مفهوم "مناعة القطيع" وهل تعتبر حلا مناسبا لمكافحة فايروس كورونا المستجد؟

Quote: مفهوم "مناعة القطيع" وهل تعتبر حلا مناسبا لمكافحة فايروس كورونا المستجد؟ بقلم: د.أبوبكر علي محمد عمر "مناعة القطيع" من المصطلحات التي كثر تداولها في الآونة الأخيرة مع ظهور فايروس كورونا المستجد SARS Cov-2 المسبب لجائحة كوفيد- 19 .Covid-19و كشرح لهذا المفهوم و إمكانية تطبيقه في هذه الجائحة أكتب هذا المقال محاولا قدر الإمكان أن أجنبه التطويل الممل و الاختصار المخل حتى يكون مناسبا ليس فقط لعامة المثقفين بل أيضا لمن هم في القطاع الصحي في غير التخصصات ذات الصلة . '🎯التعريف بمصطلح "مناعة القطيع" كتعريف مبسط لهذا المصطلح اقول ان علماء المناعة و الاوبئة يقصدون بمناعة القطيع Herd immunity أو مناعة السكان Population Immunity أن الأمراض الوبائية المعدية تقل خطورتها العامة و يكاد يتوقف انتشارها في مجتمع ما اذا اصيب( عن طريق العدوى الطبيعية infection أو باستخدام لقاح فعال ( vaccine نسبة معينة من السكان تتراوح غالبا بين 50% الي90% . و هذا التفاوت يعتمد على عوامل عديدة أهمها سهولة و سرعة الانتقال العدوي الذي يختلف من ميكروب الى آخر إضافة إلى عوامل أخرى منها عوامل بيئية و خصائص ديموغرافية مثل درجة تجانس السكان و مدى تقاربهم في السكن و الاختلاط و متوسط أعمارهم و مدى استعدادهم لالتقاط العدوى (Susceptibility) . 🎯 كيف يتم حسابها و تقديرها؟ كلما زادت سرعة انتقال المرض و زاد تقارب السكان في سكنهم و اختلاطهم زادت النسبة المطلوبة لتحقيق مناعة القطيع و هو ما يعرف بعتبة مناعة القطيع Herd Immunity Threshold و بافتراض مجتمع متجانس و مختلط ذي خصائص ديموغرافية متوسطة يقدر العلماء عتبة مناعة القطيع بمعادلة رياضية مبسطة كالآتي: HIT=1-1/RO حيث HIT هي عتبة مناعة القطيع. وهي النسبة الحرجة من عدد السكان الذين اصيبوا بالعدوى او تلقوا اللقاح يبدأ الوباء في الانحسار و يقل الانتشار الوباء بدرجة كبيرة جدا. و RO تقرأ بالإنجليزية R naught or R zero)) و هو معامل العدوى الأساسي للميكروب و يعرف أيضا بعدد التكاثر الأساسي وهو مقياس لمتوسط عدد الأشخاص الذين يمكن لحامل المرض ان ينقل لهم العدوى في مجتمع أي فرد فيه معرض للإصابة بالعدوى. تبلغ عتبة مناعة القطيع اكثر من 90% في أمراض مثل الحصبة و السعال الديكي لان عدد التكاثر الأساسي لها يتراوح بين 12 و 18. بالنسبة للفايروس كورونا المستجد يتراوح عدد التكاثر الأساسي له بين 1.4 و 3.9 حسب الدراسات الأولى التي أجريت مع بداية انتشار المرض و بالتالي فإن عتبة المناعة له تتراوح بين 29 و 74%. و إذا أخذنا المتوسط فإنه يزيد قليلا عن 50% و يرجح بعض الباحثين أنه في حدود 60%. 🎯كيف يمكن الوصول إلى عتبة مناعة القطيع لمكافحة وباء ما؟ هنالك طريقان لا ثالث لهما. الأول عن طريق التلقيح او التطعيم وهذا الطريق افضل و آمن من الطريق الآخر و هو طريق العدوى الطبيعية الذي قد يضطر إليه الناس اذا لم ينجح العلماء في إنتاج اللقاح الفعال بالسرعة المطلوبة. ومشكلة الطريق الثاني انه ربما يترتب على السير فيه خسائر فادحة اذا كان المرض خطيرا خصوصا إذا لم يتم اتخاذ إجراءات معينة مثل عزل وحماية الفئات المعرضة للخطورة. 🎯ما هي الفوائد المرجوة من مناعة القطيع؟ بالطبع تظهر فائدة مناعة القطيع اذا لم يتوفر دواء ناجع للمرض المعدي و في هذه الحال تكون أكبر الفوائد المرجوة هي تحقيق الحماية غير المباشرة لبقية السكان الذين لم يصابوا بعد بالمرض infection او لم يتلقوا التطعيم او التحصين vaccination وهؤلاء في الغالب هم أطفال صغار في السن و كذلك كبار سن و أصحاب أمراض مزمنة أو أمراض تضعف جهاز المناعة أو يعانون من أمراض أخرى تجعلهم يتناولون علاجات مستديمة تضعف جهاز المناعة Immunosuppressive medications و هؤلاء قد يكون من الخطورة بمكان ان يتعرضوا للعدوى الطبيعية أو اللقاحات فيصبح خيار مناعة القطيع في حقهم خيارا مصيريا ليوفر لهم الحماية غير المباشرة. و قد نجحت استراتيجية مناعة القطيع عن طريق التلقيح في القضاء Eradication على أمراض معدية وبائية مثل الجدري smallpox و السيطرة بدرجة كبيرة على أمراض مثل شلل الأطفال Polioالذي أوشك على الانتهاء (Its eradication is underway) و كذلك الحد من خطورة الحصبة و غيرها من الأمراض المعدية. ومن التحديات في هذا الصدد ظاهرة رفض التلقيح عند كثير من الناس بمبررات متعددة و محاولة البعض برفضهم للتطعيم أن يكونوا من ضمن النسبة التي تتوفر لها الحماية غير المباشرة حتى و لو لم يكونوا من فئات الخطورة و هذا ما يعرف بمشكلة المستفيد بالمجان أو الراكب بالمجان (Free Rider Problem) 🎯هل تستطيع الميكروبات التغلب على مناعة القطيع؟ تعتمد مناعة القطيع بشكل اساسي على خواص الجهاز المناعي التكيفي Adaptive Immune Systemوتحفيز الذاكرة المناعية Immunological memory لجهاز المناعة ضد ميكروب معين من خلال اللقاحات او العدوى الطبيعية. فإذا لم تتكون ذاكرة مناعية تدوم لفترة طويلة Long-lasting فإن الميكروب يستطيع إعادة الكرة و يصاب الشخص بالعدوى مرة أخرى و في هذه الحالة لا يمكن الاعتماد على مناعة القطيع للقضاء على الوباء الذي يسببه الميكروب.و يبقى الخيار الوحيد لمكافحة المرض هو الدواء الناجع. بناء على ذلك تستطيع بعض الفيروسات و الباكتريا الهروب من مناعة القطيع اذا حدثت فيها طفرات جديدة غيرت من البروتينات التي ولدت الاستجابة المناعية لها و بالتالي تفلت من الذاكرة المناعية للخلايا اللمفاوية لأنها فائقة التخصصية Highly Specific ولا تتعامل في الغالب مع أكثر من سلالة . و هذه الطفرات تقود لظهور سلالات جديدة من الميكروب قادرة على إحداث موجات متتالية من الاوبئة و أظهر مثال لذلك فايروس الانفلونزا الموسمية وبكتريا المكورات الرئوية متعددة النمط المصلي Multiple Serotypes. جدير بالذكر ان العلماء يعكفون حاليا لاستحداث طرق جديدة يمكن من خلالها التغلب على هذه المعضلة باستخدام لقاحات قادرة على التعامل مع عدة سلالات في آن واحد. 🎯هل مناعة القطيع هي الحل المناسب للتعامل مع فايروس كورونا المستجد؟ في الحقيقة هذا السؤال يعتبر من الصعوبة بمكان ولا توجد إجابة سهلة له حتى الآن. وكل ما أذكره فيما يلي هو فقط إجتهاد و محاولة للإجابة عليه. أبدأ بمقدمة أعتقد أنها مهمة للغاية و هي ان هنالك شروطا لابد من توفرها لتكون مناعة القطيع هي الحل لوقف انتشار وباء ما. و أهم هذه الشروط: أولا: ان يثبت علميا ان جهاز المناعة في الإنسان قادر على تكوين استجابة مناعية فعالة ( أجسام مضادة او خلايا لمفاوية متخصصة؟) و ذاكرة مناعة طويلة الأمد كفيلة لمنع تكرار العدوى خلال فترة معقولة مع اللأخذ في الاعتبار إمكانية تعدد السلالات أو التمط المصلي الذي يمكن بعض الميكروبات من الهروب