إهداء إلى تلميذتي النجيبة ( س ) ...ثمانينات القرن الماضي بالخرطوم
***
إذن هذه هي الخرطوم ؟ لم أتخيلها هكذا ... فقد رسختْ في ذهني كمدينة بأسوار طينية و حجرية عالية و بوابات عتيقة و قِباب بيضاء و مآذن عند كل زاوية شارع .. لا أدري لماذا ... قارنْتها بمعشوقتي ( جوبا ) ... أغمضْتُ عيني و أحتويْتها خيالاً .. فملأتْ خياشيمي رائحة أوراق الشجر ممزوجة برائحة الطين المبلول بعد ليلة ماطرة... و أنسابت أصداء أغنيات حبيبة إلى نفسي … كلما مر رجل بعمامة على رأسه ... أعمَل ذاكرتي و أغوص فيها في محاولة لإستحضار وجه أبي .. وددْتُ لو أتتْ أمي معي .. شدني الشوق لأخي غير الشقيق من أمي الذي مات بين الأحراش التي عشقها و عشقْته ؟ والدي ( شمالي ) .. والدتي لا تعرف إلا إسمه الأول و لقبه … و لكن من أي بقعة في الشمال هو .. لا تدري ؟ كان صديق والدها الذي عمل بتجارة بين الجنوب و العاصمة .. فتوطدتْ عُري الصداقة بينهما .. و أنتهتْ بالمصاهرة .. يبدو أن البحث عنه هنا سيكون كالبحث عن إبرة في كومة قش. ظلتْ أمي تعيش معه سعيدة لا يكدر صفو حياتها سوى أخبار هذه المعارك التي تحصد العشرات يومياً.. تنهمك طوال اليوم في أعمال البيت و تربية دواجنها و مواشيها ... بينما كان أخي من أمي يقف مع أبي أحياناً يساعده في ( الدكان ) .. يجادله في الأحداث الجارية و يناكفه و يتخاصمان فيترك البيت و العمل مغاضباً طوال النهار ... ثم يجلسان سوياً بالليل يتسامران أمام المنزل .. يدخن غليونه بينما أخي يضع ( الراديو القديم ) قُرْب أذنه تارة و تارة يرفعه لأعلى ليصفو الصوت... و أغفو أنا على صدر أبي و رائحة التبغ تعبق الجو .. تأتي أخبار المعارك من مصادر شتى … يرتفع الأمل بنهايتها ثم يهبط ... تندفع كُتل بشرية نازحة للشمال .. فراق بين أفراد الأسر غير معلوم النهاية .. ثم سافر أبي لقضاء أمر يخص تجارته ... و لم يعد .. و أنقطعتْ أخباره ... تأتينا بعض الأخبار بأنه مات مقتولاً بعد أن هاجمه لصوص و هو يحمل بعض النقود ليودعها أمانة لدى تاجر من أصدقائه .. و أحياناً نسمع بأنه مسجون في سجن بشرق السودان ... و تارة تتْرى أخباره بأن زوجته الأولى قد دستْ له سحراً حتى نسيَ أمي و تجارته و أنه صار كالخاتم في أصبعها .. آخر رسالة وصلت منه لأمي مع مبلغ من المال عندما كان عمري ثمانية سنوات... تناديني بإسمي الذي أطلقه عليَّ أبي ( صابرين ) ...و أحياناً بـ ( سابرينا ) الذي كان أخي يصر على مناداتي به. لا توجد له إلا صورة بالأسود و الأبيض أحملها معي في حقيبتي ... ظللتُ طوال الرحلة أُخْرِجها و أتصفحها خلسة ثم أعيدها إلى حقيبتي .. أقارن وجهه بوجوه المسافرين معي ...
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة