-13, 02:42 PM
                                                Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-22-13, 04:00 PM
                                                  Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-26-13, 04:15 PM
                                                    Re: مناولة... بله محمد الفاضل09-26-13, 04:32 PM
                                                      Re: مناولة... بله محمد الفاضل10-03-13, 10:24 AM
                                                        Re: مناولة... بله محمد الفاضل10-24-13, 10:47 AM
                                                          Re: مناولة... بله محمد الفاضل10-27-13, 08:33 AM
                                                            Re: مناولة... بله محمد الفاضل10-27-13, 10:36 AM
                                                              Re: مناولة... بله محمد الفاضل10-27-13, 10:44 AM
                                                                Re: مناولة... بله محمد الفاضل10-29-13, 09:31 AM
                                                                  Re: مناولة... Muna Khugali10-30-13, 03:34 PM
                                                                    Re: مناولة... بله محمد الفاضل10-31-13, 07:31 AM
                                                                      Re: مناولة... إنا من القراء يا أسامة ومن المشتاقين إلى حرفك/وجودك هنا... بله محمد الفاضل10-31-13, 08:32 AM
                                                                        Re: مناولة... بله محمد الفاضل11-11-13, 10:31 AM
                                                                          Re: مناولة... بله محمد الفاضل11-26-13, 08:45 AM
                                                                            Re: مناولة...إلى إبراهيم فضل الله في غيابه الموحش المقلق ومصطفى مدثر وجميع المترجمين... بله محمد الفاضل11-26-13, 10:38 AM
                                                                              Re: مناولة... بله محمد الفاضل11-28-13, 09:28 AM
                                                                                Re: مناولة... بله محمد الفاضل12-01-13, 07:42 AM
                                                                                  Re: مناولة... رفيقة الصباح بله محمد الفاضل12-01-13, 07:52 AM
                                                                                    Re: مناولة... ثلاث قصائد: حافظ عباس عالم بله محمد الفاضل12-16-13, 07:49 AM
                                                                                      Re: مناولة... قصة الخلق: ح.خ بله محمد الفاضل12-16-13, 08:06 AM
                                                                                        Re: مناولة... قصة الخلق: ح.خ بله محمد الفاضل12-21-13, 09:16 AM
                                                                                          Re: مناولة... قصة الخلق: ح.خ بله محمد الفاضل12-23-13, 09:23 AM
                                                                                            Re: مناولة... بله محمد الفاضل12-26-13, 07:28 AM
                                                                                              Re: مناولة... بله محمد الفاضل12-28-13, 08:13 AM
                                                                                                Re: مناولة... بله محمد الفاضل12-28-13, 08:49 AM
                                                                                                  Re: مناولة... بله محمد الفاضل12-28-13, 09:05 AM
                                                                                                    Re: مناولة... بله محمد الفاضل12-28-13, 09:15 AM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de