من خلايا الجهاز المناعي. ثانيا: ان يستطيع العلماء التوصل بالسرعة المطلوبة للقاح الذي بإمكانه تحفيز الاستجابة المناعية بالوصف المذكور في الشرط الأول. و بالطبع يمكن نظريا تحقيق هذه الاستجابة بالعدوى الطبيعية في حال عدم النجاح في التوصل للقاح و في هذه الحال ينشأ جدل كبير في مختلف الأوساط خصوصا إذا كان المرض خطيرا و سريع الانتشار لأنه قد يترتب على ذلك خسائر فادحة اذا لم يتم عزل الفئات المعرضة اكثر لخطورة المرض بالسرعة المطلوبة و بالطريقة المثلى و هذا أمر قد لا يكون سهلا. والآن نأتي للسؤال الأهم في هذا المقال و هو هل يمكن لهذين الشرطين أن يتحققا مع فايروس كورونا المستجد؟ أما الشرط الأول و هو الاستجابة المناعية الفعالة التي تدوم لفترة زمنية معقولة فإنه من المرجح أن يتحقق استنادا لبعض الدراسات الأولية في هذا الصدد و كذلك الأمل في أن يشابه الفايروس المستجد نظرائه من الفايروسات في عائلة الكورونا كفايروس SARS الذي ظهر في الصين في العام 2002 حيث أثبتت بعض الدراسات تكوين أجسام مضادة Antibodiesعند المصابين تبقى لمدة عامين في المتوسط تقيهم من تكرار الإصابة Reinfection. و بالمقابل يرى كثير من الباحثين و المهتمين أنه في حال عدم التأكد بشكل قاطع من تحقق هذا الشرط فإن الشكوك ستظل قائمة حول التعويل على مناعة القطيع كاستراتيجية لمكافحة فايروس كورونا المستجد SARS-Cov-2 ومرض الكوفيد-19 Covid-19 و كذلك حول جدوى إصدار بطاقات مناعية Immunity Passports تسمح للمتعافين من المرض الاختلاط مع الآخرين بأمان و ممارسة حياتهم بصورة طبيعية كواحدة من استراتيجيات الخروج Exit strategy من وضع الإغلاق الذي اتخذته كثير من الدول لمحاولة السيطرة على الوباء و المحافظة على النظام الحي من الانهيار. وأما الشرط الثاني وهو التوصل للقاح أو الاعتماد على العدوى الطبيعية فإن معالمه ليست واضحة حتى الآن فاللقاح يعتبر هدفا استراتيجيا لا زالت مراكز الأبحاث حول العالم تتسابق إليه و إن كانت هنالك بعض النتائج المبشرة في هذا المجال . و أما السبيل الآخر عن طريق العدوى الطبيعية فالدراسات تشير إلى أن الذين تعرضوا للفايروس في عدة مناطق من العالم حتى منتصف شهر مايو 2020 لا تزيد نسبتهم عن 20% فقط ( حتى في الدول التي لم تتشدد في إجراءات الحظر و التباعد الاجتماعي كالسويد مثلا)أي أن الطريق لا يزال طويلا في الوصول لعتبة مناعة القطيع و التي يرى العلماء حاليا أنها في حدود 60% على الأرجح. أضف إلى ذلك التحفظات الكثيرة حول الاعتماد على هذا السبيل و قد تقدمت الإشارة لذلك في هذا المقال. 🎯والخلاصة مصطلح مناعة القطيع من المصطلحات العلمية المهمة التي يجب على أهل الاختصاص تحريرها و تحديد معناها بصورة دقيقة و طالما أن له أهمية كبرى في مجال الصحة العامة فينبغي شرحه لعامة الناس بطريقة مبسطة. وفي حال النظر إلى "مناعة القطيع" كاستراتيجية لمكافحة الأمراض المعدية فيجب على متخذي القرارات الصحية توخي الحذر و الرجوع إلى العلماء الموثوقين للتأكد من توافر الشروط اللازمة لنجاحها و انتفاء الموانع التي تجعل استخدامها فيه خطورة على الناس وإذا تم اعتمادها فينبغي السعي بكل سبيل للتقليل من الآثار السالبة التي ربما تترتب على ذلك خصوصا عند عدم توفر اللقاح الفعال. كتبه في شهر مايو 2020 د.أبوبكر علي محمد عمر محاضر بكلية الطب جامعة الخرطوم و كلية دلتا العلوم و التكنولوجيا