صور من حفلة انقذوا وليد دارفور التى اقيمت امس بنادى التنس بالخرطوم

Quote: حين غادرت السودان في أواخر الالفية الماضية كان هو والصحفي علاء الدين السنهوري والشاعر الطيب نورالدائم آخر الذين ودعوني بإشفاق علي غربة مفتوحة علي كل الاحتمالات ، فجانب إنه كان يقف أيضا علي إجراءات سفري نحو القاهرة ليطمئن بنفسه مع أبوعركي البخيت وصلاح مبارك وكابتن وداعة وآخرين ، فودعني بأمل القيا، وتدور الايام ..وفقط في بحر هذا الاسبوع دخلت صالة حفله فلمحته بطوله الفارع وهو يبرف مع الزملاء ميرغني الزين وماهر تاج السر ومجدي العاقب وفايز مليجي وفجأة وجدتني أصرخ بصوت عال ٍ عمر إحساااااااس، فإلتفت ناحيتي ولم يصدق فبكيت بحرارة حتي إحتار أطفالي. لقد تركت الاستاذ عمر إحساس خلفي وهو ينسج في بداياته التي أخذت عقدا حتي يخرج بإلبوم " زولي هوي" والذي جاء ك" عصير دهشة" للرعاية الابوية التي عثر عليها من عمنا الراحل يوسف حمد، طيب الله ثراه، وهو صاحب شركة حصاد للانتاج الفني وللذين لا يعرفون فإن لعمر إحساس دينا كبيرا علي يوسف حمد رفيق درب الشهيد الهندي، وحين أحس بقوة صوته إهتم به وكان يعامله مثل أبنائه أحمد ومحمد ، والسر الآخر أن عمنا يوسف حمد كان كاتبا مجيدا للشعر الغنائي وكان يقرأني بعضا منه وأعلم أن عمرإحساس غني واحدة من أعماله الشعرية، وفيما بعد بعثه إلي القاهرة ليجد هناك الاستاذ أحمد يوسف وكذا الموصلي قائد ومشذب الاوركسترا الجاهزة التي تم غبعاثها من الخرطوم وهناك حظي أحساس بأول إلبوم له حمل إسم "زولي" والذي جاء ضمن دفق الالبومات التي شكلت البداية الحقيقية للانتاج الغنائي بنظام التراكات، حيث يتم لاول مرة تسجيل صوت كل آلة بمفردها ثم يأتي المغني ليبني صوته عليها وفيما بعد يقوم الاستاذ الموصلي بعمل المكساج ، وكانت تلك ثورة في عالم الغناء السوداني فسمعنا اصوات الستينات والسبعينات والثمانينات بصورة جديدة يغلب عليها الطابع العلمي في الانتاج الفني ووصلت الالبومات إلي الخرطوم فهناك "الحزن النبيل" لمصطفي سيد أحمد و"المشاوير" لعلي السقيد وعنواين أخري لصلاح أحمد عيسي والموصلي وابوعركي ووردي وإبراهيم عوض والجابري وعوض الكريم عبدالله وإبراهيم حسين إلخ صقور جديان الغناء السوداني. إلبوم عمر إحساس كان قد جاء كبادرة من الشركة الوليدة للاهتمام بالاصوات الشبابية ورعايتها فكان هناك إلبوم "الغيم" لطارق أبو عبيدة " خدر" و "من جديد" لخالد الصحافة وإلبوم آخر و"عمري" لمحمود عبدالعزيز وكان لوليد زاكي الدين نصيبا كما لعقد الجلاد ونادر السوداني ..وهكذا الفنان عمر إحساس ولد بادياته المعلمنة رسميا عبر هذه الشركة برغم إنه قبلها كان له حضورا في الاجهزة الرسمية ومنها إنطلق بصوته القوي وأدائه الرائع كإضافة للاغنية السودانية والتي يقول البعض إنها الاغنية الامدرمانية الممتد جذورها للمديح ثم الطنابرة فالحقيبة، وسريعا إكتسب إحساس مكانا مرموقا أهله للمشاركة في المهرجانات الاقليمية والدولية وحصد بعض الجوائز في تونس وفي لبنان كما بدا أن قدراته في الاستفادة من تراث الاغنية الكردفانية التي اسس لها الاستاذ غبراهيم موسي أبا ثم جاء الاساتذة عبدالقادر سالم وصديق عباس وعبدالرحمن عبدالله ليجملوا وجهها أكثر لتبقي أثرا غنائيا ملموسا في لوحة الغناء السوداني، ويجدر القول أن الفنان عمر إحساس يمثل تواصلا لهذا الجيل الذي أتي من بيئة غرب السودان في منتصف الستينات حاملا غناء حنينا ومليئا بالشوق ومختلفا عن موتيفات غناء الوسط وإيقاعاته المعروفة وكلماته أيضا والحقيقة أن الراحل موسي أبا ، كما يختصر إسمه بعض الموسيقيين، كان يبدو مثل "بايونير" الاغنية الكردفانية، يغيب في سهول وأودية كردفان ويملأ رئتيه براحة الدعاش فيقفل عائدا للخرطوم ويذهب للاذاعة فيدهش العازفين بتركيبته اللحنية التي تأتي سباعية بإقاعات المردوم ونغمات السيكا والجراري والهسيس وحينما يخرجون غناء ابا عبر الاثير يتلقفها المستمع السوداني فيعايش جولات أبا في و سط اهله البقارة ، علي أن المجهود النغمي والايقاعي الذي بذله البايونير تطور كثيرا عبر الجيل الثاني من أبناء كردفان فجاء عبدالقادر سالم بمعالجات أكثر ثراء وعمل صديق عباس إلي إستنان بعض الانغام أما عبدالرحمن عبدالله فكان يبدع عبر "كباشي قام برضا" فقدموا رصيدا غنائيا مثلما أسهم وجودهم وإستقرارهم في العاصمة في ترديد اغنيات الحقيبة والاضافة للاغنية الامدرمانية. عمر إحساس يتقفي ذات الاثر بذكاء ملحوظ، وإضافته تكمن في إنه يوظف غناء البقارة والابالة حيث إمتدادتهما في دارفور، ويسعي ايضا في بجانب هذا الصنيع لاستخدام إيقاعات فوراوية مثل "الفرنقبيا وهو من الايقاعات القوية التي لم تسخدم علي الاطلاق في الاغنية الامدرمانية والتي وظفت الدليب بمركباته السبعة وكذلك العرضة الثقيلة والخفيفة والنوبا والدلوكة ..وهكذا دواليك وهلمجرا.. في حفل الفنان إحساس الاخير لا حظت أن هناك تطورا كبيرا في الامكانيات الادائية ووضوحا أكثر لصوته عما كان عليه قبل عقد من الزمان وربما يعود هذا لاستقراره الفني والاجتماعي وكذلك لجديته الواضحة في والهادئة في إختيار الكلمات ومواضيع الاغنية وكانت المفجأة إنه قدم أغنية للشاعر خطاب حسن أحمد فكانت متماسكة لحنيا بالدرجة التي يمكن أن تكون من المفارقات، أقول هذا وأدرك أن شعر خطاب الذي يأخذ صبغة حداثية يصعب تلحينها كثيرا ما إرتبط بابي عركي البخيت. إلي ذلك فإن عمر إحساس وكونه أول فنان من دارفور يصل إلي المستوي القومي، برغم أن هناك فنانيين تمتد جذورهم إلي دارفور مثل زيدان إبراهيم وعبدالكريم الكابلي وأحمد شارف فمسؤوليته في هذه الظروف العصيبة تتضاعف علي جهتين، من الجهة الاولي فهو لابد أن يجسر بفنه التباين العرقي في دارفور والذي تمزق كثيرا في ملابسات الحرب الدائرة والتي قسمت الدارفويين إلي عرقيتين بسبب من سياسات مركزية، وعلي الجهة الثانية فإن مسؤولية المغني في أن يسهم علي المستوي القومي في تجديد الغناء وأن يواصل في جديته حتي يحتل مكانا مرموقا وسط المغنيين الآتيين من الهوامش ليغذوا الاغنية السودانية حتي يستطيع أكاديميو الموسيقي والغناء القول أن كل البقاع السودانية قد ساهمت بإيقاعاتها ونغماتها للدرجة التي يمكن أن تكون أغنيتنا تراثا لاهل الجنوب يبنون عليه بمغنيينهم ، ولعل نجاح إحساس سيعطي ايضا بارقة أمل للشباب المغني ليس في دارفور فحسب وإنما في هوامش جبال النوبة والانقسنا والجنوب والشمال الاقصي، فالشئ الذي هو بالذكر جدير أن أغنية أمدرمان ــ أو سمها كما شئت ــ تقبل إضافات الاطراف وكلنا ندرك أن أعظم الذين جددوا فيها شعريا وموسيقيا إنما هم أهل الهامش، برغم التسمية التي يقول بها أكاديميو المعهد العالي للموسيقي والمسرح، فالشاعر والمغني خليل فرح إنما هو من الشمال الاقصي، ولو كنا نحسب أن الكاشف قد بدأ يغني في هامش الجزيرة قبل أن يصل الاذاعة فإنه يمثل علامة فارقة في الغناء الشوداني، وصولا إلي وردي ومحمد الامين وابوعركي ومصطفي سيد أحمد وكل الذين حاصروا أبناء أمدمان ومن يجاورهم بالمنافسة امثال ابراهيم عوض وأحمد المصطفي والتاج مصطفي وعبالرحمن الريح وحسن عطية وعثمان حسين وعبدالحميد يوسف، ولم يقف الامر عند هذا الحد فقد جاء الجيل الثاني من كردفان كما ذكرنا ومن الجزيرة ومن الشرق القريب فرأينا ابراهيم حسين وعبدالعظيم حركة وعمر الشاعر وترباس رغم إنه يصنف كفنان شعبي. إذن وبهذه الكيفية وجدتنا نتفق يمن يقولون إن أغنية أمدرمان تحولت لتحمل صفة الاغنية السودانية نسبيا وهي ما زالت في طور تقبل الاضافة من الاقاليم ، وربما كان لصديقنا الدكتور صلاح الزين رأيا إثاريا فحواه أن شعراء الاطراف أمثال حميد والقدال قد ريفوا شعر المدينة، إن لم يكن بعضهم قد قبضوا علي حلقوم كلمات الاغنية الامدرمانية بمفردات البطانة ومنطقة الشايقية، وأيا كان الجدل الذي دار بينه والاستاذ ميرغني الزين بخصوص إضافات هؤلاء الشعراء فإنه لن يلغي وجود عبدالرحمن الريح وحسن الزيبر ومصطفي سند والطاهر ابراهيم وإسماعيل خورشيد وعبدالله النجيب والسرين، قدور ودوليب،،، إلخ وعليه يبقي أن الامكانية لتجديد الاغنية الامدرمانية نصا ولحنا جائزة وممكنة ولا يعني هذا التجديد الذي يظهر بين جيل وآخر إلغاء ً لتيار إبداعي فالعملية الابداعية تفرض تجاور الاشكال الفنية واستفادتها من بعضها البعض أكثر من أن يلغي هذا التيار ذلك الآخر من ناحية التصور الفني أو التكنيك المستخدم في تعبير المفردة الشعرية أو الالة الموسيقية. وفي يقيني أن وعي الفنان عمر إحساس ، وغيره من الفنانين الذين يتحدرون من الهامش أو كل الفنانيين الشباب الذين يريدون إثبات وجودهم بالقدر الذي يخلق منهم رموزا فنية ــ هو الذي يحدد حول ما إذا كان يمكن أن يحرزوا قبولا لاعمالهم علي المستوي القومي ، فوعي الفنان الشامل هو الذي يوطد اركان تجربته في المشهد الغنائي، ولا يكفي فقط الاعتماد علي قوة وتعبيرية وجمال الصوت وإهمال سلاسة الالحان وتماسكها، ولا يكفي أيضا الاعتماد علي العلاقات العامة مع منتجي البرامج التلفازية والاذاعية والصحفيين وترك مسألة تطوير أشكال ومضامين الغناء. إن ما يعزز مشوار الفنان الموهوب في اي مجال هو وعيه الشامل والذكاء الفني. وهناك ملاحظة مهمة لا أظن إنها تفوت علي صديقنا إحساس وهي أن هناك شبقا عالميا للموتيفات ذات الطابع الفلكلوري في الموسيقي ، وما النجاح الذي حققه خالد ديدي عبر أغنية سيدي عبدالقادر والتي هي من المديح الصوفي لسيدي الشيخ عبدالقادر الجيلاني إلا تأكيد في هذا الاتجاه ونعتقد أن الاهتمام البالغ الذي وجده الفنان الراحل حمزة علاء الدين عالميا وهناك علي فركا توري والمغنية الاثيوبية آستير كان مرده للثيمة الفلكلورية التي حظيت بها أعمالهم وكثيرا ما أري في اغنية "زولي" هو بإيقاعها الراقص شبيها لما يطلبه المستمعون العالميون من موسيقا الشعوب، وبخلاف هذه الاغنية يستطيع الفنان عمر إحساس بحسه الراقي أن ينقب في سحارة دارفور الغنائية والتي هي بالنسبة له تراثا بكرا للمعالجة الموسيقية تحتاج لابرازها قوميا. إذن فإن الساحة العالمية يجب أن تكون محط نظر المبدع والمؤكد أن "1" مشاركات احساس المضطردة في المهرجانات الاقليمية والدولية و"2 " بعض "تواجداته" في المحافل الآسيوية والاوربية هما الذكاء والوعي بعينيهما وربما أن مساحات القبول العالمي بالتراث الغنائي أوفر بالقياس لقبول الدول العربية لغنائنا كما دلت التجربة حتي الآن، خصوصا إذا ادركنا أن أغنيتنا التي أنتجها الوسط النيلي لم تستطع أن تؤثر إلا أفريقيا وهذا شئ يدعو للدراسة إذ كيف لا تتلاقي أحاسيسنا الغنائية مع احاسيس المجال الحضاري الذي يقعد لنا نظريا أمر الرؤية للدين والسياسة والفكر في الوقت الذي تحتفي دول الجوار الافريقي ووسطه وغربه حتي، بل وأن التاثير الذي أحدثه غناؤنا أفريقيا جلب لنا فوز الاستاذ وردي بلقب فنان أفريقيا في حين إنه قال لي في جلسة معه في منزله بالهرم إنه طوال تواجده في القاهرة لم تبث له أغنية واحدة. وعلي رغم تشكيك بعض الكتاب في المعيارية التي تم بها إختيار وردي كفنان لمجموع الافارقة إلا إنه هو الاكثر وصولا للمستمع الافريقي بالمقارنة مع فنان افريقي آخر، كما أن فوز وردي ينبغي أن ينبهنا حول اهمية تنمية الوجود الغنائي في الدول الافريقية التي نشدتها زيارات فنانينا وإبتدار زيارات أخري تشمل جنوب الصحراء ولعلنا ندرك أن غناء عمر إحساس أو النور الجيلاني أو شرحبيل يمكن أن يتوغل في أدغال افريقيا ليكملوا دور الدبلوماسية السودانية وينشروا الفن السوداني هناك كما إنتشر في كل دول القرن الافريقي. في إطار الحديث عن خصوصية تجربة الفنان عمر إحساس يجدر الاشارة إلي أن حاجتنا لتنمية الثراء الثقافي الذي حباه الله للسودان بيد إننا ما زلنا نقصيه بقصد أو بغير قصد فالموصلات الاعلامية المركزية دائما ما تفتقد إداريين ملهمين يجسدون للتخطيط المؤمن بشعار الوحدة في التنوع وهذا الشعار يعني سد الفجوات في المعرفة بثقافات اهل السودان ولذلك تاخر كثيرا وصول صوت أحساس ولا ندري متي تسهم الهوامش الاخري في اللحاق بصحوته فنجد فنانا ينقل لنا تراث جبال النوبة وذلك الجنوب ومنطقة الانقسنا التي أنجبت سبت. هذا الوضع الذي ربما لم تدرك السلطة السياسية التي تستهين بالثقافات عواقبه ساهم في تنمية الضيم السياسي وعليه كلفنا المبدع عمر إحساس وغيرهم من المبدعين برهق الانشغال بتصحيح الاخطاء الحكومية وجوب الفيافي للغناء لصالح المشردين من ضحايا الاهمال السياسي المركزي برغم أن دور السلطة هو أن تقوم بواجبها نحو مواطنيها في أخطر المحكات وواجب الفنان هو أن يتفرغ لصياغة ابداعيته والتخطيط لمشاريعه الفنية بمساعدة أولئك المخططين الثقافيين وليوفروا له المسارح المهياة والادوات الفنية التي يحتاجها والتحفيز المادي الذي يشجعه لمواصلة الانتاج..ولكن..؟ إن حفل إحساس الذي اقامه في واشنطن لدعم نازحي المعسكرات في دارفور يوم السبت الماضي كان ناجحا ورائعا وثريا بغنائه. والتحية له وهو يقف بجانب أهله في محنتهم.