براح للفلسفة

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-02-2024, 11:48 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الثاني للعام 2007م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى صورة مستقيمة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
04-23-2007, 04:53 PM

Mohammed Elhaj
<aMohammed Elhaj
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1670

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
براح للفلسفة


    هذه المقالات الفلسفية أردت بنشرها هنا اتاحتها للقراءة لاكبر قدر من أعضاء و قراء سودانييز اونلاين،
    اضافة الى اثراء الموقع/المنبر بهكذا مقالات تتناول "المعاصر" في الشأن الفلسفي، بالاضافة لشكل من اعادة القراءة و التفكير مع المهتمين بصوت مسموع.. بالاضافة لكونها تمهيد لعدد من البوستات في نفس الاتجاه (موود البورد).... واخيراً باتجاه واقع فكري /نظري

    هذه المجموعة الاولى ستهتم بالهيرمونطيقا المقال الأول ل د. نصر حامد ابوزيد



    الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص


    نصر حامد أبوزيد

    القضية الأساسية التى تتناولها ( الهرمنيوطيقا ) بالدرس هى معضلة تفسير النص بشكل عام ، سواء كان هذا النص نصا تاريخيا ، أم نصا دينيا، والأسئلة التى نحاول الإجابة عليها - من ثم - أسئلة كثيرة معقدة ومتشابكة حول طبيعة النص وعلاقته بالتراث والتقاليد من جهة ، وعلاقته بمؤلفه من جهة أخرى. والأهم من ذلك أنها تركز اهتمامها بشكل لافت على علاقة المفسر ( أو الناقد فى حالة النص الأدبى) بالنص . هذا التركيز على علاقة المفسر بالنص هو نقطة البدء والقضية الملحة عند فلاسفة الهرمنيوطيقا وهى - فى تقديرى - الرواية التى أهملت إلى حد كبير فى الدراسات الأدبية منذ أفلاطون حتى العصر الحديث . ومصطلح الهرمنيوطيقا مصطلح قديم بدأ استخدامه فى دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموع' القواعد والمعايير التى يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الدينى ( الكتاب المقدس ) . والهرمنيوطيقا - بهذا المعنى - تختلف عن التفسير الذى يشير إلية المصطلح Exegesis على اعتبار أن هذا الأخير يشير إلى التفسير نفسه فى تفاصيله التطبيقية بينما يشير المصطلح الأول إلى ( نظرية التفسير ) ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م ، وما زال مستمرا حتى اليوم خاصة فى الأوساط البروتستانتية (1)
    وقد أتسع مفهوم المصطلح فى تطبيقاته الحديثة ، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتساعا تشمل كافة العلوم الإنسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجى وفلسفة الجمال والنقد الأدبى والفولكلور . وإذا كان هذا الاتساع فى مفهوم المصطلح وتطبيقاته يجعل من الصعب - فى مثل هذه الدراسة - الإلمام بكل التفاصيل ، فإن علينا أن نقنع بالخطوط العامة لتطور هذا العلم مركزين على مغزاه بالنسبة لنظرية تفسير النصوص الأدبية . الهرمنيوطيقا - إذن - قضية قديمة وجديدة فى نفس الوقت وهي في تركيزها على علاقة المفسر بالنص ليست قضية خاصة بالفكر الغربي ، بل هي قضية لها وجودها الملح في تراثنا العربي القديم والحديث على السواء . وينبغي أن نكون على وعي دائم ـ في تعاملنا مع الفكر الغربي في أي جانب من جوانبه ـ بأننا في حالة حوار جدلي وأننا يجب أن لا نكتفي بالاستيراد والتبنى ،بل علينا أن ننطلق من همومنا الراهنة فى التعامل مع واقعنا الثقافي بجانبيه التاريخى والمعاصر. من هنا يكتسب حوارنا مع الفكر الغربى أصالته وديناميته ، ومن هنا أيضا نكف عن اللهاث وراء كل جديد ما دام قادما إلينا من الغرب (المتقدم) هذا الوعى بعلاقتنا الجدلية بالفكر الغربى - من جانب اخر - يخلصنا من الانكفاء على الذات والتقوقع داخل أسوار ( تراثنا المجيد) و ( تقاليدنا المو ) ومن الغريب أن واقعنا الثقافى - وكذلك الاجتماعى والسياسى - يتسع لشعارى ( الانفتاح الكامل) و ( الاكتفاء الكامل ) دون أدنى إحساس بالتعارض الجذرى بين الشعارين إن صيغة ( الحوار الجدلى ) ليست صيغة تلفيقية تحاول أن تتوسط بين نقيضين، بل هى الأساس الفلسفى لأى ومواقف ( معرف'، ومن ثم لأى وعى بصرف النظر عما نرفعه من شعارات أو نتبناه من مقولات ومواقف . إن أى موقف يقوم على الاختبار ، والاختبار عملية مستمرة من القبول والرفض ، أى عملية مستمرة من الحوار التى تبدأ من الموقف . وسواء أخترنا من التراث أم اخترنا من الغرب فإن اختيارنا قائم على الحوار الذى يدعم موقفنا. إن إدراك جدلية الحوار فى عملية الاختيار يعمق الوعى ويخلصنا من الفوضى الفكرية التى لا يستطيع أى متأمل لحياتنا الثقافية أن ينكرها. من هذا المنطلق نتعرض لفلسفة الهرمنيوطيقا فى الفكر الغربى الحديث أملين أن تضئ لنا بعض جوانب القصور فى رؤيتنا الثقافية عامة ، وفى رؤيتنا للعمل الأدبى خاصة . ولكن علينا قبل ذلك - لكى نكون متسقين مع منهجنا - أن نشير إلى معضلة تفسير النص فى تراثنا القديم والحديث.
    (1)
    هناك فى تراثنا القديم ، وعلى مستوى تفسير النص الدينى(القرآن) تلك التفرقة الحاسمة بين ما أطلق عليه (التفسير بالمأثور) وما أطلق عليه (التفسير بالرأى ) أو ( التأويل ) وذلك على أساس أن النوع الأول من التفسير يهدف إلى معنى النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية واللغوية التى تساعد على فهم النص فهما( موضوعيا) أى كما فهمه المعاصرون لنزول هذا النص من خلال المعطيات اللغوية التى يتضمنها النص وتفهمها الجماعة . أما التفسير بالرأى أو( التأويل ) فقد نظر إليه على أساس أنه تفسير (غير موضوعى )لأن المفسر لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، بل يبدأ بموقفه الراهن محاولا أن يجد فى القران (النص) سندا لهذا الموقف. وقد أطلق على أصحاب الاتجاه الأول أهل السنة والسلف الصالح . ونظر إلى هذا الاتجاه - غالبا - نظرة إجلال واحترام وتقدير ، بينما كانت النظرة إلى أصحاب الاتجاه الثانى - وهم الفلاسفة والمعتزلة والشيعة والمتصوفة - نظرة حذر وتوجس ، وصلت فى أحيان كثيرة إلى التكفير وحرق الكتب .
    ومن الضرورى الإشارة إلى أن التمايز بين الاتجاهين - فى الواقع العملى - لم يكن حاسما بمثل هذا الوضوح الذى تطرح به القضية على المستوى النظرى، فلم تخل كتب التفسير بالمأثور من بعض الاجتهادات التأويلية حتى عند المفسرين القدماء الذين عاصروا فى بواكيرحياتهم نزول النص كابن عباس مثلا (2) . ومن جانب أ خر لم تتجاهل كتب تفسير بالرأى أو (التأويل) الحقائق التاريخية واللغوية المتصلة بالنص. وللمعضلة بعدها الميتافيزيقى الذى لم يتنبه له القدماء تنبها واضحا، وإن مسوه مسا غير مباشر . هذه المعضلة هى : كيف يمكن الوصول إلى المعنى ( الموضوعى) للنص القرآنى ؟ وهل فى طاقة البشر بمحدوديتهم ونقصهم الوصول إلى .(القصد) الالهى فى كماله وإطلاقه ؟ ! لم يزعم أى من الفريقين إمكان هذا، غاية الأمر أن المؤولة كانوا أكثر حرية فى الفهم وفتح باب الاجتهاد ، بينما تمسك أهل السلف - وإن لم يقرروا ذلك صراحة - بإمكانية الفهم الموضوعى على التغليب.
    ولا شك أن الخلاف بين الاتجاهين كانت له أصوله الاجتماعية والفكرية التى لا يعنينا التعرض لها فى مثل هذا المقال . ويكفينا هنا الالماح . إلى وجود المعضلة فى تراثنا الدينى والاشارة إلى وجود اتجاهين يمثل كل منهما زاوية فى النظر إلى علاقة المفسر بالنص: الاتجاه الأول يتجاهل المفسر ويلغى وجوده لحساب النص وحقائقه التاريخية واللغوية . بينما لا يتجاهل الاتجاه الثانى مثل هذه العلاقة، بل يؤكدها على خلاف فى مستويات هذا التأكيد وفاعليتها بين الفرق والاتجاهات التى تتبنى هذه الزاوية. ومن الجدير بالذكر أن اختلاف مناهج المفسرين فى العصر الحديث فيما يتصل بتفسير النص القرآنى ما تزال تدور حول هذين المحورين ، وإن تكن الغلبة - على المستوى الاعلامى - كما كانت فى الماضى لأصحاب المنهج التاريخى الموضوعى .
    ويتجلى وجود المعضلة فى تراثنا النقدى الحديث على المستوى العملى التطبيقى ، إذ الوعى بها على مستوى النظرى ليس واضحا كل الوضوح . فالنص الأدبى يتسع للعديد من التفسيرات التى تتنوع بتنوع اتجاهات النقاد ومذاهبهم . هذه الاتجاهات ليست فى حقيقتها سوى صياغة لموقف الناقد الاجتماعى والفكرى من واقعه. وتتمثل المعضلة الحقيقية فى أن كل ناقد يزعم أن تفسيره للنص هو التفسير الوحيد الصحيح ، وأن مذهبه النقدى هو المذهب الأمثل للوصول إلى المعنى (الموضوعى ) للنص كما قصده مؤلفه. ولا أدل على ذلك من كثرة التفسيرات التى طرحت على أدب كاتب معاصر هو نجيب محفوظ ( فنحن نلتقى به عند باحث وقد صوره كاتب الاشتراكية الأول الذى وقف حياته وانتاجه للدفاع عنها ، كما نلتقى به عند باحث أخر وقد أصبح كاتب الإسلامية الروحية ) (3) . وهكذا لا يكتفى الناقد بتجاهل العلاقة بين موقفه الذاتى من الواقع وبين المنهج الذى يتبناه لتحليل النص الأدبى ، بل يوحد بشكل صارم بين تفسيره للنص والنص نفسه ، كما أنه يوحد بين النص بكل علاقاته وتشكيلاته اللغوية والجمالية وبين قصد المؤلف. إن ثلاثية( المؤلف / النص / الناقد)أو (القصد / النص / التفسير) لايمكن التوحيد الميكانيكى بين عناصرها، ذلك أن العلاقة بين هذه العناصر تمثل إشكالية حقيقية ، وهى الاشكالية التى تحاول الهرمنيوطيقا - أو التأويلية إذا شئنا استخدام مصطلح عربى - تحليلها والاسهام فى النظر إليها نظرة جديدة تزيل بعض صعوبات فهمها، وبالتالى تؤسس العلاقة بينها على أساس جديد.
    ما هى العلاقة بين المؤلف والنص ؟ وهل يعد النص الأدبى مساويا حقيقيا لقصد المؤلف العقلى ؟ وإذا كان ذلك صحيحا ، فهل من الممكن أن يتمكن الناقد أو المفسر من النفاذ إلى العالم العقلى للمؤلف من خلال تحليل النص المبدع ؟ وإذا أنكرنا التطابق بين قصد المؤلف والنص ، فهل هما أمران متمايزان منفصلان تماما ؟ أم أن ثمة علاقة ما ؟ وما هى طبيعة هذه العلاقة ؟ وكيف نقيسها ؟ وبالتالى ما هو نوع العلاقة بين النص والناقد أو المفسر ؟ وما هى إمكانية الفهم ( الموضوعى) لمعنى النص الأدبى ؟ ونقصد( بالفهم الموضوعى) الفهم العلمى الذى لا يختلف عليه .أى فهم النص كما يفهمه مبدعه أو كما يريد أن يفهم وتتزايد المعضلة تعقيدا إذا تساءلنا عن علاقة ثلاثية ( المؤلف / النص / الناقد ) بالواقع الذى تتم فيه عمليتا الابداع والتفسير . وتزداد حدة التعقيد إذا كان النص ينتمى إلى زمن مغاير وواقع مختلف لزمن التفسير وواقعه ، أى إذا كان المؤلف والناقد ينتميان إلى عصرين مختلفين وواقعين متمايزين .
    لقد حاولت نظرية الأدب - فى مسار تطورها التاريخى - أن تعالج جوانب مختلقة من هذه المعضلة، وتوقفت كل نظرية - فى إطار ظروفها التاريخية - عند جانب أو أكثر من هذه الجوانب مؤكدة أهميته على حساب الجوانب الأخرى. واستعراض سريع لهذه النظريات يؤكد أن جانب علاقة النص بالمفسر ظل جانبا مهملا حتى فى الواقعية الاشتراكية التى عالجت الزوايا المتعدد لمعضلة علاجا حاسما مستفيدة دون شك من كل الانجازات الأصلية للنظريات التى سبقتها . ورغم ما فى مقولاتها الأساسية - خاصة مقولة الجدل - من أساس صالح للنظر إلى علاقة المفسر بالنص ، فإن هذا الجانب ظل - على مستوى الوعى النقدى - مهملا أو غائما فى أحسن الأحوال .
    ولقد بدأت دراسة الفن عامة ، والأدب خاصة بتحليل العلاقة بين الابداع والعالم الواقعى الذى نعيش فيه ، وانتهت على يد كل من أفلاطون وأرسطو - وحتى العصر الحديث فيما عرف بالكلاسيكية - إلى تأكيد دور الواقع الخارجى على حساب الفنان أو المبدع فيما عرف بنظرية المحاكاة . وانتهت هذه النظرية فى تفسير العمل الفنى والأدبى إلى محاولة البحث عن الدلالات الخارجية التى يشير إليها العمل. واتحدت هذه الدلالات الخارجية عند أفلاطون مع ( الحقيقة) الفلسفية المتوارية وراء عالم الظواهر ، والمتعالية على الوجود المادى. وإذا كان أر سطو لم يسلم بالموازاة الحرفية بين الفن والواقع كما فعل أفلاطون ، فإنه لم يرد هذا الانحراف فى العمل الفنى إلى دور المبدع وموقفه من الواقع، بل رده إلى قيم مطلقة معيارية يقاس على أساسها جودة العمل أو رداءته فيما عرف بنظرية التطهير الأخلاقية (4).
    وعلى الجانب المقابل أكدت الرومانسية دور المبدع على حساب الواقع ، وأخلت السبيل لمشاعر الفنان وانفعالاته الداخلية ، ونظرت إلى العمل الأدبى على أساس أنه تعبير عن العالم الداخلى للفنان ومواز له . وصارت مهمة الناقد أو المفسر هى أن يفهم الفنان بغية فهم العمل نفسه ، وذلك عن طريق الاستعانة بكل المعلومات التى يمكن تحصيلها عن حياة الفنان وسيرته الذاتية . غير أن الرومانسية - من جانب أخر - قد حولت عملية نقد العمل الفنى إلى إبداع جديد فيما عرف بالانطباعية ، وأكدت حرية الناقد فى تفسير العمل الأدبى ، وجعلته عنصرا فاعلا يحتكم إلى معاييره الخاصة فى فهم العمل وتفسيره. إن ما أضافته الرومانسية - من وجهة نظر التأويلية - أنها أفسحت مجالا لذاتية الناقد فى فهم النص ، طالما أن ما يشير إليه النص - وهو ذات الفنان ومشاعرها وانفعالاتها - منطقة غامضة يصعب الوصول إليها بموضوعية علمية من خلال النص الذى تتعدد دلالاته بتعدد القارئين . هذا التعدد يرجع إلى خصوصية الأداة - اللغة فى حالة الأدب - التى تتفاعل مع مشاعر الفنان - فى حالة التعبير - فتتغير بنيتها بقدر ما تغير هى من طبيعة هذه الانفعالات التى كانت فى حالة تشوش وغموض قبل تجسدها فى العمل الأدبى (5) .
    وفى مرحلة الجزر الرومانسى ، خطت الدراسة الأدبية على يد ت.س. إليوت خطوة جديدة جعلت (النص) هو محور اهتمامها ، منكرة أى علاقة بين (النص) ومبدعه أو الواقع الذى تمت فيه عملية الابداع . إن للنص عند إليوت وجودا مستقلا لا ينتمى فيه إلى أى شئ خارجه ، ولا يجب على الناقد البحث عن دلالات للعمل الأدبى خارج إطاره اللغوى. إن مهمة الناقد هى تحليل النص بتشكيلاته اللغوية وبيان عناصرها ودلالتها الجمالية . وإلى جانب التحليل يجب عليه مقارنة النص بنصوص أخرى تنتمى لنفس النوع الأدبى بهدف الكشف عن دور هذا النص فى دائرة التقاليد الأدبية.ماذا أخذ منها وماذا أضاف إليها . وتقاس عظمة العمل الأدبى بمدى إسهامه فى طرح تقاليد أدبية جديدة يغير بها نظام التقاليد السائدة. إن مهمة الناقد يجب أن تقوم على أساس موضوعى محايد وأن تستخدم وسائل محايدة. هى التحليل والمقارنة ، كما أن الفنان يجب عليه أن يتجنب مشاعره الشخصية في عملية الابداع ويخلق بدلا منها معادلا موضوعيا "محايدا" هو العمل الأدبي (6) .
    وقد قدر لمثل هذه النظرة ـ التي تتزيا بالعلمية والموضوعية ـ لأسباب ليس هنا مجال شرحها ـ أن تسود مجال النقد الأدبي بدرجات متفاوتة من الاعتراف بعلاقة النص بمبدعه أو علاقته بالواقع بمعناه الواسع. وصار التركيز أساسا -فى هذه المناهج - على تحليل النص باعتباره نقطة البدء والمعاد فى ( علم الدراسات الأدبية ) وترك مجال علاقة النص بمبدعه أو علاقته بالواقع لمجالات أخرى غير النقد الأدبى مثل علم النفس أو علم اجتماعية الأدب . ولم تنج من سطوة هذا التصور بعض الاتجاهات الواقعية ، خاصة الواقعية المطبقة فى كل من إنجلترا وأمريكا . هذه الواقعية ( تميل إلى افتراض أن العمل الأدبى هناك . قائم -ببساطة -فى العالم مستقل بشكل أساسى عن متلقيه . ويعتبر تلقى العمل عملية منفصلة عن العمل نفسه ، ومهمة التفسير الأدبى هى الكلام عن (العمل نفسه)ومن ناحية أخرى يعتبر قصد المؤلف منفصلا بشكل حاد عن العمل. إن للعمل الأدبى كينونة لها قوتها وديناميكيتها . والناقد النمطى الحديث يدافع عامة عن (استقلال وجودة) العمل الأدبى ، ويرى أن مهمته هى النفاذ إلى هذا الوجود من خلال تحليل النص . هذا الفصل المبدئى بين الذات والموضوع ، وهو فصل محورى فى الواقعية ، يصبح الأساس الفلسفى وإطار التفسير الأدبى ) (7) .
    وقد حاولت البنائية - مستفيدة من مناهج علم اللغة - التغلب على هذه المعضلة بتركيز اهتمامها - فى تحليل العمل الأدبى - فى البحث عن البنية التى تؤدى إلى اكتشاف النظام الذى يقوم على أساسه العمل الأدبى. واعتبرت أن هذا النظام - أو اكتشافه - يحل معضلة ثلاثية (القصد/ النص/ التفسير ) على أساس أن هذه العناصر ليست إلا تجليات بمستويات مختلفة لظاهرة النظام كما تتجلى فى الفكر (القصد ) والتشكيل (النص ) والتحليل (التفسير) ووحدت البنائية بين هذه المستويات الثلاث (أو التجليات) للنظام وبين مستويات أخرى فى الواقع بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نزولا إلى نظام الطعام والأزياء وكافة الممارسات اليومية من أدناها إلى أرقاها . إن الناقد البنيوى يتجاوز ثنائية الذات والموضوع، بإخضاعهما معا لفكرة النظام ، وهو بالتالى يجعل الأدب مشيرا إلى معطى خارجى محدد سلفا ، ويشل من ثم فاعلية الفنان والناقد معا ، لأنهما يخضعان لنوع من الجبرية الصارمة. وسنعود- فيما بعد - لمناقشة اعتراضات بعض مفكرى الهرمنيوطيقا على البنائية لنرى بعض الاضافات التى أجريت عليها استجابة لهذه الاعتراضات .
    (2)
    يمثل المفكر الألمانى شليرماخر (1843م) الموقف الكلاسيكى بالنسبة للهرمنيوطيقا.ويعود إليه الفضل فى أنه نقل المصطلح من دائرة الاستخدام اللاهوتى ليكون (علما) أو (فنا) لعملية الفهم وشروطها فى تحليل النصوص. وهكذا تباعد شليرماخر بالتأويلية بشكل نهائى عن أن تكون فى خدمة علم خاص. ووصل بها إلى أن تكون علما بذاتها يؤسس عملية الفهم ، وبالتالى عملية التفسير .
    وتقوم تأويلية شليرماخر على أساس أن النص عبارة عن وسيط لغوى ينقل فكر المؤلف إلى القارئ ، وبالتالى فهو يشير - فى جانبه اللغوى - إلى اللغة بكاملها . ويشير - فى جانبه النفسى - إلى الفكر الذاتى لمبدعه . والعلاقة بين الجانبين - فيما يرى شليرماخر - علاقة جدلية . وكلما تقدم النص فى الزمن صار غامضا بالنسبة لنا ، وصرنا - من ثم - أقرب إلى سوء الفهم لا الفهم . وعلى ذلك لابد من قيام ( علم ) أو ( فن ) يعصمنا من سوء الفهم ويجعلنا أقرب إلى الفهم . وينطلق شليرماخر لوضع قواعد الفهم من تصوره لجانبى النص ، اللغوى والنفسي . يحتاج المفسر للنفاذ إلى معنى النص إلى موهبتين ، الموهبة اللغوية ، والقدرة على النفاذ إلى الطبيعة البشرية ( الموهبة اللغوية وحدها لا تكفى لأن الإنسان لا يمكن أن يعرف الإطار اللا محدود للغة ، كما أن الموهبة فى النفاذ إلى الطبيعة البشرية لا تكفى لأنها مستحيلة الكمال ، لذلك لابد من الاعتماد على الجانبين ، ولا يوجد ثمة قواعد لكيفية تحقيق ذلك )(8) . ولكن ما هى طبيعة العلاقة بين فكر المؤلف ( أو نفسيته ) وبين الإطار اللغوى ( الوسيط ) الذى يتم فيه التعبير ؟ يرى شليرماخر – أن اللغة تحدد للمؤلف طرائق التعبير التى يسلكها للتعبير عن فكره . وللغة وجودها الموضوعى المتميز عن فكر المؤلف الذاتى ، وهذا الوجود الموضوعى هو الذى يجعل عملية الفهم ممكنة . ولكن المؤلف – من جانب أخر – يعدل من معطيات اللغة تعديلا ما . إنه لا يغير اللغة بكاملها ، وإلا صار الفهم مستحيلا ، إنه – فحسب – يعدل بعض معطياتها التعبيرية ، ويحتفظ ببعض معطياتها التى يكررها وينقلها ، وهذا ما يجعل عملية الفهم ممكنة ( إننى أفهم المؤلف بقدر توظيفه للغة ، فهو – من جانب – يقدم فى استعماله للغة أشياء جديدة ، ويحتفظ – من جانب أخر – ببعض خصائص اللغة التى يكررها وينقلها )(9) . هناك إذن فى أى نص جانبان : جانب موضوعى يشير إلى اللغة ، وهو المشترك الذى يجعل عملية الفهم ممكنة ، وجانب ذاتى يشير إلى فكر المؤلف ويتجلى فى استخدامه الخاص للغة . وهذان الجانبان يشيران إلى تجربة المؤلف التى يسعى القارئ إلى إعادة بنائها بغية فهم المؤلف أو فهم تجربته . والقارئ يمكن له أن يبدأ من أى الجانبين شاء ، مادام كل منهما يؤدى به إلى فهم الأخر . وكلا الجانبين – فى رأى شليرماخر – صالحان كنقطة بداية لفهم النص . البدء بالجانب اللغوى يعنى أن القارئ يقوم بعملية إعادة بناء تاريخية موضوعية للنص ، وهى عملية يطلق عليها شليرماخر Objective Historical reconstruction وهى تعتد بكيفية تصرف النص فى كلية اللغة . وتعتبر المعرفة المتضمنة فى النص نتاجا للغة . ولهذه البداية جانب أخر ، وهو ما يطلق عليه شليرماخر Objective divinatory reconstruction إعادة البناء التنبؤى الموضوعى ، وهى تحدد كيفية تطوير النص نفسه للغة . وللبدء من الجانب الذاتى - كذلك - جانبان : الأول هو إعادة البناء الذاتى التاريخى ، وهو يعتد بالنص باعتباره نتاجا للنفس ، أما الجانب الثانى وهو الذاتى التنبؤى فهو يحدد كيف تؤثر عملية الكتابة فى أفكار المؤلف الداخلية.
    هذان الجانبان - الموضوعي والذاتى ، أو اللغوى والنفسى - بفرعيهما التاريخى والتنبؤى ، يمثلان القواعد الأساسية ، والصيغة المحددة لفن التأويل عند شليرماخر . وبدونهما لا يمكن تجنب سوء الفهم . إن مهمة الهرمنيوطيقا هى فهم النص كما فهمه مؤلفه ، بل حتى أحسن مما فهمه مبدعه(1.) . ورغم تسوية شليرماخر بين الجانبين - اللغوى والنفسي - من حيث صلاحيتهما كنقطة بداية لفهم النص ، فإنه يعود ليلمح إلى أن البدء بالمستوى اللغوى - التحليل النحوى - هو البداية الطبيعية . وهذا يقوده إلى مفهوم ( الدائرة التأويلية ) : لكى نفهم العناصر الجزئية فى النص ، لابد - أولا - من فهم النص فى كليته . وهذا الفهم للنص فى كليته لابد أن ينبع من فهم العناصر الجزئية المكونة له . ومعنى ذلك - فيما يرى شليرماخر - أننا ندور فى دائرة لا نهاية لها هى ما يطلق عليه الدائرة الهرمنيوطيقية . ومعنى ذلك أن عملية تفسير النص - على المستوى اللغوى الموضوعى - بجانبيه التاريخى والتنبؤى - تدور فى دائرة ، ولابد أن تستند إلى معرفة كاملة باللغة من جانب ، وبخصائص النص من جانب أخر . ويمكن بنفس الدرجة تطبيق مفهوم الدائرة التأويلية على المستوى الذاتى النفسى بجانبيه التاريخى والتنبؤى . إن الدائرة التأويلية تعنى أن عملية فهم النص ليست غاية سهلة ، بل عملية معقدة مركبة ، يبدأ المفسر فيها من أى نقطة شاء ، لكن عليه أن يكون قابلا لأن يعدل فهمه طبقا لما يسفر عنه دورانه فى جزئيات النص وتفاصيله وجوانبه المتعددة التى أشار إليها شليرماخر . ومادامت مهمة الهرمنيوطيقا هى وضع المعايير والقواعد ، فإن شليرماخر يكتفى بوضع المعايير العامة التى يراها ضرورية لتجنب سوء الفهم . ولكنة من جانب أخر يرى ( أن نظرية التأويل .. رغم كل التقدم الذى أصابته - ما تزال بعيدة عن أن تكون فنا مكتملا ) ويؤكد بنفس الدرجة استحالة أن يستطيع أى تفسير لعمل ما استهلاك كل إمكانيات معنى هذا العمل . وكل ما يطمح إله المفسر أن يصل إلى أقصى طاقته فى تفسير النص(11) . ورغم النقلة الهامة الهرمنيوطيقا على يد شليرماخر لتكون ( فنا ) مستقلا بذاته عن أى مجال ، فإن كلاسيكيته تتبدى فى حرصه على وضع قوانين ومعايير لعملية الفهم ، ومن ثم لعملية تفسير النصوص . إنه يحاول أن يتجنب ( سوء الفهم المبدئى ) فى أى عملية تفسير . ولكنه فى هذه المحاولة لتجنب ( سوء الفهم ) يطالب المفسر - مهما كانت الهوة التاريخية التى تفصل بينه وبين النص- أن يتباعد عن ذاته وعن أفقه التاريخى الراهن ليفهم النص فيهما موضوعيا تاريخيا . إنه يطالب المفسر - أولا - إن يساوى نفسه بالمؤلف ، وأن يحل مكانه عن طريق إعادة البناء الذاتى والموضوعى لتجربة المؤلف من خلال النص . ورغم استحالة هذه المساواة من الوجهة المعرفية فإن شليرماخر يعتبرها الأساس الهام للفهم ( الصحيح ) . ثم نغمة رومانسية تغلف كلاسيكية شليرماخر تتجلى فى اعتباره النص تعبيرا عن ( نفس ) المؤلف ، وفى مطالبته المفسر أن يكون ذا طاقة تنبؤية ، إلى جانب معرفته باللغة ، حتى يمكنه اكتشاف الجوانب المتعددة للنص . وبهذه الطاقة التنبؤية يسعى الإنسان لفهم الكاتب إلى درجة أن يحول نفسه تماما إليه ، أى أن يكون هو الكاتب . لقد كان شليرماخر - رغم ذلك كله - ممهدا لمن جاءوا بعده خاصة ديلتاي وجادامر ، إذ بدأ ديلتاي مما انتهى إليه شليرماخر من البحث عن تفسير وفهم (صحيحين) فى مجال العلوم الإنسانية ، بينما بدأ جادامر من معضلة سوء الفهم المبدئى التى حاول شليرماخر - فى تأويليته - أن يتجنبها . وبهذا يعد شليرماخر - بحق - أبا للهرمنيوطيقة الحديثة ، وللمفكرين الذين جاءوا وبعده ، سواء بدأوا من الاتفاق أو الاختلاف معه(12) .
    ( 3 )
    تركزت محاولة ويلهلهم ديلتاي ( 1833-1911 ) فى التفرقة بين العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية والإنسانية ، وفى الرد على الوضعيين الذين وحدوا بينهما من حيث المنهج مثل أوجست كومت وجون ستيوارت مل . لقد رأى الوضعيون أن الخلاص الوحيد لتأخر العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية يمكن فى ضرورة تطبيق نفس المنهج التجريبى للعلوم الطبيعية على العلوم الإنسانية ، سعيا للوصول إلى قوانين كلية يقينية ، وتجنبا للذاتية وعدم الدقة فى مجال الإنسانيات . لقد أمنوا أن كلا منهما يخضع لنفس المعايير المنهجية من الاستدلال والشرح ، ورأوا أن الحقائق الاجتماعية مثلها مثل الحقائق الفيزيقية ، واقعية وعملية ، ويمكن بالمثل قياسها(13) .وهذا هم ما عبر عنه جون ستيوارت مل بقوله : ( إذا كان علينا أن نهرب من الفشل المحتم للعلوم الاجتماعية بمقارنتها بالتقدم المستمر للعلوم الطبيعية ، فإن أملنا الوحيد يتمثل فى تعميم المناهج التى أثبتت نجاحها فى العلوم الطبيعية ، فإن أملنا الوحيد يتمثل فى تعميم المناهج التى أثبتت نجاحها فى العلوم الطبيعية لجعلها مناسبة للاستخدام فى العلوم الاجتماعية )(14) ولقد حاول ديلتاي أن يقيم العلوم الاجتماعية على أساس منهجى مختلف عن العلوم الطبيعية . لقد كان صارما فى فلسفته ورفض كلا من الوضعية وميتافيزيقا الكانتية الجديدة . إن الفارق بين العلوم الاجتماعية والطبيعية يمكن - عنده - فى أن مادة العلوم الاجتماعية - وهى العقول البشرية - مادة معطاة ، ولست مشتقة من أى شئ خارجها ، مثل مادة العلوم الطبيعية التى هى مشتقة من الطبيعة . إن على العالم الاجتماعى أن يجد مفتاح العالم الاجتماعى فى نفسه وليس خارجها ، إن العلوم الطبيعية تبحث عن غايات مجردة ، بينهما تبحث العلوم الاجتماعية عن فهم أنى من خلال النظر فى مادتها الخام . إن الإدراك الفنى والإنساني هما غاية العلوم الاجتماعية وهذان يمكن الوصول إليهما من خلال التحديد الدقيق للقيم والمعانى التى ندرسها فى عقول الفاعلين الاجتماعيين ، وليس من خلال مناهج العلوم الطبيعية ، وهذه هى عملية الفهم الذاتى أو التفسير ، نصل إلى مثل هذا الفهم من خلال ( العيش مرة أخرى ( Reliving ) فى الأحداث الاجتماعية .
    إن الفشل الذى تعانيه العلوم الاجتماعية ، خاصة المدرسة التاريخية ، فيما يرى ديلتاي - يكمن فى ( أن دراستها وتقييمها للظاهرة التاريخية لم يقم على أساس من الصلة بتحليل حقائق الوعى ، ولم يكن من ثم مؤسسا على معرفة يقينية هى ملاذها الأخير . لم يكن للمدرسة التاريخية - باختصار - أساس فلسفى ، ولم تنشأ لها علاقة صحيحة بنظرية المعرفة وعلم النفس . ولهذا فشلت فى تطوير منهجها)(15) وهذه هى نقطة البدء فى تأسيس ديلتاي للإنسانيات ، وهى إقامتها على أساس معرفى وأساس سيكولوجى .
    الأساس المعرفى يتحدد عند ديلتاي فى أن كل معرفة قائمة على التجربة ، ولكن الوحدة الأصلية للتجربة ولنتائجها الصحيحة مشروطان بالعوامل التى تشكل الوعى وما ينشأ عنه ، أى محكومان بطبيعتنا الكلية . ويجب أن نفهم التجربة Experience عند ديلتاي على أساس أنها التجربة المعاشة . هى عملية الإدراك الحى . وليست الخبرة باعتبارها موضوعا للتأمل العقلى ، أى أنها التجربة السابقة على ثنائية الذات والموضوع ، هذه الثنائية تكون عادة من صنع الوعى المفكر فى تأمله للتجربة بعد مرورها(16) . من هذا المنطلق فإن رؤيتنا للعالم الطبيعى تصبح مجرد ظل لحقيقة مختلفة عنا إذ أهملنا حقائق الوعى التى تعطيها تجربتنا الداخلية ، إذ من خلال هذه الحقائق نمتلك الواقع كما هو . وتحليل حقائق الوعى هو مركز اهتمام الدراسات الإنسانية ، ومن خلالها تستطيع تشكيل استقلالها الذاتى عن العلوم الطبيعية . إن التجربة الذاتية هى أساس المعرفة ، وهى الشرط الذى لا يمكن تجاوزه لأى معرفة . وطالما أن هناك مشتركا بين الأحاد من البشر ، فإن التجربة تصبح هى الأساس الصالح لادراك الموضوعى القائم خارج الذات ، إذ هذا الموضوعى - فى العلوم الإنسانية ، خاصة التاريخ - إنسانى يحمل تشابهات من ملامح التجربة الأصلية عند الذات المدركة . وهذا ما يشير إليه ديلتاي بإعادة اكتشاف ( الأنا ) فى ( الأنت ) ، أو إسقاط projection الذات فى شخص أو عمل ، أو بعبارة أخرى ( نفاذ ذات المدرك إلى معطى معقد من التعبيرات )(17) وعلى أساس هذا الإسقاط أو النفاذ تنشأ أعلى أشكال الفهم فى الحياة العقلية ونعنى بها الحياة مرة أخرى فى الموضوع أو الشخص .
    ولكن كيف تتحول التجربة الذاتية عند الأخر الذى نسعى لفهمه ، أو نسعى لفهم أنفسنا من خلاله ، إلى موضوع ؟ يتم ذلك - فيما يرى ديلتاي - خلال عملية التعبير ، سواء تمثل هذا التعبير فى سلوك اجتماعى أو نص مكتوب . إن التعبير هو ما يعطى للتجربة موضوعيتها ، إنه يحولها من حالة الذاتية ، ( التجربة الداخلية المعاشة ) إلى حالة خارجية موضوعية يمكن المشاركة فيها . إن التعبير - عند ديلتاي - فى تعبيره عن التجربة الداخلية لمبدعه ، ليس تدفقا عشوائيا للمشاعر والانفعالات بالمعنى الرومانسى ، ولكنه تحديد موضوعى Objectification لعناصر هذه التجربة - التى قد تكون مختلفة ومتباعدة- فى كل موحد . هذا التحديد الموضوعى للتجربة هو ما يؤسس - عنده - موضوعية العلوم الاجتماعية والإنسانية ، ويتباعد بها عن الذاتية التى يتهمها بها الوضعيون . وهذا العبير الموضوعى لا يعبر-بالضرورة - عن ذات المبدع ، بقدر ما يعبر عن تجربة الحياة فى تجربة المبدع . إن تجربة المبدع - حالة تخلقها فى تعبير موضوعى - تتجاوز إطار ذاتيتها ، وذلك لأنها تتجسد من خلال أداة موضوعية هى اللغة فى حالة التعبير الأدبى . وهى من ثم تعبر عن تجربة الحياة . إن ديلتاي يعتبر أن التعبير عن تجربة الحياة يأخذ أرقى أشكاله فى الفن عموما و الأدب خصوصا . إن التعبير فى الفن و الأدب - على خلاف هذا العبير نفسه فى الفكر أو الفعل الإنسانيين - ينصب على التجربة المعاشة وينبع من التعبيرات الحرة للحياة الداخلية . إن التعبير فى الفكر أو الفعل - على خلاف ذلك - أكثر تحددا . إنه - فى حالة الفكر - يقوم على الدقة ويعتمد على وظيفة اتصالية سهلة . وفى حالة الفعل يصعب جدا تحديد العوامل الفاعلة فى القرار المؤدى إلى الفعل. وعل ذلك يعتبر ديلتاي أن الفن والأدب تعبير عن التجربة المعاشة للحياة ، بينما يعبر الفكر والفعل عن تجربة الحياة فقط ، وليس التجربة الحية المعاشة . وإذا كان كل من الفكر والفعل والفن تجليات مختلفة لتجربة الحياة . فإن التجلى لهذه التجربة فى الفن والأدب أكثر حيوية وخصوبة وقابلية للمشاركة الفعالة ولذلك يحتفظ لها ديلتاي بتعبير Experessions of lived experience .. وتعتبر التعبيرات الأدبية - التى تتخذ من اللغة أداة لها - أعظم قدرة من التعبيرات الفنية الأخرى على الإفصاح عن الحياة الداخلية للإنسان (18) . ويؤكد ديلتاي أن مبادئ الهرمنيوطيقا يمكن أن تنير لنا السبيل إلى نظرية عامة فى الفهم ، لأن إدراك بناء الحياة الداخلية يقوم - قبل كل شئ - على تفسير الأعمال الأدبية ، حيث يصل نسيج الحياة الداخلية إلى أقصى أشكال اكتماله فى هذه الأعمال . وبذلك تأخذ الهرمنيوطيقا - عند ديلتاي - بعدا جديدا ، وتنصب على معنى أوسع من مجرد النص ، إنها تدل على فهم التجربة كما يفصح عنها - بشكل كامل - العمل الأدبى ، طالما أنه يتجسد من خلال وسيط مشترك هو اللغة التى يخرج بها من إطار الذاتية إلى الموضوعية . الهرمنيوطيقا - فى ظل هذا الفهم - لا تعنى مجرد عملية الفهم لشيء معطى محدد سلفا ، له وجود خارجى محايد عن المتلقى الذى يحاول أن يفهم هذا الشئ أو النص . إن هناك بين المتلقى والنص الأدبى شيئا مشتركا هو تجربة الحياة . هذه التجربة ذاتية عند المتلقى ، ولكنها تحدد له الشروط المعرفية التى لا يستطيع تجاوزها . وهذه التجربة - من جانب أخر - موضوعية فى العمل الأدبى . وعملية الفهم تقوم على نوع من الحوار بين تجربة المتلقى الذاتية والتجربة الموضوعية المتجلية فى الأدب ، من خلال الوسيط المشترك . وهكذا يتغير مفهوم ( الفهم ) نفسه من أن يكون عملية تعريف عقلية ، إلى أن يكون مواجهة تفهم فيها الحياة نفسها . الفهم - بهذا المعنى - هو الخصيصة المميزة للدراسات الإنسانية ، بعكس العمليات العقلية التى تسعى إلى شرح الظواهر فى العلوم الطبيعية . ولكن كيف تتم عملية الفهم هذه - فهم الحياة لنفسها - من خلال العمل الأدبى ؟!إنها تتم من خلال معايشة التجربة التى يعبر عنها النص . وفى هذه المعايشة يثير فينا النص الأدبى - عن طريق العرض التخيلى الحى للتجربة - أحاسيس وأفكارا ، ومواقف واتجاهات ، متضمنة فى تجربتنا الذاتية . وفى هذه الإثارة يكمن الجانب الأعظم من الكنز الذى نحصل عليه من الشاعر . إنها تفسح المجال للكشف عن مدى تحدد تجربتنا الذاتية وعدم اتساعها ، وهى - من ثم - تفتح المجال واسعا لادراك حاجتنا للانفتاح على عالم النص . إنها بكلمات أخرى - ومن خلال إثارة ما هو متضمن فى تجربتنا الخاصة - تعتمد على المشترك ، ولكنها تكشف فى نفس الوقت عن الإمكانيات المحددة لهذا المشترك ، لتفتح الباب لإمكانيات أوسع ، توسع أفق تجربتنا الذاتية ، فتثرى بمعايشة تجربة النص . إنها تبدأ من المعلوم فى تجربتنا لتنفذ إلى المجهول ، تبدأ من (الأنا ) لتغوص فى ( الأنت ) لا بالمعنى السيكولوجى ، بل بالمعنى العام للتجربة الحية المعاشة. هذا الأفق من الاحتمالات الذى تفتحه لنا معايشة النص الأدبى لا يمكن أن ينفتح بطريقة أخرى. وهذا الانفتاح ضرورى جدا لتعميق تجربة حياتنا ، بل هو أساس لتطور الحياة نفسها فى حركتها المستمرة . وهذا يقودنا إلى المفهوم التاريخى عند ديلتاي لأهميته فى نظريه التأويلية.
    الإنسان كائن تاريخى ، بمعنى أن الإنسان يفهم نفسه - لا من خلال التأمل العقلى - بل من خلال التجارب الموضوعية للحياة . إن ماهية الإنسان وإرادته ليست أشياء محددة سلفا ، إن الإنسان ليس مشروعا جاهزا مصمما من قبل ، ولكنه مشروع فى حالة تخلق . إنه يفهم نفسه بطريق غير مباشر ، إنه يقوم بجولة هرمنيوطيقية ( تأويلية ) من خلال التعبيرات الثابتة التى تنتمى للماضى . وبهذا المعنى فهو كائن تاريخى . إن التاريخ - إذا - ليس معطى موضوعيا فى الماضى ، قائما هناك ، ولكن معطى متغير . إننا فى كل عصر نفهم الماضى فهما جديدا من خلال التعبيرات الباقية لنا ، ويكون فهمنا للماضى أفضل كلما توافرات شروط موضوعية فى الحاضر شبيهة بما كان فى الماضى (2.) ، إن فهمنا للنصوص الأدبية - سواء تلك التى تنتمى للماضى أم تلك التى تنتمى للحاضر - عن طريق معايشة تجربة الحياة فيها يؤدى بنا إلى فهم أفضل للماضى والحاضر معا . وهذا بدوره يعدل من فهمنا الأنى لأنفسنا وهكذا يفهم الإنسان نفسه من خلال التاريخ باعتباره عملية مستمرة من الفهم والتأويل ، وهكذا يتغير ويتقدم ويتعدل . وكما تمت المعايشة فى النص الأدبى على أساس البدء من المشترك بين تجربتنا وتجربة النص ، كذلك على أساس المشترك بين الماض والحاضر ، نعيش تجربة النص الذى ينتمى للماضى ، ذلك أن للماضى وجودا مستمرا فى الحاضر ، والحاضر يدرك الماضى من خلال تجربته الذاتية .
    يرفض ديلتاي - بناء على فهمه العمل الأدبى باعتباره تعبيرا عن التجربة الحية للحياة ، وبناء على فهمه لمعنى التاريخ - فكرة المعنى الثابت ، سواء فى العمل الأدبى أو الحدث التاريخى . إن المعنى - عنده - يقوم على مجموعة من العلاقات . ونحن فى العمل الأدبى نبدأ بتجربتنا الذاتية فى لحظة معينة من التاريخ ، تحدد لنا المعنى الذى نفهمه من العمل فى هذه اللحظة من الزمن . ولكن تجربتنا نفسها تتغير وتكتسب أبعادا جديدة - من خلال الأفاق الجديدة من الاحتمالات التى يفتحها لنا العمل - قد تغير - مرة أخرى - من فهمنا للعمل نفسه . وهكذا ندور فى دائرة هى ( الدائرة التأويلية ) .
    وهذه الدائرة تنطبق بنفس الدرجة على معنى الماضى . إن المعنى - فى الأدب والتاريخ - ليس شيئا موضوعيا تماما ولكنه أيضا ليس ذاتيا ، إنه فى حاله تغير مستمر طالما أن العلاقة بين المفسر والموضوع المفسر علاقة متغيرة فى الزمان والمكان . إن ديلتاي فى هذا المفهوم للدائرة الهرمنيوطقية يعتمد على ما سبق أن أشرنا إليه عند شليرماخر من العلاقة بين الجزء والكل فى النص وضرورة فهم كل منهما فى ضوء الأخر فى دائرة لا تنتهى ، ولكنه يتسع بمفهوم الجزء والكل إلى أن يشمل تجربة الحياة نفسهما . إن تجربة ما جزئية فى حياتنا تكتسب معناها من خلال تجربتنا الكلية ، ولست تجربتنا الكلية فى حقيقتها إلا حصاد تجارب جزئية متراكمة . ولكن الجزء يؤثر فى الكل ويغير من معنى التجربة الكلية ، بنفس القدر الذى يؤثر فيه المعنى الكلى فى فهمنا لتجربة جزئية . وما دام ديلتاي قد وحد بين النص وتجربة الحياة ، فمن المنطقى أن يؤمن بتغير المعنى مع تغير أفق تجربة المفسر باعتباره نقطة البداية للفهم ، سواء فى الأدب أو التاريخ . الذى لا شك فيه أن ديلتاي بتركيزه فى النص على التجربة الحية المعاشة ، وبمفهومه للتاريخ ، ولعملية الفهم ، قد وضع بذورا صالحة لمن أتوا بعده خاصة مارتن هيدجر وهانز جادامر ، وكان مؤثرا فيهم بشكل أبعد مما تخيلوا . والذى لا شك فيه أنه أفاد من جهود شليرماخر وطورها وأضاف إليها . لقد لفت ديلتاي الاهتمام بشدة إلى الأفق الراهن ( تجربة الحياة ) للمفسر ، ولكن علينا أن لا ننسى أنه ضحى فى سبيل ذلك بذاتية المبدع . إن التوحيد بين العمل الأدبى وتجربة الحياة بالمعنى الواسع الفضفاض - رغم نبرة الحماس العالية للأدب باعتباره المجلى الأكمل للتجربة - يعتبر الأدب وثيقة إنسانية مثلها مثل أى نتاج فكرى إنسانى ، ويغفل الخصوصية النوعية للأدب. ومن جانب أخر فإن إهدار ذاتية المبدع لحساب التجربة الإنسانية يوحد بين تجربة مبدع وتجربة مبدع أخر ، طالما أن كلتيهما تعبير عن تجربة ( الحياة ) . ولكن علينا أن لا ننسى أن ديلتاي فيلسوف من فلاسفة الحياة يحاول جاهدا أن يقيم أساسا موضوعيا مختلفا ومنهجا مختلفا للعلوم الإنسانية فى مواجهة إخضاعها - على أيدى الفلاسفة الوضعيين - لموضوعية ومناهج العلوم الطبيعية . ومن هذا المنطلق وحده أقام عملية الفهم كسمة مميزة للإنسانيات ، وكان مجال الأدب مجالا خصبا ليطبق عليه مفاهيمه عن الفهم والتاريخ . ولكنه من جانب أخر - وفى مجال دراسة الأدب - لفتنا إلى دور المفسر الايجابى لعملية فهم النص والتفسير ، وهو دور ظل غائبا عن مجال الدراسات الأدبية ، حتى عن النظريات التى نلمس بينها وبين فكر ديلتاي نوعا من التشابه مثل نظرية ( المعادل الموضوعى ) عند النقاد الجدد وعلى رأسهم ت.س. اليوت. صحيح أن دور المفسر هنا يعتمد على الذاتية والانطلاق من التجربة الخاصة ، ولا يعتمد على موقف فكرى فى مجتمع ، كما أن التعبير الأدبى تحدد موضوعى للتجربة الحية ، لا تشكيل رؤية الفنان لواقع محدد فى إطار تاريخى محدد. ولكن يكفى ديلتاي فى إطار فلسفته التأكيد على أن تفسير العمل الأدبى عملية من التفاعل الخلاف بين النص وأفق المفسر ، ينفتح فيه أفق المفسر لإمكانيات من التجربة لم تكن متاحة قبل ذلك ، فتتغير من ثم تجربته وتعمق ، وتكون - بالتالى - قادرة على إثراء معنى النص والنظر إليه من زاوية جديدة . كان لتركيز ديلتاي على تجربة الحياة وعلى دور المفسر فى عملية الفهم أثر هام فى فكر كل من مارتن هيدجر وجادامر اللذين تأثرا به إلى حد كبير ، وإن اختلفا معه فى نقطة البداية وكثير من النتائج ، فيها يرتبط بمفهوم الهرمنيوطيقا وأبعادها .
    (4)
    يقيم مارتن هيدجر الهرمنيوطيقا على أساس فلسفى ، أو يقيم الفلسفة على أساس هرمنيوطيقى . وكلا العبارتين صحيح ، طالما أن الفلسفة هى فهم الوجود ، وأن الفهم هو أساس الفلسفة وجوهر الوجود فى نفس الوقت . لقد حاول هيدجر - مثل ديلتاي - أن يبحث عن منهج يكشف عن الحياة من خلال الحياة نفسها . وقد وجد فى ظاهرية أستاذه إدموند هوسرل بعض المفاهيم التى لم تكن متاحة لديلتاي . وجد منهجا يمكن أن يفسر عملية الوجود Being فى الوجود الإنسانى Human existence بطريقة تكشف عن الوجود ، لا عن التصور الأيديولوجى للوجود . لقد رفض هيدجر فى نظرية الوجود فى الفلسفة الغربية اعتبارها الإنسان هو محور الوجود ، وهو العنصر الفاعل فى المعرفة ، وإعطائها للوجود دورا ثانويا يخضع فيه للذاتية ويستجيب لمقولاتها . وإذا كانت الفلسفة الظاهرية Phenomonologyقد كشفت فى مجال المعرفة أهمية الادراك القائم على مفاهيم قبلية للظاهرة ، فقد اعتبر هيدجر هذا المجال هو الوسيط الحيوى للوجود التاريخى للإنسان فى العالم . ولكن هذه المفاهيم القبلية تختلف عن المقولات العقلية التى اعتد بها الفلاسفة قبله . إن هذه المجال الحيوى هو إدراك الإنسان لوجوده فى شكله الأكمل ، هذا الادراك هو ما يشكل المجال الحيوى للمعرفة وللوجود عند هيدجر . ولذلك رفض هيدجر فى فكر أستاذه هوسرل فكرة الوعى الذاتى واعتبرها هى الذاتية الكانتية نفسها . لقد رأى هيدجر - فى وعى الإنسان لوجوده - مفاتيح لفهم طبيعة الوجود كما يفصح عن نفسه فى تجربة حية . وهذا الفهم تاريخى وأنى فى نفس الوقت ، بمعنى أنه ليس فهما ثابتا ، ولكنه يتشكل من خلال تجارب الحياة الحية التى يواجهها الإنسان . هذا الوعى - فى نظر هيدجر - يتجاوز مقولات الزمان والمكان ومفاهيم الفكر المثالى . لقد كان الوجود - عند هيدجر - هو السجين المختفى والمنسى تماما فى المقولات الاستاتيكية للفلسفة الغربية ، السجين الذى كان كل أمل هيدجر أن يخلى سبيله(21) . إن حقيقة الوجود - عند هيدجر- تتجاوز الوعى الذاتى وتعلو عليه ، وبما أن هذا الوعى تاريخى وإن بدأ بالإدراك الذاتى للوجود ، فهو عملية فهم مستمرة . ومما له دلالة - بالنسبة للهرمنيوطيقا - أن هيدجر - يعتبر الهرمنيوطيقا - وهى كلمة لم ترد فى كتابات هوسرل - هى الظاهرية بكل أبعادها الأصلية ، ويعتبر أن مهمته فى كتاب ( الوجود والزمن ) Being and Time هى إقامة هرمنيوطيقا للوجود Hermeneutic of Dasein . ولكى يحدد هيدجر فلسفته الظاهرية ، يعود إلى الأصل اليونانى للمصطلح Phenomonology ويرى أنه مكون من جزئين Phainomenon و Logos . يشير الجزء الأول من الكلمة إلى ( مجموع ما هو معرض لضوء النهار ) أو( ما يمكن أن يظهر فى الضوء ) . هذا التجلى أو الظهور للشئ لا يجب التعامل معه على أساس أنه أمر ثانوى يشير إلى شئ أخر وراءه . إنه ليس عرضا من أعراض الشئ ، ولكنه ظهور الشئ كما هو(22) . وبكلمات أخرى ليس وجود الشئ - أو تجليه للإدراك - أمر ثانويا غير الشئ ذاته ، بل هو ماهيته الأصلية . وينتهى هيدجر إلى أن المنهج الظاهرى يقوم على أساس ترك الأشياء لتتجلى أو تظهر كما هى دون فرض مقولاتنا عليها . لسنا نحن الذين نشير للأشياء أو ندركها ، بل الأشياء نفسها تكشف لنا نفسها . إن الأصل الحقيقى للفهم الصحيح هو أن نستسلم لقوة الشئ ليكشف لنا عن نفسه . ولكن كيف تكشف الأشياء عن نفسها ؟ فى تحليل هيدجر للجزء الثانى Logos يرى أنها لا تدل على الفكر ، لكنها تدل على الكلام ، ووظيفته التى تجعل الفكر ممكنا . إن الأشياء تكشف نفسها من خلال اللغة ( الكلام Speaking ). واللغة – هنا – ليست أداة للتوصيل اخترعها الإنسان ليعطى للعالم معنى ، أو ليعبر عن فهمه ( الذاتى ) للأشياء . اللغة تعبر عن المعنوية Meaningfullness القائمة بالفعل بين الأشياء . إن الإنسان لا يستعمل اللغة ، بل اللغة هى التى تتكلم من خلاله . العالم ينفتح للإنسان من خلال اللغة . وبما أن اللغة هى مجال الفهم والتفسير ، فالعالم يكشف نفسه للإنسان من خلال عمليات مستمرة من الفهم والتفسير . ليس معنى ذلك أن الإنسان يفهم اللغة ، بل الأحرى القول أنه يفهم من خلال اللغة . اللغة ليست وسيطا بين العالم والإنسان ، ولكنها ظهور العالم وانكشافه بعد أن كان مستترا ، إن اللغة هى التجلى الوجودى للعالم . مثل هذه الظاهرية هرمنيوطيقية ، بمعنى أنها تتضمن أن الفهم لا يقوم على أساس المقولات والوعى الإنسانيين ، ولكنه ينبع من تجلى الشئ الذى نواجه ، من الحقيقة التى ندركها(23) ولكن هل يبدأ إدراكنا للشئ ، وبالتالى فهمه ، من فراغ ؟ إن الإنسان – فيما يقول هيدجر – يجد فى وجوده ، وعلى مدى هذا الوجود ، فهما محددا لماهية الوجود المكتمل . هذا الفهم - كما أشرنا - ليس فهما ثابتا ، ولكنه فهم يتكون تاريخيا ، وينمو فى مواجهة الظواهر . إن الوجود الإنسانى - الوجود فى العالم - فى ظل هذا الفهم عملية مستمرة من فهم الظواهر والوجود فى نفس الوقت . وهكذا تصبح الظاهرية عند هيدجر هرمنيوطيقية ، وتصبح الهرمنيوطيقا - عملية الفهم - وجودية . إن الفهم هو القدرة على إدراك الاحتمالات الوجودية للفرد فى سياق حياته ووجوده فى العالم . إن الفهم ليس طاقة أو موهبة للإحساس بموقف شخص أخر ، كما أنه ليس القدرة على إدراك معنى بعض تعبيرات الحياة بشكل عميق . إن الفهم ليس شيئا يمكن تحصيله وامتلاكه ، بل هو شكل من أشكال الوجود فى العالم ، أو عنصر مؤسس لهذا الوجود . وعلى هذا يعتبر الفهم - من الناحية الوجودية - أساسيا وسابقا على أى فعل وجودى . ولكن إذا كان الفرد يبدأ من خلال وجوده - وعلى مدى هذا الوجود - بفهم المعنى المكتمل للوجود ، فكيف يفهم وجوده فى العالم ؟ إن العالم – عند هيدجر – ليس مجموعة من الكليات entities المنفصلة ، ولكن مجموعة من العلاقات تعلو على الذاتية والموضوعية . إن الإنسان وحده هو الذى يمتلك العالم ، لا بمعنى أن العالم يوجد من خلال الادراك الإنسانى ، وألا تناقض هيدجر مع نفسه . وعاد إلى الذاتية التى يرفضها فى الكانتية الجديدة . الإنسان يمتلك العالم بمعنى أنه يعيش فيه ، ولا يدرك إلا من خلاله . إنه يبدأ من خلال إدراك وجوده الذاتى إدراك العالم حين يكشف له العالم عن نفسه ، أو حين يسمح للأشياء أن تظهر . وظهور العالم وانكشافه إنما يكون من خلال اللغة ( الكلام ).
    من الطبيعى - فى ظل هذه النظرة - أن لا يكون النص الأدبى تعبيرا عن ( حقيقة داخلية) كما أن الشعر لا ينقل لنا داخل الشاعر أو أحاسيسه أو تجربته ، بل الأحرى أن يكون تجربة وجودية . وكما أن اللغة - وكذلك العالم - ليست موضوعية أو ذاتية ، فكذلك النص لا يمكن النظر إليه على أنه تعبير ذاتى كما فى الرومانسية ، أو على أساس أنه تعبير موضوعى كما هو عند إليوت وديلتاي ، بل هو مشاركة فى الحياة ( تجربة وجودية ) تتجاوز - بالمثل - إطار الذاتية والموضوعية (24) وفى فهم النص وتفسيره لا نبدأ من فراغ ، بل نبدأ - كما فى فهم الوجود - من معرفة أولية عن النص ونوعه . حتى أولئك الذين لا يتصورون وجود مثل هذه المعرفة أو ينكرونها يبدأون من تصور أن هذا النص - مثلا - قصيدة غنائية . ومن جانب أخر فنحن لا نلتقى بالنص خارج إطار الزمان والمكان ، بل نلتقى به فى ظروف محددة ، نحن لا نلتقى بالنص بانفتاح صامت ، ولكنا نلتقى به متسائلين . مثل هذه الأسئلة تمثل الأساس الوجودى لفهم النص ، ومن ثم لتفسيره ، تماما كما أن إدراكنا للوجود المكتمل من خلال وجودنا الذاتى يؤسس فهمنا للوجود فى العالم .
    ولكن كيف يتجاوز النص الأدبى خاصة - والعمل الفنى عامة - إطار الذاتية والموضوعية ؟ يعطى هيدجر فى كتاباته المتأخرة تصورا أوسع لطبيعة الفن وماهيته ، وطابعه الوجودى (25) يرفض هيدجر التعامل مع العمل الفنى باعتباره شيئا لا علاقة له بالعالم ، ولكنه من جانب أخر يؤمن بأن العمل الفنى يستقل بنفسه ، وهذه خاصيته الأساسية . وهو – فى هذا الاستقلال – لا ينتمى للعالم ، بل العالم ماثل فيه ، وهو الذى يفصح عن نفسه . وفى محاولة هيدجر لفهم البنية الوجودية للعمل الفنى بعيدا عن مبدعه ومتلقيه ، يستخدم مفهوما مقابلا لمفهوم العالم هو ( الأرض ) وإذا كان العالم يعنى الظهور والانكشاف والوضوح ، فإن الأرض- فى المقابل – تعنى الاستتار والاختفاء . والعمل الفنى قائم على التوتر الناشئ عن التعارض بين الظهور والانكشاف من جهة ، والاستتار والاختفاء من جهة أخرى . وإنه - من الوجهة الوجودية - يتضمن الجانبين فى حالة توتر مثل الوجود تماما الذى يفصح عن نفسه للإنسان من خلال تعارضات الوجود والعدم . الانكشاف والإفصاح ، والاختفاء والغموض جانبان كلاهما موجود فى العمل الفنى . إن العمل الفنى لا يشير إلى معنى خارجه عند المبدع أو فى العصر ، إنه يمثل نفسه فى وجوده الخاص . ولكن كيف يفصح العالم عن نفسه من خلال العمل الفنى ؟ يرى هيدجر أن العمل الفنى يتشكل من خلال أشياء العالم مثل الأحجار أو الألوان أو الأنغام أو اللغة . ولكن هذه الأشياء - فى العمل الفنى - تكشف عن وجودها الحقيقى ، لا باعتبارها أشياء منفصلة خاضعة للمقولات الذاتية للعقل البشرى . إن الأنغام التى تؤسس العمل الموسيقى العظيم هى أنغام حقيقية أكثر من مجرد الأنغام والأصوات الأخرى . وكذلك الألوان فى الرسم ألوان بمعنى أعمق من ألوان الطبيعة الثرية . إن عمود المعبد - كذلك - يكشف - بعبقرية - خاصية الحجر فى ارتفاعه مدعما سقف المعبد ، وذلك بشكل أعمق من مجرد وجوده الطبيعى . هذا التجلى للأشياء فى العمل الفنى يعنى دخولها فى شكل منتظم ، فى بناء وجودى ، هو ما يمثل الشكل فى العمل الفنى . وإذا كان الشكل يمثل تجلى العالم وظهوره وانكشافه فى العمل الفنى ، فالعمل - من خلال التشكيل - يتجاوز الذاتية والموضوعية ، لأن العالم نفسه - باعتباره مجموعة من العلاقات - يتجاوز - بالمثل - إطار الذاتية والموضوعية . وإذا كانت اللغة - وسيط العمل الأدبى - هى الأخرى تتجاوز إطار الذاتية والموضوعية . باعتبارها الوسيط الذى يتجلى الوجود من خلاله ، فإن العمل الأدبى - مثله مثل العمل الفنى - يعلو على الذاتية والموضوعية.
    إن ثنائية الذات والموضوع التى تختفى فى الظاهرية الوجودية عند هيدجر ، تجعل مفاهيم الشكل والمضمون - والقائمة على نوع من الثنائية - غير كافية باعتبارها مفاهيم تأملية قائمة على أولية الذات على الموضوع - لتحليل البنية الوجودية للعمل الفنى . وحين نقول إن العالم يظهر فى الأدب ، فإن ظهوره يعد - فى نفس الوقت - دخوله فى شكل منتظم . وحين يتحقق الشكل فإن العمل يحقق وجوده الأرضي . ومعنى ذلك أن للعمل الفنى بناءه الخاص ، وأن هذا البناء هو وجوده المتميز . إن هذا الوجود لا يعنى انتماء العمل الفنى إلى ( أنا ) ذات تجربة تعنى شيئا تريد أن تقدمه من خلال العمل . إن وجود العمل الفنى لا يتأسس على أى تجربة ، بل الأحرى القول إنه حدث أو دفعة تبدد كل شئ يمكن أن يكون سابقا عليها . إن وجود العمل الفنى - أو تشكله - دفعة تفتح عالما لم ينفتح من قبل . هذه الدفعة تحدث بطريقة تجعلها ثابتة . من خلال هذا الوصف للبنية الوجودية للعمل الفنى ، يحاول هيدجر أن يتجنب أهواء الاستطيقا التقليدية ، ومفهوم الذاتية فى فلسفة الجمال الغربية . وهو يحاول - من جانب أخر - تجنب مفاهيم علم الجمال التأملية التى ترى أن العمل الفنى تجلى حسى للمطلق . وحين يؤسس هيدجر وجودية العمل الفنى على التعارض conflict بين العالم والأرض ( كبديلين للشكل والمضمون ) ويؤسس بناءه على التوتر Tension القائم بينهما ، فإنه يكون بذلك قد وضع أساسا لعملية الفهم وهرمنيوطيقية الفن . إن هذا التوتر الناشئ عن التعارض بين العالم والأرض ( المضمون والشكل ) يمثل التوتر بين الانكشاف والوضوح من جهة ، والاستتار والغموض من جهة أخرى ، الأمر الذى يجعل دخولنا لفهم العمل الفنى عملية وجودية ، يفصح فيها الوجود عن نفسه لنفسه ، ما دام المتلقى يبدأ من إدراكه لوجوده الذاتى . إن العمل الفنى دفعة من خلالها الحقيقة . إنه تجل متميز للحقيقة فى العمل الفنى ، يختلف عن الحقيقة التى تتخلى فى الفلسفة . هذا التحليل للعمل الفنى يدعم اهتمام هيدجر الفلسفى الذى يهتم بفهم الوجود نفسه (26) .
    وإذا كان العالم ينفتح من خلال العمل الفنى ، فإن الانفتاح الوجودى عند المتلقى - من خلال وعيه بوجوده الذاتى - يجعل عملية الفهم ممكنة . إن الوجود الذاتى للمتلقى لحظة من لحظات الوجود الحقيقى ، والعمل الفنى - بالمثل - لحظة وجودية . وحين تلقى اللحظتان يبدأ الحوار ، يبدأ السؤال والجواب الذى تنكشف به حقيقة الوجود ، وتتطور - من ثم - تجربتنا الوجودية فى العالم . فإذا انتقلنا للنص الأدبى الذى يتجلى فيه العالم من خلال اللغة ، وجدنا أنه - مثل العمل الفنى - يقوم على التوتر بين الانكشاف والوضوح من جهة ، والاستتار والغموض من جهة أخرى . ومهمة الفهم هى السعى لكشف الغامض والمستتر من خلال الواضح والمكشوف ، اكتشاف ما لم يقله النص من خلال ما يقوله بالفعل . وهذا الفهم للغامض والمستتر يتم من خلال الحوار الذى يقيمه المتلقى مع النص .
    إن عملية فهم النصوص عملية هرمنيوطيقية تدور فى دائرة ، هى الدائرة الهرمنيوطقية ، تتسق مع التصور الهرمنيوطيقى للوجود عند هيدجر ، طالما أن النص الأدبى - مثله مثل العمل الفنى - يقوم على التوتر الناشئ عن التعارض بين العالم والأرض ، أو بين التجلى والاختفاء ، أو بين الوجود والعدم (27) ولقد كان لمقولات هيدجر الفلسفية وتصوراته الأساسية - دون شك - أثر فى تشكيل مفاهيمه عن الفن والأدب وفهمهما . لقد بدأ بإنكار فكرة الوعى الذاتى كأساس لنظرية المعرفة فى الفلسفة الغربية ، وأراد أن يؤسس نظرية ظاهرية فى المعرفة أقامها على أساس وجودى . وفى هذا التأسيس الوجودى للمعرفة اعتبر أن الفهم والوجود أمران مترابطان أو متوحدان إن شئنا الدقة .
    فى مثل هذا التصور فقدت اللغة طابعها الانسانى ، وتحولت إلى طاقة وجودية تنتظم وجود العالم والإنسان معا ، وكان من الطبيعى - فى ظل هذه النظرية - أن يستقل العمل الفنى عن مبدعه ، وأن يكون مجلى وجوديا ، ويصبح فهم العمل الفنى والأدبى - بالتالى - مهمة وجودية تثرى الوجود الإنسانى فى العالم وفهم الإنسان لهذا الوجود . إن النص الأدبى - والعمل الفنى عامة - لا يفصح عن رؤية المبدع لواقع محدد فى لحظة تاريخية محددة تتجاوز - فى الفن العظيم - إطار الخاص للعام ، ولكن يفصح عن الوجود بمعناه الفلسفى . وهكذا يتوحد الفن بالفلسفة فى مهمتهما الوجودية . إن ربط الفن بالحقيقة بالمعنى الوجودى يغفل الخاصية المميزة للفن ، ويهدد - من ثم - التمايز القائم بين الفكر والفن . ومن جانب أخر فإن إهدار ذاتية المبدع فى سبيل ( التجربة الوجودية ) يقرب هيدجر - أكثر مما يظن - من ديلتاي الذى ضحى بها فى سبيل ( تجربة الحياة ) . ومن جانب أخر فإن الدفعة التى ينطلق منها العمل الفنى للوجود والتى تؤدى إلى ثباته ، يمكن أن تتساوى مع تصور ديلتاي للنص على أنه تحديد موضوعى Objectification لتجربة الحياة والتى تجعل عملية الفهم ممكنة . إن الفارق بين هيدجر وديلتاي هو فارق من حيث الإطار العام حيث ينطلق هيدجر من مفهوم فلسفى ، بينما ينطلق ديلتاي من محاولة تأسيس منهج موضوعى للإنسانيات . وكان الإطار الفلسفى الذى انطلق منه هيدجر هو ذات الإطار الذى انطلق منه وجادامر مع بعض التعديلات الهيجلية .
    يركز جادامر بشكل أساسى على معضلة الفهم باعتبارها معضلة وجودية . يبدأ جادامر فى كتابة ( الحقيقة و المنهج Truth and Method بطرح تاريخى نقدى للهرمنيوطيقا منذ شليرماخر وحتى عصره مرورا بديلتاي . ويرى أن تركيز شليرماخر كان على وضع القواعد والقوانين التى تعصمنا من سوء الفهم الذى نكون أقرب إلى الوقوع فيه ، خاصة إذا تباعد النص عنا فى الزمان ، وصارت لغته غامضة ب.
                  

العنوان الكاتب Date
براح للفلسفة Mohammed Elhaj04-23-07, 04:53 PM
  Re: براح للفلسفة Abdel Aati04-23-07, 08:25 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj04-25-07, 12:31 PM
    Re: براح للفلسفة bayan04-25-07, 02:14 PM
      Re: براح للفلسفة bayan04-25-07, 02:24 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj04-25-07, 07:44 PM
    Re: براح للفلسفة bayan04-26-07, 01:47 AM
  Re: براح للفلسفة محمود الدقم04-26-07, 02:15 AM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj04-26-07, 03:11 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj04-28-07, 11:39 AM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj04-28-07, 02:45 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj04-30-07, 04:42 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj05-01-07, 02:37 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj05-03-07, 12:34 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj05-05-07, 03:48 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj05-08-07, 04:08 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj05-08-07, 04:37 PM
  Re: براح للفلسفة Mohammed Elhaj05-09-07, 03:52 PM


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de