مستقبل المنبر الحر: دور المثقف وطعم التراب في الحنجرة

مستقبل المنبر الحر: دور المثقف وطعم التراب في الحنجرة
مستقبل المنبر الحر دور المثقف وطعم التراب في الحنجرة! عبد الجبار عبد الله لست من المثابرين على مجاراة ما ينشر عبر المنبر الحر. لست من سدنته ولا فارسا من فرسانه الأشاوس المغاوير المرابطين دوما.. وللصراحة أخشى أن أكون. وعلى تباعد وقلة المرات التي زرته فيها, بدا لي في كثير من الأحوال إنجازا سودانيا يجب التمسك به, ورأيت فيه ما يشبه الحوش الافتراضي الواسع الرحب الذي يلتقي فيه السودانيون من كل حدب وصوب, يتآنسون ويتسامرون فيه, يتناقلون الأخبار, يحلمون عبره بالتلاقي ولم الشمل, ويحاولون فيه رسم لوحة الوطن القادم, بأمانيهم وسيل حواراتهم المتشعبة الممتدة, الدفاقة. هذا هو الوجه الإيجابي الذي شدني إلى المنبر, وحرضني على الكتابة والإسهام فيه مع المسهمين. وبقدر ما رأيت فيه من نماذج من إشراق السودانيين وجمالهم, بقدر ما رأيت فيه قدرة البعض على المماحكة واللجاجة وتنظيم مهرجانات القبح واللؤم وإثارة المعارك الدوكنشوتية الواهمة في مناسبة وغير ما مناسبة. قلت هذا منبر الإنتلجنتسيا السودانية ومحك اختبار ممارستها لدورها الطليعي في الفكر والثقافة والسياسة وفتح المنافذ والدروب لقيادة الوطن بأسره نحو آفاق أفضل. ولكن هل كان المنبر بقدر هذا الطموح والأمل أم أني أخطأت التقدير؟ هي إنتلجنتسيا على أية حال, ولكنها هل تمارس دورها ومهامها الأساسية , و بالنهج الذي يبشر ببناء وطن خير تسوده قيم التسامح, وتظلل سماءه سحابات وعي اجتماعي جديد؟ لا أبالغ إن قلت إن المنحى العام الذي اتخذه المنبر هو التنصل من دور المثقف الأساسي باعتباره مفكرا ومنتجا للمعرفة والإبداع, وقائدا لأمته و شعبه. محل هذا الدور حلت في تقديري الشخصي أساليب أركان النقاش السياسي التي تسود في الجامعات والمعاهد العليا, والتي يتمخض عنها في معظم الأحيان أدب الخصومة والإدانة وتكريس الخلافات والمواقف الثابتة الجاهزة. هذا إضافة إلى تكريس المنبر لقدر لا يستهان به من المواد المنشورة عبره لسيادة تقاليد الشللية والتكتلات والتحالفات العلنية والسرية ونهج التواطؤ المسبق والأحكام القطعية الجاهزة ضد هذا أو ذاك من الأسماء. ثم هناك الأسماء الحركية نفسها, التي تكشف متابعتها عن توجه عام نحو اليومي السهل, المتحلل من قيود وأعباء مسؤولية المثقف والمفكر المرهقة. ما أكثر المواد الجيدة التي نشرها ولا يزال ينشرها المنبر, ولكنها سرعان ما تذوب في محيط الرغوة الثقافية وأمواجها العاتية المتلاطمة, فيبقى تحلل المثقفين ورخاوتهم هما الغالبان. وفي المنبر, كثيرا ما تصدر الأحكام والتعليقات على معظم ما ينشر, مباشرة من الأصابع إلى شاشة الكمبيوتر, دون أن تمر بمطبات الذهن ومعوقاته التي " تبرد" حرارة التعليق ودفء المباشرة. كم منا ينظم أفكاره, يرتب ذهنه, ويتأمل جيدا ما يود أن يقول قبل أن يشرع في طباعة ما يود على شاشة الكمبيوتر؟ قد أكون مخطئا في تقديري لهذا السؤال التقريري, غير أني أخاف كثيرا على نفسي من خطر ما أسماه ذلك المثقف الرصين العملاق عبد الله بولا بثقافة " فحول الإنترنت" إن لم أخطئ نسبة القول إلى عبد الله جزافا. وعلى أية حال فإن غالبية مثقفي العالم يمارسون اليوم دورهم القيادي والطليعي عبر شبكة الإنترنت ضمن الوسائط والوسائل الأخرى. إلا أن استخدامهم للتكنولوجيا لا يعفيهم عن واجب الجلوس الصبور والقراءة الجادة والكتابة والتفكير وتأمل ما يكتبونه وتمحيصه وقتله بحثا, قبل أن يبعثوا به عبر شبكة الإنترنت أو غيرها من الوسائط الحديثة. إن سرعة الاستجابة والتفاعل لا يلغيان عمق مضمون الفكر ودلالته وتأثيراته اللاحقة سلبا وإيجابا. ولما كانت تلك هي بعض المنزلقات التي وقع فيها المنبر بشكل أو آخر, بهذه الدرجة أو تلك, فقد كان طبيعيا أن تنزلق بعض الحوارات فيه إلى حضيض الممارسة الثقافية, وأن يتعرض فيه البعض للأنياب والأظافر المشرعة التي تستغل أجواء حرية الحوار لتمرير أجندتها السياسية أو الشخصية تارة, وممارسة الإبتزاز الشخصي والعام تارة أخرى. من ذلك الأدب الغث الركيك الذي لا تهمني فيه الأسماء ولا الأشخاص- لأنني لا أخوض معركة خاصة ضد أحد- طالعت مثلا حملة السباب والتجريح المنظمة التي تعرض لها شاعرنا الكبير محمد المكي إبراهيم. فقد تجاسر عليه أحدهم وتجرأ على أن يحذفه بنقرة فأرة إلكترونية واحدة. تخيلوا ود المكي بقامة قدره, وقد شطب من قاموس وخريطة السودان بكل تراثه الشعري الجميل وروحه السوداني السمح بضربة سحرية واحدة, واستحال فجأة إلى إحدى نكرات بلادنا المعادية والمسيئة للإسلام! بئس الفهم والتأويل. تلك براعة وعبقرية لم يسبق إليها ذاك الشاب حتى صاحب النظرية النسبية آينشتاين! غير أنها عبقرية اللمسة السحرية المدمرة التي تحيل التبر إلى تراب. تلك كانت ممارسة ثقافية من الممارسات التي شهدها المنبر الحر. فكيف أدارها ورد عليها المنبر؟ قرأت تعليقا لود المكي وهو يدفع جاهدا ما استطاع عنه شر العدوان, ولكن هل مارس المنبر كمنبر دوره الثقافي في صد هذا الهجوم عن رمز كبير من رموز ثقافتنا؟ يقينا إن ود المكي ليس نبيا ولا معصوما من الخطأ, كما أنه لا يعلو أو يتعالى على النقد, بل هو من خيرة من يتقنون ممارسة النقد, بما فيه نقد الذات. ولكن شتان ما بين النقد والتقويم كممارسة, وأجندة الذهنية التصفوية الأصولية الحاقدة على كل شيء. والسؤال الثقافي الذي لا بد من إثارته في حالة محمد المكي هو: ماذا يكسب السودان من هدمنا لرمز الشاعر والإنسان الذي يمثله محمد.. إن استطعنا؟ من نافذة هذه العقلية التصفوية نفسها التي تستهدف الرموز, وقفت على جانب مما تعرضت له الفنانة المسرحية القديرة تماضر شيخ الدين. ولمست فيه ما يتجاوز إلى حدود الإسفاف والتجريح الشخصي المباشر. شاء الذين رموها بسهام التجريح أم أبوا, فهي نتاج طبيعي لتراكمات التجربة المسرحية في السودان وتطوراتها وطفراتها وقفزاتها التاريخية الممتدة عبر الحقب, من سارة محمد في بواكير عقد الأربعينيات, مرورا بجيل رابحة محمود ونعمات حماد وتحية زروق وسمية عبد اللطيف, وصولا إلى عائشة مبارك ونادية بابكر وآمنة أمين والممثلة الراحلة نعمات هارون, وغيرهن كثير كثير ممن فعلن في حقل الدراما ما تجاسر عليه جيل عائشة الفلاتية وأمبلينا السنوسي والبلابل لاحقا وحنان النيل وأمال النور في مجال الموسيقى. فقد رفدت هذه الكوكبة اللامعة الموهوبة من الممثلات الجسورات خشبة المسرح بحساسية فنية جديدة, وتمردن على العقلية الذكورية القمعية في نظرتها لدور المرأة ومكانتها من التعبير الفني. وأسهمن برؤاهن ومواهبهن الخلاقة في تشكيل وجدان ووعي أجيال وأجيال من السودانيين . غريب أن ترفع تماضر رؤوسنا واسم بلادنا في المحافل والمهرجانات المحلية والدولية, بينما نستستهل نحن طأطأة رأسها وتمريغ سمعتها عبر ما نسميه " منبرنا الحر"! غريب هذا غرابة تلك المفارقة التي أمرت فيها حكومتنا الغبية منع تدريس أدب الطيب صالح ورواياته في جامعاتنا ومعاهدنا, في الوقت الذي كانت تتسابق فيه دور النشر والمطابع العالمية على ترجمة ونشر وإنتاج مؤلفاته في شتى اللغات الأوروبية! أي بلد عاق هذا؟ وأي دور يلعبه فيه بعض المثقفين؟ إن قوام أدائنا الثقافي عبر هذا المنبر لن يتم إلا بإلقاء نظرة نقدية فاحصة لسابق هذا الأداء, وسعينا الجاد للنهوض من حضيض الخصومة الفجة الدارجة, إلى ذرى إنتاج الفكر والإبداع والخلاف المثمر الخلاق. ولن يكون هذا ممكنا إلا إذا ما تخطينا عقلية التحلل والنزعة التصفوية الضيقة, وأمسكنا بدورنا وواجباتنا كمثقفين يقع علينا دين وطننا وشعبنا. أعني أن ننهض بواجب إنتاج الفكر والمعرفة والتخطيط للبنى والهياكل التي تقوم عليها لوحة السودان الديمقراطي الجديد, وننهض بدورنا الكامل إزاء شعبنا, ونرقى إلى أن نكون قدر عشمه فينا. ضمن ذلك يقع واجب ترسيخ قيم الثقافة الديمقراطية- بمعنييها الثقافي والسياسي- بما في ذلك ترسيخ أدب وقيم الخصومة والخلاف. ولما كان مهرجان المنبر قد بات قاب قوسين أو أدنى, فما أحرى أن نتساءل عن أي دور أديناه فيه كمثقفين؟ أليس حريا أن نجعل من هذا المنبر عبيرا حقيقيا للأمكنة, ومنبرا لتواصل السودانيين وحواراتهم الخلاقة البناءة المثمرة؟ أما آن الوقت لأن نزيل طعم التراب عن الحنجرة, وننضو عنا مظاهر وأعراض الضعف والهزال الفكري الثقافي؟

[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1: << 1 >>

احدث عناوين سودانيز اون لاين الان

اراء حرة و مقالات	Latest Posts in English Forum
Articles and Views	اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases	اخبار و بيانات

الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة

About Us
Contact Us
About Sudanese Online

اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين

News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums

If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]