دار بيني وبين الأستاذ ممادو تجاني حوار حول عروبة من هم مثلي في السودان في باب التعليقات من تحت مقالي "الكتلة التاريخية: هل هي حزب أم جبهة أم محمد جلال هاشم". وأغرتني حيوية النقاش لنقله من منطقة التعليقات إلى الاستقلال ببوست للسعة. فمن رأي تجاني أن لو كان أمثالي عرباً، والعربية لغة أمهم، لما غلبهم نطق القاف والظاء والثاء والذال كما هو مشاهد. كنا "تجادعنا" مع تجاني بأمثلة عن تعثر عرب آخرين في نطق أصوات في العربية. وبدا لي صواب الانتقال من مجادعة الأمثلة إلى علم أصوات اللهجات العربية. ووجدت ضالتي في مقال قصير مفيد للأستاذ عبد المنعم عجب الفيا سأدلي بالرابط إليه أدناه بعد عرض لعمومه. تنتمي ظاهرة تعثرنا المشاهدة في الحروف التي ذكرها تجاني إلى ما يعرف ب"قلب الحروف" في علم أصوات لهجات العربية. وبلغ من شيوعها في تلك اللهجات مبلغاً قال به الدراسون لها "يكاد لا يوجد حرف سلم من ظاهرة القلب". وعينوا بعض شواهد هذا القلب في نطق قدامي العرب ولهم فيه تسميات:
1-كشكشة شعب ربيعة لأنها تنطق الكاف شيناً فتقول "عليش" في "عليك". وربيعة تقلب أيضاً الميم ياء في مثل قولنا في السودان "بكان" ل"مكان". ووردت "مكة" في القرآن ك"بكة".
2-عنعنة شعب تميم لأنها تقلب الهمزة عيناً وهو في مثل قولنا "سعال" ل"سؤال".
3-جعجعة قضاعة وهي جعل الجيم ياء والجيم ياء. ف"وايد"، التي ظنها البعض مما استلفه الخليجيون من الإنجليز (wide) هي "واجد". كما أن "ريال" هي "رجال".
أما عن مأخذ تجاني علينا في نطق "القاف" "غينا" فجاء عجب الفيا فيه بما يجعل منا "عرب العرب" في قول لصلاح أحمد إبراهيم قاله جدلاً. فقال عجب الفيا إن نطق "القاف" غينا"، في قول فقهاء اللغة العربية، هو ما كانت عليه سائر العرب القدماء. ومن أهل هذا الرأي الدكتور إبراهيم أنيس، عميد كلية دار العلوم سابقا والعضو المؤسس لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في كتابه " أصوات اللغة". فقال: "إن نطق السودانيين للقاف نوعا من الغين هو النطق الأصلي لهذا الحرف". وزاد بأنه صح، من وصف القدماء لهذا الصوت، الاستنتاج "بأنه ربما كان يشبه تلك القاف المجهورة التي نسمعها الآن بين القبائل العربية في السودان وبعض قبائل جنوب العراق. فهم ينطقونها نطقا يخالف معظم اللهجات العربية الحديثة إذ نسمعها منهم نوعا من الغين ". وعليه فقلب الحروف خصلة قديمة في سائر أصوات لهجات العرب ولكل قلب نسبٌ في العرب القدماء. فلا وجه لمن أراد الطعن في عروبة جماعة لأنها تقلب حرفاً أو حروفاً لأن القلب خصيصة في اللهجات العربية. ولا يُستغرب الشيء في معدنه. وزكت لي هذه المناقشة النافية لعروبتنا مع تجاني أطروحة قديمة سميتها "التوسع في العروبة". ومفادها أننا نحن عرب السودان إنما نتوسع في عروبتنا في احتكاكنا الأخير بالعرب مع أنه ساق بعضنا إلى الاحتجاج بعدم عروبتنا بسبب آو آخر. وقلت بالمفهوم قبل نحو أربعة عقود حين ثارت مسألة "عجمية" قولنا "زول". فردها المرحوم الطيب محمد الطيب إلى العربية برشاقة. وعَلِمنا بالواقعة إننا إنما نتحدث العربية لا كريول. وعرف عرب مهاجرنا أنفسهم بها أن يكفوا عن الاستعلاء الكاذب. وهذا حالنا من التوسع في مثل من أنكر عروبتنا ناظراً إلى قلب الحروف. فأنت ترى من كلمة عجب الفيا هذه أننا، لقلبنا القاف غيناً، لسنا عرباً فحسب بل عرب العر . فنحن بهذا القلب ننتمي بنسب موغل في تاريخ النطق بالعربية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة