حزنت جدا جدا وأنا اشاهد قادة الحركات المسلحة وغير المسلحة وهم يصطفون في صفين طويلين جدا أمام كاميرات وسائل الإعلام الإقليمية والدولية والعالمية لمصافحة الفريق مضروب محمد حمدان دقلو "حميرتي" عضو مجلس السيادة السوداني الذي قاد وفدا للقاء الحركات المسلحة والجبهة الثورية الوهمية في العاصمة جوبا بغرض تحقيق السلام في السودان، وهناك استقبلوه استقبال الأبطال وصافحوه مصافحة رسول السلام، وكأن الرجل لم يكن شريكا في قتل نصف مليون مواطن دار فوري وعشرات آلاف أخرين في مختلف مناطق السودان. طبعا أنا لستُ ضد المحاولات الحثيثة الجارية من قبل أطراف مختلفة -داخلية وإقليمية ودولية لتحقيق سلام عادل وشامل ودائم في السودان، وقد عبرت عن رأي هذا في عدة مقالات يمكن العودة إليها بمساعدة سيدنا "غوغل"، لكنني حتما ضد خلط الأوراق وتغاضي النظر وتفريغ مبدأ عدم الإفلات من العقاب من معناه، وأن هذه المصافحة ستبعث برسائل طمأنة، مفادها أن القتلة والمجرمين يستطيعون التخلص من أي شيء، بما في ذلك القتل، مهما كانت القواعد والمعايير، ويستطيعون الإفلات من أي شيء. لا استغرب ابدا ابدا أن يأتي من يدافع عن مصافحة قادة الحركات المسلحة للمجرم محمد حمدان دقلو، ويقول إن المرحلة التي يعيشها السودان مرحلة جديدة تطلب تناسي آلام الماضي ومآسيها، من القتل، واستخدام الأسلحة الكيمياوية، والقنابل العنقودية، والألغام الأرضية، وقصف المدارس، وحصار المدن، ومنع الإمدادات الإنسانية، واستهداف المزارع والبهائم لأكثر من عقد، وولخ، من أجل السلام في السودان. لكن هؤلاء نسوا أو تناسوا أنه لا يمكن ان يكون هناك "سلام بدون عدالة". لن يكون هناك سلام في دارفور، لن يكون هناك سلام في جبال النوبة، لن يكون هناك سلام في النيل الأزرق، لا سلام في كل السودان بدون عدالة. نعم سيأتي من يقول لك ان الذين صافحوا محمد حمدان دقلو برغم تاريخه الإجرامي، فعلوا ذلك من أجل السلام والاستقرار وولخ. لكن هل يستطيع هؤلاء القادة ان ينظروا لليتامى والأرامل وكل ضحايا حرب "حميرتي" في عيونهم مباشرة واقناعهم بهذه الفرية بل الكذبة؟ كان ينبغي أن تدعو قائمة الإفلات من "أيّ شيء"، قادة الجبهة الثورية والحركات المسلحة، إلى التفكر جيداً: "الأسلحة الكيمياوية، والقنابل العنقودية، والألغام الأرضية، وقصف المدارس، وحصار المدن والقرى، ومنع الإمدادات الإنسانية، واستهداف عمال الإغاثة، وولخ"، في مصافحة الشريك الأيمن للمخلوع عمر العمر البشير، بل المنفذ الفعلي للإبادة الجماعية والتطهير العرقي في دارفور/الجنجويدي محمد حمدان دقلو، لكنهم على كل حال، صافحوه بالأحضان، ولم نرى في وجوههم أي غضب تجاهه، بل رأينا ضحكات ساخرة وتواطئا معه. إنهم ينظرون إلى المدنيين على أنهم تسلية للجنجويد، وبالتالي، مع الأسف، يمكن التضحية بهم، والتحقيقات في جرائم الحرب والابادة الجماعية والمساءلة هي أمر إضافي واختياري، بالنسبة إلى هؤلاء القادة الحركيين. الثورة السودانية التي أطاحت بنظام عمر البشير، طالبت بحكومة انتقالية مدنية كاملة من مهامها تحقيق أهدافها المعلنة وتطبيق شعاراتها المتمثلة في (حرية -سلام -عدالة). ولطالما تحقق أهم مطلب الثورة وهو تكوين حكومة مدنية، بتشكيل حكومة مدنية برئاسة الدكتور عبدالله حمدوك، وتقول الوثيقة الدستورية التي تم التوقيع عليها بين المجلس الانتقالي وقوى اعلان الحرية والتغيير، في الفصل الثاني عشر منها -المفوضيات المستقلة (المادة 38 -1) : تنشأ مفوضيات مستقلة ويرشح لها شخصيات من الخبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة وتشكل وتحدد اختصاصاتها وفق القوانين التي تنشئها. (3) يعين مجلس السيادة رئيس وأعضاء المفوضيات الآتية بالتشاور مع مجلس الوزراء. (أ) مفوضية السلام. والسؤال المهم هنا: هو لماذا استعجل محمد حمدان دقلو ووفد مجلسه السيادي الذهاب إلى جوبا للقاء الجبهة الثورية والحركات المسلحة طلبا للسلام، طالما لم يُعين مفوضية السلام المشار إليها بعد؟ والسؤال الآخر هو: هل يعلم قادة الجبهة الثورية الوهمية والحركات المسلحة الذين اصطفوا لمصافحة قائد الجنجويد ووقعوا معه (حاجة عندها علاقة بالسلام)، أن قضية السلام من اختصاص مفوضية السلام التي لم تُعين بعد، وليس من اختصاص محمد حمدان دقلو ووفده السيادي؟ ثمة سؤال آخر لهؤلاء، وهو: ألم يصلهم خبر قيام قوات ميليشيا الجنجويد، والشرطة السودانية التي تتبع للمكون العسكري في المجلس السيادي، بتفريق مليونية تعيين القضاء والنائب العام، باستخدام القوة المفرطة والرصاص والغاز المسيل للدموع، في ذات لحظات المصافحة؟ إن هذه المصافحة ما هي إلا تذكير صارخ بتقاعس من كانوا يزعمون بالدفاع عن المواطنين وحقوقهم المنتهكة، وتقديم مرتكبي الفظائع الجماعية إلى العدالة. إن تحقيق عملية السلام في الدولة كالسودان التي خاضت وتخوض حروبا مع نفسها منذ 1955، تحتاج لأسس وضوابط صارمة وواضحة. ولطالما قالت الوثيقة الدستورية إن مهمة تحقيق السلام من اختصاص مفوضية السلام، فإن الأطراف جميعا إذن يجب عليها الالتزام بهذه الوثيقة وعدم القفز عليها باتفاق هنا وآخر هناك كما فعل ويفعل زعيم وشيخ ميليشيا الجنجويد محمد حمدان دقلو. على العموم يجب ان ندرك ونقبل بأهمية العدالة وأهمية حقوق الإنسان اليوم، بل وندرك أن العدالة جزء لا يتجزأ من حل الصراعات. فلا يمكن الحصول على السلام من غير العدالة. مرة أخرى.. كيف يمكن الجلوس بجانب فرد أو مجموعة من المعروف ارتكابهم انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بل والتحدث معهم؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة