يطلق الباشمهندس عثمان ميرغني بين الفينة والأخرى من خلال عموده بصحيفة التيار التي يرأس تحريرها دعوات للإنعتاق من الأفكار النمطية ، كان آخر هذه الدعوات ما جاء بعموده حديث المدينة ، السبت 10 / 9 / 2016 من أن واقعنا المتخلف الذي نرزح فيه منذ الإستقلال لن يتغير إلا بتبني أفكار ذكية ترفض كل الواقع والمنتظر برمته حسب قوله ....ومن أسباب ذلك أننا شعب أحلامه متواضعة ، وبمثل هذه الأحلام المتواضعة لن نبني وطنا كبيرا ، فالأوطان الكبيرة تبنيها الأفكار الكبيرة .... لا شك في أن الأفكار الكبيرة هي التي تبني الأوطان ، وأمامنا تجربة دول الخليج والتي استقلت في السبعينيات وخلال هذه العقود الأربعة تطورت إقتصادياتها لتصبح في مقدمة اقتصاديات العالم ، وتحولت عواصمها من قري صغيرة في الصحراء وأصبحت من أجمل المدن . قد يقول قائل أن طفرة دول الخليج وتحولها من اقتصاديات بدائية إلي اقتصاديات حديثة ، ومن قري إلي مدن بمواصفات عالمية سببها المال ، فهل المال وحده الذي صنع هذا التحول ؟ بالطبع المال مهم لكن ليس وحده الذي يبني ، فالأفكار الكبيرة هي التي أوصلت دول الخليج إلي هذه المكانة ....الشيخ زايد كان من أصحاب الأفكار الكبيرة وبأفكاره أصبح المستوى المعيشي لمواطن الأمارات من أعلى مستويات المعيشة في العالم ، وحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد بأفكاره حول دبي إلي مدينة تجارية ثم إلي مدينة سياحية من الدرجة الأولى من يصدق سياحة في أشد المناطق حرارة في العالم ....، إنها الأفكار الكبيرة ، ومن قبل ذلك ، من أعاد بناء أوربا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية ؟ ، كانت هي الأفكار االكبيرة كمشروع مارشال هي التي تمكنت من إعادة بناء أوربا بعد الحرب العالمية ، وهي نفس الأفكار التي إنتشلت اليابان من دمار الحرب حيث قامت بنقل التكنولوجيا الغربية لكنها إشترطت المحافظة على تقاليدها وموروثها . ولماذا نذهب بعيدا ألم تكن المعجزة الماليزية نتاج للأفكار الكبيرة ؟ . على النقيض من ذلك الأفكار الهدامة ، كما هو الحال عندنا ، نهدم مشروعات قائمة ناجحة مثل مشروع الجزيرة وقائمة المؤسسات الناجحة الأخرى التي لا نمل من أن نعددها كمنجزات نباهي بها ، هدمتها الأفكار الصغيرة بدم بارد . الأفكار الكبيرة ليست بالضرورة إقامة المشروعات الكبيرة ، فقد تكون أفكارا بسيطة عند جماعة صغيرة طوعية تقوم بعمل يفيد عامة الناس إفادة غير محدودة ، أو قد تكون عند أهل حي ، تعاونوا على عمل حقق منافع لهم في الحي ، لكن تلك التي تحدث الفرق تكون بيد أصحاب القرار الذين بيدهم موارد وإمكانيات الدولة . هناك نوعين من أصحاب القرار في المجتمعات والدول ، أو قل نموذجان : الأول هم أصحاب الأفكار الكبيرة وهؤلاء يتميزون بنفوس كبيرة تنظر دائما إلي الأعلى ولا تقبل بالحد الأدنى مما يجعلها تترفع عن الصغائرالمرتبطة بالأنا أو الذات ، تستحوذ عليهم فكرة مسئولية تحقيق سعادة الآخرين ، يتميزون بالتواضع ، تفكيرهم ينطلق من أفق واسع لذلك يتحدثون عن إنجازات ترقى إلي مستوى المنجزات الحضارية وليس الشخصية ، أمثال هؤلاء لا يبحثون عن أمجاد لذواتهم بل لدولهم أو مجتمعاتهم . أما النوع الآخر من أصحاب القرار ، فهم من أصحاب النفوس الصغيرة الذين تتركز إهتماماتهم بذواتهم ، يهتمون بمنفعتهم الشخصية حتى لو كانت على حساب غيرهم ، ولا يبالون بالآخر ، لأن التفكير في أنفسهم يستحوذ على عقولهم ولا يترك لهم مجالا للتفكير في الآخرين ، متكبرين ، يحبون التباهي بما حققوه من إنجازات شخصية لأنفسهم ، وهي في الغالب من الأموال العامة ، أمثال هؤلاء تشقى بهم أوطانهم ومجتمعاتهم . أما أن أحلامنا المتواضعة هي سبب وقوفنا في المحطة نفسها التي بدأنا منها ، فلا أرى إن هذا هو السبب فيما نحن فيه ، في اعتقادي هناك عاملان مهمان لتواضع أحلامنا : الأول هو الزهد في التكوين النفسي للسودانين ، نتيجة للتأثيرالصوفي ، فالسودانيون عامة متواضعون لا يحبون التباهي بما عندهم إذا كانوا من أصحاب المال أو الجاه أو العلم ويفضلون أن يكونوا مثلهم مثل غيرهم من عامة الناس ، و التواضع لا يعيب صاحبه بأي حال من الأحوال ، ومن جانب آخر فهي - أي الأحلام المتواضعة - تعكس واقعية يجسدها المثل القائل " مد رجليك على قدر لحافك " ، العامل الثاني هو " الوفرة " وليس رغد العيش ، فالبيئات التي عاش فيها السودانيين على بساطتها بيئات معطاءة يجد الفرد أساسيات الحياة في أفقرها وأقلها عطاءاً ، لذلك نشأوا على غنى النفس ( عينهم مليانة ) التكالب على الحياة مذموم في ثقافتهم . نخلص للقول بأن الذي جعلنا ندور في حلقة مفرغة ، ونتراجع بدل أن نتقدم ، هو العجز وتواضع القدرات الإبداعية عند من يتولون الشئون العامة وليس تواضع أحلامنا بأي حال من الأحوال .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة