|
Re: سابرينا ... ( قصة حقيقية من واقع الغبينة ) (Re: ابو جهينة)
|
تنتابني مشاعر متباينة نحوه ...( فشوقي إليه يجعل رعشة تسري في بدني و تشدني إلى الرغبة في رؤياه و دفْن نفسي بين ذراعيه .. و لا يهم بعدها إن لُمْته أو قدَّم أعذاره أو تناساني و تهرب من أبوته .... بينما انقطاعه عني يؤجج مشاعر كان يشعل إوارها أخي قبل أن ينضم للثوار في الغابة ... مشاعر مسكوبة على عتبات الغُبْن و الغضب و الشعور بظلم أزلي و عشرات القصص التي يتناقلها الأهالي هنا و هناك .. ) و أنا حيْرى بين كل هذا و ذاك ... أقف أحياناً متكئة على جدران ملطخة بدماء الضحايا .. و أحياناً أجد نفسي أقف في خانة الذئاب تقطر أنيابها دماً.. و عندما يحتدم كل هذا في رأسي... أرى في ما يشبه أضغاث أحلام بأن الذئاب تُولي الأدبار هاربة من الضحايا التي تطاردها و هي ميتة بينما أقف موقف المتفرجة ..
كنت أسمع كلمات أخي بالليل تطرق أذني.. ثم أجوب الطرقات على غير هدى بالنهار لأرى ما قاله تبدو كلوحة زيتية متنافرة الألوان .. لكنها متوحدة في إطار واحد … لم تستطع طفولتي وقتها أن تجمع بين هذه الأضداد. هل ما زال أبي على قيد الحياة ؟ هل لديه أسرة .. إخوة و أخوات ؟ إخوتي و أخواتي .. رأسي تضج بكل هذه الأسئلة و القطار يقترب من نهاية رحلته في قلب العاصمة ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: سابرينا ... ( قصة حقيقية من واقع الغبينة ) (Re: ابو جهينة)
|
و لكن كل همي ينصب الآن في إلتحاقي بالجامعة و الأسرة التي سأعيش معها بالعاصمة... أسرة خالي ( ألْبينو ) ... هو و زوجته و إبنته الوحيدة ..
يعمل جندياً بالجيش ... منضبط أيَّما انضباط تجاه رفاق السلاح .. رؤساء و مرؤوسين .. و لكنه يحمل جذوة من التمرد بين جنبيه .. تتجاذبه هذه الأحاسيس المتنافرة التي تجعل من الوطن مشطوراً بهذا الأخدود الوهمي. ( غريب أمر بلدي .. و محير أمر السودان الحبيب هذا ... نفس منغصات حياتنا هي التي تعطينا الدافع بأن ندور في أفلاك مجريات الأحداث كالمنَوَّمين مغناطيسياً... ثم نصنع بأيدينا نفس الأحداث بسيناريوهات تختلف عما سبقتْها بقليل من الزيادات أو النقصان و نشارك في إخراجها و نجلس بعدها على قارعة الطريق نندب الأيام و نشكو حالنا لكل من هب و دب .. نصنع تاريخاً أعرج و نتوكأ عليه ثم ننكفيء على وجوهنا و نحن نلعن هذا الذي لم يتحمل ثِقَلَنا ... و تدور الساقية بنفس اللحن القديم الحزين الذي أدْمنَّاه على مر السنوات ) ...
بإبتسامته الساحرة التي تسبقه .. إحتضنني خالي في محطة القطار و هو يطلق سيْلاً من الأسئلة عن أمي و أمه و إخوته و الحال هناك و أخبار المعارك الدائرة بين الأدغال.. يريد أن يختزل كل سنوات غيابه عبْر إجاباتي ... عندما رأى مسْحة الحزن التي تكسو وجهي .. ربت على كتفي و هو يعزيني في أخي الذي أتتْنا أخبار موته دون أن نعرف كيف مات و أين دُفن... حزني كان خليطاً من شوقي إلى أمي التي وقفتْ تودعني و تنصحني بالبحث عن أبي و هي تعلق تميمة صغيرة تتدلى من سيْر جلدي على رقبتي ... لن أنسى دموعها و هي توليني ظهرها منتحبة .. إنتابني قلق خفي بأنني لن أراها مرة أخرى. دوامة أسى أحاطت بي لحظتها ... لفراقي أمي ... و مدينتي .. و صديقاتي .. و رحلة بحثي عن أبي المجهول ... و هذه المدينة الغريبة عني و التي سأذوب بين طياتها و أهلها ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: سابرينا ... ( قصة حقيقية من واقع الغبينة ) (Re: ابو جهينة)
|
عندما وطئت قدماى فناء الجامعة ... ذاب القلق الذي سكنني قليلاً ... طلبة و طالبات من كل أنحاء البلاد ... سحنات مختلفة ... تفرقهم اللهجات و تجمعهم هذه التبداوية التي أشْتقَّها أهل الأمصار و القرى و دلقوها هنا في هذا الأُتُون .. كلغة أهلي ( بجوبا ) ... ( سوسن ) ... أول طالبة من الشمال ترحب بي كأنها تعرفني منذ زمن ... شيء ما شدني إليها .. رغم تحفظي باديء الأمر على رفع الكلفة بيننا .. أحاول أن أقترب منها .. هناك ما يدفعني لأرجع عنها القهْقرى .. و عدة أسباب موصولة بخيوط غير مرئية تشدني إليها و تجبرني على البحث عنها لأجلس أتحدث إليها ... أبثها ما ينتابني بعد غربتي عن أهلي لأول مرة. شيئاً فشيئاً أخذني روتين الحياة الجامعية في دولابه و أنْزلقْتُ في رتابة الأيام بالحي الذي يسكنه خالي ... لا شيء يعكر الصفْو غير تفكيري في والدتي ... ثم والدي الذي لا أعرف من أين و كيف أبدأ رحلة بحثي عنه. سألتْني سوسن كثيراً عن أسرتي ... ملامحي المختلطة جعلها كثيرة السؤال ... حميمية طاغية ربطتْني بها رويداً رويداً ... أهرب من وساوسي إليها ... فأجدها ملاذاً منيعاً من الانزلاق في مسارب التململ و الكآبة .. عندما أخذتْني لزيارة أسرتها في ذلك الحي الشعبي .. أحاطتْني الأسرة بنفس الحرارة التي دلقتْها ( سوسن ) في روحي ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: سابرينا ... ( قصة حقيقية من واقع الغبينة ) (Re: ابو جهينة)
|
أقف خجِلة من هذه المشاعر الفياضة .. و لكن عفوية الجميع تجعلني أتقبَّل هذا الإحساس السخي بنوع من الرضا و الاستكانة .. جَدًّة ( سوسن ) تفرسَّتْ في وجهي طويلاً ثم قالت ( سبحان الله ) .. ثم أخذتْ تداعب مسبحتها و هي تتمتم بكلمات مبهمة ... بينما تقف غير بعيدة تسترق النظر نحوي بين الفينة و الأخرى. أحسستُ بنوع من الغضب .. فحمْلقتها نحوي جعلتْني أشعر بذلك الإحساس الذي كان ينتابني عندما كان يتحدث أخي عن أهل أبي .. و عن المعارك ... طوال ذلك اليوم كان أبي يشغل جُل تفكيري .. يومئذ سيطر خياله على تفكيري حتى غلبني النعاس .. رأيت حلماً جعلني أصحو فزِعة ( كانت أمي تناديني لأرى جثة والدي معلقة على شجرة الجميز الضخمة أمام منزلنا هناك .. كان ميتأً و يناديني بصوت مخنوق ...) . و العرق يتصبب غزيراً مني .. لم أحدث زوجة خالي عن سبب صرخة الفزع التي أطْلقتها جاحظة العينين .. أول شيء فعلْته صباح ذاك اليوم .. أن بحثتُ عن ( سوسن ) في مكان لقائنااليومي ... بحثتُ طويلاً و لكن لا أثر لها ... سألتُ عنها الجميع .. علمت سبب تغيبها بنهاية اليوم الدراسي .. فقد توفى شقيقها بالجنوب ... داس على لغمٍ مشكوك في أمر مَن زرعه هناك بين السابلة ... فكل فريق يتهم الآخر .. و كل مقتول يحْمِلُ أوزار غيره مِمن سبقوه في الموت .. و يدوس على زنادٍ ملتصق بسبابته إلتصاقاً و لا فكاك منه ... هرعْتُ إليها و حزن جارف يدفعني بأن أكون بجانبها ... أخذتني بين ذراعيها و راحت تبكي ... و جموع النساء تبكين .. تارة مع سوسن و تارة تنحني إحداهن و تعانقني نائحة ... فأستسلم و راحة مجهولة تندلق على روحي ... أحسسْتُ بأن العزاء يطال أخي و أبي .. كأن جثثهم ستخرج بين لحظة و أخرى مع جثة شقيق ( سوسن ) ليحملها الرجال إلى المثوى الأخير ... كأني بأمي تقف مع المعزيات بقامتها المديدة تبحث عني ... في اليوم الذي تلا آخر أيام العزاء .. .......... وقفتُ أمام لوحة إعلانات معلقة في إحدى أروقة الجامعة أقرأ النعي المكتوب عن شقيق ( سوسن ) ...كان أمراً عادياً أن نقرأ يومياً نعياً عن زملاء ذهبوا و لم يعودوا .. وجدت أسمه الثلاثي مكتوباً بخط كبير ... و بين قوسين كان هناك ذلك (اللقب) الذي يذيل إسمه .. لطمني اللقب على وجهي ..
| |
|
|
|
|
|
|
|