من مجموع تحليلاته للجدل الدائر حول القضاء والقدر انتهى محمود محمد طه إلى أن الإنسان إما أن يكون مسيَّرا أو مخيَّرا. وهو استنتاج متطرف يصل إليه بسطاء الناس بلا درس ولا تحليل. وقد قرر محمود أن الإنسان كان لدى بدء الخليقة حرا مخيَّرا. وعندما أساء سيدنا آدم التصرف في حريته فأكل من الشجرة المحرمة عوقب بأن صودرت حريته فصار مسيرا. وتبعا لذلك صار بنوه جميعا على عهد التسيير. وقد انساق محمود مع وهم الخطيئة المتوارثة الذي تقوم عليه عقائد اليهود والنصارى. ولم يهتد إلى ما قرره القرآن الكريم من أنه: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). ولم يهتد إلى ما قرره القرآن أيضا من أن خطيئة آدم غفرت له. قال تعالى:( فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). وقد تأرجح محمود بين قطبي التخيير والتسيير لأنه لم يتصور أن الإنسان يمكن أن يكون مسيَّرا في نواح معينة من وجوده الحياتي ومخيَّرا في نواح أخرى. فالإنسان مسيَّر في طبيعة خلقته الجسدية ومكان ميلاده وهوية والديه ومسائل أخرى من هذا القبيل. وهو مخيَّر في اختياراته وتصرفاته الفردية، كأن يؤمن أو يكفر أو يعمل الصالحات أو يقترف السيئات. فالأمر في توسط إذن بين حالي التسيير والتخيير. ومن العبث أن يزعم زاعم أن الإنسان حر مخيَّر في كل شيء أو مستعبد مسيَّر في كل شيء. وقد اضطرب فكر زعيم الحزب الجمهوري لدى اطلاعه على الآيات التي تناولت هذا الأمر في القرآن الكريم. فظن أن ثمة تعارض في الآيات التي تتحدث عن القضاء والقدر. وقال إن هذا التعارض لا يمكن أن يحل إلا بنسخ بعض هذه الآيات أو نسخ أجزاء منها. واقترح الحل الذي أبداه بهذا المثل التوضيحي:" المثل الذي يجاري وهم العقل تعطيه هاتان الآيتان:(لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) التكوير: 28-29. فإن السَّالك المجوِّد، وهو في أول الطريق، إذا قرأهما فهم من أولاهما أن له مشيئة مستقلة تملك أن تستقيم، كما تملك أن تلتوي. ولم يفهم من ثانيتهما إلا ما تعطيه اللغة. فيجتهد في سبيل الاستقامة في تشمير وجد. حتى إذا نضجت تجربته بالمجاهدة، ومصابرة النفس، علم يقينا أنه لا يملك مع الله مشيئة. وأصبح الخطاب في حقه، ساعتئذ، قوله تعالى:(وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). ويعرف أن قوله تعالى:( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ) قد أصبح في حقه منسوخا، بعد أن تخلص من وهم عقله". وبهذا يكون الشخص الوحيد المخيَّر في الدنيا هو الشخص الذي نضجت تجربته بمجاهدته لنفسها ومصابرته على أهوائها. وهو محمود محمد طه. وفي حقه وحده نُسخ جزء من آية من آيات الذكر الكريم! وأما السبب الذي دفع محمودا ليقول بهذا القول المنكر فهو سعيه لتأكيد علويته وألوهيته. ومنحه لنفسه حق الإرادة الحرة الكاملة. ولهذا السبب تجاهل آيات أخرى في القرآن الكريم تفيد بغير ما أراد. فالمتتبع لآيات القرآن الكريم التي تناولت موضوع القضاء والقدر، يدرك أن هنالك أنماط ثلاثة من الآيات، لابد من دراستها كلها، من أجل فهم هذا الموضوع فهمل متكاملا. وهذه الأنماط من الآيات هي: * نمط الآيات الشريفة تتحدث عن المشيئة الإلهية وحدها. ومنها قول الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) الحديد:22. وقول الله تعالى:( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) التوبة:51. وقوله تعالى: (قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ) آل عمران: 154. وقوله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) النساء: 78. * نمط الآيات الشريفة تتحدث عن المشيئة البشرية المحدودة، ومنها: قول الله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) الرعد: 11. وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الأنفال: 53. وقوله تعالى: (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) القيامة: 14. وقوله تعالى:(وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) النساء: 111. * نمط الآيات يضع عمل المشيئة البشرية المحدودة في إطار مشيئة الله تعالى التي لا حد لها ولا قيد عليها. ومن هذه الآيات قول تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) المدثر: 54- 56. وقوله تعالى:(إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) الإنسان: 29-30. وقوله تعالى:(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران: 165 – 166. وبدراسة هذه الآيات مجتمعة يتضح المعنى الكلي الشامل لموضوع القضاء والقدر، كما تجلَّى في القرآن العظيم، وتنجلي الشبهات والأضاليل التي تثار حول هذا الموضوع انطلاقا من الفهم الجزئي القاصر للنصوص. وبهذا الفهم المتوازن للنصوص التي تحدثت في موضوع القضاء والقدر لا يجوز لأحد أن يدعي أنه مسيَّر تماما. فيحتج بقدر الله ومشيئته على ما يرتكبه من المعاصي. ولا يجوز لإنسان أن يدعي أنه حر المشيئة على الإطلاق. وألا سلطة للمشيئة الإلهية عليه!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة