شيوعيين أخر زمن (قصيدة)

Quote: عندما يترجل الفارس عن جواده: محمد سيد أحمد ابن الذوات يروي حكاية اليسار! بقلم: محمد سيد أحمد كان والدي محافظا لمدن مختلفة (السويس فالفيوم فبورسعيد). وكان قريبا لصدقي باشا. ولم يكن صدقي باشا يكن لوالدي تقديرا كبيرا من وجهة النظر السياسية، حيث كان صدقي ينظر إلي والدي وكأنما قد ولد في فمه ملعقة من ذهب، وبالتالي، فلم يكن من النوع الكفيل بالقيام بالأعمال 'السيئة' التي كثيرا ما يقوم بها السياسيون، ويصبحون بفضلها 'موضع ثقة'. وصدقي باشا كانت أعماله في أحوال كثيرة من هذا النوع. لذلك كان يعطي والدي. كلما جاء في السلطة، مناصب شرفية، كمحافظ بورسعيد مثلا. وفي هذه المواقع ميزة، ذلك أن أناسا مهمة كانت تمر بالقناة، وكان يشرف مصر استقبالها، وكان والدي يحتفي بها علي حسابه الخاص. بهذا المعني كان والدي بعيدا عن السياسة. وقد عشت هذا النوع من المعيشة وأنا صبي. ولكن أذكر أول مناسبة، سنة 1942، بعد أن عدنا من بورسعيد إلي القاهرة. كانت حكومة الوفد قد أحالته إلي التقاعد، وأعطت له الباشوية. أخذها كنوع من الترضية. ولم يأخذها والدي من صدقي باشا. أخذها من النحاس باشا. حفل شاي وفي ذات مرة دعانا إلي منزلنا بالقاهرة محمود عزمي.. وكان شخصية ذات شأن. وكانت زوجته روسية. ذكرت أمامهما أنني أشعر بأني لست مصريا، لأن ثقافتي فرنسية وانجليزية، ولا أعرف اللغة العربية. وقد التقطت زوجة محمود عزمي هذا التعليق، ورأت فيه شيئا جديرا بشد انتباهها. ثم دعتني علي حفل شاي في منزلها ومعي 'نيفين سري'، بنت حسين باشا سري، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للوزارة. وقد قدمت لي كتابا عن لينين. كان أول كتاب أراه عن لينين. كنت أعرف أنه رجل مهم. ولكن لم أكن أدرك بالضبط من هو، وكان سني وقتذاك حوالي أربعة عشر عاما. وقد قررت بعد ذلك أن أدخل امتحان البكالوريا الفرنسي بجانب البكالوريا المصري. وكنت تلميذا متفوقا لا أحصل علي أعلي مجموع في الفصل وحسب، وإنما كذلك في كل علم علي حدة. فقررت أن أدرس الأدب الفرنسي بجانب الأدب العربي. وكان هناك مدرس شيوعي فرنسي اسمه 'رونيه جرانييه' كان يلقي محاضرات في الجامعة المصرية، ويدرس في مدرسة أرستقراطية لبنات البيوتات في الزمالك (مدرسة 'موران') وأيضا في الليسية فرنسيه بباب اللوق. وقد عاش جرانييه في مصر من 1934 تقريبا حتي 1956، حيث رحل قهرا قبيل العدوان الثلاثي. وأنا أزعم أن جرانييه قد رباني، وكان له أعظم الأثر علي. بل وربي أشخاصا كثيرين ممن كان لهم شأن في تاريخ مصر، أذكر منهم شهدي عطية الشافعي وأنور عبدالملك. هؤلاء كانوا تلاميذه. إلي أن جاءنا بالسنة النهائية بالدراسة في الليسيه أستاذ أحمق كان يدافع علنا عن الإلحاد في الفصل، فلفت نظري. وأخذت أوجه إليه أسئلة في السياسة. فقال لي ذات مرة 'إن هناك جمعية اسمها 'دار الأبحاث العلمية' بشارع نوبار قرب لاظوغلي. وجدير بك أن تزورها'. فذهبت إلي جرانييه وأخطرته بما أبلغت. فقال لي: 'لم أرد أن أقول لك لأن وضعك الاجتماعي يحول دون ترددك علي مثل هذا المكان، ولا أريد أن اتسبب في متاعب'. ولكن لم أر أنا أن أخذ بهذه المشورة. وبدأت أتردد علي 'دار الأبحاث العلمية'، وكنت أبهر بما يجري فيها من نشاط. غير أنني فوجئت، بعد فترة بأن والدي قد أستدعاني، ليكشف لي عن خطابات غير موقعة كان يتلقاها، وقد أحاطته علما بأني بت أتردد علي أماكن مشبوهة. وختم بسؤالي: 'هل هذا صحيح'؟ قلت: 'غير صحيح' كنت أكذب لأول مرة. وذهبت إلي الدار لأسأل ماذا أفعل؟ فتقرر إبعادي ووضعي في خلية من خلايا المرشحين لعضوية منظمة 'إسكرا'. وفي 'الدار'، تعرفت علي جمال غالي، وابراهيم المناسترلي، وعلي الشلقاني وشريف حتاتة، وكثيرين غيرهم. وكان شهدي يبهرني بمداخلاته الملتهبة. وقد وضعت في خلية مرشحين كان معي فيها: حليم طوسون والشاعر فؤاد حداد وأخوه توفيق، وأظن أيضا مدحت غزالي. وكان مسئولنا طالب يهودي بكلية آداب القاهرة اسمه ليون كرامر. وكان نشيطا للغاية. وكان تنظيم 'إسكرا' يباشر التجنيد من خلال حفلات، حيث يجتمع ما بين عشرين وثلاثين 'زميلا' لإجراء ما كان يوصف بمناقشة مفتوحة في مشكلة عامة. وكان الهيكل التنظيمي خلف منظمي هذه الحفلات شديد السرية والانضباط. وكنا لازلنا مرشحين أو ما شابه ذلك، ولسنا أعضاء بالتنظيم بعد، ولانعلم أن العملية برمتها منظمة. كنا نظنها أمورا اعتباطية. يقيمون حفلات لنزداد ثقافة وإلماما بأشياء تكمل ثقافتنا المدرسية. أوبرج الهرم وكانوا يدبرون مناسبات للتجمع علي غرار بيوت الشباب في أوروبا. هكذا أقيم 'أوبرج' في شارع الهرم، و'مصيف' بجوار سيدي بشر في الاسكندرية، ليتجمع 'الزملاء' فيهما. وكان أغلب قيادات إسكرا، كما قلت، من 'الخواجات' اليهود. بلغ عددهم حوالي ثلاثمائة في تنظيم عدده الكلي لايتجاوز الألف (حسب ما قيل لي فيما بعد). وكان هذا كله له دلالة، بمعني أن صفته كتنظيم نضالي أحاطتها أسئلة كثيرة. كان من الممكن أن يكون تنظيما ماسونيا، أو شيئا من هذا القبيل، حيث لم يكن التجنيد في مواقع النضال، بل كان بمقتضي مدخل ثقافي، أو من خلال حفلات. ولم تكن توجد اختبارات نضالية حقيقية للمجندين. وقد قبلنا جمعيا اعضاء في 'إسكرا'، باستثناء فؤاد حداد، لأنه جرأ أن يقول بعد نهاية الكورس إن ستالين ديكتاتور والحقيقة أن 'إسكرا' كانت تبدو وكأنما هي تنظيم عالمي. أو بتعبير أدني 'عوالمي' cos mopolitan، كانت المعلومات عن مصر فيها معلومات خواجات. معلومات مستمصرين. ليست الثقافة المصرية الأصيلة. واختلفت أوضاع 'إسكرا' كثيرا عن أوضاع 'ح.م' '(الحركة المصرية للتحرر الوطني). كانت (ح.م) متسيبة جدا، ونضالية أكثر، والتركيب الطبقي فيها أكثر شعبية بالمعني العريض، لا بالمعني الطبقي المفرط الحاد، حيث كان كوريبل حريصا علي تجنيد طلبة الأزهر، والنوبيين، والسودانيين. هكذا جند عبدالخالق محجوب، وغيره من قادة الحزب الشيوعي السوداني فيما بعد، كما جند أناسا كانوا يعملون في فيلا عائلته الفاخرة مثل عبده دهب، الذي أصبح من الكوادر المهمة، والذي ذهب إلي السودان فيما بعد، ونهض بدور مهم. وكان كوريبل يصوم في رمضان، لمشاركة الشعب في مشاعره، وليس لأسباب دينية، وإنما تمشيا مع المزاج العام واحتراما للتقاليد. وعندما وقعت الوحدة بين (ح. م) و (إسكرا) في يونيو 1947 لتشكيل 'الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني' (حدتو)، لم نستشر في تنظيم 'إسكرا'، ولم يناقشنا أحد في موضوع الوحدة إطلاقا. بل أخطرنا فقط ذات يوم إن الوحدة بين التنظيمين قد تقررت. بعد اتمام الوحدة ببضعة أشهر، انفجرت 'حدتو' قبيل اندلاع حرب فلسطين. وأذكر أن أنور عبدالملك قد اتصل بي وقال لي: إن القيادة في يد عناصر يهودية وقد أسسنا تكتلا ثوريا لمحاربة هذه الأوضاع المختلفة. وحدث أن الشباب والطلبة قد اندفعوا نحو 'التكتل'. وثبت أن تنظيم 'حدتو' لم يكن مؤمنا ضد احتمالات وقوع حركات عصيان من هذا النوع. لقد أسفر التنظيم عن هشاشة ملموسة. وقد تركز الهجوم علي خط التنظيم الذي وضعه 'يونس' (الاسم الحركي لكورييل' والذي عرف بخط 'القوات الوطنية الديمقراطية'. .