|
كائــن بــلا حـــذاء
|
صار يحملّق في وجوه الأطفال دون أن يعرف ماذا يريدون ، سحب عينيه باتجاه أجسادهم ، كانوا بعظامهم البارزة وبطونهم الضامرة وأعينهم الشاحبة المنطفئة يبدون كأشباح صغيرة ، هذا ما ترآى له في عينيه النافذتين الحادتين ، حمل رغيفاً وقدمه لأحدهم ، هجم جميع الأطفال على الرغيف في آن واحد ، تمزّق بين أيديهم دون أن يأكل أحداً منهم قطعة واحدة ، حمل حجراً وصار يضرب رؤوس الأطفال حتى حطمها جميعاً ، جذب أسماله البالية وصار يجري باتجاه شوراع بدت أنها تفجرّت لتوّها ، المدينة بائسة ، والريح أكثر صخباً كعادتها ، الأرجل القوية تصفع الشوارع ، يرتطم بالأعمدة البارزة من عمق الأرض كأرامل فقدت العزاء ، يرجم السيارات العابرة التي تخيلّها ضفادع تنق في بالوعات موحشة ، يصطدم بالمارة الذين ملئت عيونهم صورة وحش نادر يتخذ من الإنسان شكلاً له ، خيوط من الدم الرقيق الطازج تنسال من أنفه المفلطح المشقوق ، ويضرّج ملابسه كلها ، الفضاء يسجن صرخاته في جيبه العلوي ، يسقط على الأرض ثم ينهض يواصل الركض بعنف أكثر مصبوغا ًبالدم والتراب ، رائحة قذرة تفوح من جسده الذي ملأته الثقوب والكدمات ، غير عابئ بالأصوات الفزعة ولا بالإعتراضات الخائبة ، صوت زجاج يتهشم بداخله ، تجتاحه الحمى ، هذيان بصوت بعيد يضحك ، نساء يغنين ويرقصن بصدور عارية ، رجل بمسبحة بلدية يصلي لشيء مجهول ، البحر يهمس له بصوته البارد ، الريح تخونه داخل عقله الفارغ المعبأ بهواجس وأحلام صغيرة ترتعد ، الماء يندلق بهدوء داخل جسده يهيء الخلايا للإنفجار ، يقف بغتة أمام امرأة قابعة على رصيف حار مادّة رجليها ويديها المصابتان بالجزام على الأرض الصامتة والهواء المحترق بالعوادم وأنفاس البشر ، قبّل يديها ورجليها بشفاه مرتجفة ثمّ رمى الأناء بقطعه المعدنية القليلة لتدهسه إحدى عجلات سيارة ، مصدراً فرقعة كفرقعة فك يتحطم ، نظرت إليه المرأة بعينيها الغائرتين بهدوء وألم كبيرين وإبتسامة خفية لم يرها الكلب المرّقط الذي رفع رجله اليمنى وتبوّل على الجدار المقابل ، ساحبة بصرها نحو ظلال راحلة ، أجفل وأطلق رجليه لتلتهم جسد الشارع ، كائن ينهب قوة العالم ويحشرها في جسد متهتّك ، عينا الكائن تلتهبان جرّاء صراعها اليومي مع أنبياء الشمس الغاضبة ، لم تعد أذناه تحفل بما إخترقها من أصوات أحذية ثقيلة خشنة تركض خلفه وتقترب ، ولا للزمجرات المتقطّعة التي تصطدم بظهره وتجلده ، أذنا الكائن تواطأتا فقط مع النداء الصادر من داخله ، " أغنية المسافر للمسافر لن أعود كما ذهبت " ، البحر هناك ، الرمل ، طفولة تتداعى ، وذاكرة تسقط في الفخ ، ثمة كائنات مألوفة تسافر بأجنحة عمياء ، يتسابق هو والبحر ويسبقه بمسافات طويلة ، الشمس تقبّل الموج دون شهوة وتغوص في فم الكائن ، امرأة شديدة الشبه بأمه بعينيها الغائرتين يجتر اللبن من كيسها الكبير المتدلي من صدر مكشوف ، وعورة حرّة لم تسجن داخل قماط قط ، النوم عارياً على الرمال الرطبة ، تسلّق الأشجار الشاهقة والسقوط على أجساد الأوراق الناشفة ، الطيور توافق على إصطيادها في الشراك المُحكمة ولا يسعفها الوقت لتبدي رأيها في شيّها على الحطب الجاف ، غسل العربات ، حمل جولات الأسمنت ومكنات الطوب وصفائح الرمل ، عزيق الحشائش ، سقيّ البهائم وضرب الحمير حتى تنزف ، قرصات العقارب ولدغات الثعابين ومص السم والبصاق على الأرض ، الكيّ بالنار وهي في أوج صحوها ، القمر الذي يخدعه فيتدلى ويتدلى حتى يمسكه بيديه ويعجنه ويحوّله إلى خبز ويلتهمه ، محطات السكة حديد والقطارات التي لا تتعب من السفر أبدأ ، أمه والتي يبدو أنها تشبه أمه تربط حجراً على وسطها حتى تظن أنها شبعانة بعد أن تكون أحكمت ربط حجره الصغير على بطنه ، المرض الذي حطّم أبيه الذي لا يشبهه أبداً ، راكوبة في الخيال يظنها تحميه من البلل ، الخلوة التي أطفأ نارها ولم يعد لها مطلقاً ، الجامع القابع وسط بيوت الجالوص الذي كان يظنه متجراً لبيع السبح والطواقي وأوراق صفراء ، أمه التي يشبهها تماماً بأنفه الأفطس تملّخت يداها بغسل الملابس وصارت قشوراً صفراء تدب في يديها وساقيها ، الدودة التي أكلت جسدها النحيل حتى تعّفن ، لم يدفنها ولم يبكي عليها ، وذهب بعيداً تاركاً خلفه أناساً غرباء يكيلون التراب على حفرة بعد أن حُشر فيها جسداً ملفّحاً بثوب أبيض ، لم يعرف الورق ويتعامل مع القلم بخشبه المصقول ونقوشه الواهية كمسواك لنظافة الأسنان ، لم يعرف الطوابير ولا الصراخ بنشيد يسمى نشيد الوطن ، لم يجلس على كنبة الفصل أو الخروج لحصة فطور أو أن يحمّل بالدعوات كل صباح ، النوم في الخرابات والتغوّط وسط الكلاب الضالة في المذابل التي فاضت بها حاجة المدينة ، الكائن يقتل الكلاب المنزلية والقطط ويدهس النمل وديدان الأرض بأرجله الحافية ، لم يبكي أو يضحك أو يغني ، لم يعرف ماهي الألوان ولكنه يعجب بطيور الجنة فلا يصطادها ، الألم كائن خاص يصحو معه وينام معه لذا فهو صديق شخصي للكائن ، يجهل الصلاة ولم يصافح أحداً وأن المرأة لعبة مقرفة ، الموت شيء غامض ومريح ويعتقد أنه عندما يموت لا يجوع أبداً ، العيد قيامة البشر التي سمع بها ولم يراها ، لا يكترث كثيراً لأزياءهم التي تبدو غريبة وربما قبيحة ، يراهم يتصافحون بغباء وسذاجة وخبث أيضاً ، يطيل النظر لرجل ملتحي يجدّد عباءته وعطره كل عام يمطره الناس بالقبل والضحكات الخائفة وذهن الكائن يصوّره على أنه ماعز نبتت لها ذقن ، الحذاء كائن لا يحتاجه الإنسان إذا كانت أرجله قوية ، الشيطان الذي يزوره في الخرابة ويربت على كتفه بحنان ، هو أكثر صدقاً من كل البشر ، يضحك في وجهه محدّثاً إيّاه أنه لعنة هذا الكون وضميره المريض ، يواسيه بأنه سيأتي يوماً ما يلتهم له جميع البشر ، وكان هذا عزاءه الوحيد . ينام كميت ، عدا الطفل الذي يقلق مضجعه ويعكّر صفو آلامه ، والذي لو إستطاع القبض عليه لجزّ عنقه بأسنانه ورمي به في سابع أرض ، الطفل الذي يبكي ويضحك ويغني بدلاً عنه ، ويتنفس بدلاً عنه ، إنه طفل لعين لا يستحق الرثاء أو حتى الموت . هو الآن لا يشتم إلأّ رائحة العفن التي تنبعث من الحذاء الخشن الذي يدوس بقوة على وجهه ويسحقه سحقاً ، وفي البعيد يستمع لهسيس ضحكة مائعة تفلت من حنجرة ماعز بذقن وجلباب نظيف ، وساق عارية لامرأة مكتنزة تعبر الشارع بجواره ولا تلتفت وراءها مطلقاً.
|
|
|
|
|
|