|
محطة لقيط ورق ...
|
1 (*)
من هنا تبدأ الحياة .. من (المحطة) حيث تتوسط (حاجة عشة) مابين دكان (المكوجي) وبقالة (حاج الأمين) وتتخذ من ظلهما موضعاً لجلستها ومستقبلاً لزبائنها ..
قبيل الشروق المحطة ذات رائحة وضجيج ..رائحة الزلابية التي تصنعها (حاجة عشة) ,وصوت ضجيج (البصات) التي أدار سائقيها محركاتها صباحاً ,وراحوا يضغطون على محرك (الوقود) بغرض تسخينها وتجهيزها لرحلة يوم طويل مضن ..
يبدو المكان كأنه لوحة صامتة على بروازها العريض (حاجة عشة) و(البصات) التي أفاقت مبكراً ,وعدة (كراتين) ورقية من تحتها تتململ (أشباح)سكان (المحطة) ,الآنسة(رابحة) وصحبها ...!!
(*)
(رابحة ).. يقال أنها أطلت هكذا بليلة ماطرة , كانت المحطة خالية أو تكاد إلا من بعض مرتاديها المداومين , الذين هم في الأصل سكانها .. فجلهم لا يملك مسكناً ,ولا يعرف الناس أي ريح ألقت به إلى هذا المكان ..
(رابحة) خرجت فجأة من بين البرق والمطر وصوت السماء المرعدة ,كانت ترتدي ثوباً مزركشاً ,وشعرها مجدول على الطريقة البلدية التي نسميها (مشاطاً) ..
فجأة وجدها الناس تتوسط ساحة (المحطة) وهي تقفز تحت زخات المطر وتصيح في هستيريا: (عمر البسير .. دي مالو كدي) .. (عمر البسير .. دي مالو كدي) ..
(*)
برزت إلى الوجود هكذا فجأة دون أن يعرف لها أحد منبعا أو ماضٍ ,ككل الأشياء حين طغت الزحمة على الأمكنة , وضاعت الرحمة .. فجأة صار الناس يعرفون (رابحة) , ويعرفونها بجملتها الشهيرة ورقصتها تلك المصاحبة للجملة التي كانت ترددها على نسق أغنية معروفة :
(عمر البسير .. دي مالو كدي) .. (عمر البسير .. دي مالو كدي)..
كانت ترددها هكذا مقصورة أواخرها ,بلسانها (عجمة) ,تلتهم تلك (العجمة) حرف الشين بلا هوادة ,لكن ملامحها لم تكن تقود إلى جهة من جهات البلد ,فهي تشبه أهل الشمال وبملامحها شئ من أهل الجنوب ,كما أنها لا تختلف كثيراً عن نساء الغرب .. لا بل أظن أنا أنها كانت (هدندوية) من الشرق ..
(رابحة) لقطت ورق , أي جنت وهي عبارة العصر في توصيف فقدان أحدهم لرشده ,(المحطة) كان إسمها : (محطة لقيط ورق) لكثرة (المجانين) الذين يتخذونها مسكناًوليس مرتكزاً فحسب ,وبعد ظهور (رابحة) ,طغى أسمها على الجميع , بل حتى على (لقيط الورق ) ,فصارت المحطة .. (محطة رابحة) ...!!
(*) ليلتها .. أقلق صوتها منام بعضهم ,فرفعوا رؤوسهم من تحت (أوراق الكرتون) التي يلتحفونها ,وقد بللها المطر وحدقوا بها دونماأية دهشة .. فهكذا يعلن أحدهم عن نفسه حين (يلقط ورق) أو يفقد رشده ,أو يجن للوهلة الأولى ..
نظروا إليها هكذا ,وتأملوها للحظات ..
ثم أغلقوا زجاج (كرتونهم) تباعاً ,حتى أن المارة لا يستطيعون تمييز أحدا تحت أوراق الكرتون متناثرة هنا وهناك في فوضى .. لا أثر لحياة تحتها ,لكن تحتها حياة وقوم يعيشون بينهم صباحاً ويتدثرون بأوراق الكرتون مساءً .. الآن أنضم لهم قادم جديد ,قد بدأ (لقيط الورق) حديثاً .. (رابحة) ستجد لها مكاناً بينهم ,حسبها أن تهيأ مسكنها , الذي سيكون أحد أركان ساحة المحطة ,قطعة من الكرتون تتغير مع تغير الفصول ...!!
|
|
|
|
|
|